مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور بنّاصر البُعزّاتي

قلتم إن لدينا تقليدا علميا أو تقاليد علمية في أحضان الحضارة العربية الإسلامية منذ أوائل القرن الثالث الهجري؛ بالإضافة إلى وجود تقليد في الفلسفة الطبيعية في نفس الحقبة التاريخية أي بالموازاة معها. كيف تأسس هذا التقليد العلمي؟ أي كيف حدث أنه في خلال قرن واحد حدث ذلك التحول الكبير في المعارف العلمية للمجتمع الناشئ؟ وبعبارة أوضح: ما هي أهم الأسباب التي أدت إلى تأسيس تلك التقاليد العلمية في الحضارة الإسلامية؟ خاصة ونحن نعلم أن مؤرخي العلوم تتجاذبهم رؤيتان: الأولى ترد ذلك إلى الترجمة، ترجمة علوم الأوائل، والثانية تتحدث عن وجود علاقة تفاعلية بين حركة البحث العلمي وبين فعل الترجمة؟

يجوز أن يقال إن هناك تيارين أو ثلاثة أو أكثر، لأن كل باحث يخطّ لنفسه مساراً معيناً بجانب زملائه وبالتعاون معهم، وفي جو لا يخلو من تنافس، من خلال استثمار وثائق ومعطيات معيّنة. والاختلاف في الرؤى عادي جداً، كما هو الأمر في أي ميدان يتمتّع بدينامية البحث: إذ لا تتوفّر نفس الأمور لكل الباحثين وفي نفس الوقت. لكن السؤال الأساسي، هو أنه كيف حصل أن هذه الثقافة المرتبطة بالدين الإسلامي أدّت في ظرف وجيز – أي خلال قرن أو قرن ونصف- إلى ظهور علماء أفذاذ، أسهموا لا فقط في هضم واستيعاب المعارف العلمية التي سبقتهم، بل وفي إضافة أفكار علمية جديدة منذ الأجيال الأولى. هل يتوقف هذا الأمر على الترجمة؟ أم أنه حصل بالموازاة معها؟ أظن أنه لا يوجد تناقض بين مثل هذه الآراء. فلنتساءل: هل نقصد بالترجمة النقلَ من لغة إلى أخرى بكيفية مباشرة ومعبّر عنها من لغة مكتوبة إلى أخرى مكتوبة؟ أوَ لا نرى أن الترجمة هي مصير البشر منذ أن وُجدوا، فنحن في تواصلنا الشفوي اليومي نترجم كما كان هؤلاء يترجمون. وقد كانت في تلك الرقعة الجغرافية -أي في شمال الجزيرة العربية- ثقافات متنوعة منذ قرون عديدة قبل وصول الإسلام إليها. كان كثير من الناس يعرفون اللغة اليونانية (اللغة الرسمية للبيزنطيين) والسريانية والفارسية، كما كانت هناك قلة قليلة تعرف حتى القبطية والسنسكريتية (لغة الهند). إذن، كان هناك تفاعل حضاري غنيّ جداً وتبادل للأدوار بين لغات معينة قبيل الإسلام. فلنأخذ مثلا أي مركز علمي آنذاك، مثل حران أو أنطاكية أو نصيبين أو جنديسابور … سنجد تنوعا لغويا وثقافيا وجدلاً دينياً، تتدافع وتتجاذب في سياقه تياراتٌ وتصوراتٌ متنوعة حول نظام الكون ومكانة الألوهية وواجب الفرد والجماعة … لنأخذ حرّان أو أنطاكية، فبعد أن كانت تحت السيطرة البيزنطية خلال خمس وعشرين سنة، تهاجمها الجيوش الفارسية وتستولي عليها خلال أربعين سنة، ثم تتراجع الجيوش الفارسية وتأتي الجيوش البيزنطية (التقدير بعدد السنوات تقريبي فقط، لتقريب الفكرة) …؛ وعند كل تغيّر تنقلب تراتبية اللغات والثقافات في تلك الرقعة؛ وهناك قوافل تجارية لأقوام عديدين منهم القبط والعرب والفرس تجوب الأقاليم في كل اتّجاه … وهكذا؛ أي أنّ هناك تعدداً لغوياً حتى قبل الإسلام في هذه المناطق فيترجم الناس تلقائياً؛ إضافة إلى أقلية من الدارسين يترجمون كتب الطب والمنطق والرياضيات وبعض الفلسفة … فكانت هناك اللغة السريانية محليا، بالإضافة إلى اليونانية شمالا، والتي كانت لغة الإمبراطورية البيزنطية، بالإضافة إلى اللغة الفارسية إلى الشرق. وكانت هناك نصوص مكتوبة بهذه اللغات الثلاث: نصوص في المنطق، وفي الطب، وفي الرياضيات. ربما لم تكن هذه النصوص غنية جداً، ولكن على الأقل كانت تقدم النصوص الأوّلية التي تضمن مستوى معيناً أوّلياً من الفكر العلمي والمقولات الفلسفية والتصورات الدينية. إذن، كان هناك تعدد لغوي وثقافي، يمكن أن ينفتح عليه مَن رغب في ذلك أو من سمحت له ظروفُه بأن يفعل. وكان أيضا تعدد في الديانات، إذ كانت هناك اليهودية والزرادشتية والمسيحية والصابئة والمانوية والزُروانية …، وكل معتقد ديني كانت تنشط فيه مذاهب كثيرة وتتفرع عنه أساليب متنوعة في التعبّد والسلوك. ثم كان هناك جدال وتبادل للآراء بين نخب تنتمي إلى مناطق جغرافية عدّة. وعندما أتى المسلمون إلى هذه المناطق وجدوا عائلات متخصصة في الأمور العقدية أو في التقاليد العلمية، وتستطيع حتى أن تضع مخططات للعلوم؛ وهو ما نسمّيه اليوم بالسياسة العلمية. ونذكر على سبيل المثال: عائلة آل برمك، والذين لم يكونوا علماء فحسب، بل كانوا منظرين للعلم كما كانوا منظرين للدبلوماسية؛ وكذلك الشأن بالنسبة لعائلة نوبخت وعائلة بختيشوع. وتجد عشرات الأسماء يشتغلون مع كل واحد من هؤلاء المختصّين. إذن، فقد كانت هناك تقاليد علمية مختلفة حسب الميول والأغراض والخطط. وماذا فعل المسلمون؟ نقوا هذه العلوم بالتدريج إلى العربية وطوروها بعد أن اطلعوا عليها. وأغلب مَن باشر فعل الترجمة إلى العربية ينتمون إلى تلك العائلات ذات الأصل الفارسي أو السرياني، التي امتزجت مع أفراد وأسر عربية أو غيرها. هل تعرّف هؤلاء المسلمون على العلم قبل الترجمة أم بعدها؟ يبدو أنه لا يوجد جواب نهائي على هذا السؤال، لأن التعرف في حد ذاته عمل علمي وترجمة في نفس الوقت، والترجمة هي نفسها عمل فكري، لأن الترجمة تحتاج إلى مجهود كبير جدا. وهناك أمور تحتاج اليوم إلى دراسة سسيولُجية: فأن يعيش سوري سرياني اللسان مسيحي أو صابئي المعتقد في دمشق ويترجم كتاباً في الطب الإغريقي إلى العربية زمن هارون الرشيد العباسي، هل يجب أن يعدّ هذا العمل من التقريب العلمي الإسلامي أم التقريب العلمي العربي أم ماذا؟ هل هذا تراث عربي صرف أم إسلامي صرف أم سرياني، على الأقل جزئياً، بالنظر إلى المنطقة التي أنجز فيها والذاكرة الثقافية للمترجم؟ إن مسألة الهوية الثقافية للفاعلية العقلية في منتهى التعقيد؛ وغالباً تنشط الفاعلية العقلية في مناخ تتعانق فيه الأنسجة الثقافية وتتداخل وتتفاعل.

ويمكن أن نقول إن قلة من العرب حتى قبيل الإسلام كان في متناولها الحصول على نصيب لا بأس به من الفكر العلمي. فنجد مثلا تبادلا للأخبار بين التجار الذين يسافرون إلى الشمال بالإضافة إلى تبادل البضائع؛ كأن يقولوا مثلا: إن الطبيب الفلاني يعمل في المركز الفلاني … هذه أخبار كانت تتداول مع التجارة. كما يمكن أن يكون بعض العرب قد سمعوا عن مدارس التعليم الموجودة آنذاك. والحال أننا نعرف أسماء بعض الأشخاص الذين درسوا في هذه المدارس كالحارث بن كلدة الذي درس في جنديسابور، والذي يعتبر أول طبيب في الإسلام، ويظهر أن أصله من المدينة. إذن فقد كان بعض العرب يحصلون على قدر من المعرفة العلمية في الأيام الأولى للإسلام. لكننا نتساءل: هل ساهم هؤلاء الذين تعرفوا على العلوم في فجر الإسلام في تكوّن هذه التقاليد العلمية التي شهدتها الثقافة الإسلامية؟ لا يمكن أن نجزم بذلك. قد يكون هناك بعض ممّن اطلع على هذه العلوم لكنهم لم يدخلوا في الإسلام، كما يمكن أن يكونوا قد انتقلوا إلى مناطق أخرى في فجر الإسلام … ونظرا لنقص الوثائق لا يمكن أن نعطي فرضيات يمكن أن تكون نتائجها ثقيلة شيئا ما، ولكن لا يجب بالمقابل أن يغيب عن أنظارنا مثل هذه الأمور. المهم هو أن هذه التقاليد العلمية التي شهدتها الحضارة الإسلامية قد عرفت تبلورا تدريجيا وذلك بداية من أوائل القرن الهجري الثاني ببطء، ثم تسارعت وتيرتها عند نهاية القرن الثاني، زمن هارون الرشيد، وبدرجة ما قبله، أي في فترة حكم المنصور. لا بد أنه كانت هناك فئة من الناس تهتم بمثل هذه الأمور، ولكن ربما أن بعض الفقهاء لم يقبلوا بهذا، وربما لم يكن هناك تشجيع من بعض الجهات.

بل ربما يرجع ذلك البطء إلى أن القرن الأول كان يمثل مرحلة التأسيس والتوسع السياسي والحضاري للمسلمين، وكان يشهد فتنا سياسية معروفة، فلما بدأ الاستقرار السياسي بدأ تسارع وتيرة تلك التقاليد العلمية خاصة مع التفاعل الخلاق مع الثقافات التي تعرفوا عليها. ألا يصح هذا الافتراض أيضا؟

لا يوجد اضطراب شامل كما لا يوجد استقرار تامّ. والأمثلة كثيرة عن وجود ازدهار حضاري يرافق اضطراباً سياسياً، كما توجد أمثلة عن تفشّي الخمول والجمود رغم الاستقرار. والسؤال يخصّ القرن الأوّل. هناك واقع: أن الأغلبية المطلقة من المسلمين الأوائل لم يكونوا ذوي اطّلاع على العلوم عن قُرب. والأغلبية الساحقة من المستشارين في أمور الاقتصاد والإدارة والبناء والبريد وغير ذلك من المظاهر الحضارية كانوا من غير العرب؛ وبعض من هؤلاء دخل في الإسلام والبعض لم يفعل. ويجب النظر إلى مجتمع يتكوّن من فئات وثقافات ومعتقدات ذات مصالح، تلتقي أحياناً مع مصالح المنتصِر وأحياناً تتعارض معها. وفي سؤالك ذِكر لبداية الاستقرار السياسي؛ متى كان؟ لقد استمرّت حالات التمرّد داخل البلاط وخارجه، سواء في آخر الدولة الأموية أو بداية الدولة العباسية، وحتى بعد المأمون؛ ورغم ذلك اهتمّ البعض بالعلوم والطب لأسباب متنوّعة …

هناك من يقول إن معاوية الخليفة الأموي الأول كان له بعض المستشارين المطلعين على تجارب الحكم، أي أنه استعان ببعض الخبرات الفارسية والبيزنطية في المسائل السياسية. واستفاد الخلفاء من خبرة مستشارين قبل معاوية. وإذا نظرنا في ديوان البريد وفي ديوان الخراج سنجد أن هناك استفادة من أشخاص لم يكونوا عرباً ولا مسلمين.

على أن الأمر لا يتعلق ب”كل شيء” أو “لا شيء”. فلا يمكن أن يوجد مجتمع بدون قدر معين من المعرفة، ولا يمكن أن نتصور أن كل الناس بمكة والمدينة كانوا يجهلون تماما الحساب أو بعض المعارف الأولية المتعلقة بالنباتات والزيوت والأغذية والحيوانات قبل الإسلام؛ إذ بمجرد أنهم يتبادلون على المستوى التجاري فلا بد أنهم كانوا يعرفون العمليات الحسابية الأولى. وعرفوا معارف عفوية محلية مما كان يصنّف من الفراسة والأنواء والقيافة والرمل وكانت لهم طرائق في العلاج … وهي معارف غير دقيقة وغير ممحَّصة ولم تتطور، لكن كانت تؤدي وظائف مجتمعية ونفسية تجعل الفرد يندمج مع البيئة الطبيعية ومع الجماعة ومع البيئة الثقافية التي يحيى فيها. إنما يظل الأمر متعلقا بالانتقال من الشفوي إلى الكتابي. فلم تنطلق النقلة من معارف عفوية عامّة نحو امتلاك معارف متطورة إلا من خلال الاحتكاك بالتقاليد الفكرية والعلمية غير العربية.

نشطت العلوم إذن في أحضان الثقافة الإسلامية من خلال التفاعل التاريخي الخلاق الذي ساهمت فيه أجناس مختلفة. أما بالنسبة لعملية الترجمة فجل النقلة الأوائل لم يكونوا عربا ومسلمين في الغالب، كانوا متمكنين من لغات عديدة (غالباً ثلاث لغات)، ويؤدون واجبهم لأنهم يحصلون على مقابل مادي ومكافئات أو مرتّبات، إضافة إلى وجود عنصر أساسي هو التنافس بين العائلات، والتنافس بين الأفراد المنتمين إلى ثقافات متعددة: فالسرياني مثلا يجب أن ينافس الفارسي، وهذا يجب أن ينافس أشخاصا من ثقافة أخرى، ويجب على العربي أن يبذل مجهودا حتى يأخذ مكان هؤلاء في ظرف سنوات عديدة، لأن المعرفة هنا متعلقة بتطوير المعرفة في حد ذاتها، وكذا بالمكانة الاجتماعية وبالسلطة المادية والمعنوية والسلطة السياسية. إذن، ففي خضم هذه العوامل المتشابكة والكثيرة تبلورت الأفكار العلمية وتطورت.

كل فئة مجتمعية أو ثقافية تُقبل على المعرفة العلمية من منطلق معيّن: فالحاكم يُقبل على العلم بسبب المنفعة التي يجرّها على المنطقة، مثل شقّ الطرق وحفر الآبار والزراعة والعلاج والمعمار وصناعة أدوات الحرب …؛ والمتخصص المنتمي إلى الثقافة السريانية الصابئية يمارس البحث العلمي لأنه يحصل على تعويضات مالية مهمّة …؛ والمنتمي إلى ثقافة سريانية مسيحية قد يجد في البحث العلمي تحقيقاً لجزء من تراث أجداده … إذن، الدوافع تختلف حسب الفئات الفاعلة، لكن الثمرة هي تطوير الفكر العلمي وإغناء المعرفة في المجالات حسب الحاجة والأولويات، فيحتدّ التنافس وتنمو القدرات التعرّفية والبحثية …

ونشير هنا إلى مسألة التنافس بين التقاليد الفلكية، إذ يقال بأن أول كتاب عرفه المسلمون في علم الفلك ترجم من اللغة السنسكريتية زمن أبي جعفر المنصور حوالي 150هـ؛ والفلك السنسكريتي قريب من الفلك الفارسي، إذ كان عبارة عن أفكار ربما يعوزها التنسيق الذي اشتغلت به الأنظمة الفكرية اليونانية، بحيث أنه إذا كان هناك فكر فيه ضعف على مستوى التنسيق، ربما يسهل استعماله في العمليات التنجيمية وفي قراءة المستقبل … بينما الفلك الإغريقي فيه مجهود تنسيقي أكبر واستعمال للنماذج الرياضية بكيفية واضحة، ثم إن طابعه التركيبي أضبط نسبيا. إذن، لا بد أن يكون هناك تنافس بين هذا التقليد السنسكريتي الفارسي والتقليد الإغريقي في علم الهيئة. أين نجد هذا التنافس؟ عندما حصل ذلك التحول زمن المأمون؛ وليس صدفة أن يكون المأمون قد مال إلى النموذج الثاني، لأن النموذج الأول -أي الفلك ذي الماضي السنسكريتي الفارسي- كان قد أصبح عرضة لتأويلات باطنية، هذا إضافة إلى بعض العوامل السياسية، نقصد هنا قصة العباسيين مع الشيعة: ففي البداية كانوا أحلافاً لهم، ثم انقلب عليهم العباسيون في ما بعد …، فواضح أن النظر العلمي كان مرتبطا بالحساسيات الإديولُجية. إذن كانت هذه التيارات الفكرية متصارعة ومتدافعة من أجل استمالة الأذهان، وهي مرتبطة بالصراعات السياسية من أجل السلطة ومن أجل التحكم في سيرورة الأفكار وتجميع المعلومات؛ ولا يخفى على الخبير العلاقة بين المعرفة العلمية والقريبة من العلمية وبين الاستعمال التقني والمكتبي والمؤسسي مثل الخراج والتجارة وشقّ الطرق وبناء المدن … والتحكّم في دواليب الدولة.

 بعد أن اتسعت الدولة الإسلامية، زاد ذلك في غنى الموارد المالية التي كانت تصل إلى الدواوين في دمشق وبغداد، مما دفع بالبحث العلمي إلى اتخاذ أشكال أكثر أهمية نتيجة للتمويل المتزايد. ومن البديهي أنه كلما اتسعت الامبراطورية زاد التنافس والاختلاف والتباين بين الفاعلين. وهذا ما يمكن ملاحظته في البصرة وبغداد ودمشق التي ضمت أجناسا مختلفة، مما جعل التنافس يحتد والمكافئات تتسع. وبقدر ما تكون المكافئات أهمّ يكون المجهود أكبر والثمرة أغنى. فالمسألة متناسبة ونسبية في نفس الوقت.

من الشائع أن الترجمة انصبت على التراث العلمي اليوناني، هل فعلا كان هناك اختيار للثقافة الإغريقية ؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يرجع هذا إلى ما سميتموه بالمجهود التنسيقي الذي تميز به، وبطابعه التركيبي واعتماده النماذج الرياضية؟

إذا أخذنا على سبيل المثال كتاب المجسطي في الفلك وكتاب الأصول في الرياضيات وكتابات أرخميدس، فإننا لا نجد لوزنها العلمي مقابلا آنذاك في الفارسية والسنسكريتية؛ إذ تميزت المعلومات العلمية اليونانية بجودة النسج والسبك وحسن التنظيم ومتانة البناء الاستدلالي والاتساق المنطقي، مما يجعل منها قلادات منسجمة. هناك عامل آخر يرجع إلى الأسبقية التاريخية: الرياضيات على سبيل المثال، لكننا نشير هنا إلى أن الأمر لم يحسم تماما بين المؤرخين، فلا زالوا إلى الآن يناقشون هل كان للهنود رياضيات قبل اليونان أم لا؟ ونفس الشيء في المنطق، فقد كانت هناك مدرسة للمنطق في الهند، ويقدم الآن مؤرخو المنطق كتابات لهذا المنطق الهندي. يجب أن لا ننسى المعلومات التي كانت تصل حتى الصين وتأتي منها، والتي كانت تتاجر مع روما، من أين كانت تمر هذه التجارة؟ عبر هذه المناطق: فارس والهند … وقد كان هناك تمثل للأفكار قبل الإسلام، وتعرف المسلمون على جل هذه الأمور، لكن الأفضلية واضحة لما وصل إليهم عبر اللغة اليونانية (وأحياناً بوساطة اللغة السورية أو السريانية) بحكم جودة السبك. يمكن أن يكون للهنود معارف في الميكانيكا والأوزان والمكاييل، ولكنها لم تصل إلى البرهنة الرياضية كما هو الشأن لدى اَرخميدس على سبيل المثال. وبقدر ما يتعلم المرء سيفضّل المعرفة القائمة على البرهان على المعارف المبعثرة الأخرى. إذن، فتفضيل الإرث اليوناني ذو مبررات عقلية: نجد في اللغة اليونانية أزيد من مئة كتاب في العلوم المختلفة إذا جمعت كتابات اَرسطو واَرخميدس وجالينُس وبطليموس … بينما نجد في السنسكريتية أقل من ذلك بكثير؛ والفرق كمّيّ وكيفيّ. إذن، هذا التراث المكتوب باللغة اليونانية أغنى وأدق من الآخر. هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى جغرافية وسياسية، وكذا أذواق المترجمين كأشخاص. إذن هناك عوامل داخلية خاصة ببناء المؤلفات العلمية اليونانية، وأخرى خاصة بالقرب الجغرافي، بالإضافة إلى أن هذه المؤلفات كانت قد وجدت الطريق إلى هذه المنطقة قبيل الإسلام. وربّما تبيّن للمترجمين والسياسيين أنّ ما يُتداول من علوم وفكر في اللغات السريانية والفارسية والسنسكرتية والقبطية مُقتبَس من أصول باللغة اليونانية؛ فحصل التقرير بأفضلية الأصول، إضافة إلى مستوى الدقّة.

كيف كانت تتم الترجمة؟ هل كان يشترط في المترجمين شروط دينية أو علمية؟

تتداخل في موضوع الترجمة أمور متعددة لا ينتبه إليها المرء كثيراً؛ بحيث إذا نظرنا مثلا في كتاب صغير جدا للطبيب المترجم حُنين بن إسحاق بعنوان “فيما ترجمته من كتب جالينس”؛ نجد في هذا الكتاب ذكراً لكتب جالينس في وظائف الأعضاء وفي طبيعة الجنين وفي الغذاء وفي علل العين وفي أمراض عدة، فيقول عن كل واحد منها: إن هذا الكتاب كان قد ترجمه فلان إلى السريانية وطلب الطبيب فلان من فلان أن يترجَم له إلى العربية … وعلى هذا القول نستنتج أن الترجمة لم تكن دائما بطلب من الحاكم – أي المسؤول السياسي، بل تكون أحياناً بطلب من عالِم. أحيانا نجد طبيبا ذا اطلاع على ركام من المعلومات، يطلب أن يترجم له كتاب من طرف زميل له، ويكون زميله هذا أيضاً طبيباً. ومن هنا نلاحظ أمراً مهماً متعلقا بالتعاون العلمي، حيث يتمّ الاعتراف بقيمة الترجمة الجيّدة ويشار إلى نواقص الترجمة إن كانت هناك نواقص، فيأخذ شخص على عاتقه إعادة الترجمة. وعلى هذا الأساس نقول إن الترجمة كانت تمر عبر مراحل، وبالتالي كان الكتاب يترجم لمرات عديدة أو تنقّح الترجمة الأولى … كل طرف في عملية الترجمة: المموّل والمباشِر والمصحِّح والناسخ يبسط شروطه … وكل الشروط معرّضة للتفاوض؛ ويبرز أحياناً تعارض المصالح فيتحوّل التنافس إلى وشاية أو حسد أو اتّهام … ويمكن أن يحصل بين عائلتين مسيحيتين كما يمكن أن يحصل بين عائلة عربية مسلمة وأخرى فارسية مسلمة؛ ويمكن أن يحص الصدام بين فارسي مسلم وفارسي زرادشتي … ففي حساب المصالح تتشعب المواقف وقد تتغيّر بتغيّر الظروف.

من جانب آخر، نقرأ في كتاب حُنين أن هذا الكتاب لجالينس ترجمه فلان بطلب من فلان إلى اللغة العربية، وبعد ذلك ترجمه فلان إلى اللغة السريانية. إن الرائج عندنا أن الترجمة كانت تتم أولا من اليونانية إلى السريانية ثم بعدها إلى العربية. لكن لدينا أمثلة عديدة لكتب ترجمت إلى اللغة السريانية بعدما كانت قد ترجمت إلى اللغة العربية من قبل، ومعنى هذا أوّلا أنه كان من بين أولئك الأطباء السريان من كان يمارس الطب ولم يكن يعرف اللغة العربية جيداً، وثانيا، يمكن القول إنه كان هنالك طلب على اللغة السريانية في ذلك الوقت؛ وللإشارة كذلك في تلك الحقبة، زمن المأمون والمعتصم والواثق، لم تكن لغة العلوم هي اللغة العربية وحدها، بل كان هناك تنافس بين اللغات العربية والفارسية والسريانية في مركز الحكم الإسلامي، إضافة إلى أن اللغة العربية لم تكن قد نحتت كل المفردات المحتاج إليها للتعبير عن المفاهيم التقنية والطبية والعلمية والفلسفية. ومعنى هذا أن الترجمة كانت مرتبطة أشد الارتباط بالبحث العلمي من جهة، ثم أن الأمر كذلك، كان متعلقا ومرتبطا بالتنافس الذي كان يدور بين فئات وأفراد ينتمون إلى ثقافات متعددة وإلى معتقدات دينية مختلفة من جهة ثانية.

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الأستاذ بناصر البعزاتي مثال الباحث الرصين، علما وعملا. تتلمذنا على يديه الكريمتين فانفتح أفقنا وتوسع نظرنا، منه فهمنا معنى "ليكن كلامكم أقرب إلى الوعي والفهامة منه إلى العي والفهاهة" على حد تعبير العلامة طه عبد الرحمن…أطال الله في عمركم أستاذنا الفاضل حتى نستفيد منكم المزيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق