وحدة الإحياءحوارات

أهميـة المفـاهـيم والتـرجـمة فــي النهــوض العلمي والحضاري للأمـة.. محاولة في ارتياد عوالم الرواية العرفانية: حوار مع الروائي المغربي الدكتور عبد الإله بنعرفة

يستمد هذا الحوار الشامل مع الروائي الدكتور عبد الإله بنعرفة، قيمته وتميزه من ملمحين أساسيين؛ أولهما خلفية صاحبه المعرفية المزدوجة؛ فإلى جانب كونه أكاديميا مبرزا في مجال تخصصه؛ جمع بين التكوين التراثي العرفاني، والتكوين الحديث من خلال رحلته العلمية والثقافية إلى فرنسا، حيث حصل هناك على درجة الدكتوراه التي خصصها لكيفية نشأة المفاهيم في اللغات، وكما هو جلي فهو مبحث مورفولوجي صرفي ودلالي في نفس الآن، و كذا إلى جانب كونه من أهم وأنشط المشتغلين بـ “العمل الثقافي الدولي” في المجال العربي الإسلامي، من خلال المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسيسكو)،  يعد روائيا عرفانيا أصيلا صاحب تجربة إبداعية تستبطن الكثير من الفرادة والتميز؛ من حيث البنية اللغوية والرمزية والجمالية، كما من حيث الرؤية التصورية، والمرجعية القيمية، والعمق التاريخي. فهو يكتب بالحال، ويؤمن أن “الكتابة بالحال” تستدعي قراءة من جنسها؛ أي “قراءة بالحال”، وإلا فإن مستويات الفهم سوف تتباين تبعا لتباين مستويات “الحضور”.

وعليه فقد انقسم هذا الحوار إلى قسمين؛ قسم عام تناول، فضلا عن المحطات الكبرى في مساره التعليمي والعلمي، التطارح حول أهمية المفاهيم والبناء المفاهيمي في إنتاج وتطور المعرفة العلمية، وكذا أهمية الترجمة في النهوض العلمي والتقدم الحضاري للأمة. وقسم خاص حاولنا فيه ارتياد عوالم تجربته الإبداعية من خلال تجربته الروائية الذي يصر على وسمها بـ”الرواية العرفانية”..

أجرى الحوار: د. عبد السلام طويل

رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء

  • اسمحوا لي أن أبتدئ حواري معكم بطريقة كلاسيكية: حبذا لو أطلعتم قارئ مجلة الإحياء عن المحطات المفصلية التي وسمت مساركم المعرفي.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أولا: أشكرك على هذا اللقاء وعلى هذا الحوار الذي تجريه مجلة: “الإحياء” الرائدة، والتي تعد جزءا من المشهد الثقافي والفكري اليوم ليس في المغرب فحسب، وإنما في العالم العربي-الإسلامي.

المسار الذي سلكته، سأجمله لك في بعض النقاط:

أولا أنا درست مخضرم التكوين؛ درست أولا على مجموعة من العلماء. أنتم تعلمون أن جلالة الملك الحسن الثاني، رحمة الله عليه، أنشأ دار الحديث ودار القرآن لما رأى الوضع العام الذي آلت إليه مؤسساتنا العلمية التقليدية، حيث لم تعد تخرج العلماء الفحول كما كانت في السابق، مما قد يكون له عواقب وخيمة على الهوية الدينية والأمن الديني للمغرب واختياراته في التدين.

أما الجامعة آنذاك فكانت في مخاض فكري وإيديولوجي قوي في الستينيات والسبعينيات، لدرجة أن هوية المغرب ومرجعياته التاريخية كانت مستهدفة نوعا ما، وأن الانفصام الذي كان يلاحظ آنذاك بين الأجيال، وعدم تمرير تلك المعارف أدى إلى إنشاء هاتين المؤسستين، دار الحديث ودار القرآن، واستجلب إليهما ما بقي من العلماء.

كنت فتى صغيرا حين التحقت بدار القرآن، وممن كان يدرسنا، على سبيل المثال، كان يدرسنا آنذاك الحاج (عثمان جوريو) أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، بل هو الذي حررها بخط يده، كما أثبتت ذلك الدراسات، وكان يدرسنا أيضا كاتب الأعتاب الشريفة سيدي عبد الله الجراري، والد عميد الأدب المغربي سيدي عباس الجراري، ومولاي الشريف العلوي وكان خاتمة علماء القراءات، ومجموعة أخرى من العلماء الآخرين مثل الفقيه بربيش، وآخرهم سيدي عبد الحميد احساين، رحمة الله عليهم جميعا.

فتصور؛ طفلا في هذا السن يدرس على هؤلاء العلماء، طبعا كنا ندرس المتون، وندرس علوم اللغة العربية، وندرس الآداب، وندرس علم القراءات، وعلم التاريخ.. كنا نأخذ من كل الفنون، كما كنا نتعلم أيضا الوطنية والتمسك بالقيم الإسلامية الأصيلة والوسطية التي عرفها المجتمع المغربي عبر القرون. وهذا المسار كان مسارا موازيا إضافة إلى دراستي في التعليم  المدرسي الحكومي كما هو الحال عند سائر أبناء هذا البلد العزيز؛ فكنت أدرس في  الفترة الصباحية، مثلا، وجزء من الظهيرة في المدرسة الحكومية، وفي الفترة المسائية كنت ألتحق رفقة شقيقي بدار القرآن؛ كما أذكر أنه من الأشياء الطريفة هو أنني سجلت أول تسجيل في تجويد القرآن في سنة (1977م)، وصادف تلك السنة عيد المولد النبوي في نفس اليوم مع عيد العرش يوم 3 مارس.

وأذكر أنني قرأت آيات من “سورة الفتح”، وأتمنى إن شاء الله أن أحصل في يوم من الأيام على هذا التسجيل، لأنه حقيقة من تاريخ هذه الدار، دار الإذاعة والتلفزة، وخصوصا أنه أول تسجيل لطفل مغربي يجود القرآن في التلفزة المغربية، لأن الذي كان يجود هم الشيوخ آنذاك؛ كان سيدي عبد الرحمن بن موسى يفتتح الإرسال ويختتمه، أو الطيب كحل العيون، أو الفقيه الحياني.  وكانوا اثنين أو ثلاثة لا يخرج عنهم، فشاهد المشاهدون فجأة طفلا في الأعياد ولمدة سنوات؛ الإرسال يفتتح بهذه القراءة ويختتم بها، فكان هذا عبارة عن تحول مهم في المغرب، وفي أن هناك جيل جديد ربما يحمل هذا المشعل، أنا أقرأها بهذه الرمزية، طبعا أمضيت تقريبا خمس سنوات في دار القرآن، كما أكملت دراستي الحكومية، ثم التحقت بشعبة اللغة العربية وآدابها في جامعة محمد الخامس.

ولكن كنت حرا، بمعنى أنني كنت أحضر دروس الأساتذة المبرزين آنذاك سواء في الفلسفة أو في الأدب أو في غير ذلك من التخصصات في كلية الآداب، خاصة وأن كلية الآداب كانت آنذاك زاخرة بالكفاءات في كل التخصصات. كنا نحضر دروس الأستاذ محمد عابد الجابري، والأستاذ طه عبد الرحمن، والأستاذ محمد بنيس، والأستاذ محمد برادة، والأستاذ محمد بنشريفة.. وكل هؤلاء الأساتذة وغيرهم كثير..

 لكن لاحظت بأن الكثير من المصادر المعرفية التي كان يخبرنا عنها هؤلاء الأساتذة كانت مصادر متنوعة وخاصة في مناهج الدراسات الأدبية التي كانت من الضفة الشمالية، وبسرعة توضحت لدي الأمور، فقررت أن أسافر إلى الخارج وأكمل دراستي هناك، فالتحقت بجامعة بول فاليري (Université Paul-Valéry) في مدينة مونبلييه (Montpellier)، وهي من الجامعات العريقة منذ القرون الوسطى، وهي الجامعة التي التحق بها عميد الأدب العربي طه حسين لما كانت الحرب العالمية تهدد باريس فالتحق بهذه الجامعة، كان مساري معكوسا مقارنة مع طه حسين، أنا بدأت “بمونبلييه” و”ببول فاليري”، ثم بعد ذلك لما حصلت على الإجازة وعلى شهادة الجدارة، التحقت بجامعة “السوربون”، وفي باريس طبعا الثقافة والمجتمع…

  • إذن توجهتم إلى فرنسا من بعد الباكلوريا وليس بعد الإجازة؟

نعم من بعد الباكلوريا، أمضيت سنتين في “جامعة محمد الخامس”، أولا حصلت على دبلوم الدراسات الجامعية العامة (DEUG)، في الأدب العربي واللغة العربية وآدابها، وبعد ذلك التحقت “بمونبلييه”، ثم بعد “مونبلييه” التحقت بباريس.

لكن طبعا أنا كنت أبحث عن حلقات العلم أينما كانت؛ فكنا نحضر دروسا في السوربون، وفي باريس هناك مجموعة من الجامعات، هناك “أساس” (Assas)، وهناك “باريس بانتيون” (Université Panthéon-Assas Paris II)، و”السوربون الجديدة”، و”باريس السوربون” وهي جامعة باريس الرابعة، وهي الجامعة التاريخية، والمبنى التاريخي كذلك وبها كنت أدرس. ثم هناك جامعات أخرى.

 وكنت إضافة إلى هذا التكوين في جامعة “السوربون”، كنت أحضر دروس المدرسة التطبيقية للدراسات العليا (École pratique des hautes études). ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (École des hautes études en sciences sociales) كذلك، (Collège de France) و(Collège de philosophie). وهذه فتحت آفاقا كبيرة (أمامي)، في علوم مختلفة؛ في الفلسفة، في الآداب، وفي غيرها من المباحث ومن المجالات المعرفية، ودرسنا على كبار الأساتذة، أذكر أنه كان من بين أساتذتي “اومبيرتو إكو”..

  • السيميائي الإيطالي؟

نعم.

  • و”بول ريكور”، هل تلقيتم عنه؟

لا “ريكور” لم أحضر دروسه، ولكن قرأت له، كنا نقرأ له، لأنه كان هناك غليان فكري.

  • ما السنة التي توجهتم فيها إلى فرنسا؟

في سنة 1986. نعم في هذه السنوات طبعا في نهاية الثمانينات، كانت باريس شامخة شموخا كبيرا، وكانت الدراسات البنيوية في أوجها، وهي على وشك أن تنتقل إلى اتجاهات أخرى، فشاركت في هذا الجو الفكري إضافة إلى أنني كنت مدمنا، كذلك، على معهد العالم العربي الذي كان قد فتح أبوابه، وكان يستقبل قامات فكرية ومفكرين سواء من العالم العربي أو من أوروبا، فكنا نحضر كثيرا لمثل هذه الفعاليات ونشارك فيها.

وأذكر أني حضرت حفلا في الموسيقى الأندلسية أحياه جوق المرحوم البريهي برئاسة المرحوم الحاج عبد الكريم الرايس في مسرح معهد العالم العربي، وكان الإقبال كبيرًا، وخصصت جريدة لوموند الباريسية صفحة كاملة عن هذه الحفلة التاريخية. كما أني أذكر أني حضرت حفلا ثانيا مرة أخرى في دار الأوبرا العريقة، وحفلا ثالثا في رمضان في مسرح الباتاكلان الذي عرف الحوادث الإرهابية في 13 نونبر 2015سنوات طويلة بعد هذا التاريخ الذي أتحدث عنه.

 كما كنت كثير الإدمان على المكتبات: خزانة السوربون، والمكتبة الوطنية في باريس؛ حيث المخطوطات العجيبة والغريبة، وأذكر أنني في هذه السنوات استطعت أن أحصل على نسخة من ديوان المعارف الإلهية، وصورته بمبلغ كبير آنذاك، ربما ليس في مقدور أن يدفعه ، ولكن، مع ذلك، صورته واحتفظت به في مجلدين كبيرين، احتفظت بهذه النسخة، وهي من النسخ التي اعتمدت عليها في السنوات الأخيرة لما قمت بتحقيق الديوان الكبير لابن العربي، إضافة إلى مخطوطات أخرى غيرها جمعتها من الشرق والغرب أثناء تجوالي وأسفاري الكثيرة عبر العالم وعبر مكتبات العالم.

فإذن درست في باريس وتخرجت منها، درست في اللسانيات وتخصصت في علم الدلالة (Sémantique)، ورسالة الدكتوراه خصصتها لدراسة كيفية نشأة المفاهيم في اللغات، فهو مبحث مورفولوجي صرفي ودلالي في نفس الوقت، وهو مهم جدا.

  • بناء المفاهيم أساسي جدا على مستوى العلم، كما على مستوى المعرفة بشكل عام.

نعم صحيح، وطبعت هذه الرسالة الجامعية في المنشورات الجامعية في فرنسا، مباشرة بعد تخرجي إذا بصفة عامة هذا هو المسار الجامعي.

دخلت، بعد ذلك، إلى المغرب، والتحقت بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، درست هناك بضع سنوات، لكني لم أكن مقتنعا بالطريقة التي كانت عليها الجامعة المغربية، ولكن كانت لدي أنشطة ثقافية موازية. لقد كنت مع بعض الأصدقاء ندرس في باريس، نشكل مجموعة معينة، ونفس المجموعة رجعت إلى المغرب في نفس السنة وكنا ننشط في إطار ما يسمى “بموسميات مراكشية”، هذه الموسميات المراكشية كانت تعقد لقاء سنويا كبيرا في كل سنة، لقاء دوليا أو ندوة دولية أو مؤتمرا دوليا كبيرا، ويدعى إليه شخصيات كبيرة من مختلف أنحاء العالم.

  • بعض الأسماء من زملائك؟

بالأساس كنا مجموعة صغيرة؛ الأستاذ “جعفر الكنسوسي”، والأستاذ محمد موهوب، والأستاذ خالد البوزيدي، وكلهم من مراكش، إضافة إلى أشخاص آخرين نساء ورجالا،لكني كنت مع الأستاذ جعفر الكنسوسي أكثر نشاطًا، وطبعا استُدعي لهذه اللقاءات كبار الشخصيات، من أمثال عالم الإلهيات والعرفان الأستاذ أبي بكر سراج الدين (مارتن لينجز) وهو عالم بريطاني مسلم، وكان مهتما بالشعر والتاريخ والتصوف والمخطوطات وله أعمال كبيرة جدا. ونظمنا ندوة كبيرة حول الحاج (تيتوسبورخارت) وكتابه المعروف عن مدينة فاس، وكتابه حول الفن في الإسلام حاز شهرة عالمية ويعتبر حجة. ونظمنا كذلك ندوة حول الشيخ الأكبر، وكانت تحضر معنا “سعاد الحكيم”، ويحضر معنا داود غريل، وسيد حسين نصر، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، والراحل جمال الغيطاني، ويونس جوفروا، وباولو بينيطو، والكاتب الإسباني المقيم في مراكش، خوان غويتيسولو… ومعنا شخصيات أخرىمن اليابان وأمريكا وأوروبا… وشكلنا صداقات ولقاءات استمرت إلى اليوم، وكان لها دور بارز في إشعاع الدراسات الأكبرية والعرفانية.

  • ما هو الإطار المؤسساتي الحاضن لهذا النشاط؟

في الواقع لم يكن هناك أي إطار مؤسساتي، كانت جمعية “ديوان الأدب”، وهي جمعية مكونة من مجموعة من الأساتذة نساء ورجالا من المتطوعين. ومن الأشياء الطريفة والتي ينبغي التنصيص عليها، هو أن مفهوم التراث الثقافي غير المادي نشأ في هذا الوسط خلال هذه الفترة. واقترحناه في ذلك الوقت،في نهاية التسعينيات،وتم تبنيه من طرف منظمة اليونسكو، وعلى إثر ذلك تم تسجيل”ساحة جامع الفنا” كأول موقع على لائحة التراث الثقافي غير المادي، فهذا المصطلح الذي هو الآن منتشر في التداول الثقافي العالمي نشأ في المغرب، ونشأ في هذا الوسط في مراكش مع هذه الزمرة من المثقفين، ومن هذه المجموعة. وكان معنا الكاتب الإسباني المشهور(خوان غويتيسولو)، وهو الذي تولى تقديم هذا المقترح إلى اليونسكو بحكم علاقاته. وعلى موقع اليونيسكو الإلكتروني هذا الأمر مثبت بحيث إنها تشير إلى مجموعة من المثقفين المغاربة الذين كانوا وراء وضع هذا المفهوم.

فهذه باختصار هي الحصيلة الثقافية، ويجب التأريخ لهذه المرحلة، لأنها مرحلة مهمة جدا، أنا أعطيك مثالا على نوعية هذه القضايا التي كانت تطرح في الموسميات، في وسط العقد التاسع من القرن الماضي، مفهوم التصوف؛ أنت تعرف الأيديولوجية التي كانت سائدة آنذاك،من اليسار، وما يطلق عليه “الإسلام السياسي”، وكذلك أطراف في الحركة الوطنية ساهمت في هذا في فترة من الفترات، الاتهام بالرجعية والخرافة وغيرها،كانت تنظر إلى التصوف هذه النظرة الإيديولوجية بحكم الصراعات التي نشأت في فترة الحماية وتمثيلية المغاربة بين منظومتين مختلفتين…نحن كنا مشبعين بهذا التكوين المزدوج في العلوم العربية الإسلامية الأصيلة،وبالثقافة الغربية وغير ذلك، ولم تكن لدينا هذه العقدة تجاه الغرب، ولا مركبات نقص، بالتالي بدأنا نشتغل وكانت الجامعات في العالم تشتغل على هذه القضايا، ولم يكن فيها،بأي شكل من الأشكال،هذه النظرة الإيديولوجية للتصوف والتشكيك في هذا البعد الروحي لحضارة الإسلام، الذي هو بُعْدٌ حقيقي وأساسي في حضارتنا،بعد ذلك أصبحنا نلاحظ أثر هذه التراكمات والتحولات التي حصلت منذ  أن انطلقت مع موسميات مراكشية ذلك التاريخ حتى أصبحنا نتحدث عن هذه المهرجانات الصوفية في كل مكان، والفرق الموسيقية، والسماع، والكتب والأطاريح التي تناقَش في هذه المواضيع… أما في تلك الحقبة فقد كان مغيبا، ويرجع الفضل، حقيقة، لهذه الحركية الثقافية التي انطلقت من مدينة مراكش، وبالموازاة بدأ مهرجان الموسيقى العريقة في فاس، ولكن كان توجهه مختلفا نوعا ما، لكنه كذلك ساهم في هذه الدينامية بشكل أو بآخر. لكن البعد الأكاديمي والفكري كان بالأساس حاضرا في مراكش مع هذه المجموعة، وبهذا البعد العرفاني الكبير، هذا لابد من التنصيص عليه، لأنه جزء من تاريخنا ومن التاريخ الثقافي بشكل عام، ونحن كنا حاضرين وشاهدين عليه وساهمنا فيه، ولهذا لابد الآن من قراءته واستيعابه واستحضاره، لأن هذا هو الذي يصنع طفرة فكرية ويفضي إلى التقدم بشكل عام.

  • هل كانت هناك بعض المخرجات لهذه الأنشطة؟

نعم، كانت هناك إصدارات، أصدرنا مجموعة من الكتب، مثلا أعمال ندوة فنون الحكمة، هذا كان قد صدر، لأنه أنشئت دار كان اسمها: “دار القبة الزرقاء”، بمبادرة شخصية من هؤلاء الأفراد، كان فيها حتى الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله، رحمة الله عليه، الذي دعمها..

كذلك من الأشياء التي تعد نتيجة لهذه الدينامية؛ الندوة الكبرى التي نظمتها جامعة محمد الخامس كلية الآداب سنة 2003م تحت عنوان: “ابن العربي في أفق ما بعد الحداثة”، وكان قد أشرف عليها الأستاذ المصباحي، وقد قال الأستاذ طه عبد الرحمن في افتتاح هذه الندوة: هذه القلعة الرشدية كان يستحيل أن يتحدث المحاضر عن شيء آخر غير ابن رشد، أو أن يقول الإنسان: باسم الله الرحمان الرحيم في بداية محاضرته، أنا أذكر هذا الكلام..

و قد حضر لفعالية هذه الندوة كبار الشخصيات والأساتذة والعلماء من العالم بأسره، ومن بينهم مستشار الرئيس الأميركي آنذاك، وكان متخصصا في الدراسات الأكبرية، فهذه الدينامية حقيقة مهمة جدا، مهمة ولابد من التنصيص عليها.

  • ألا يعكس هذا تجليا من تجليات ما يعبر عنه البعض بـ”عقدة الاضطهاد” من اليسار المبالغ فيها لدى الدكتور طه؛ خاصة إذا ما علمنا أنه سواء تعلق الأمر بالمرحوم محمد عابد الجابري الذي ارتبطت الرشدية أول ما ارتبطت به، أو بابن رشد نفسه الفقيه والقاضي والفيلسوف، فإن المرجعية الإسلامية الجامعة لديهما واضحة لا غبار عليها.

لا أعتقد أن الأستاذ عبد الرحمن طه كان يقصد حصريا المرحوم عابد الجابري بقوله ذلك في ندوة “ابن عربي في أفق ما بعد الحداثة” ولا أدري هل هناك شيء اسمه “عقدة الاضطهاد” لدى الأستاذ طه، وإنما هو اختلاف فكري بين مفكرين بارزين في الساحة المغربية والعربية والإسلامية. بل إن كثيرًا من الأساتذة غير طه عبد الرحمن ذكروا لي هذا الأمر منهم المرحوم محمد بنشريفة، والدكتور عباس الجراري متعه الله بالصحة والعافية، وهما من أبرز العقول المغربية في مجال اختصاصهما في الساحة العربية والإسلامية. كانت هناك حرب إيديولوجية حقيقية بين عدة تيارات فكرية وسياسية، وصلت إلى حد العنف أحيانا.

  • بالنسبة لالتحاقكم بالمؤسسة؟

التحاقي بالعمل الثقافي الدولي بدأ في سنة 2003م، وسمح لي بزيارة كل أرجاء المعمور، وحاضرت في عدة جامعات عالمية في القارات الخمس. هي تجربة مميزة خصصت لها جزءًا من ذكرياتي.

  • ألمحتم في سياق حديثكم عن المحطات الكبرى المفصلية لمساركم المعرفي، إلى الأطروحة الأساسية حول: “المفاهيم”، أنا لم أطلع للأسف الشديد على هذه الأطروحة. لكن، تعلمون الأهمية القصوى للمفاهيم، مدى حضورها وغيابها، عمقها أو هشاشتها كمؤشر على نضج المبحث المعرفي العلمي أو ضموره وضعفه، كيف تقيمون الاشتغال بالدراسات المفاهيمية؟ أو قل الاستشكال المفاهيمي، أو البناء المفاهيمي، في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية في المغرب خصوصا وفي العالم العربي عموما؟

هذا سؤال جوهري، سؤال مهم، وأظن أن هناك سوء فهم كبير في كثير من الأبحاث والدراسات بسبب عدم التدقيق في المفاهيم. فالمفاهيم لها تاريخ، لها ذاكرة، وهي حمالة أوجه، أو لها أوجه دلالة، فهذه الرسالة، رسالة الدكتوراه، لأن اشتغالي بالمجال اللغوي واللساني والدلالي هو الذي دفعني إلى هذا النوع من الاشتغال.

 أنا لا أخفيك أنني اشتغلت كثيرا على المعاجم، وكنت أشتغل بشكل مكثف على المعاجم، وأبحث في تاريخ كل لفظة، والتغيرات الدلالية التي تلحقها عبر الحقب الزمنية. مثلا من الأشياء التي اشتغلت عليها مفهوم الخوف في اللغة العربية، وكيف تشكل هذا المفهوم عبر القرون منذ الجاهلية إلى اليوم، أعطيك نموذجا، مثلا، اليوم نحن نتحدث عن إشكالية الإرهاب، هذه إشكالية عالمية والكل يهتم بها، هذا المفهوم، مفهوم الإرهاب، لم يدخل إلى اللغة العربية إلا سنة 1960م في معجم المنجد. حينما يتهم اليوم الإسلام والحضارة الإسلامية بالإرهاب وغير ذلك، هذه مغالطة كبيرة جدا، لأن هذا مفهوم دخيل أصلا، حتى في معناه، كيف دخل؟ أول من قام بذلك هي المعاجم المزدوجة، في بداية القرن التاسع عشر، كثير من الجاليات المسيحية العربية لما بدأت تترجم المفاهيم الغربية، وأنا رجعت إلى هذه المعاجم الأولى في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وجدت أنها تضع المقابل لكلمة الإرهاب بالفرنسية (Terrorisme) عشر كلمات: الجزع والرعب وكذا وكذا.. وتذكر من بينها الإرهاب، لأنه لم يكن هناك تثبيت لمقابل هذا المفهوم في العربية، وهذا لزم قرنين من الزمن حتى 1960م، أول معجم  يدخل هذا المفهوم هو المنجد، هذا المفهوم الجديد، الإرهاب، عندما تقول: (Terrorisme) مقابله هو الإرهاب. إذا هنا الإرهاب” هو سياسة حكومة الثورة الفرنسية في سنوات الثورة.

 كما تعلم، الكلمة لم تظهر في الفرنسية إلا سنة (1793م/1794م)، (Terrorisme/terroriste)، كانت سياسة لحكومة، (روبيس بيير)، و(دانتون) وغيرهم، كانت سياسة، ومات فيها عشرة آلاف من الناس، كانت حقيقة واضحة المعالم، لكنها انتقلت بحمولتها، بعد ذلك، إلى اللغات الأخرى، أما في اللغة العربية فإنها لا تفيد شيئا سوى أنك تبعد الدابة عن مورد الماء، أرهب الدابة إرهابا بمعنى أبعدها، نوع من التخويف ولكنه تخويف بسيط جدا.

  • هش عليها.

نعم هَشَّ على الدابة ليبعدها عن مورد الماء حتى تترك المجال لغيرها كي ترد.

  • لكن في السياق الغربي أستاذي، الشاهد على ما قلتموه هو أنها تحولت إلى منظمات إرهابية.

نعم، نعم، صحيح.

  • مع إيتا الباسكية بإسبانيا، والألوية الحمراء بإيطاليا، ومنظمة الجيش الأحمر المعروفة بمنظمة بادر ماينهوف بألمانيا..

تماما، تماما، هذه التحولات لابد وأن نفهمها، وهذا يدل على أهمية المفهوم، المفهوم له ذاكرة، ومن هنا أهمية أن يكون هناك معجم تاريخي، المعجم التاريخي يضبط كيف تنشأ المفاهيم، كل كلمة يتتبعها، وكيف نخلع عليها الدلالات وكيف تتحول هذه الدلالات عبر القرون، وإلا سنبقى في دوامة من سوء الفهم. فالعلوم لا تتراكم إلا إذا اتفقت المجموعة العلمية، أو الجماعة العلمية، على المفاهيم التي تتداولها في أي سياق معرفي كان، أنا أقصد بهذا كذا وكذا، وأنت تقصد به كذا وكذا. فإذا هذا لابد منه.

نحن في العالم العربي نعاني، لأن هذه الأدوات التي نحتاج إليها ويحتاج إليها الباحثون ليست متوفرة الآن، لم نشتغل بالشكل الكافي. طبعا هناك معجم تاريخي الآن يتم الاشتغال عليه، وقد ظهر، الآن إلا أنني لم أطلع عليه بعد، ولكن سيكون لبنة كبيرا في هذا البناء المفاهيمي.

  • هل صدر هذا المعجم؟

يظهر لي بأن هناك فريق كبير وفيه الكثير من الباحثين المغاربة في الدوحة، على كل حال، في الدوحة يتحدثون عن هذا المعجم الذي سيكون في مجلدات، هو ضخم، وفيه صيغة أو نسخة إلكترونية، وهذا مهم جدا لأنه على الأقل، سيكون الانتفاع به من طرف باحثين كثيرين بإذنه تعالى.

فإذن المفاهيم شيء مهم جدا وأساسي جدا.

  • أبرز المفكرين العرب المعاصرين ممن قدموا جهدا جيدا ونوعيا؛ الأستاذ “عبد الله العروي”، الذي اهتم بالمسألة المفاهيمية اهتماما كبيرا وأصيلا، وأصدر سلسلة مفاهيم؛ مفهوم الدولة، مفهوم الإيديولوجيا، مفهوم الحرية، مفهوم التاريخ، فأنا أعتقد أنه في صدارة المفكرين العرب من الصف الأول ممن اهتموا بالمسألة المفاهيمية ووعوا خطورتها، في صلتها بمسألة الترجمة كذلك.

نعم، نعم. فالمدرسة المغربية، بوجه عام، متميزة في هذا الاتجاه وبهذه الدقة، والأستاذ “عبد الله العروي” يعد ،طبعا، في صدارة هؤلاء الذين اهتموا بالنظر المفاهيمي، وليس هو فقط، ولكن كذلك الأستاذ “طه عبد الرحمان”، في اشتغاله على الترجمة، أنت تعلم ما كتبه عن الترجمة وعن أنواع الترجمة، وعن الملابسات التي تنتج عن الترجمة. الترجمة تخلق مشاكل كثيرة، وطبعا هذا شاهدناه ولاحظناه. أنا أعطيك مثالا حتى نبقى في المجال الذي بدأنا منه، وهو التجويد، نقول: فلان يجود القرآن، أو يرتل القرآن، حينما نترجمها بالفرنسية نقول: (Psalmodie) طبعا هناك فرق كبير بينهما، مع ما تحمله الترجمة من حمولة عقدية مسيحية. وحينما نتحدث عن الدين، الدين في العربية له مفهوم معروف. بالفرنسية المقابل هو (religion)، بمعنى أن فيه نوع من الصلة والربط، تربط الشيء، (relié quelque chose) هذا الربط، إذا حاولنا أن نترجمه ربما ستكون الصلاة أقرب إلى ترجمة الدين منها إلى الدين. لأن الصلاة هي الصلة، هي الربط كذلك. (تلاحظ هذا التفاوت في المصطلحات وفي المفاهيم) هذا يخلق نوعا ما التباس، ولهذا فالاشتغال على المفهوم وتفكيكه وتوضيحه؛ هذا ربما مهم في سياقنا، وأظن أنه في المجال الأدبي الذي أعتني به كذلك؛ الآن الترجمة تعتبر هي الهيئة العليا للتكريس الأدبي، ونحن أغفلنا هذا في نقاشات حوار الحضارات والثقافات، لأن الترجمة لها دور كبير جداً في هذا الحوار والتقريب بين الشعوب والثقافات.

  • ليس فقط في الحوار، بل هي شرط واقف في السياق التاريخي الذي نعيشه لتحقيق النهضة، والخروج من واقع التأخر؛ بحيث لا يمكنك أن تستوعب وتتمثل المنجز الحداثي، ككسب كوني، إلا من خلال الترجمة كمشروع، ومصر كان لها مشروع تأسيسي وهو مشروع هيئة الكتاب، ولكن للأسف فقد اطلعت على جزء مهم منه، فوجدت أن الترجمات متفاوتة تفاوتا كبيراً من حيث الجودة.

نفس الشيء بالنسبة لسلسلة عالم المعرفة. بعد التنويه بالدور الثقافي والعلمي الكبير الذي نهضت به هذه السلسلة إلى جانب غيرها من الدوريات الكويتية في إشاعة المعرفة على نطاق واسع على مستوى الوطن العربي من الماء إلى الماء، فلابد من تسجيل التراجع الذي حصل على مستوى جودة العديد من الترجمات المتأخرة. ألا ترون أنه قد آن الأوان لإعلان مشروع وطني للترجمة في المغرب يتلافى سلبيات التجارب والمشاريع السابقة؟

نحن نحتاج إلى هذا، وهذا في صلب الإشكالية، ونحتاج إلى الرفع من مستوى اللغة العربية. الآن المشكل هو أنه لا يمكن تحقيق أي نهضة، إطلاقا، كما أشرتم، بدون لغة وطنية ولغة حضارية، وأن تكون لها السيادة والتمكين في سوقها ومجالها اللغوي.

نحن نوهم أنفسنا بأننا يمكن أن نحقق نهضة فقط باستنساخ النماذج التقنية، الاشتغال على اللغة، لأن هذه التقنية تحتاج إلى اللغة، الآن جميع التطبيقات والبرمجيات الموجودة سواء في مجال الذكاء الاصطناعي أو في غيره، تشتغل على اللغة، واللغة في صلب اهتمامات وانشغالات التقنيين، والمهندسين، وأصحاب الخوارزميات.

وعدم الاهتمام باللغة وحشرها في الزاوية الضيقة، بسبب الفهوم الإيديولوجية المغلقة أو المستلبة، هو انتحار حضاري، وانتحار ثقافي وفكري لا يمكن أن نوافق عليه ولا أن نقبله، ولهذا نحن نحتاج اليوم، حقيقة،  إلى أن نعي خطورة هذه القضية وأهميتها في نفس الوقت، وأن نستثمر فيها، لأن مشكل الترجمة، كذلك، مشكل متعلق باللغة وبعدم الاهتمام باللغة.

 وهذا الذي تفضلت به من هذا النكوص الحضاري، مسألة الترجمة بدأت قديما، أنت كما تعلم؛ المأمون لما رأى تلك الرؤيا، بغض النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة، رأى أرسطو في المنام، وسأله ثلاثة أسئلة: ما هو الحق؟ أو ما هو الخير؟ أو ما هو الحُسْن؟ فأجابه أرسطو في المرة الأولى: كل ما هو خير وفق المنطق. فسأله في المرة الثانية: وأي شيء آخر؟فأجاب: كل خير وفق الشريعة. فسأله للمرة الثالثة: وأي شيء آخر؟ فأجاب: كل ما يعتبره المجتمع خيرًا. فسأله للمرة الرابعة: وأي شيء آخر؟ فأجاب: لا شيء آخر، بمعنى أن مصادر المعرفة ما بين الشرع والنقل والإجماع حضرت في هذه الرؤيا، مما قد يدل على أنها قد تكون ربما مصنوعة، ولكن كانت سببا في انطلاقة هذا المشروع الحضاري الكبير لترجمة التراث القديم، بكل أنواعه، سواء اليوناني أو غير اليوناني.

في نهاية القرن التاسع عشر كانت هناك محاولات أيضا، مثلا في النقاش السياسي الذي كان في الإمبراطورية العثمانية والخلافة العثمانية حول الدستور، حول ما كان يسمى آنذاك بـ”المشروطية”، ترجموا آنذاك جميع الدساتير التي كانت موجودة واشتغلوا عليها، أظن أنهم في المشروع القومي للترجمة في مصر كذلك ترجموا جميع القوانين العالمية، وهذا شيء إيجابي جدا، لأنه لا يمكن أن تحقق الطفرة والانتقال إلا بترجمة مثل هذه النصوص لأنها هي التي تمكن من المقارنة، أما أن تعتمد فقط مرجعية واحدة مثل القانون الفرنسي، كما نفعل نحن عادة، حينما تغيب بوصلة الآفاق نلجأ إلى الضفة الشمالية .

فلابد من توسيع الدائرة، والآن الدوائر الحضارية متعددة، هناك الصين، هناك الهند، هناك العالم الإسلامي على تنوعه، هناك ماليزيا، أندونيسا، تركيا، وإيران، أمريكا اللاتينية، إفريقيا.. بمعنى هناك نماذج كثيرة جدا. وهذا الغنى من هذه النماذج يجب أن نستفيد منه كي نحقق هذه النهضة التي نتحدث عنها. الزبيدي في وقته، كذلك، اشتغل بهذه القضية، الخطيب البغدادي في وقته، اللغة في صلب النهوض الحضاري، الاهتمام باللغة، أساسي جدا.

  • وترجمة كل المعارف.

تماما، تماما، بمعنى أنه لا يمكنك أن تترجم إلا إذا كانت لديك لغة قوية، ولدينا هذه اللغة الحضارية التي تتطور رغمًا عنا..وهي تستطيع أن تستوعب هذه المعارف.

  • وتشكل رافعة حضارية تسهم في خلق شروط النمو والتقدم.

تماما فهذا كله مهم جدا، وخصوصا اليوم من خلال تجربتي في الأسفار التي أسافرها ألاحظ حقيقة هذا التقدم الكبير للغة العربية وللطلب المتزايد عليها، ليس فقط من طرف الشعوب الإسلامية، الآن هناك ملياران من المسلمين، وهذه سوق كبيرة، حتى اقتصاديا هناك جدوى اقتصادية، أنت لا يمكن أن تتصور الطلب على اللغة العربية فقط من السلك الدبلوماسي والطلبة الأجانب هنا في المغرب، ورغم أننا لا نقدم لهم هذه الخدمة بالشكل الكافي، ونحن كثيرا ما تأتي إلينا طلبات بهذا الخصوص. ويمكن للتعليم عن بعد أن يلبي جزئيا مثل هذه الطلبات. فإذا هناك طلب يجب أن نلبي هذا الطلب، ويجب أن نشتغل جديا عليه، هناك جدوى اقتصادية، هناك عائد اقتصادي يمكن أن نربح منه الشيء الكثير.

انطلاقا من منطق الجدوى ألا ترون أنه قد أمسى من أولى الأولويات إعادة الروح الفاعلية لآليات العمل العربي والإسلامي الثقافي المشترك، توحيدا للجهود على مستوى الموارد وعلى مستوى المشاريع المقترحة.

نعم.

  • وبالتالي يجري العمل على بلورة ورقة حول أهمية واستراتيجية هذه المسألة الخاصة بالترجمة، بحيث توضع لها ميزانية خاصة ترقى إلى مستوى أهميتها وحيويتها في تاريخ الأمة. وتشرف عليها لجنة وطنية بمعايير علمية موضوعية صرفة، تحترم منطق الأولويات، بحيث لا يمكن أن تترجم كتابا يكون مرجوحا بكتب أهم وأنفع منه، وبالتالي يتعين أن يحترم الأولى فالأولى، بحيث أن لجنة الاختيار هاته لا تكون لجنة واحدة يتركز القرار عندها ولا يتعداها، وإنما يتوجب الانطلاق من لجان قطاعية حسب التخصصات، تحدد اختياراتها بناء على معايير موضوعية وترفعها إلى لجنة وطنية متعددة التخصصات يتمتع أعضاؤها بكفاءة علمية وصدقية لا غبار عليها، هي التي تقوم بالحسم بعد الفرز؛ بحيث أن المشروع يترجم (العلوم الأساسية كلها).

طبعا هناك مشاريع كثيرة موجودة، وهناك أشياء قائمة أصلا، هناك مشروع كبير جدا لكتابة لغات الشعوب الإسلامية بالحرف القرآني المنمط، الحرف العربي، هناك لغات كانت شفوية لم تكن مكتوبة، الآن أصبحت مكتوبة، وأصبحت على الحاسوب وأصبحت لها إصدارات، وهذه الإصدارات وهذا مهم جدا، فمثلا إذا أخذنا الرقعة الجغرافية التي نوجد فيها،والسياسة الإفريقية التي ينتهجها المغرب، فينبغي أن ترافقها حركة ثقافية كبيرة باللغة العربية التي هي لغة الشعوب الإسلامية منذ قرون.  إن الانفتاح على إفريقيا لا ينبغي أن يكون بالوسائط الثقافية الاستعمارية التي ستفشل حتمًا؛ الآن بادرنا إلى طباعة كثير من المراجع التي تشكل البنية الثقافية الأصلية لهذه المنطقة، مثلا في الفقه المالكي، في العقيدة الأشعرية، في السلوك الجنيدي، بمعنى هذه المراجع التي كانت غير متوفرة في هذه اللغات الآن أصبحت متوفرة لهذه الشعوب وللباحثين من أبناء هذه المناطق، وهذه المنشورات بلغت أكثر من سبعين كتابا منشورا، هذا شيء مهم جدا، في غاية الأهمية، والتجربة الآن تنقل إلى آسيا، لأن هناك طلبات كثيرة، الحرف الجاوي وغير ذلك، فهناك طلب كبير على مثل الإصدارات وتقنيات حوسبة هذه اللغات بالحرف العربي المنمط…

  • على أهمية هذا العمل التأسيسي في جانب الترجمة وما له من أهمية أنثروبولوجية أساسية، إلا أنني أقصد ترجمة الأعمال التي تسعفنا في معالجة إشكالية التأخر التاريخي…

أنا فهمتك أستاذ، طبعا هذا لا يغني عن أن يكون هناك مشروع وطني في كل دولة من العالم الإسلامي خاص بالترجمة، مشروع وطني للترجمة. لأن هناك أولويات، والعالم الإسلامي، أنت تعرف. هناك تنوع ثقافي، وهذا التنوع لا يجب تنميطه، ولهذا هناك أولويات في الترجمة، بالنسبة لكل منطقة، أولويات حضارية أو ثقافية أو… نحن تحدثنا الآن في المجال الديني مثلا، نحن عندنا أولويات، وعندنا مرجعيات خاصة ليست هي نفس المرجعيات في رقعة أخرى. أنت طبعا تتحدث عن الكتب وعن العلوم المؤسسة..

وهذا أمر استراتيجي ينبغي أن يترافق مع ما ذكرناه، فالعملية متكاملة… لكن لا تنس أن مشاريع الإرهاب تنشأ من انعدام المرجعية الثقافية والدينية الوسطية، والمغرب، ولله الحمد له حضور في إفريقيا وتأثير، وسياسته الإنمائية لها هذا البعد الديني الأساسي، فيجب تطوير هذه المشروع من أجل تنمية إفريقيا دون خلفيات الاستعمار الاستغلالية.

  • العلوم المؤسسة كالطب، والهندسة، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والعلوم الاجتماعية. ولكل دولة أن تترجم الأمور التي ترتبط بهويتها وبخصوصيتها، لكن المشترك! مثلا في علم الاجتماع؛ في الفلسفة، في الطب، في الهندسة، في الرياضيات، في التكنولوجيا.. ليس هناك اختلاف، كي توحد الجهود.

هذا مفهوم سيدي الأستاذ الفاضل، فهمت سؤالك، لا شك في ذلك، ونحن نحتاج إلى هذا الجهد، هو طبعا يحتاج إلى أموال وإمكانيات جد ضخمة.

  • ولكن الإمكانات المالية موجودة. خاصة وأن توطيد الأموال في البحث العلمي يعد استثماراً لا يقدر عائده الاقتصادي والحضاري بثمن.

هناك مشاريع الآن، هناك مشاريع بدأت وهناك كذلك مشاريع رديفة للجامعات المفتوحة، للجامعة الافتراضية المفتوحة. هناك دروس، مثلا الآن، لكبار العلماء عبر العالم وتترجم، وموجودة حتى بالعربية، موجودة، مثلا أنت ليست لديك إمكانية كي تحضر درسا لأستاذ فائز بجائزة نوبل، أستاذ في الفيزياء النووية أو غير ذلك، فهناك اتفاق مع الجامعات العالمية، وتمت ترجمت بعض هذه الدروس إلى اللغة العربية، فهي متاحة إلكترونيا، فيمكن لأي طالب في أقصى نقطة أن يستفيد من هذه الدروس، وهذا شيء إيجابي في تكافؤ الفرص، وهذه المبادرات النوعية مهمة، مهمة للغاية ويجب التعريف بها والإخبار بها حتى يستفيد منها أكبر عدد.

لكن نحن متفقون في الجملة على ما تفضلت به من أن هذا المشروع هو مشروع كبير، ويجب أن تتضافر جميع الجهود، جهود الأمة ومقدراتها لخدمة هذا المشروع، ولإتاحة كل المعارف والعلوم، ليس فقط باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، وإنما بالصينية والهندية… لأن العلم يتطور ولا يقف، والعلم يدور، والدوائر العلمية تدور من منطقة إلى منطقة، فهذه التراكمات نحتاج إليها بقدر ما نركز على تعلم اللغة العربية والتمكين لها بقدر ما ندعو إلى تعلم هذه اللغات والانفتاح عليها وعدم الانحصار في لغة بعينها.

  • السي عبد الإله سوف أنتقل بكم مباشرة إلى تجربتكم الروائية وهي تجربة متألقة. فمع أنه لم تتح لي الفرصة لقراءة المتن الروائي كله، إلا أن هذا يمثل طموحا وتطلعا سوف أسعى لتحقيقه، إن شاء الله تعالى، لكن قرأت بعض النصوص، طبعا أسستم ما اصطلحتم عليه “الأدب الجديد”، في أكثر من سياق، وقد تتبعت نشاطكم، انطلاقا من مشروعكم السردي العرفاني ذي المرجعية القرآنية، بناء على مفهوم مختلف للأداب، دائما فكرة الاختلاف، أساسية في خطابكم، وهذا بعد أساسي؛ فليس هناك إبداع بدون اختلاف، بدون تميز وبدون فرادة، تتجلى مقاصده المعرفية في إنتاج أدب معرفي، لا يكتفي بتحقيق تحول في وجدان القارئ، على غرار المفهوم المتعارف عليه؛ المتعة، التوازن النفسي، الإشباع، وإنما يطمح للتأثير في معرفته وسلوكه، نتحدث هنا، إذا أردنا أن نستحضر التفسير الماركسي عن الانتقال من الفهم والتفسير إلى التغيير.

نعم العلم والعمل.

  • نعم، كما دعوتم إلى تأسيس مشروع روائي حضاري انطلاقا من تراثنا وذاكرتنا وحضارتنا. طبعا أنا لن أعود بكم إلى إشكالية علاقة الأدب بالإيديولوجيا، أبدا، فقد استوعبت بشكل واضح ما تقصدون إليه، ولكن أود أن تبسطوا القول، ولو قليلا، حول هذه المسألة؛ مسألة الأدب الجديد، عنصر الجدة، لأن هذه تهم المتابع لإنتاجكم الروائي، عنصر الجدة من خلال تجربتكم الإبداعية الخاصة، ثم مفهومكم للعرفان، لأنني لمست أن هناك بصمة خاصة في تأويلكم وقراءتكم للعرفان، وتمييزها عن التصوف على وجه الإجمال. ثم في المستوى الثالث، هذا المشروع الروائي الحضاري. ما هي أهم أبعاده ودلالاته إلى غير ذلك؟

أولا شكرا على هذا السؤال المركب الذي يحتاج إلى بعض البسط.

أولا هذا المشروع الذي أسسته أصبحت له الآن هوية؛ له اسم وله عنوان، والناس تعرفه طبعا.

  • وأجريت حوله قراءات..

والناس تشتغل عليه، هناك أطاريح في الشرق وفي الغرب، المهم أن الناس تشتغل عليه الأهم أنه جدد في الحياة الأدبية وفي المتن السردي العربي هناك اهتمام كبير به في الجامعات، بل إن بعض الجامعات قد تخصصت في رواية معينة، وأصبح كثير من الطلبة ينجزون حولها أبحاثهم ورسائلهم الجامعية، لأن الناس متعطشة إلى المشاريع، الأدب اليوم، صورة الأدب كما نراها، هو أنها جزر عائمة ومتشظية وأرخبيل لا علاقة لهذه الجزر مع بعضها، لأن المشاريع غير موجودة هذه الجزر الأدبية لن تصنع لن يصنعوا الأدب والتراكم الأدبي المطلوب إذا لم تتجمع ويتم البناء عليها، ومن مظاهر الجدة أن نبني مشاريع أدبية لتكوين رصيد أدبي ورأسمال ثقافي أدبي.

  •  منبثق عن رؤية.

رؤية ناظمة، أنا حينما أكتب رواية لا أكتب رواية منفصلة عن باقي الروايات، يمكن أن تُقرأ كرواية منفصلة عن باقي الروايات، لا شك في ذلك، لكن هي تنتظم كلبنة من لبنات بناء هذا المشروع، وبالتالي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى، والدليل على ذلك وهو دليل، ربما قد لا يكون مهما بالنسبة للمجال الفكري، ولكنه مؤشر؛ أصحاب المكتبات يقولون لي في كل مكان، بأن أي قارئ لهذه الأعمال حينما يقرأ أول عمل يعود، بعد ذلك، ليأخذ السلسلة، فهم يبيعون السلسلة ولا يبيعون روايات منفردة..

  • استوعبوا المقصد استوعبوا أنها تشكل بنية.

نعم فهموا المقصد، وأن الروايات مرتبطة مع بعضها، وأنها متكاملة مع بعضها، وأن هذه تشكل مشروعا، عادة لدينا الثلاثيات، كأقصى ما يمكن إنجازه في أي رواية موجودة الآن. أما أن يكون هناك مشروع يتضمن أكثر من أربعة عشرة رواية، فهذا، وهذا شيء غير مسبوق وطنيا، أو عربيا أو دوليا، هذا شيء مهم جدا.

  • ما علاقة هذا بالتاريخ العربي الإسلامي؟

العلاقة سألخصها لك بشكل موجز: أنا تأملت في هذه الحروف المقطعة..

  • تقصدون فواتح السور القرآنية.

نعم، فواتح نورانية، فوجدتها بإزالة المكرر أربعة عشر حرفا، ورأيت لما عاينت هذا التاريخ العربي الإسلامي أنه ممتد لأربعة عشر قرنا، فلمعت في ذهني مباشرة أن هذه القرون يمكن أن تقرأ بهذه الفواتح، وأن كل فاتحة هي مدخل لقرن من القرون، وعنوان عليه، ثم استخلصت من هذا القرن مظهرا من مظاهر النبوغ والذكاء والمعرفة والفكر والروحانية، جعلته عنوانا لهذه الفاتحة، لا لأنه استوعبها بالعكس؛ القول أسبق من اللسان؛ ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمان: 1-2). فالكلمة القرآنية هي الأساس، والوجود الإنساني تابع، وهو تجلي ومظهر من مظاهر هذه الكلمة القرآنية عبر هذه الفاتحة النورانية، فبالتالي أصبح لدينا هذا المشروع، والشخصية، مفهوم الشخصية الروائية، أنت تعرف بأن مسألة الشخصية وهذا نقاش كبير، أيهما أسبق؟ حينما تريد أن تكتب رواية، هل تبدأ بالحبكة وتضع تصميما أم تبدأ باختيار الشخصية؟ هذا نقاش لن ندخل فيه الآن، فهذا خلاف تقني، لكن أنا تصوري للشخصية مختلف تماما عن التصور المدرسي، لأنني لا أعتبر بأنني حينما أكتب عن الجنيد أو عن ابن حزم أو عن ابن الخطيب بأن الشخصية الرئيسة هو ابن حزم وهو ابن الخطيب، بل الشخصية الرئيسة غير ظاهرة في الأساس، وهي الفاتحة النورانية، ولهذا أسميها الشخصية العرفانية، أما ابن الخطيب وابن حزم.. ما هو إلا تجل أو مظهر لهذه الشخصية.

  • فهو علامة عليها..

فهو الذي يظهر لك على الواجهة، هو اسم علم، مثل اسمك، مثلا، السيد عبد السلام اسم دال على شخصية السيد عبد السلام.

  • وهذا يدل على مدى الحضور الوظيفي لتخصصكم الأكاديمي.

نعم هي هذه العلاقة بين الدال والمدلول، فهذا المشروع له عنوان، أنا اخترت له عنوانا، عنوان موجز ولكنه يعطي فكرة، أنت حرف جاء لمعنى؟ أنت حرف لكن لا تقف عند: أنت حرف وتسكت، هذا الارتباط بين الحرفية والمعنوية، ما هي أصول الحرفية في الإنسان؟ وما هي الأصول المعنوية فيه؟ وما هي العلاقة الجامعة بينهما؟

في هذه الأسئلة يكمن لباب هذا المشروع وحقيقته وفلسفته، فهي قراءة لهذا التاريخ.

  • وكثافته الرمزية.

نعم؛ بل قد أقول لطافته النورانية، فهو مكثف في قول، ولكنه لطيف في تَجنيحاته وفي زوغانه.

  • في سبحه.

فالكتابة فيه كتابة متعددة المراتب، دائما هناك ارتباط بين القول السردي والقول الشعري في هذه الأعمال، كل هذه الأعمال تبتدئ بقصيدة.

  • جميل وفي هذا تجاوز لقيد التجنيس.

مسألة مهمة جدا، لماذا؟ ما هو الأصل والمصدر في كل هذا الإلهام؟ فهذا المشروع يتحدث عن تجربة روحية، والتجربة الروحية من الصعب الإمساك بها، ومن الصعب أن تقال، وأن تنقال، لهذا يتحدثون دائما عن الشطحات ويقولون العبارة دون كذا، والعبارة للعامة والإشارة للخاصة، هذه الأقوال أنا وظفتها في الاشتغال النقدي على هذا المشروع، فهنا أميز ما بين الرواية الصوفية والرواية العرفانية؛ ما نجده في السوق في الغالب هو رواية صوفية، إما أن نستلهم شخصية من الشخصيات الصوفية، أو نستلهم اللغة الصوفية أو غير ذلك، لكن الرواية العرفانية، كما أفهمها، هي أن تستطيع أن تنتج وتنشئ خطابا حول هذه التجربة العرفانية، وهذا ليس متاحا للجميع، التجربة الصوفية لا تستطيع أن تقول نفسها، تعجز عن قول نفسها، وتعجز عن إنشاء خطاب حول ذاتها، خطابا انعكاسيا، لكن الرواية العرفانية بما أنها انعكاس معرفي لما يحصل في الذات، فهي تستطيع أن تخبر عن تجربتها وتنقلها لغيرها عبر هذا الإبداع العرفاني الأدبي.

  • وجمالي أصالة.

نعم وجمالي كذلك، فهي تستطيع أن تنتج هذا الخطاب حول هذه المعرفة، هذا التناظر المعرفي. ولهذا فالعرفان هنا لا علاقة له بالعرفان في الغنوص الشيعي ولا غيره، إطلاقا، وإنما هي سفر في المعرفة، الرواية العرفانية هي سفر في المعرفة، في إشراقات الروح، في الانعتاق من وثوقيات النفس..

  • تأمل.

نعم، في خداع الحواس، في إشكالات النفس، في تردد العقل، بين الروحاني، بين اليقيني والشك، كل هذه الأشياء هي هذه الرحلة المعرفية التي تعطي هذه الرواية العرفانية، هو الفناء عن هذه الثنائيات بين العارف والمعروف، أن تفني هذه الثنائية بحيث يتوحد العارف مع المعروف، وهذا التوحد هو الذي ينتج العرفان، ويعطي ثمرة المعرفة فتنشأ هذه الرواية، ولكن هي في الواقع هي أدب للسفر، وأدب للمعرفة، فيمكن أن نقول هذا الأدب هو أدب للسفر، وأدب للحضور.

  • هو سفر في عوالم مختلفة.

نعم في عوالم مختلفة، فأنا لا أقصد فقط السفر الحسي، فالسفر الحسي موجود، وإنما السفر المعنوي، في الروح وفي النفس وفي طباق النفس المتعددة، وفي النهاية يصل البطل إلى منتهى هذا السفر، وحينما يصل يعلم أنه لم يصل! يقع في هذه الحيرة لكنها الحيرة الإيجابية، لأنها حيرة المعرفة، لأن هذا الذي يريد أن يصل إليه، هو أصلا متعذر الوصول إليه، وهو هذا المطلق، متعذر، ﴿ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ (الأحزاب: 13). فيرجع إلى الخلق بعد أن كان مراده هو الحق، فهذا المراد الذي تذهب إليه يجب أن تفنى فيه الأنا الداخلية التي عندك حتى تستطيع أن تسير في هذا المسار، ثم، بعد ذلك، ترجع إلى إنسانيتك وإلى كينونتك الإنسانية لتعانق الخلق من جديد وتعلم أن منتهى آدميتك هي أن تكون في هذه الآنية الحادثة، وأن كمال آدميتك هو في هذا الرجوع، في هذا البقاء على أصلك وفي وجودك وبكينونتك وفرادتك، هذا المشروع أيضا له من الوسع والاستيعاب لهذا التاريخ الإسلامي العريض، فاشتغلت أولا على جميع الحواضر..

أستأذنكم، قبل الحديث عن هذا البعد التاريخي في اشتغالكم على سلسلتكم الروائية، من خلال قراءتي المتواضعة للمفهوم الروائي في تجربتكم الإبداعية؛ مثلما أن هذه التجربة تصدر ويمكن أن تصنف على أنها تجربة عرفانية بالمعنى الذي طرحتموه، ألا يمكن اعتبارها كذلك تجربة فلسفية؟

طبعا.

  • بنفس المستوى.

صحيح، صحيح.

  • وهنا، مع الفارق طبعا، نستحضر تجربة بيرجسون.

نعم هناك نوع من التداخل.

  • التداخل مع الفارق بين الفضاءين، والتجربتين.

نعم صحيح، صحيح.

أنا سأجيبك، سأجيبك على هذا السؤال، هناك نظرية تعرف بنظرية الرجال الخمسة، هذه النظرية كتبها ابن سبعين، هو صاحبها، وهي تصدق في مجالات مثل المجال الذي نتحدث عنه، قال إن أصناف الطالبين خمسة: هناك الفقيه، وهناك الأشعري، ويقصد به المتكلم، ولكن مادام الأشعري هو النموذج المتقدم يذكر هنا الأشعري، وهو من باب المجاز المرسل، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. إذا الفقيه، والأشعري، والفيلسوف، والصوفي، والمحقق.

خمسة رجال، هؤلاء بينهم ارتباط، وليس بينهم تنافر؛ بحيث أن مرتبة الفقيه تكملها مرتبة الأشعري تكملها مرتبة الفيلسوف، تكملها مرتبة الصوفي، ثم تكملها مرتبة المحقق، ولهذا كان اسمه عبد الحق بن سبعين، فعلم التحقيق هو لباب الأمر، وهو الجامع لهذه الدوائر كلها..

 وبالتالي فهذا يجيب عن سؤالك، بمعنى أن الفلسفة هي دائرة ضمن الدوائر، وهذه الدائرة هي ضمن مبحث هذه الرحلة وهذا السفر نحو العرفان، فما هو الحق؟سؤال غير محرر في هذا الشكل. منتهى ما نستطيع حده به أن نقول: هو طلب الحق، ولكل حق حقيقة، فحقيقة الحق هي التي تظهر في هذه الأبعاد، وأنا كتبت أحد البيانات عن هذا التمييز، وإن شاء الله ستطلعون عليه في رواية إدريس، بهذا التقسيم وهذا التمييز، هذا الحديث النبوي كيف وظفته في مجال النقد الأدبي العرفاني، بشكل ستراه، إن شاء الله، وهو جميل وعميق جدا، حقيقة أن الحق يحتاج إلى دليل.

  • إلى برهان.

برهان نعم، والحقيقة تحتاج ليس إلى دليل بل إلى آية، إلى علامة.

  • إلى إثبات.

إلى شهادة، فما حقيقة إيمانك، يسأله عن الآية ولا يسأله عن الدليل، لا يسأله عن الدليل لأننا لسنا في مجال التدليل على الحق، الحق لا يحتاج إلى دليل، هو ظاهر وظهوره يعم كل هذا الكون، فبالتالي نحن نحتاج إلى شهادة بحضورنا في هذا المشهد، فنخبر بذلك المشهد، وهنا تنتفي هذه الأبعاد والكينونات الزمنية والمكانية، فيتوحد الإنسان في هذا البعد الزمني الذي أسميته بالآن الدائم؛ فأنا حينما أكتب عن الجنيد لا أكتب عنه كقرن ثالث مضى وانقضى، كما يكتب المؤرخ. لأن المؤرخ يقول أنه لم يكن حاضرا في تلك الأحداث فلكي يتكلم بموضوعية، ولكي يسميه زملاؤه بأنه مؤرخ يجب أن يتحدث عنها بهذه المسافة، وهو أن هذه الأحداث ليس شاهدا عليها، هي فقط أحداث مضت، والذي أتصوره أنا مختلف تماما.

الدليل على ذلك: لماذا الشعوب تطالب بتقديم الاعتذار عن جرائم حدثت منذ قرون، لأن الذاكرة مازالت موجودة، لأن هذه الشهادة بالحضور مازالت حاضرة، لو كانت الأحداث مضت وانقضت لما أصبح هناك مبرر لهذه المطالبة بالاعتذار. ولكن العلوم تحتاج إلى مثل هذه الاعتبارات، علم التاريخ يحتاج إلى هذه المسافة حتى يؤسس مقدماته المعرفية، لكن المجال الذي نتحدث عنه الآن هو مجال أوسع وأرحب، وهو يلتقي مع الفلسفة الهايدغرية، فيما تسميه “بالدازاين”، هنا الآن، الأشياء تحدث هنا الآن، ليس هناك ماضي ومستقبل، هنا والآن..

 ولكن هذا الآن هي كينونة واسعة، والذي يخلع عليها الزمن هو ذات الشاهد، هو الإنسان الشاهد، هو الذي يخلعه، ولهذا حينما نقرأ للجنيد، نحس بأنه قريب منا، لو ابن جارتنا أو ابن حينا، فنتعاطف معه ونتماها معه، يحصل هذا التماهي معه، والإنسان الذي يقرأ هذا العمل يحس بهذا التماهي..

 بناءً على هذا التصور ستلاحظ كيف أن هذا المشروع مختلف كما ذكرنا، وهو أدب جديد بهذه المعاني التي تحدثنا عنها سواء في المفاهيم التي يطرحها في التداول النقدي، كمفاهيم جديدة؛ الكتابة بالنور، الكتابة بالحال، الكتابة بالسر، الزمن العرفاني، البؤرة العرفانية، الحبكة العرفانية، الإمكان والاحتمال، وأنواع الإمكان والاحتمال، هذا أمر ممكن محتمل، وهذا ممكن غير محتمل، وهذا أمر ممكن جد محتمل، وهذا أمر ممكن شديد الاحتمال، وهكذا..

 ضمن السياق السردي تحس بهذه الأشياء، هذه تفتح على عوالم كثيرة، هو يحتاج إلى مجهود كبير، واشتغال كبير، لكن هذه النورانية التي تحدثنا عنها، هي التي تعطي هذه الدقة في هذه التوصيفات، وذلك بفضل بركة القرآن وبفضل هذه الحروف القرآنية النورانية، هي السبب في هذا، أنها تفسح لك القول في هذه الأشياء، فبالتالي هذه الفواتح هي مثل المفاتيح، تفتح القرن، وتفتح ذات الإنسان، تفتح الوجود، لأن الوجود كله بماذا كان؟ كان بحرف، بكلمة الحضرة كن، بكلمة كن، بحرفين، ولهذا أسيادنا يقولون وسره بين الكاف والنون، بمعنى ما هو هذا السر؟ هو حرف الواو، بمعنى حينما تضيف ذالك الواو بين الكاف والنون يصبح كون، أي الوجود، هذا هو السر المختبئ..

 ولهذا فالخط العثماني والخط العربي في المساجد والجوامع العثمانية يكتبون الواو بشكل كبير لأنه يدل على الإنسان الكامل، لأن حرف الواو ما هو؟ هو الرقم ستة، والمعارف من أين تأتي؟ من الجهات الستة، من الأمام والخلف واليمين والشمال والفوق والأسفل، بمعنى أن هوية الإنسان الذي يصنعها هو هاته المعارف التي تأتيه من هاته الجهات..

 لكن الهوية العرفانية هي أسمى من ذلك، والدليل على ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم، بإدماج هذه الستة وإضافة خمسة إليها، في دعاء يجب أن نتنبه إليه، “اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا وعن شمالي نورا، ومن أمامي نورا ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا، واجعل لي نورا، واجعلني نورا”؛ إحدى عشر، ستة من الجهات الحسية، وخمسة من داخلية الإنسان المعنوية، وهذه هي هوية الإنسان الكامل، الواحد في مقابل الواحد، إحدى عشر، الواحد الحق، ويقابله العبد الكامل، العبد الكامل سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذه هي الوترية التي يبحث عنها الإنسان، هذا هو المشروع العرفاني.

  • هذا المشروع، كما يفصح عن نفسه، مشروع قَصْدي، أي فيه القصد، فهو قاصد وله مقصد.

نعم فيه القصد، تمامًا كما في الشعر، وبهذا سميت القصيدة.

  • بالنظر إلى هذه القصدية والوعي بها؛ هل تشكلت لديكم هندسة أولية للمشروع، ثم شرعتم في خوض التجربة بحيث أن العمل يفضي إلى عمل آخر، أم أن الهندسة، إن وجدت، قد انقشعت أو انقدحت في ذهنكم، أول ما انقدحت وهي شبه مكتملة؟

أنا شخصيا أقول لك، أنا بدأت في كتابة هذا المشروع في نهاية القرن الماضي، في سنة 1999م، إثر رؤيا، ولا مجال للدخول في أبعاد وتفاصيل هذه الرؤيا ولكني أشرت إليها في إهداء أول عمل، “ما اتصل الحرف بالحرف والمعنى بالمعنى” ومتى اتصل القاف بالقاف، والنون بالنون، في أول إهداء فيه هذه الإشارة. لم أكن على وعي،حينذاك، بما سيؤول إليه المشروع، لكن في الإهداء كان كل شيء مكتوبا، لأن القاف والنون ما هما؟ أول حرف في كلمة “قرآن” وآخر حرف هو النون، “قرآن”، وتشكيل هاذين الحرفين يعطي حقيقة هذا المشروع وهندسته الكاملة منذ البداية، فالقُنُّ هو الجبل، والقِنِّ هو العبد الخالص في العبودية، فكيف ما شكلت هاذين الحرفين الذين هما خلاصة القرآن، تعطيك الجبل: العلو، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ﴾ (الحشر: 21)؛ أي على الإنسان، دع عنك الجبل الحجر الأصم، فهذا يفهمه السطحي الظاهري، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا﴾؛ أي هذا العبد القِنُّ الخالص في العبودية، في اللغة العربية عندما نقول القِنٌّ، هو الخالص في العبودية، من الجهتين الأب والأم، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.

 ففي هذا الارتباط الأولي منذ هذه اللحظة الفارقة تأسس المشروع، وبعد ذلك بدأ الوعي به، وأعطيك مثالا: القرآن نزل أول مرة على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ليلة واحدة، نزل في ليلة واحدة هي ليلة القدر، ثم نزل منجما في ثلاثة وعشرون سنة، بمعنى أنه جاء إجمالا في ليلة واحدة، وجاء تفصيلا في ثلاثة وعشرون سنة التي هي تاريخ الإسلام وتاريخ البعثة النبوية، قياسا على هذا، ولله المثل الأعلى، في هذه الرؤيا الأولى التي حبل بها هذا المشروع، جاء هذا المشروع، ثم توزع خلال هاته السنوات التي أكتب فيها، جاء مفصلا عبر هذه الفواصل، فربما هذا يجيب على هذا السؤال، ولكنه بسرعة جاء الوعي بالمشروع كمشروع عام.

  • بحر نون، بلاد صاد، الحواميم، فواصل الغزالي، الخطيب في روضة طه، ياسين، قلب الخلافة، طوق سر المحبة، الجنيد، خناتة، إدريس… كيف تتمثلون هاته العناوين؟ حينما تتلقون هاته الدوال هل تتلقونها وتتمثلونها تمثلا خاصا؟

الآن أنت تسأل عن منطقة من الصعب تعقلها، من الصعب تعقلها، لكنها تتخلق في ذات المبدع في عوالم من الصعب الإمساك بها، عادة تكون في ارتباط مع آية أو مشهد برزخي، ثم يأتيك شيء هكذا، كحقيقة لا تقبل الرد.

  • نعم، تأخذك.

نعم، فتحس أنك ستكتب عن هذا الموضوع، أو عن هذا الشخص انطلاقا من هذه الفاتحة.

  • وهذا شرط أساسي؟

وأنا أقول لك كيف أبدأ، بعد هذه اللحظة أذهب إلى تلك الفاتحة النورانية، وأقرأ السورة كاملة، وتبدأ تسكنني تلك السورة، لمدة، وهي تسكنني، وأسكنها، وأتقلب في منازلها، تحصل منازلات، علم المنازلات أول من تكلم فيه هو ميمون المصري، والحاتمي خصص له فصلا كبيرا سماه باب فصل المنازلات، من الفصول الستة من الفتوحات المكية، حينما تتنزل سورة أو آية بين الحق والعبد، تحصل علوم، ويكتسب من خلالها أشياء، في تلك المنازلة.

 لأن القرآن ما هو؟ هو تنزيل، يتنزل، ويتنزل كيف؟ كنجوم على قلوب العباد، ولهذا فتلك السورة تكون كما لو أنها نزلت في تلك اللحظة، حديثة عهد بربها، فيحصل العلم بها في هذه الأفياء وفي هذه الأحياز فتتم الكتابة انطلاقا منها، فهذه الرواية هي في الحقيقة ترجمة لتلك المنازلة التي حصلت في التاريخ، فتصبح متاحة، ولهذا أنا قلت لك في البداية: هو إنشاء خطاب حول هذه التجربة، وهنا تَنماز الرواية العرفانية عن الرواية الصوفية، لأن الآخر يقول لك في الرواية الصوفية يقول لك أنا لا أستطيع أن أعبر، العبارة للعامة، ويقول لك الإشارة للخاصة، لكنه ينسى أن الذي يشير هو البعيد، فحينما تقول هناك، فأنت بعيد، لست بعين القرب، والحقيقة أنك حينما تكتب هذه النوع فأنت في حضرة القرب.

  • تقتحم، هذا اقتحام؛ ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ (البلد: 11).

نعم هذا اقتحام، أنت في حضرة القرب، ولهذا أنت تستطيع أن تخبر عن هذه التجربة، وتستطيع أن تكتب عنها، والأكثر من ذلك، أنك تنقل تلك الأحوال إلى غيرك، ولهذا أنا تحدثت عن الكتابة بالحال وقلت: إن كتابة بالحال تستدعي قراءة بالحال. قد يقول قائل: أنت كتبتها بالحال والحال لا يدوم زمنين كما عُرّف، هو وارد يرد على القلب ثم ينطفئ، بمعنى أنه لا يستمر مدة طويلة.

  • وغير متاح للعامة.

فكيف يبني القارئ هذا الحال الذي حصل في الزمن (T.1) والزمن ( T.2) الذي هو زمن القراءة. هنا أدخلنا مفهوم جديد الذي هو: “القراءة بالحال”، حينما يزج بنفسه في الأنا الدائم، يتوحد مع ذات إما السارد، أو الكاتب، أو الشخص الذي حصل له الحال، فيعيد بناء الأحوال، فتصبح خريطة الأحوال والطريق الواصل إليها هو الطريق العكسي، لأن هناك تناظر، الأول يحصل له الحال، والثاني يبني كيف حصل هذا الحال، إذن يأتي من النهاية إلى البداية، والأول من البداية إلى النهاية، فهي مفاهيم حتى في النقد الأدبي غير متاحة، مفاهيم جديدة وبكر، هذا مجال بكر، فهذه البيانات التي ترافق هذه الأعمال تحاول أن تقرب هذه الأحوال المتفلتة.

  • القابلية تختلف كذلك.

نعم، ليس كل الناس يستطيعها.

  • هذه البنية العرفانية للنص، إذا حصل التفاعل الكيميائي الروحي العرفاني، بين النص الذي هو التجربة الخام، وبين المتلقي، ستؤهله ليجد نفسه منخرطا ومنسكبا في ذلك المسار.

طبعا، تماما.

  • بمعنى أن النص عنده وظيفة، من خلال التأثير في معرفته وسلوكه، بمعنى إذا كانت عنده قابلية وجدانية، ونفسية، وروحية، فبمجرد أن يدخل في عوالم التجربة ستسحبه.

نعم يحصل له التحول، وهذا هو المؤشر، فالتحول هو المؤشر، حينما يحصل للقارئ تحول، يعلم، حينها، أنه حقيقة كان حاضرا، لأنني تحدثت عن الشهادة بالحضور، ليس فقط أن تحضر، وأن تشهد على حضورك، تقدم شهادة بأنك كنت حاضرا، في ذات الحدث، وفي ذات تلك الواقعة التي حصلت، حاضرا فيها وتقدم شهادة، وهذه الشهادة أنت مسؤول عليها، والمؤشر عليها، هو التحول الذي يحصل للإنسان، إذا استشعر من ذاته أن هناك تحول حصل؛ فيلزم الأمر ويقول هذا المؤشر صحيح وصادق، وهذا هو المطلوب الذي تحدث عنه صاحبنا حينما قال: القراءة بالحال، القراءة بالحال، إذن فهو على حق في تلك القراءة، والنماذج كثيرة، أنا لا أستطيع أن أذكرها من قراء حصلت لهم أشياء عجيبة، سبحان الله، تحولات لدى قراءتهم، أشخاص من الشرق ومن الغرب، وهي طريفة جدا، إن شاء الله في مرة أخرى يمكن أن نقف عليها.

فالذي أريد أن أؤكد عليه، هو أن هذه الأعمال كذلك تشتغل على حواضر، كل الحواضر الإسلامية الكبرى تم الاشتغال عليها، في المشرق والمغرب، كل الدول الكبرى التي مر منها العالم الإسلامي.

  • وهذه الحواضر لها علاقة بالذاكرة، فهي فضاء ومادة للذاكرة.

طبعا، بمعنى هذا الاستيعاب ليس سهلا، هناك اشتغال أنثروبولوجي كبير على الأوضاع الاجتماعية والحضارية والفنية والثقافية والاجتماعية، في العمارة، في الفنون، في الطبخ، في الأكل، في الأوضاع، كلها اشتغال، وهذا اشتغال المؤرخ والمدقق الباحث المتخصص، المعجم، الخريطة التي كانت عليها المدن في ذالك الوقت، وهذا عمل مضني وشاق، وهذا حقيقة يعطي شهادة الحضور لأنه يوثق توثيقا حقيقيا في حيز، هو حيز الرواية خلال قرن من الزمن، ولكن هذا ممكن، ممكن، لأنه إذا كان الحرف يستوعب الوجود فكذلك الرواية يمكن أن تستوعب قرنا باختلاف ما في هذا القرن من أشياء.

  • من خلال متابعتي، وجدت بأن تجربتكم الإبداعية، قد لفتت قبولا طيبا، سواء على مستوى المقاربات النقدية أو حتى بعض المقاربات الأكاديمية على شكل أطاريح وغيرها. كيف تقيمون ما كتب عن تجربتكم الروائية؟ خاصة وأن لكم حكما نقديا جريئا في النقد، بدعوى عدم متابعته ومواكبته الأعمال للإبداعية، طبعا هذا أمر ملحوظ؛ ليس هناك مواكبة نقدية للعمل الإبداعي. وفي هذا الإطار سبق أن صرحتم أن “النقد أصبح بطريقة مخجلة عاجزا عن متابعة الإبداعات الكثيفة”، سؤالي ربما ليس المقصود منه أنني سأحملك مسؤولية الإدانة، وإن كان الأمر يتضمن إدانة ظاهرة. بعيدا عن منطق الإدانة كيف تفسرون هذه الظاهرة موضوعيا؟ ظاهرة عجز النقد عن مواكبة العمل الإبداعي؟

النقد هو النقد القوي (بأسسه بقواعده بأدواته). النقد القوي الذي نحترمه هو إبداع في حد ذاته، ويجب أن يرتفع إلى هذا الحوار مع الأعمال الأدبية الرائدة، حتى يؤسس لمشروعيته، لا أن يكون ذيلا على نظريات مستجلبة، مهما كانت هذه النظريات، لأن هذه النظريات انبنت انطلاقا من أعمال أدبية.

  • من تجارب.

نعم من تجارب، وبالتالي ولّدت هذه النظريات. إذا طرح مشروع جديد نفسه بهذا الشكل، يجب أن تكون هناك نظرية كذلك جديدة تواكب هذا العمل، لا أن يقرأ باختزال.

  • قراءة برانية..

نعم، انطلاقا من نظريات برانية بعيدة، وبأدوات مستخلصة من أعمال مفارقة، مهما كانت أهميتها في ذاتها؛ فالنقاد أنفسهم يقولون أن النقد لم يعد يواكب حركة الإبداع. هناك الآن إنتاج كبير، إنتاج كبير طبعا فيه الكثير من الغث، ولكن ليست هناك مواكبة إطلاقا، حتى لتقويم هذا الغث. فالرواية تعرف الآن انفجارا سديميا والنقد له دور بارز، وحتى يعطي مشروعية لوجوده يجب أن يتابع، على الأقل، توجهات معينة، وأن يقوم، وأن يصحح، وأن يتابع وينتقي، لا أن يبقى منشغلا بالمقتضيات النظرية، ويتغذى على النظرية.

  • ويبقى شكلانيا.

نعم، النظرية تغذي النظرية، النقد لا مبرر لوجوده إلا مع الأدب، فإذا انعدم الأدب لم يعد أي مبرر لوجوده، وإلا ألحق بشيء آخر وأصبح فلسفة مفارقة، والفلسفة هي في غنى عن النقد الأدبي، يمكن أن تؤسس لنظرتها الخاصة إلى العمل، وهذا موجود، الفلسفة لديها تصور عن الأدب، بل الفلسفة العميقة هي التي اشتغلت على الفن والإبداع.

  • بل إن الجمال مبحث أصيل من مباحث الفلسفة.

تماما، لكنه المبرر لوجود النقد، ولا يجب أن يغيب عن النقاد، أن الإبداع النقدي هو في ملازمة الإبداع الأدبي، وهذا الحوار بينهما هو الذي يعطينا التراكم الذي نطمح إليه ونريده. الآن أنت تلاحظ كثيرا نكرر ما قيل عن أعمال نجيب محفوظ وعن فلان وعن فلان… أليس هناك جديد يكتب حتى نستأنف دومًاتكرار ما قاله الأساتذة والنقاد السابقون؟ ونفس الكلام حتى في الأبحاث الجامعية التي ينجزها الطلبة، نفس الكلام، وليس هناك أي جديد، بمعنى كلام مكرور مكرر بشكل كبير، مع الاستثناءات المقدرة طبعًا.

 فالذي أدعو إليه؛ هو أن يستيقظ النقد من هذه الغفوة وهذه الغفلة، ونحن نحتاج كأدباء وكمبدعين، والقراء يحتاجون والسينما تحتاج… ليس فقط المشتغلين في الأدب، ولكن كذلك حقول ومجالات أخرى تحتاج إلى النقد الأدبي الرصين الذي يدخل في هذا الحوار مع العمل الأدبي الإبداعي.

  • هناك نوع من التجارب الإبداعية لها نوع من الخصوصية، يجعلها تخرج عن التجنيس وعن القوالب الجاهزة وعن التنميط، وهو ما يجعلها تحتاج إضافة للعدة النقدية المتعارف عليها، إلى أفق خاص في تمثل العالم، في الإحساس باللغة نفسها.

نعم تماما.

  • من خلال اهتماماتي الأدبية والنقدية المبكرة ومن خلال اطلاعي على المدارس الأدبية والفنية الكلاسيكية تولدت لدي قناعة بأن التجربة الإبداعية الحقيقية تظل عصية على القولبة والتنميط.

تنتج منهجها.

  • فوظيفة النقد أن يرصد البنية الخاصة بها (أي بالتجربة الابداعية)، ليس بالمعنى البنيوي فحسب، بل في ذاتها؛ كيف تتشكل؟ كيف تتخلق؟ إذا استطعت بأدواتك أن تجعلنا نقف على المعالم أو المنطق العام الذي يحكم تشكل هذه التجربة، فهذا معطى أول.

المسألة الثانية؛ تتعلق بالقدرة على التمييز بين مظاهر الإبداع في هذه التجربة، ذلك أن اللغة الإبداعية تختلف عن اللغة العادية بكونها لغة مسبوكة بجمالية خاصة، لغة مبصومة. ووظيفة الناقد أن يُمسك بعناصر التميز والفرادة، وعناصر المفارقة والجمالية… ويرصد البنية العامة للتجربة وروحها..

وبهذا المعنى فإن تجربتكم، على غرار مختلف التجارب الابداعية الحية، لا يمكن مقاربتها مقاربة عميقة إلا انطلاقا من ناقد له هذا الوعي، وبالتالي يبحث عن زخم بنيتها الداخلية كيف تشكلت؟ روافدها؟ بنيتها الرمزية؟… إلى غير ذلك. وعن عناصر التناقض والمفارقة فيها، وعن  بنيتها وروحها الثاوية.

صحيح، ولهذا كنت على وعي بهذا الوضع، ومن هنا أتت أهمية تلك البيانات، الاشتغال النقدي الذي أقوم به على هذه التجربة، هو طبعا لترميم هذا الخصاص الذي لاحظته، والذي أرى أنه طبعا، كما تفضلت، وقلت: يحتاج إلى أن يستوعب الإنسان هذه الأبعاد كلها، لأنه ليس سهلا أن تشتغل على الإمام الغزالي، الإحاطة بالإمام الغزالي كغزالي، وبمجمل ما أنتج، وبعصره وبكذا… وتكتب هذا في كتاب يجمع بين المعرفة والمتعة، علما أن هذه الرواية قد كتبت في شهرين.

  • يتعلق الأمر بانبثاق إبداعي حقيقي.

لو كان فقط كلاما مرسلا هكذا يمكن أن نتصور الأمر، ولكن أنت أمام معارف وعلوم وعصر بكامله تكتبه في هذه المدة الوجيزة بلغة جمالية وحبك روائي.

  • ما سر ذلك من وجهة نظركم؟

أنا أُرجع ذلك إلى أمرين اثنين: إلى بركة القرآن، وإلى البركة التي حصلت لأبي حامد نفسه، لأنه على صغر سنه، فهو مات صغيرا، خمسة وخمسون (55) سنة تقريبا، ومع ذلك ترك ما ترك، فهذه البركة التي ظهرت في هذا الرجل العظيم.

  • خاصة في ظل شروط إنتاج قاسية.

يبدو أن هذه الظروف القاسية وقد انعكست حتى على من يكتب عليه، فحضرت هذه البركة بالتعدي، فانتقلت هذه البركة. إن هناك شرائط علمية لابد منها، وشرائط نفسية ووجدانية نحتاج إليها، وشهود روحي، هذه كلها ضرورية.

  • على أن لا تكون هناك مسبقات.

تماما يترك الإنسان المسائل والأحكام النقدية المدرسية، كذا وكذا.

  • حتى المسبقات المذهبية.

طبعا حتى المسبقات المذهبية، كما أقول وأنا أُعرِّف المحبة في “طوق سر المحبة”، مرحبا بك أيها المحب من حيث ما أتيت، ومن أين أتيت، فأنت مرحب بك، فيجب أن تأتي بدون هذه المسبقات، وهذه الشروط المسبقة، فأنت مرحب بك من دون ميعاد يمكنك أن تأتي، ونحن نستقبلك ونستضيفك في هذه الأفياء. كذلك الإنسان الذي يدخل إلى هذه الحضرة العرفانية الأدبية الإبداعية، يجب أن يأتي بدون هذه الأفكار المسبقة تشوش عليه، وتمنعه من الفهم ومن الوصول ومن الحضور في العمل، هناك مستويات للفهم لأن هناك مستويات للحضور، فبقدر حضورك في هذا العمل يكون فهمك، وبقدر غيابك عن الحضور يكون عدم الفهم، فهي مرتبطة؛ بمعنى بقدر مستويات الحضور تكون مستويات الفهم، وكلما كانت مستويات الحضور أكبر وأعلى، كلما كانت مستويات الفهم أجلى وأسمى، فهي مرتبطة.

  • متلازمة.

فلهذا أنا سميته أدب الحضور وأدب السفر، هذه من الأسماء التي أسميها كذلك في الرواية العرفانية ولكن أيضا الأدب بصفة عامة، أدب الحضور وأدب السفر.

والآن والحمد لله من خلال هذه البيانات أنا تحدثت عن الشعر، الشعر العرفاني، ودعوت إلى أن ينفتح شعراؤنا عن هذه التجربة العرفانية، وهي التي يمكن أن تنقد الشعر من هذه الأزمة الخانقة التي يعيشها اليوم، وهذا الانسداد الذي نلاحظه، والآن بدأ بعض الإخوان، صدر كتاب للصديق العزيز التهامي الحراق، سماه: “الجمالية العرفانية”، وهو كذلك يساهم، فإذن هناك حركية جديدة في بناء معالم هذه الجمالية العرفانية في مجالات متعددة ومختلفة، في الأدب، في الفلسفة، في العلوم الإنسانية، في التشكيل العرفاني.

 أنا ذكرت هذه الأمور، وطبعا لأنني أريد أن أعانق التجربة الإبداعية مع الآخرين، لأنها مطلقة وتفتح آفاق كبيرة، وكما تفضلت وقلت هي تحتاج إلى هذا الشفوف، الشفوف الروحي مهم جدا، لابد منه، وهذه الشرائط العلمية التي لابد منها، لأن الرواية كذلك تحتفل بالمعرفة في أبهى صورها، ولهذا تحقق هذه المتعة وتحقق كذلك هذه الاستفادة، فيستفيد الإنسان ويعلم عن أشياء وأشياء وأشياء.

  • أشرتم لعلاقة تجربتكم الإبداعية بـمفهوم “البركة” بكل أبعادها الدينية المتعالية؛ كمصدر مدد واستمداد وربما مصدر إلهام. وأتوقع أن القارئ من خارج المرجعية التي تصدرون عنها سوف يستشكل عليه أمر هذه العلاقة ليتساءل:وماذا عن كبار المبدعين العالميين من خلفيات ثقافية مختلفة بما فيها الدهرية ممن حققوا أعلى درجات الإبداع، بمعزل عن أي مفهوم متعالي كمفهوم البركة، لأنه لا يندرج لسبب بسيط ضمن مفردات مرجعيتهم الثقافية والدينية؟

جاء في الخبر النبوي عن الخضر “ما قعد على فروة إلا اهتزت تحته خضراء”، دليلا على هذه البركة التي أشرنا إليها. معك حق في أن من لا يصدر عن مثل مرجعيتنا العرفانية يمكن أن ينكردور البركة في الإبداع، لكنه سيستدعي لا محالة شيئًا شبيها بها يسميه الإلهام أو الدفقة الشعورية التي لا تُكَيَّف ولا تُعرَف إلا في قدرتها الهائلة على توليد المعنى والإبداع بشكل لا ينضبط بمسار محدد، وإنما يختلف حسب كل مبدع كما هو حال السوداوية (Spleen) عند بودلير التي هي نوع من تعاسة العيش. كما قد يستدعي أسبابًا حسية مذمومة مثل المخدرات والمنشطات، وقد كان، وهذا مما ينكره العقلاء والفضلاء على هؤلاء المبدعين. فإذن لا مشاحة في الألفاظ ما دام أن مصدر الإلهام قد يكون معبد الأولمب عند اليونان، أو وادي عبقر عند شعراء العرب، أو غابة شيروود بالنسبة لأسطورة وقصة روبن هود؛ أو قل ما شئت من مثل هذه المصادر عند الأدباء والمبدعين المعاصرين. ونحن نصدر عن مرجعياتنا التي ذكرت لكم منها ذلك الخبر النبوي عن بركة أحد رجال الغيب وهو الخضر. كما أن أعظم ليلة في الوجود هي ليلة القدر ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ التي نزل فيها مجملا قرآنُ الفواتح النورانية التي نحن من بركتها وفيضها وجودها. والبركة لغةً هي الزيادة، ولا شك أن الناس تريد الزيادة في الخير، والأدب خير كله، بل هو الخير عينه، فإذا تحدثنا عن بركة الأدب بهذا المعنى فلا يبقى لأحد اعتراض لأننا نطلب الزيادة في الخير والنماء في الأدب والتزكية في الأخلاق. ومن منا لا يريد النماء والزيادة في الخير والأدب والأخلاق ؟ ومن جهة ثانية جاء في القول الإلهي ﴿تبارك الله أحسن الخالقين﴾، فربط البركةَ بالخَلْقِ الحَسَن، وما الإبداع الأدبي إلا نوع من الخلق، فكيف لا يطلب فيه البركة والزيادة والتطهير؟ إن الأدب هو خلق وإبداع في الحياة، وزيادة فيها وتمكن في الوجود بها.

إن أعظم زيادة يطلبها هذا الأدب العرفاني هي الزيادة في الوجود، وهل هناك شيء أفضل من الزيادة في أمر هو أصل كل أمر ؟ فبقدر تمكن الأديب في الوجود يكون أدبه على أعلى درجة من الأدبية.

  • شكرا جزيلا السي عبد الإله استمتعت كثيرا بهذا اللقاء.

بارك الله فيك أستاذ عبد السلام، وأنا كذلك استمتعت معك في هذا الحوار، وأشكرك كثيرا.

الوسوم

د. عبد الإله بنعرفة

• نائب المدير العام للإيسيسكو.

• خريج جامعة السربون بباريس، فرنسا.

• دكتوراه في علم الدلالة من جامعة السربون، باريس.
• من مؤلفاته:
– نشأة المفاهيم (بالعربية والفرنسية).
– رواية جبل قاف.
– رواية بحر نون.
– رواية بلاد صاد (تحت الطبع).
• وله مجموعة من الأبحاث في قضايا الجمال والتصوف والسماع والموسيقى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق