مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور بنّاصر البُعزّاتي

لتقاليد العلمية في التراث الإسلامي والحاجة إلى الرؤية الإبستمولوجية

يسعد مركز ابن البنا المراكشي أن يفتتح سلسلة حواراته على الموقع باستضافة الأستاذ الدكتور بنّاصر البُعزّاتي، أستاذ الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط، الذي يعتبر أحد أعمدة هذا الميدان وأبرز فرسانه المشهود لهم بوفرة الإنتاج العلمي، مع رصانة في القول، ودقة في النظر، وتريث في الأحكام، وبعد عن الانخراط في السجالات الإديولوجية المجانية التي طبعت ميدان التأليف في العالم العربي اليوم، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتراث العلمي الإسلامي. مع تكوين علمي متين في الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم مكَّنَهُ من الانفتاح النقدي والتواصل المستمر مع ما يجدُّ في هذا الميدان في مصادره الأصلية.

المحور الأول: عن التقليد العلمي في العالم الإسلامي

أول ما يصادف الباحثين في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية وجود اصطلاحات تستعمل في أبحاث الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، مثل مصطلح “التقليد العلمي” و”الجماعة العلمية” و”المجتمع العلمي” والبراديغم أو “الإبدال” الذي خصصتم له قولا مهما في الفصل السادس من كتابكم (خصوبة المفاهيم في بناء المعرفة) ؟ هل لكم أن تتفضلوا بإعطائنا تعريفا لمصطلح التقليد العلمي؟ وبالتالي هل يمكن أن نتحدث عن تقاليد علمية في العالم الإسلامي في تلك المرحلة التي سماها البعض بالعصر الذهبي للعلوم الإسلامية؟

يمكن استعمال مثل هذه المفاهيم – من قبيل التقليد العلمي- في ميادين مختلفة، كأن يقال مثلا: التقليد الأرسطي في الفلسفة الطبيعية، أو يقال التقليد العلمي الذي تبلور في أحضانه المنطق ودراسة آليات الاستدلال؛ ويمكن الحديث عن التقليد الرياضي الذي كتب في أحضانه كتاب الأصول لأقليدس، أو التقليد العلمي الذي أثمر المؤلفات الميكانية على يد اَرخميدس. فماذا نقصد بالتقليد العلمي؟

لم ينشأ محتوى كتاب الأصول لأقليدس (وف ح 270 قبل م) دفعة واحدة؛ فلا شك أنه كان لأقليدس مدرّسون، وكان لهؤلاء بدورهم أيضا معلّمون وزملاء؛ فتنشأ أفكار يساهم فيها كل فرد بقسط معيّن، وتنحت مفاهيم يقترحها أفرادٌ ممارسون بالمشاركة مع آخرين، ويتمرّن المهتمّون على عمليات عقلية ويبادرون إلى تنقيحها؛ فيتقيّد النظر تدريجياً حيث يركّز على مجال يتكوّن وينمو، وتتحدّد ملامحُه بشكل أدقّ يوماً بعد يوم … ثم يساهم تراكُم هذه الخبرة والدراية والتعاون بين أفراد معيّنين في نشوب نقاشات بين المهتمين حول نفس المسائل في الحساب أو الهندسة أو في مبادئ الرياضيات. وعندما تتكرر هذه المناقشات يتم فيها تبادل للآراء حول عدة أمور، كالعدد مثلا أو خصائص العمليات الحسابية: الجمع والضرب والطرح… فيحصل تلاقح للأفكار وتتبلور مفاهيم وتتضح خصائص مكوّنات المجال موضوع المناقشة. وهكذا ينشأ التقليد (tradition)؛ فنقول مثلا: التقليد الأرسطي في المنطق والتقليد الأودكسي-الأقليدي في الرياضيات والتقليد الإبقراطي في الطبّ والتقليد الأرخميدي في الميكانيكا والتقليد البطلمي في علم الفلك. لكن التقليد ليس من إبداع فرد واحد: فاَرسطو لم يشتغل على انفراد، بل تبادل التصورات في إطار الأكادِمية ثم اللِكْيوم مع أقران لا يقلّون عنه علماً بقدر كبير، فأخذ وأعطى؛ وكوْن مؤلفات المعلّم الأوّل قد وصلتْنا لا يعني أن الآخرين مِن معاصريه لم يكتبوا … ولا يمنع وجودُ تقليد مترسّخ في البحث مسيطرٍ على الأذهان في حقبة تاريخية معيّنة من وجود تقليد مغاير منافس ذي مبادئ ومسلّمات مغايرة نسبياً، يترعرع بجانب التقليد الذي تميل إليه الأغلبية؛ إنما يتغلّب تقليد على تقليد آخر بسبب اعتبارات متشعّبة، قد تكون عقيدية أو فلسفية أو سياسية، أو أن التقليد الهامشي (أو المهمَّش) لا يستطيع تقديم ما يكفي من القرائن والأدلة لإقناع المهتمّين فيتضاءل عدد المنخرطين فيه ويخفت بريقُه. ولهذا لا يجب الانزعاج من كون العلوم كلها قد عرفت تيارات فكرية متنافسة متدافعة. وعندما تتحلّق حول تقليد علمي ما مجموعةٌ من النُظّار والباحثين، وتسري مفاهيمُه وافتراضاته الصريحة والمضمَرة في كل الفضاء المفهومي لعلم ما، فينضج هذا العلم، نتحدّث عن بروز إبدال (paradigm) نظري سائد يتحكّم في سبل البحث في أحضان هذا العلم خلال فترة زمنية قد تمتدّ لمدّة طويلة. ورغم أن علم الفلك كان تحت مظلّة الإبدال البطلمي (نسبة إلى كلاوديُس بطلميوس (وف ح 170 م) خلال قرون عدّة، فقد كانت تبرز مناوشات نقدية نظرية من هذا الباحث أو ذاك في مسائل مفردة مهمّة (وتراكم هذه الشكوك والانتقادات عبر حقبة تاريخية طويلة هو الذي كان وراء تبلور برامج لترميم أو إصلاح النظرية الفلكية التي أدتّ إلى التحول العلمي في الفلك مع كوبِرنِك خلال النصف الأول من القرن السادس عشر). ونعْت هذا الإبدال بالبطلمي لا يعني أن بطلميوس وحده هو مؤسِّسه؛ إذ أخذ هذا الأخير جل المعلومات الفلكية عن سابقيه، خصوصاً عن هِبرخُس (القرن الثاني ق م) ورتّبها. فيكون الإبدال البطلمي حاصل التقاء تقاليد ‘ابتدائية’ متجاورة متداخلة في علم الفلك، نمت خلال فترات تاريخية طويلة. ثم إن فرضية اَرسطرخُس (كوبرنك القرن الثالث قبل الميلاد) في نظام الكون لم تمُت نهائياً، بل ظلت تُستدعى من حين لآخر، وإن كان استدعاؤُها من أجل الحكم عليها بأنها غير مقبولة رصداً وعقلاً. إذن سيادة إبدال معيّن يؤطّر البحث العلمي في مجال ما لا تعني غياب أفكار ‘مناوشة’ تتصيّد الثغرات وتبحث عن الاعتراضات والشكوك.

على أن التقليد العلمي في الرياضيات ليس من الضروري أن يكون هو نفسه في الفلسفة الطبيعية. فمثلا لم يكتب أقليدس شيئا في الفلسفة الطبيعية، لكن هذا لا يعني أنه كان يجهل كل شيء في هذه الفلسفة، لأن كثيراً من الناس يكتبون في ميادين معينة ويعلمون أشياء هي من قبيل ميادين أخرى، وقد يستفيدون منها دون أن يؤلّفوا فيها؛ حيث لا يرون أنّ بإمكانهم أن يأتوا بكلام مفيد في ذلك، فيركّزون مجهودهم في الأمور التي يتمكّنون منها. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن اَرخميدس (وف ح 212 قبل م)؛ فقد كتب في الهندسة والميكانيكا وميكانيكا السوائل والموازين وفي مراكز الثقل …الخ؛ ولم يكتب في مسائل فلسفية؛ قد يكون كتب نتفاً فلسفية، أو خطر بباله أن يكتب شيئاً من ذلك، لكنه لم ينشرها أو ظلت مهملة حتى طواها النسيان فانقرضت. لكن هل يحق لشخص أن يقول مثلا إن اَرخميدس لم يكن ذا اطّلاع على أمور الفلسفة؟ لا يمكن قول هذا ولا يمكن تصوّره، وذلك نظراً لأن التكوين الفلسفي كان عماد التكوين النظري في كل العلوم في ذلك الوقت. إذن يمكن أن ننظر في تطور الأفكار باعتبارها تقاليد نظرية قد تلتقي فيما بينها وقد تتنافس وتتعارض دعاواها وافتراضاتها الفلسفية.

انتقل التقليد الأدوكسي-الأقليدي-الأرخميدي في الهندسة التطبيقية والميكانيكا والبصريات إلى المسلمين، فوجد مَن كان مهيَّأً لتطويره، مثل الكندي وأحمد بن عيسى وثابث بن قُرّة،  الذين كتبوا في مسائل من الفلك والبصريات والهندسة والميكانيكا عند منتصف القرن التاسع م … إذن لدينا تقليد علمي أو تقاليد علمية في أحضان الحضارة العربية الإسلامية منذ أوائل القرن الثالث الهجري؛ بالإضافة إلى وجود تقليد في الفلسفة الطبيعية في نفس الحقبة التاريخية أي بالموازاة معها؛ ففي زمن الكندي وثابت بن قرة أو ربما قبيلهما، نجد بعض المنظّرين – أقول المنظّرين لأن الغالب عليهم أسلوب الفلاسفة، أو حتى متكلمين – يفحصون الفرضيات الكُسمولُجية والأُنطولُجية في نظام الكون وتركيب عناصره وأجزائه وتعالقها السببي. سأضرب مثالا بأبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام (وف ح 231ه/845م)، الذي يبدو أنه كتب في أمور طبيعية: كتب في الحيوان، وفي وقائع الطبيعية وتركيبها وتسلسلها وتحوّلها. ويبدو من خلال أقواله أنه قد استوعب ما أتى به اَرسطو وانتقد بعض الجزئيات في كتاباته؛ لكن من سوء حظنا أننا لم يصلنا شيء من كتابات هذا المفكّر؛ وبعض الدارسين لا يعتبرون النظّام متكلما وفيلسوفا فحسب، بل يعدّونه ممارساً للبحث التجريبي قصد تمحيص الفرضيات الموروثة عن السابقين. وما نعرفه عن هذا الشخص هو ما وصلنا عن طريق تلميذه الجاحظ في كتابه الحيوان، وإشارات أخرى قليلة في بعض الكتابات. إذن فقد تبلور تقليد في الفلسفة الطبيعية عند الاتصال بالتقاليد السابقة، والغالب عليها هو الإرث الإغريقي؛ حيث انتقلت إلى المسلمين، فانتعش وتبلور هذا التقليد لدى هؤلاء (النظّام، الجاحظ، الكندي).

نفس السيرورة حدثت في علم الفلك، فقد كانت هناك تقاليد زمن اَفلاطُن واُودُكسُس واَرسطو، ومن بين النماذج التي قدمت من أجل رسم هيأة العالم، نشير إلى كتاب الظواهر لاُودُكْسُس الذي عاصر اَفلاطُن واَرسطو؛ ولم يبق من الكتاب إلا بعض الشذرات أتى بها شخص يسمى اَراطُس عاش حوالي قرن بعد موت اُودكسس. وقد عبر عن تلك الأفكار الفلكية في أشعار منشورة تحت عنوان الظواهر (phainomena) كتبت في أواسط القرن الثالث قبل الميلاد. انتقلت هذه الأفكار أيضا إلى المسلمين، حيث العشرات من العلماء مثل الكندي والبتّاني والفرغاني وثابت بن قرة… انكبوا منذ أوائل القرن الثالث الهجري على دراسة هذه الأفكار، هذا بالإضافة إلى ترجمة كتاب “المجسطي” الذي يحتوي على جل الأفكار التي توصل إليها القدماء فيما يخص هيأة العالم أو نظام العالم؛ ويعتبر هذا الكتاب أهمّ كتاب في الفلك القديم، لكن هذا لا يعني أنه يحتوي كل المعارف الفلكية التي تداولها المهتمّون آنذاك. هذا مصير الكتابة العلمية غالبا. فالكتابة العلمية تحاول أن تنقل ما يعدّ أفضل ما وصل إليه النظر العلمي، مما يعني أن هناك أموراً أنجزها سابقون قد ينظر إليها بأنها أقل أهمية فلا يوردها الكتّاب في مؤلّفاتهم أو لا يفهمون كل تفاصيلها. وفي نفس الفترة (أوائل القرن التاسع للميلاد) التي برزت فيها تلاخيص وشروح فلكية، استأنف الرصد الفلكي من أجل تكوين جداول حول شروق وغروب الأجرام السماوية نسبة إلى مواقع بغداد ودمشق وغيرهما … ممّا يعني أن انتقال تقليد علمي من منطقة جغرافية ذات بيئة ثقافية معيّنة إلى أخرى متلازم مع انتقال آليات البحث والنقد والتمحيص ضمن هذا التقليد؛ إذ التصورات والمفاهيم متلاحمة مع الآليات التي تنتجها وترعاها وتنشرها. ولكن عمليات النقل والاقتباس والترجمة والتقريب تتضمن انتقاءً وتمييزاً في ضوء الاختيارات الفلسفية والعقيدية والسياسية التي تشجّعها.

الواقع أنه عندما نقول مثلا أن كتاب الأصول لأقليدس يحتوي مجمل المعارف الرياضية الإغريقية المتداولة قبله، فهذا لا يعني أنه يحتوي كل تلك المعارف الرياضية؛ إذ من الممكن أن توجد هناك أفكار لا تنسجم مع الإطار النظري الذي يشتغل ضمنه العالِم فيتجاهلها. ولنضرب مثالا على ذلك: فلنتصور أقليدس يكتب في أصول الرياضيات. ما معنى أن يكتب؟ معنى أنه يضع أمامه – أو يستحضر ذهنياً – على الأقل خمسة كتب أو ستة أو ثمانية فينقل عنها … مستفيداً من أساتذته وزملائه. ترى ماذا سينقل؟ سينقل ما ينسجم مع إطاره النظري، بما يستلزم ذلك من تهذيب وتنسيق؛ والأمور التي يرى أنها لا تنسجم مع هذا الإطار فإما أن يعتبرها خارج ما يسمى بالعقل، أي خارج البرهان، أي خارج معيارية العقلية العلمية لذلك الزمن، فيسقطها من الحساب أو يهملها لأنها لا تتوفر على قدر من الاتّساق؛ ولا يصدر هذا الاختزال عن وعي دائماً … ولكن عندما ينتهي أقليدس من كتابه الأصول، ماذا سيكون مآل تلك الكتابات التي نقل منها والتي تحتوي – كما قلنا – أفكارا لا تنسجم (ولو بقدر بسيط) مع الإطار النظري ومع الخطاطة التي هيأها هو والتي على ضوئها ألّف في هذا الباب؟ فلا شك أن هناك أفكاراً أو شكوكاً أو اعتراضات أو اقتراحات عبّر عنها سابقوه، يستبعدها لأنها غير مقبولة لديه لسبب ما، وقد يشير إليها باعتبارها ضعيفة أو لا يشير إليها البتّة. وماذا سيفعل عندما ينتهي من كتابه؟ في الغالب سيمزّق تلك الكتب التي نقل منها، أو على الأقل سيضعها في مكان مهمل فتضيع، وبالتالي سنُحرَم نحن من تلك المصادر التي نقل عنها. وهنا تكمن الصعوبة بالنسبة لتاريخ العلم. كيف نتحدث عن اقليدس باعتباره قد نسّق الرياضيات اليونانية وفي نفس الوقت لا يشكّل المصدر الوحيد لتاريخ الرياضيات؟ وإذا أردت أن تستكمل الرؤية عليك أن تعوّل على كتابات أخرى تكون في الغالب هامشية، فتتصيّد منها بعض الإشارات: لدى اَفلاطُن واَرسطو وغيرهما، إضافة إلى ما يكتبه الشرّاح والمعلّقون وأصحاب التراجم. إن نظرتنا إلى هذه الأمور وحتى إلى مكوّنات التقليد العلمي لن تكون شاملة، بل ستكون دائما في حاجة إلى ترميم وتهذيب ومراجعة …

إذن التقليد العلمي هو مجموع تلك الخبرة المتراكمة من خلال تداول الأفكار العلمية بين مجموعة من العلماء – الجماعة العلمية – في ميدان معين، حيث تنبثق مفاهيم وتصورات في ارتباط مع الفكر السائد بمكوّناته الفلسفية والعقيدية؛ فيكون لدينا تقليد علمي في الرياضيات وآخر في الفلسفة الطبيعية وآخر في الطب … بالإضافة إلى تعليقات تعيش على هامش كل تقليد علمي، وليست بدون فائدة، لأنها تحفّز الفاعلية العقلية على التمحيص والمراجعة.

وفي الطب، إذا عدنا إلى زمن اَفلاطن، سنجد هناك مدرسة طبية ذات إشعاع هائل، وتعتبر أهم مدرسة علمية آنذاك، نشط فيها اِبقراط الكوسي (وف ح 370 ق م)، إلى درجة أننا لا نسمي المؤلفات الموروثة عن هذه المدرسة بكتابات اِبقراط، بل نقول كتابات التقليد الإبقراطي؛ إذ لم يقم بكتابتها كلها شخصيا، بل أكملها طلابُه ورتّبوها ونقّحوها. وكان البحث التجريبي والنظر في وظائف الأعضاء وتكوّن الأجنّة والأمراض والأوبئة جماعياً … وعليه، يمكن أن نسميه التقليد العلمي في البحث الطبي الذي تبلور في جزيرة كوس وأبرز شخص في هذا التقليد هو ابقراط، ورث الصنعة عن أبيه وآخرين. وانتقل هذا التقليد الطبي أيضا إلى المسلمين، بعد أن مرّ بفترات طويلة من الامتحان والمراجعة، خصوصاً على يد كلاوديُس جالينُس (وف ح 200 بعد م).

إذن، عندما نتحدث عن التقليد العلمي فهذا لا يعني أن كل العلماء الذين اهتموا بذلك الميدان العلمي كانوا مجمِعين على كل الأفكار؛ إذ ليس هناك إجماع تام في أي علم، حتى في الرياضيات. حيث تظل بعض المسائل معلَّقة تناقَش وتتبادل في شأن جزئياتها الخبرة والنقد والأدلة والأدلة المضادّة. بالطبع نحن نجمع على العمليات الحسابية الأساسية، ولكن هناك اختلافات بين الناس في الإنجاز وترتيب العمليات وسعة الاطّلاع. ونفس الشيء بالنسبة للطب؛ ففي زمن افلاطُن كان هناك تقليد علمي في البحث الطبي، ولكن إذا قرأنا جالينس في القرن الثاني الميلادي سنجده يتحدث عن الباحثين في الطب باعتبارهم يشكلون تيارات فكرية: هناك بحث طبي يركز على التجريب وهناك تيار طبي يركز على الممارسة العفوية، وهناك تيار طبي يركز على إعمال العقل، أي ما يسمى بإعمال القياس العقلي. إذن، كان هناك تقليد في الطب يسمح نوعا ما بتعدد الآراء داخل التقليد؛ أما تلك المسائل الأساسية، أي المبادئ النظرية والمسلمات الفكرية التي تكون جوانب منها مصرح بها وتكون أخرى مضمرة، فهذه الأخيرة هي التي تقود أفكارنا وتضع حدوداً لتعرّفنا وتصورنا. ورغم أننا لا نتحدث عن المسلمات المضمرة، لكنها تتحكم في أذهاننا وتوجّه تعرّفنا وأحكامنا. إذن، هناك جماعة علمية تمارس هذه الأمور، أي تشتغل في إطار نسيج من المسلمات المصرح بها والمضمرة  نسميه الإبدال.

1 2 3 4الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الأستاذ بناصر البعزاتي مثال الباحث الرصين، علما وعملا. تتلمذنا على يديه الكريمتين فانفتح أفقنا وتوسع نظرنا، منه فهمنا معنى "ليكن كلامكم أقرب إلى الوعي والفهامة منه إلى العي والفهاهة" على حد تعبير العلامة طه عبد الرحمن…أطال الله في عمركم أستاذنا الفاضل حتى نستفيد منكم المزيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق