مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع مؤرخ العلوم العربية د. محمد أبطوي

أجرى الحوار  وأعد أسئلته:

 عبد العزيز النقر

عبد الغني زيدان

مركز ابن البنا المراكشي

تقديم

   يسعدنا في مركز ابن البنا المراكشي للدراسات والبحوث في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية أن نقدم للقارئ العربي نص الحوار الذي أجراه المركز مع الأستاذ د. محمد أبطوي الذي يُعتبر من بين خيرة مؤرخي العلوم العربية، وهو ما تشهد عليه أعماله العلمية الرصينة، سواء تلك التي أنجزها باللغة العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية.

   شغل الأستاذ محمد أبطوي عدة مناصب أكاديمية وعلمية، فقد عمل كبيرا للباحثين (senior fellow) بمؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة بمدينة مانشستر بالمملكة المتحدة (من سنة 2007 إلى سنة 2014). كما عمل أيضا بمعهد ماكس بلانك بألمانيا في إطار شراكة علمية امتدت زهاء ثمان سنوات (1996-2003)، وكان من ثمار هذه التجربة العلمية الغنية العمل على تحقيق وترجمة سلسلة من المتون العلمية العربية في علمي الأثقال والحيل، والتي يصل عددها إلى خمسين نصا ألفت على امتداد عشرة قرون، أي من القرن 9م إلى القرن 19م. عمل كذلك أستاذا لفلسفة وتاريخ العلوم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط إلى حدود سنة 2019. ويشتغل حاليا كخبير لغوي وباحث بمعجم الدوحة التارخي للغة العربية ضمن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

   فاز الأستاذ أبطوي، رفقة د. سليم الحسني، بجائزة الملك عبد الله للترجمة في دورتها الثامنة عن ترجمتهما الإنجليزية لـ”متن المظفر الإسفزاري في علمي الأثقال والحيل“. كما شارك في العديد من الملتقيات العلمية الوطنية والدولية حول تاريخ العلوم العربية.

لا يفوتنا أن نتقدم بجزيل الشكر وعظيم الامتنان للأستاذ د. محمد أبطوي على قبوله وتفضله بإجراء هذا الحوار الذي نأمل أن يسهم بشكل فعال في التعريف بأهم قضايا وإشكالات تاريخ العلوم، وأن يكون مشجعا وحافزا للقارئ العربي على الاهتمام بتاريخ العلوم العربية.

– هل يمكن أن تقدموا للقارئ الكريم مدخلا مختصرا تعرفون فيه بمبحث تاريخ العلوم، وأهميته وأبرز تقاليده وإشكالاته؟

بداية، أشكر مركز ابن البنا المراكشي للدراسات والبحوث في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية على هذه الدعوة الكريمة، وأنا سعيد بالتواجد معكم في هذه الدردشة وآمل أن يكون حديثنا مثمرا ومفيدا للقارئ.

بخصوص سؤالكم، يمكن القول أن تاريخ العلوم مبحث أكاديمي هدفه دراسة تطور المعارف العلمية عبر التاريخ في علاقتها بالتقاليد الثقافية والمجتمعات التي نشأت ضمنها؛ أي أنه يدرس تاريخية المعرفة وتفاعلها مع المحيط الثقافي والاجتماعي، بما يؤدي إلى تحديد العوامل التي تساعد في إفراز معرفة علمية مضبوطة وفق قواعد محددة، أو بالمقابل تلك التي تؤدي إلى عرقلتها وجمودها.تاريخ العلوم مبحث حديث نشأ في أوروبا نهاية القرن الثامن عشر، وارتبط بشكل وثيق باشتداد عود فلسفة الأنوار التي رأت في العقل الإنساني إرثا جماعيا مشتركا بين جميع الثقافات والشعوب، خصوصا بعد اكتشاف الكثير من المعارف العلمية لدى شعوب مختلفة كالمصريين القدامى والبابليين وسكان أمريكا قبل العصر الكولومبي وفي الصين والهند ولدى المسلمين بالطبع. وهو ما أكد لمفكري الأنوار أن العلوم والمعارف إنتاج عقلي تحظى به كل الحضارات، حسب قانون كوني للتقدم لا يستثني أحدا.وشكَّل هذا الطابع الكوني للعلم خلفية فكرية وفلسفية وأرضية مساعدة لانبثاق وتبلور تاريخ العلوم مبحثا أكاديميا مستقلا.

من بين المؤلفات الأولى في تاريخ العلوم نجد كتاب الرياضي الفرنسي مونتيكلا(Jean-Étienne Montucla، 1725-1799)تاريخ الرياضيات، وقد بدأت أجزاؤه الأربع في الصدور سنة 1785حتى 1802بعد وفاة المؤلف. استعرض مونتيكلا في الكتاب رياضيات عصره من وجهة تاريخية، وكانت تلك المقاربة نموذجا أوليا للمُتَاخَمَة والمُجَاوَرَة اللتين قرَّبتا دوما بين تاريخ العلوم والبحث العلمي ذاته. كما ظهرت في تلك الفترة وما تلاها إلى بداية القرن العشرين مؤلفات في تاريخ الفيزياء والكيمياء، منها بحوث الفيزيائي الإنجليزي ويليام ويويل (William Whewell، 1794-1866) والكيميائي الفرنسي مارسولان بِرتيلو (Marcellin Berthelot، 1827-1907)، والفيزيائيان الشهيران الألماني إرنست ماخ (Ernst Mach، 1838-1916) والفرنسي بيير دوهيم (Pierre Duhem، 1816-1916).وأهمية أعمال الأخيرين في تاريخ الميكانيكا وفي تاريخ الأفكار الفيزيائية لا تخفى على المهتمين بثقافة العلم.

يمكن القول إجمالا أن العصر الذهبي لمبحث تاريخ العلوم هو القرن العشرين حين غدا مبحثا قائم الذات وله جمعيات مهنية وأقسام خاصة في الجامعات ومجلات دورية ومؤتمرات، واتحاد عالمي. انتشر أولا في الجامعات الأوربية وبعد ذلك في أمريكا الشمالية. بطبيعة الحال، لم يبق هذا المبحث حبيسا في العالم الغربي، بل انتشر في كل بقاع العالم منذ الأربعينيات، خصوصا في الدول التي توفرت على نظام بحث علمي وأكاديمي عصريفي آسيا وأمريكا الجنوبية، وفي البلدان العربية في أعقاب النهضة العربية الحديثة. ونشيرفي هذا الصدد إلى أن العالم العربي شهد إلى حدود ثمانينيات القرن العشرين بروز مدرسة عربية في تاريخ العلوم، في مصروفي بلدان أخرى.أنتجت هذه المدرسة أبحاثا مهمة في تاريخ العلوم، مثل أعمال مصطفى نظيف صاحب الدراسة الشهيرة عن مناظر ابن الهيثم، والتي لا زالت تمثل إلى الآن أفضل ما أنجز حول محتويات كتاب المناظر لهذا العالِم الفذّ، وكتاب نظيف علم الطبيعة يعدُّ أول كتاب حديث بالعربية يبحث في تاريخ علم الفيزياء.[1] دون أن ننسى بحوث إسماعيل مظهر في تاريخ علوم الأحياء ونظرية التطور. ينبغي الإشارة بهذا الخصوص أن هذه البحوث التاريخية كانت توازي البحوث العلمية البحتة، مثل تلك التي أنجزها جيل علي مصطفى مشرفة (1898-1950)، الذي حَمَل عن جدارة لقب “آينشتاين العرب” لنبوغه العلمي. وقد انتشرت هذه المدرسة العربية في تاريخ العلوم في عدة بلدان، بدءً من بحوث محمد سويسي في تونس وكتابات محمد المنوني الذي قدم أعمالا في تاريخ العلوم بالمغرب الوسيط لا زالت غير متجاوزة إلى اليوم.

وطبعا لا نغفل التجربة المديدة لمعهد تاريخ التراث العلمي العربي بجامعة حلب الذي أسسه أحمد يوسف الحسن في 1976، ولا زال إلى اليوم أهم مؤسسة أكاديمية عربية في مجالها. غير أن المعهد عانى من تراجع الفكرة القومية التي حملته ورعته ومن مآلات ما حصل لسوريا الجريحة في العقد الأخير. وهناك طبعا مؤسسات عربية أخرى نذكر منها مركز ابن البنا المراكشي للدراسات والبحوث في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية بالرباط، الذي نتمنى له التوفيق والنجاح في برنامجه الواعد لكي يشتغل وفق منهجية أكاديمية صارمة، للمساهمة في وضع الأسس لتقليد أكاديمي مغربي في تاريخ العلوم.

– كيف تنظرون إلى مجمل الدراسات التي أُنجزت حتى الآن في مجال تاريخ العلوم العربية، سواء تلك التي أنجزها الباحثون الغربيون أو تلك التي قام بها باحثون عرب-مسلمون؟ وكيف ينعكس ضعف التكوين الإبستيمولوجي على جودة وقيمة بعض هذه الدراسات؟

من الأمور الإيجابية التي شهدها مبحث تاريخ العلوم هو نشأة  مدرسة عالمية أو تقليد بحثي اتجه منذ القرن التاسع عشر إلى دراسة المؤلفات العلمية المكتوبة باللغة العربية، أي النصوص التي تنتمي للتقليد العلمي العربي الذي تطور بين القرنين الثالث والتاسع للهجرة (9-16م)، هذا التقليد الذي أنتج أعمالا علمية كثيرة وشديدة الأصالة، وشمل كل المباحث العلمية المعروفة وقتئذ، من رياضيات وفلك وفيزياء وكيمياء وبصريات (أو مناظر) وعلمي الأثقال والحيل (الميكانيكا النظرية والعملية). وقد تبين من خلال نتائج البحوث الكثيفة في هذه المجالات كلها أن الأمر يتعلق بتقليد علمي حقيقي يشكل جزءا لا يتجزأ من مسيرة الفكر العلمي العالمية. وتبين كذلك أن كثيرا من الإنجازات العلمية المنسوبة لعلماء غربيين في العصر الحديث هي أمور سبق لها علماء العربية في العصر الكلاسيكي. كما أن نتائج بعض هذا التقليد وصلت، دون شك، إلى العالم اللاتيني في مرحلة التلاقح والتفاعل العلمي الذي حصل بين القرن 12م والقرن 16م في أوربا الغربية، ودخلت في النسيج العلمي المترامي الأطراف الذي يشكل اليوم ما يعرف بالعلم الحديث.

يمكن القول إجمالا أن تاريخ العلوم العربية قد أعيدت كتابته كله تقريبا خلال العقود الأخيرة، وتم إحياؤه بدراسته وإخراج متونه على امتداد قرنين من الزمن، أي منذ أعمال الرواد الأوائل، من عائلة سيديو الفرنسية[2] في القرن التاسع عشر وصولا إلى أعمال العقود الأخيرة التي أنجزها باحثون غربيون وباحثون من أصول عربية في أوربا الغربية وأمريكا وفي الاتحاد السوفياتي السابق وحاليا في اليابان والصين.لكن القسط الأوفر من هذه الموجة توقف تقريبا اليوم ووصل إلى نهايته، وإذا لم يبادر العالم العربي والإسلامي إلى استكمال المهمة فلن يقوم بها أحد، لأن البحث في تاريخ العلوم العربية فقد أولويته وأهميته في الأجندة الأكاديمية الغربية.

وتجدر الإشارة بهذا الخصوص أن بلدانا إسلامية، من تركيا وإيران إلى ماليزيا، عملت في العقود الأخيرة بجد ونشاط على تكوين مدرسة بحثية محلية في تاريخ العلوم، حيث أنشأوا للمبحث أقساما في الجامعات وأسسوا دوريات متخصصة وينظمون مؤتمرات، وصارت لديهم نتيجة لذلك جماعة أكاديمية متفاعلة مع تاريخ العلوم على الصعيد العالمي. وهو ما وفّر نتائج إيجابية ملحوظة، ويكفي للتدليل على بعضها القول بأن أسماء الباحثين الإيرانيين والأتراك تتصدر اليوم البحوث الدولية المخصصة لتاريخ العلوم في الإسلام.غير أن اهتمام الباحثين في هذه البلدان يتمركز بالدرجة الأولى على تقاليدهم الوطنية. وهذا طبيعي ومفهوم، لأسباب عديدة منها ابتعاد تاريخ العلوم في العقود الأخيرة عن السرديات الكبرى، مثله مثل العديد من مباحث العلوم الاجتماعية.

يجدر في هذا السياق التنويه بما قدمه باحثون من دول عربية عمِلوا في إطار مؤسسات بالبلدان الغربية، من عبد الحميد صبرة ورشدي راشد إلى أحمد جبار وجورج صليبا، وغيرهم. أما البحث العلمي المنجَز في البلدان العربية في هذا المجال عموما، فلا يعاني على مستوى ضعف التكوين الإبستيمولوجي فقط، بل تغيب فيه في أحيان كثيرة حتى أوليات البحث الأكاديمي. ويرجع ذلك إلى ضعف التكوين على مستويات عدة، حيث تجرى كثير من بحوث تاريخ العلوم في أقسام التاريخ وفي أقسام الفلسفة ويتولى بعض الطلبة والباحثين إنجاز دراسات وبحوث دكتوراه وينشرون أعمالهم، دون أي تكوين علمي أو فلسفي-إبستيمولوجي سابق! وكأن تاريخ العلوم يقتصر على المقارنة بين المخطوطات والحديث بشكل سطحي عن بعض محتوياتها ! ولكم أن تقارنوا بين بعض الأعمال التي “حُقّقت” ونشرت في العالم العربي ونفس هذه الأعمال التي حققها ودرسها باحثون متشبعون بتقاليد البحث الأكاديمي – من ذلك مثلا نشر كتاب التذكرة في علم الهيئة لنصير الدين الطوسي[3] -ليتبيّن البون الشاسع والفرق الهائل بين ضوابط وشروط البحث العلمي في تاريخ العلوم هنا وهناك. وعموما، لا يقتصر هذا الإشكال على مبحث تاريخ العلوم وحده، بل إن هذا العطب، إن صح القول، يسري على جل المباحث العلمية والأكاديمية في جامعاتنا العربية.

– ماهي الخلفيات النظرية والعملية التي أطرت البحث العلمي في الحضارة العربية-الإسلامية؟ وما هو الدور الذي اضطلع به الدين الإسلامي، باعتباره دينا يحث على التعلم والمعرفة، في الاهتمام بالعلوم الدقيقة؟

أطّر الدين الإسلامي المجتمع عموما وساير البحث العلمي هذا التوجه، وحصل تمازج وتفاعل بين الدين والعلم في سياق نهضة حضارية حقيقية أنتجت مجتمعا ديناميا تحكمه وتحفِّزه الفعالية، مجتمع متوثّب فرض نفسه ماديا وعسكريا واستفاد من جل المعارف القديمة، فاستوعبها وتفاعل معها وأضاف إليها. ونجد البوادر الأولى للاهتمام بالمعرفة العلمية في الزمن الإسلامي في وقت مبكر جدا، منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري. مثلا بدأ البحث في الكيمياء مع الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان(توفي نحو سنة 90 للهجرة)، وهذا ما تؤكده كتب التراجم وتعضده رسالة مريانُس الراهب الحكيم للأمير خالد بن يزيد التي نُشر مؤخرا نصها العربي.[4]

وينبغي التنبّه أيضا إلى الموضوع الآخر الكبير في هذا السياق والمعروف بتعريب الدواوين، أي إدارة شؤون الدولة بالعربية في عهد الخليفة الخامس من خلفاء بني أمية أبو الوليد عبد الملك بن مروان، في العقد السابع من القرن الهجري الأول (نحو 690م).اقتضى تعريب الإدارة تعريب الحسابات والسجلات ودفاتر الضرائب والخراج والأجور ونظام المراسلات والتواصل بالبريد مع الأقاليم والولايات. ولم يكن بوسع أحد إنجاز هذا التحول الضخم سوى بالنهل الكثيف من المعارف الرياضية والفلكية من مصدرها الوحيد، وهي المؤلفات القديمة بالإغريقية والفارسية والسريانية، التي كان الكثير منها متوفرا بمصر والشام والعراق. وكان ذلك عاملا محركا لعملية الترجمة. لكننا لا نتوفر مع الأسف على معطيات تاريخية مفصلة حول ما جرى في هذا الشأن بدقة. وهنا أيضا بوسع البحث الدقيق أن يكشف النقاب عن مواطن جهلنا بالتفاصيل. وما ذكرتُه يستنتجه المؤرخ لأن هذا هو ما سار عليه الأمر منطقيا، وإلا اعتبِرت حركة النقل الكثيف من معارف القدامى إلى العربية عملية دون جذور في مجتمعها ودون تفسير تاريخي معقول، وكأنها حركة “نشوء عفوي” دون مبرر واقعي.

إذن، إضافة إلى حث الدين الإسلامي على التعلم والمعرفة وعلى البحث والنظر، فقد كانت هناك أمور التقى فيها الدين مع المتطلبات المجتمعية، ويتجلى هذا بوضوح في الرياضيات والفلك وفائدتهما في ممارسة الشعائر الدينية، كضبط الأهلة وأوقات الصلاة وتحديد القبلة وفق وسائل علمية بالرصد الفلكي وتسجيله في الأزياج أو بالحسابات الرياضية الدقيقة، كما أوضحَت ذلك بجلاء بحوث دافيد كينغ، المؤرخ البريطاني الكبير للفلك العربي. إلى حد أن التقليد العلمي الإسلامي في تفاعله مع المجتمع على هذا الصعيد المتعلق بوضع العلم في خدمة الدين والمجتمع خلق فرعا فلكيا جديدا هو علم الميقات، الذي يعتبَر أحد أهم المؤلفات فيه هو كتاب جامع المبادئ والغايات في علم الميقات لأبي علي الحسن بن علي المراكشي ذو الأصل المغربي.

هنالك أمثلة أخرى تشير إلى الالتقاء بين الأخلاق وحاجات المجتمع.مثلا احتاجت المبادلات التجارية إلى تفادي الغش في الميزان، حيث احتاج الأمر إلى تحقيق الدقة في صناعة الموازين والصنجات، وتوحيد المعايير في الكيل والوزن.  وهذا ما وفرته للمجتمع آنذاك التطبيقات المستمدة من علم الأثقال والموازين الذي  تطور عمليا ونظريا للاستجابة لهذا الطلب المُلِح. ونجد في المؤلفات المنتمية إلى القرنين الثالث والرابع ما يعد دليلا واضحا في هذا الباب. وعلى الصعيد النظري، انكبت أبحاث ثابت بن قرة والقوهي والأهوازي والخازني وغيرهم على الدراسة الرياضية والفيزيائية لمختلف أصناف الموازين لتفسير التوازن والبرهنة على مبادئه، وبالخصوص قانون الرافعة(the law of the lever). وكل هذا البحث المعقّد انطلق من كتاب في القرسطون لثابت بن قرة. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنه في الحالات المذكورة وغيرها وُضع العلم في خدمة المجتمع. وهو أمر موجود على كل حال في جميع المجتمعات. إذا نظرنا صوب العالم الحديث نجد أن العديد من الرواد ، من كوبرنيكوس وصولا إلى نيوتن، أبانوا عن استجابة واضحة لطلب المجتمع للحصول على المعرفة النظرية والتطبيقية. لذلك ليس صدفة أن جاليليو اخترع الصيغة الحديثة الأولى لعلم الحركة وأنهى حياته العلمية بصنع ساعة ميكانيكية يكمن مبدأها في مبرهنته السادسة من مبرهنات الحركة التي تنطبق على اهتزاز النواس أو البندول.[5] وينطبق هذا التوجه على أقرانه من العلماء إلى اليوم.

– ماهي في نظركم أهم الصعوبات التي واجهت علماء التقليد العربي في نقل أو وضع المصطلحات العلمية والفلسفية، وكيف استطاعوا اقتحام هذه العقبات؟ وهل تعتقدون أن اللغة العربية لاتزال قادرة على استيعاب المصطلحات التقنية والعلمية المعاصرة؟

لنبدأ بالشق الثاني من السؤال، ونقول باختصار أن اللغة العربية صارت لغة علمية لما مُورس بها البحث العلمي وأنتِجت بها المعارف المتنوعة. فهل يُمارس البحث العلمي حاليا باللغة العربية؟ إذن، كيف نحكم على قدرتها على استيعاب العلم حاليا من عدمه؟! وبالتالي، لا يمكن أن نضع على عاتق اللغة العربية مهمة هي من صميم المهام المجتمعية. فاللغة عموما تستوعب العلوم في مرحلة النهضة الحضارية، حيث تتكيف هذه اللغة وتتفاعل وتشتق المعاني والألفاظ والمصطلحات والمفاهيم.

وإذا عدنا إلى الشق الأول من السؤال، يجدر الإشارة أن اللغة العربية كانت تتضمن بعض المصطلحات العلمية حتى قبل مجيء الإسلام، إذ نجدها تتضمن تعبيرات عن الظواهر الطبيعية وعن الأشكال والعمليات الأساسية للحساب.مثلا كان يقال لكلمة مثلث “مثلثة”، ونجد هذا اللفظ في كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي في القرن الثالث الهجري. كمانجد أيضا في الماضي العربي القديم الألفاظ الدالة على الأشكال الهندسية، والألفاظ المعبّرة عن الأدوية والأمراض وطرق العلاج، وبعض المعاني الطبيعية كمفاهيم الحركة والزمان والمكان والعالَم والضوء وغيرها. إذن، عبرت اللغة عن بيئتها، وحين صعد مجتمعها صعدت معه وباتت مستعدة لتلقي العلوم. حصل ذلك في سياق النهضة الحضارية العميقة التي ارتبطت بتوسع الفضاء الجغرافي في القرن الأول الهجري، عندما حصل في المنطقة تحول جيوستراتيجي بلغة اليوم كان من نتائجها لأبرز فتح فضاء شاسع للتبادل والتنافس في وسط العالم المعروف حينئذ، هذا الفضاء الذي عرف في المرحلة القديمة صراعا مستمرا بين الفرس والإغريق والبيزنطيين. واكبت اللغة العربية هذا الوضع الجديد باستيعاب المعاني المستحدثة والتفاعل معها للتعبير عنها وتوسيع مجال التداول، فحصل فيها تطور ثوري في ظرف عقود محدودة، كما نتبيَّن ذلك من نشأة لغة علمية عربية لم تكن موجودة البتة في الماضي وتبلورها في المؤلفات العلمية في بدايات القرن الثالث الهجري. ولنا في ترجمة يوحنا بن البطريق في نحو 200هـ مؤلفات تقنية، مثل كتاب الآثار العلوية لأرسطو والكتاب الآخر المنسوب لأرسطو بعنوان السّياسة والفراسة في تدبير الرّئاسة.[6] ظروف هذا التطور بالنسبة للنظرالعقلي من فلسفة وعلوم هو الحدث المعروف: تفاعل ثلاثي خلاق بين تصاعد حاجات المجتمع إلى المعرفة العلمية والتكنولوجية، ومسارعة البحث العلمي للاستجابة لهذا الطلب المتنامي، مما يحفِّز الترجمة ويغذّيها ويوسّعها. وقد انعكس هذا التفاعل المستمر على تطور البحث العلمي بشكل خاص وأنتج تدريجيا تقليدا علميا متكاملا.

من أهم مكونات هذه الدينامية العلمية الخصبة نشير إلى عملية التثاقف العربي الإغريقي الفريدة في ميدان العلوم، حيث نُقِل في إطارها كل ما توفر آنذاك من مخطوطات علمية إلى اللغة العربية. يحكي حنين بن إسحق كيف كان العلماء والنَّقلة والمثقفون يجوبون وسط العالم الإسلامي من بلد إلى آخر بحثا عن مخطوطات علمية لم تترجم بعد أو عن نسخ لمؤلفات معروفة. كما كانت السلطة السياسية نفسها تستغل العلاقات الديبلوماسية مع الدول المجاورة للحصول على مخطوطات علمية ثمينة، كما يحكي النديم في الفهرست. والمسألة المهمة هنا هو أنه تم نقل تقاليد علمية كاملة إلى اللغة العربية، ونتوفر اليوم على دراسات ممتازة لتاريخ عملية “النقل” أو “الترجمة” التي درسها العديد من الباحثين، ويتبين للباحث النبيه وجود دينامية جدلية ثلاثية أطرافها: حاجة المجتمع إلى المعرفة وازدياد الطلب عليها، توظيف البحث العلمي للاستجابة لذلك الطلب الاجتماعي الضاغط، ومواكبة البحث بترجمة المؤلفات العلمية. في هذا السياق، بسبب ضخامة العملية وتعدد أوجهها ومداها الزمني الطويل الذي فاق القرنين، شملت عملية النقل هذه تقاليد علمية كاملة تنتمي لثقافات مختلفة، إغريقية وفارسية (بهلوية) وهندية (سنسكريتية)، وحتى بعض الأعمال اللاتينية.

هنا يجدر التوضيح بأن عبارتي “النقل” أو”الترجمة” لا تفيان بالغرض في توصيف تلك العملية التثاقفية الواسعة الأثر. يكفينا في هذا السبيل ما تشير إليه العبارة الإنجليزية “Transmission” التي تبدو أكثر دقة.عندما نقول أن محرك السيارة ينقل الحركة إلى العجلات، فإن هذا يعني أنه يقوم بنقل “قوة” معينة تؤدي إلى انتاج حركة يقطع بها المتحرك مسافة في زمن، بسرعة متزايدة حسب مرور وحدات الزمان. وهذا المعنى الفاعل أكثر تعبيرا عن طبيعة ما حدث من “نقل” لعلوم الأوائل، إذ حصل هذا الأمر في عملية تاريخية طويلة الأمد في إطار تثاقف “بين-ثقافي” ومتعدد الثقافات وعلى امتداد رقعة جغرافية ممتدة على امبراطورية كاملة، وحفز هذا “النقل” حركة بحث علمي لم تتوقف طيلة قرون متعاقبة.

من ناحية الموارد البشرية، تولت عملية التثاقف بهذا الحجم الاستثنائي نخبة مثقفة تجيد اللغات العربية واليونانية والسريانية، ولم تكن أجنبية أو غريبة عن بلاد العرب، بل كان المنتمون إليها من أهل البلاد رغم أن غالبيتهم لم يكونوا مسلمين، بل كان أغلبهم من النصارى والصابئة وبعض اليهود والزرادشتيين. كانت هذه النخبة المتعددة الألسن والخلفيات الدينية والثقافية متواجدة في مناطق أصبحت تنتمي لبلاد الإسلام، في تلك المنطقة الشاسعة التي تمثل اليوم الشرق الأوسط الكبير من أفغانستان إلى التخوم المصرية مع البلاد الليبية. وفي هذه الجغرافيا الواسعة كانت تتواجد أيضا أغلب المخطوطات التي تمت ترجمتها ودراستها. بالتالي نقول باختصار إنها مخطوطات كانت موجودة في “الداخل”، في الوطن، وترجمها أناس ينتمون لهذه المنطقة بعد أن أصبحوا مواطنين داخل الحضارة العربية-الإسلامية. وبناء عليه، تمت عملية التثاقف والنقل داخل “بلاد الإسلام” وليست عملية “استيراد” للعلوم من خارج. قد يوهمنا مفهوم النقل بأن العلماء والمترجمين كانوا يسافرون إلى بلاد أجنبية ليجلبوا منها هذه المخطوطات! أو كأن هذه العملية تغلب عليها العناصر الوافِدة. صحيح أنه حصل استيراد للمخطوطات أحيانا، لكنهذا كان قليلا بالمقارنة مع الكنوز المتوفرة في الأديرة والمراكز الحضرية من شمال جزيرة الفرات إلى حرّان ونصيبين وأديرة جنوب العراق وعلى طول أرض الكنانة في اتجاه الجنوب حتى بلاد النوبة. يضاف إلى هذا أن الفترة الأخيرة من الحضارة اليونانية كانت برمتها هلينيستية وفضائها هو شرق المتوسط وخصوصا جنوبه الشرقي، وكانت هذه المرحلة مطبوعة بصفة قوية بطابع مصري وشامي (شرق أوسطي) لا يمكن انكاره.

بخصوص المسألة اللغوية في ترجمة الأعمال العلمية آنذاك، يمكن التمثيل بحالة ساطعة. نقل الحجاج بن يوسف بن مطركتاب أصول الهندسة لأوقليدس مرتين، سمي النقل الأول بـ”النقل الهاروني” والثاني بـ”النقل الماموني”.أنجز النقل الأول قبل سنة 192ه  (سنة وفاة هارون الرشيد). ونظرا لاضطراب عبارة النقل الأول عمد الحجاج بن مطر نفسه إلى إعادة الترجمة مرة أخرى في عهد المأمون (توفي في 218هـ)، ربما نحو 210هـ تقريبا. لاحقا أعاد حنين بن إسحق في الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري تدقيق النص رفقة العالم الصابئي الكبير ثابت بن قرة الذي اهتم بدون شك بالمحتوى الرياضي ومطابقته مع اللغة العلمية المناسبة للمعاني الإغريقية ودلالاتها الرياضية الدقيقة. سميت العملية الموكولة إلى ثابت بالإصلاح، وهو نوع من التدخل النصي متعدد الوظائف لرفع قلق العبارة والموافقة مع الأصل، وخاصة التأكد من مطابقة اللفظ المستقبِل للمفهوم الرياضي.[7] وقد أجرى ثابت بن قرة بنجاح الكثير من هذه العمليات الجراحية الدقيقة، وربما كانت أهمها وأصعبها تلك التي خلَّصت النقل الثالث لكتاب أصول الهندسة من آخر مشاكله وجعلت منه النص الرياضي الذي نافح عنه تاريخ الرياضيات واعتبره أقرب إلى الأصل[8] من النص الإغريقي الذي حققه الفيلولوجي والمؤرخ الدنماركي هايبرغ(Johan Ludvig Heiberg، 1854-1928) في أواخر القرن التاسع عشر.

إذا أجرينا مقارنة بين الترجمة العربية وبين النص الإغريقي، سواء في صيغة ما وصلنا من نقل الحجاج بن مطر أو في إصلاح ثابت بن قرة للنقل الثالث لمبادئ الهندسة الأوقليدية (وقد أجريتُ هذه المقارنة حين كنت أعدّ محاضرة ألقيتها في أكتوبر 2019 في سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة حول نشأة اللغة العلمية العربية)، نجد أن النص العربي يملك كل المعاني والمفاهيم الموجودة في النص الإغريقي للتعبير عن الحدود والمنطوقات والقضايا الرياضية الواردة في كتاب الأصول. ويدل هذا الأمر بوضوح على أن اللغة العلمية العربية استوعبت المعرفة العلمية الإغريقية وكانت جاهزة للتعبير العلمي بأحدث وأقوى المستجدات الرياضية في حينها في تاريخ مبكر، يتراوح بين 210 و280هـ. وبالطبع ستزداد دقة وقدرة، وستقوى على احتواء أمهات كتب المعرفة القديمة، من كتاب المجسطي لبطلميوس ومخروطات أبولونيوس وكتُب الفلسفة الطبيعية لأرسطو إلى مؤلفات الطب لأبقراط وجالينوس. نُقِلت هذه التحف كلها حين نُحتت واشتُقَّت مقابلاتها العربية للتعبير عن قضاياها ومفاهيمها العلمية بدقة ورشاقة. وتنبني هاته القدرة اللغوية على بعد آخر يتجسّد في امتلاك النخبة العلمية التي تترجم وتؤلف لناصية الصناعة التي وجدوا أنفسهم قائمين عليها، ولدينا شواهد كثيرة على ذلك. منها مثلا أن الإخوة بنو موسى وهم يهمّون بنقل كتاب المخروطات لأبولونيوس وصلَتهم نسخ تكتنفها ثغرات نصية، فبادروا إلى ملء تلك الثغرات بناء على خلق وابداع ما ينبغي أن يكون عليه البرهان الرياضي المسترسل. والمفاجئ والمثير هو أنه عندما عثروا لاحقا على النقص في نسخ أخرى كاملة، وجدوها مطابقة تماما لما أضافوه، وهذا أمر مثير يكفي للتدليل على مقدرتهم الرياضية  في ميدان صعب مثل هندسة المخروطات.ويحكي أحمد بن موسى في مقدمات كتاب المخروطات ظروف ترجمة هذا الكتاب الرياضي الضخم في صفحات ثمينة تُعتبر تأريخا للعلوم قبل الأوان.[9]

هكذا نشأت في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري – إضافة إلى اللغة الأدبية والكلامية ولغة العلوم الشرعية – لغة علمية مضبوطة، تميزت بالخصائص العامة المميزة للغة العلمية، وأهمها المُميِّزات الإبستيمولوجية الموالية: مَركزيّة المُصطلَح، أُحاديَّة الدَّلالة، الاستِخدام المُكثَّف للرَّمزيّة، الاقتِصاد في التَّعبير.باختصار، أبانت اللغة العربية بكل جدارة على أنها لغة علم طيلة قرون طويلة بعد أن تمكنت من التعبير عن تقاليد علمية كاملة حتى نهاية القرن السادس عشر. لذا، فإن مشكل اللغة العربية في استيعاب العلوم اليوم ليس نابعا منها بالذات، بل هو مشكلنا نحن كمجتمعات لا تنتج المعرفة العلمية.

. تكتسي مسألة العمل الجماعي والتواصل بين العلماء أهمية بالغة في مجال البحث العلمي. هل يمكن الحديث عن مظاهر معينة لهذه العملية داخل الحضارة الإسلامية؟

يعتبر العمل الجماعي من شروط البحث العلمي سواء في الماضي أو في الوقت الحاضر، ويُصطلح على هذه المسألة في أدبيات فلسفة العلوم وتاريخها بمفهوم الجماعة العلمية (Scientific community)، والمقصود بها الجماعة البشرية التي تنتج المعرفة العلمية في مرحلة محددة بتأطير برادايم معين (يشار إليه في ترجمة مؤقتة بالنموذج الإرشادي). ويمكن القول أن هذا الأمر حاضر لدى كل الشعوب والثقافات التي أنتجت أو أسهمت في إنتاج العلم منذ البابليين إلى الآن، إذ لا يمكن لشخص وحده أن ينتج معرفة علمية، لأن هذه المعرفة تصير ذات معنى حين تندرج في تقليد جماعي. ونفس الأمر ينطبق على معارف العلوم المنتجة بالعربية في العصر الكلاسيكي. ونملك دلائل كثيرة تؤكد أن العمل العلمي كان يتم في إطار جماعي حسب ظروف وشروط المجتمع في تلك الفترة، حيث كانت تتشكل في المراكز الحضرية وحدات بحث تعمل معا وتتعاون فيما بينها. ومن هذه الجماعات الإخوة الثلاث أولاد موسى بن شاكر، وجماعة آل بختيشوع، ومدرسة الصابئة التي عملت لأجيال ببغداد بعدما وطّد أسسها ثابت بن قرة الجد الوافد من حَران، ومجموعة الكتبة والنقلة المتحلقين حول حنين بن اسحق وابنه اسحق وابن أخته حبيش الأعسم بن الحسن الدمشقي. ويمكن ذكر جماعات مماثلة في مراكز علمية أخرى من غزنة بأفغانستان إلى حواضر الأندلس.

ومن مظاهر هذا العمل الجماعي وجود منافسة وتدافع ملحوظين بين العلماء للحصول على المكاسب والامتيازات الناتجة عن الكشوف العلمية. ويبرز هذا في إطار عملية تفاعلية وتنافسية بين بعض المجموعات المنظمة التي كانت تترجم أو تنتج المعرفة العلمية آنذاك، منها جماعات ووحدات بحث معروفة، كعائلة بنو موسى وبنو الصباح وآل بختيشوع وبنو إسحق وغيرهم. وكانت العلاقات بينهم تطبعها أحيانا الحدة والعداء. وكان هذا العمل الجماعي ينتقل من جيل إلى جيل، حيث يضيف الجيل اللاحق إلى ما قدمه السابق ويطوره. كما أن المعرفة انتقلت كذلك في المكان، إذ أن الأمر لم يبق محصورا في بغداد وفي وسط الامتداد الجغرافي للدول الإسلامية المتعاقبة، بل شهدت العديد من حواضر المحيط ازدهارا فكريا وعلميا فريدا.

من ناحية ثانية، هناك ظاهرة اجتماعية ينبغي الإشارة إليها تتمثل في الدعم والرعاية التي كان يحصل عليهما العلماء وفق طرق ممنهجة ومنظمة، كان لها الأثر البليغ في توفير التمويل الضروري للبحث العلمي. لم يقتصر الأمر على دعم النخبة السياسية فقط، بل امتدت ظاهرة الدعم إلى عموم أهل السطوة والجاه، الذين كانوا يتنافسون فيما بينهم في تقريب العلماء ومكافأتهم؛ وعاد ذلك  بالنفع على المجتمع، حيث تقدمت الأبحاث وتطورت على المستويين النظري والتطبيقي. وكل هذه العناصر مجتمعة تشكل الإطار المادي والاجتماعي للممارسة العلمية الكلاسيكية في بلاد الإسلام، وهي المواضيع التي تدرسها سوسيولوجيا العلوم، هذا المبحث الرديف لتاريخ العلوم والذي يشهد حاليا خطواته الأولى في دراسة التقليد العلمي العربي.

-لا شك في أن مدلول عبارة “العلوم الفيزيائية” قد اختلف كثيرا اليوم عما كان عليه الحال لدى القدماء، بما فيهم علماء الإسلام. ما هي أبرز المباحث العلمية التي تم إدراجها آنذاك ضمن العلم الفيزيائي وما هي أهم مميزاتها؟

نجد في المدونة الأرسطية أن لفظ “فيزيس”(φύσις) الذي يعني الطبيعة (على وجه الدقة الأشياء الطبيعية)[10]هو أيضا عنوان كتاب أرسطو الرئيسي في الفلسفة الطبيعة، ولفظ الطبيعة هو العنوان الذي اختاره إسحق بن حنين مترجم هذا الكتاب إلى العربية. يستمر الأمر على هذا الحال وصولا إلى نيوتن، الذي أشهر كتابه الشهير الصادر باللاتينية بلندن في 1687 تحت يافطة الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية. ويمكن القول إجمالا أنه على امتداد ألفي سنة لا يصح الحديث عن “فيزياء” بالمعنى الحديث للكلمة، إذ كان الأمر يتعلق بفلسفة للطبيعة قائمة على مبادئ فلسفية وميتافيزيقية، أقواها المبادئ الأرسطية التي حملت منظومة طبيعية كاملة. يمكن أن نطلق عليها اليوم فيزياء أرسطية بنوع من التجاوز، إذ كانت هي المخولة بتقديم إجابات عن مجمل الظواهر الطبيعية الواقعة تحت الحس من صعود الدخان إلى سقوط الأجسام، كما وضعت تفسيرا للكون بأسره في سياق كوسمولوجيا متكاملة وشديدة الاتساق والمنطقية. نقض جاليليو وقوّض هذه “الفيزياء” في اليوم الأول لكتابه محاورة حول النظامين الأساسيين للكون البطليموسي والكوبرنيكي الصادر في 1632،وأتبعه بكتاب آخر أكثر دلالة على صعيد تاريخ الفيزياء كما نعرفها اليوم وهو خطابات وبراهين رياضية حول علمين جديدين الصادر بلايدن في 1638. عرض جاليليو في هذا الكتاب مبادئ علم الحركة الذي مثَّل أول نموذج حقيقي للفيزياء الرياضية الحديثة. انطلاقا من هنا فقط، يمكن الحديث عن فيزياء بالمعنى الحصري، أي الرياضي.

من ناحية أخرى، لا بد من الإشارة إلى بعض الفروع الفيزيائية المهمة التي أسهم فيها علماء الإسلام بوفرة، كدراسة الموازين وعلم الأثقال وعلم الحيل والمعادن والكيمياء. والجدير بالاهتمام هنا هو أنه قد ظهرت في بعض هذه الفروع نتائج معاكسة ومباينة تماما للتفسيرات الطبيعية الأرسطية. ويبرز هذا بوضوح شديد في علم الأثقال، ومن ذلك سلوك الميزان الذي يناقض تمييز أرسطو الصارم بين الحركة إلى الأعلى والحركة إلى الأسفل. لكن لا داعي للدخول هنا في بعض المسائل التقنية الدقيقة التي لا يسمح بها المقام. ونكتفي بالقول، إن الأهم من ذلك كله، هو أن هذا الأمر سيشير فيما بعد إلى نموذج عقلي آخر مخالف للنموذج الذي بنى عليه أرسطو فلسفته الطبيعية. وسيكون علم الأثقال العربي واللاتيني رافدا من الروافد الأساسية للفيزياء الجاليلية.

– حبذا لو تفضلتم بتقديم نبذة عن أهم تقاليد الميكانيكا العربية التي سادت شرق الحضارة الإسلامية وغربها. ما هي أهم مصادرها؟ وهل ثمة أي تأثير محتمل لتقاليد هندية أو بابلية في هذا المجال؟ وهل يمكن الحديث عن إسهام مميز لعلماء الغرب الإسلامي في هذا المجال؟

هناك تقليد واحد رئيسي في علم الميكانيكا العربية يجمع بين تيارين موروثين عن الميكانيكا الإغريقية، يُنسب أحدهما إلى أرسطو والآخر إلى أرخميدس، والتقى هذان التقليدان في علم الأثقال العربي وليس في علم الحيل، نظرا لأن هذا الأخير هو امتداد للميكانيكا العملية الإغريقية التي انتقلت بعض مؤلفاتها، ومنها مدخل إلى علم الحيل لبابوس وكتاب رفع الأشياء الثّقيلة بالقوّة اليسيرة لإيرُن الإسكندراني، الذي ترجمه قُسطا بن لوقا، وكتاب الآلات الروحانية لفيلون البيزنطي وغيرها. أما في علم الأثقال، أي الميكانيكا النظرية، فقد تلقى المسلمون فقط بعض الشذرات، نظرا لأن كتاب أرخميدس الأساسي في هذا الباب وهو استواء البسائط لم يترجم للعربية. وما نُقِل لم يتعد الشذرات والنُتف من التقليد الميكانيكي الأرسطي المتمثل في كتاب المسائل الحيليّة (Problemata mechanica) الشهير، وبعض المقتطفات من نظرية مضطربة في الميزان منسوبة إلى أوقليدس ولم يُعثر قط على ما يقابلها من أصل إغريقي.

أسّس ثابت بن قرة علم الأثقال وأطلق البحث في الميكانيكا النظرية بالعربية وطوّر نظرية الميزان القباني انطلاقا من هذه الشذرات. ومن هذا القليل أنتج علما جديدا في كتاب في القرسطون، وهو ما انتبه له الفارابي في إحصاء العلوم وعدّه حدثا إبستيمولوجيا ينبغي تسجيله وإشهاره، وفعل ذلك بتمييزه علما رياضيا متمايزا عن علم الحيل ومباينا له. يمثل إنجاز ثابت بن قرة أساس علم الأثقال العربي، وأقامه على تحليل مزدوج –رياضي وتجريبي– لمبرهنات تصف سلوك ميزان غريب انقرض تقريبا اليوم وبقيت تسميته بالميزان القباني المقابل لقرسطون ثابت ومعاصريه. وحتى نتجنب الإطالة في الحديث عن نتائج بحوث منشورة ويمكن العودة إليها، يكفينا القول بأنه قبل انصرام الربع الأخير من القرن الثالث الهجري كانت الميكانيكا النظرية (علم الأثقال) قائمة الذات، وبات ما انطوت عليه من كشوف ووعود علمية خصبة أساسا لتقليد بحثي امتد البحث فيه بالعربية حتى القرن التاسع عشر.

وفي الميكانيكا العملية المسماة علم الحيل، يشهد المؤرخ انطلاقة قوية في نحو عام 250 للهجرة في  كتاب مهم جدا في هذا المجال هو كتاب الحيل لبني موسى الذي يصف بدقة 100 آلة، بميكانيزماتها وكيفيات أدائها لوظائفها. وقد أثبت البحث التاريخي أن هذه الآلات ليست مجرد ألعاب، بل هي آلات حقيقية تندرج في إطار ما يُعرف اليوم بالهندسة المدنية (Engineering).

أما بخصوص التقاليد البابلية أو الهندية فلا نعرف عن انتقالها إلى الحضارة الإسلامية شيئا لحدود الساعة، إذ كل الشواهد التي عُثر عليها إلى الآن تشير فقط إلى التراث الإغريقي. وبخصوص مساهمة علماء الغرب الإسلامي، فهناك إسهامات مهمة لعلماء مهندسين في صناعة الآلات نظرا لأهميتها وضرورتها للمجتمع في الصناعة ونقل المياه وفي إقامة السدود والقناطر والتشييد المعماري. وأهم معلم في هذا الباب هو كتاب مهندس بارع لا نعرف عنه شيئا، وقد ترك لنا اسما مبتسرا ومخطوطا فريدا من نوعه ينسب إلى سنة 500هـ ويوجد في نسخة وحيدة محفوظة بإحدى مكتبات فلورنسا. يتعلق الأمر بابن خلف المرادي وكتابه الأسرار في نتائج الأفكار.فهذا أهم كتاب في تكنولوجيا الغرب الإسلامي.

لكن في مجال الميكانيكا النظرية الـمُكنّاة علم الأثقال نكاد لا نعثر على ما يستحق الذكر، ولا يسعفنا سوى المشروع الذي لم يكتمل للعالم الأمير المؤتمن بن هود، من عائلة بني هود التي حكمت سرقسطة. طمح المؤتمن إلى تأليف موسوعة للعلوم الرياضية سماها الاستكمال وعزم أن يجمع فيها ما يغني عن باقي المؤلفات الرياضية. ويذكرفي صدرما وصلنا من هذا المتن أن البرنامج الرياضي للمؤتمن كان يتضمن تحرير كتابين، الأول مخصص للهندسة النظرية والثاني للهندسة المادية أو العملية. لكن المؤتمن لم يكمل مشروعه، وكتب الجزء الأول فقط المخصص للرياضيات، وهو كل ما وصلنا. ربما يعود سبب هذا التوقف إلى تقلده عرش سرقسطة بحيث غلبته السياسة عن متابعة شغفه العلمي. وحسب ما تخبرنا بعض الشواهد، كان المأمول أن يحوي الجزء الثاني بابا كاملا حول “علم الاثقال والحيل وما يعرض من خواصها، مفردة ومضافة.”

. هل يمكن الحديث عن روابط محتملة بين المتطلبات الاقتصادية للمجتمع الإسلامي الناشئ وميدان الميكانكيا النظرية والعملية (علمي الحيل والأثقال)؟

بكل تأكيد. يصف كتاب العلم والعمل النافع في صناعة الحيل للجزري، الذي يمثل أرقى ما وصل إليه تقليد الميكانيكا العربية، مجموعة من خمسين آلة ضمنها مضخات ترفع الماء من الآبار والوديان والقنوات لتزويد المدينة والفلاحة بالماء، وهي عبارة عن خمس مضخات ضخمة ومعقدة من حيث تركيب أجزائها ومبادئ اشتغالها. تنطوي المضخة الخامسة، التي ترفع أطنانا من الماء إلى علو شاهق يبلغ 12 مترا، على اختراع فريد من نوعه كان للجزري الفضل والسبق في اكتشافه وهو مبدأ تحويل الحركة الأفقية إلى حركة دائرية، وهذا هو المبدأ الذي تشتغل به منذ بداية العصر الصناعي الحديث كل الآلات القائمة على نقل الحركة من سيارات وقطارات وغيرها. يعرف هذا المبدأ بالعمود المرفقي أو عمود الكرانك(crankshaft).[11]

ولا شك في أن الأمثلة على فائدة الآلات ومنفعتها للمجتمع متعددة في التقليد العربي الكلاسيكي، ولم يقتصر دورها على تلبية أساسيات الحياة اليومية، بل اخترِعت فئة كاملة من الآلات الدقيقة لغاية الترفيه والتسلية، وأخرى لغايات صناعية كبرى وشكلت اختراعات مفيدة سُجلت بمياه من ذهب في تاريخ التكنولوجيا. ومضخات الجزري واكتشافات العالم الشامي تقي الدين بن معروف الراصد، الذي عاش بإسطنبول في أواخر القرن السادس عشر، من أهم الأمثلة على هذه الفئة الأخيرة.

– ما مدى انتشار الكتابات والأبحاث المتعلقة بعلمي الأثقال والحيل داخل الحضارة الإسلامية؟ وكيف يمكن أن نفسر قلة الاهتمام، إن كانت هناك قلة اهتمام حقا، بهذين العلمين رغم أهميتهما البالغة للمجتمع الإسلامي ومتطلباته اليومية؟

وصلتنا العديد من الكتابات في هذا المجال، ورغم أنه قد تمت دراسة بعضها ونشِر قسم منها، إلا أن أغلبها لا يزال مخطوطا. أما بخصوص مسألة الاهتمام، فنشير إلى أن المتكلّم وقف حياته الأكاديمية على استكشاف هذا المجال وأنجز مشروعا بحثيا مفصلا لنشر ودراسة المتن المتعلق بعلم الأثقال، حقق منه القسم الأول لكن هذا المشروع لم يستمر. شرعتُ شخصيا في البحث حول المتن العربي لعلم الأثقال وجمعت مدونته المخطوطة من مكتبات العالم وبدأت في تحقيقه ودراسته ونشرت العديد من النصوص والدراسات حولها في كتب ومقالات، أثناء إقامتي بمعهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم ببرلين واستمريت في العمل بعد عودتي إلى المغرب. لكن البحث توقف بسبب غياب دعم مؤسسي وغياب إرادة حقيقية لتحفيز البحث في تاريخ العلوم ودمج المبحث في البرنامج الجامعي والأكاديمي المغربي.ولا يسع المرء سوى الاعتراف بأن الجهود المبذولة في سبيل تأسيس تقليد أكاديمي متين في تاريخ العلوم فشلت، رغم المبادرات العديدة تجاه المؤسسات التي أنيطت بها مهمة رعاية البحث العلمي في البلد.

– أشرتم في بعض أعمالكم إلى أن أهمية علم الأثقال والموازين ترجع إلى اعتبارين اثنين: أ- إعادة ربط الصلة بين الفلسفة الطبيعية والميكانيكا. ب- إدماج تقليدا علم الأثقال العربي واللاتيني في تقليد علمي موحد. هل يمكن أن تتفضلوا بتوضيح هذه النقطة؟ وهل يمكن الحديث عن أي تأثير محتمل لعلم الأثقال العربي في نشوء أو تطور علم الأثقال في أوربا الوسيطية، خصوصا مع مدرسة جوردانوس في القرن الثلاث عشر الميلادي؟

سبق أن تطرقنا جزئيا في سياق حديثنا أعلاه للعديد من المسائل الواردة في هذا السؤال.ونقول بإيجاز إن هاتين الخاصيتين، أي إعادة ربط الصلة بين الفلسفة الطبيعية والميكانيكا ودمج علمي الأثقال العربي واللاتيني، هما خلاصتان يستخرجهما المؤرخ من بحث طويل الأمد، وبهما يضع يده على الدلالة الاستثنائية لتقليد علمي كامل. وهاتان الميزتان تعبران عن دلالة علم الأثقال العربي في تاريخ الأفكار الفيزيائية. خلاصة الميزة الأولى أن قانون الرافعة يوضح كيف أن الفلسفة الطبيعية والميكانيكا يتداخلان في فهم الخصائص الرياضية والفيزيائية للميزان القباني، هذا الميزان الذي رفعه علم الأثقال إلى مستوى النموذج العقلي للبحث الفيزيائي في المرحلة السابقة على تسيّد الحركة في اهتمام الفيزيائيين. يتميز القبان عن الميزان العادي بكونه معلق بنقطة لا توجد في وسطه، وينتج عن ذلك انقسامه إلى ذراعين غير متساويين.وحين نضع موزونا في الكفة المعلّقة من أسفل الذراع القصير يحصل التوازن عند تحريك ثقل يسمى الرمانة على طول الذراع الطويل. وهذه حركة مزدوجة ليس بوسعنا أن نميز فيها بين الأعلى والأسفل، ولا بين المركز والطرف، وتستهزأ بالطبائع الأرسطية ولا تحفل بالصنم الأرسطي الذي يشترط خارجية المحرّك عن المتحرك. باختصار، كان فهم هذه الآلة وتفسيرها ووضع وصف رياضي استدلالي في صورة مبرهنة رياضية تحديا كبيرا وعملية معقدة وصعبة استنفذت جهود علماء الأثقال من ثابت بن قرة إلى جوردانوس.أكثر من هذا، إن سلوك القبان، وهو يناقض مسلمات الفلسفة الطبيعية التقليدية، يشير إلى فيزياء غير أرسطية ويحيل إلى منظومة فيزيائية مغايرة هي تلك التي تحققت لما اجتمع علما الأثقال والحيل تحت راية الفيزياء الحديثة.

بالنسبة للشق الثاني من السؤال، نشير إلى أنه منذ بحوث بيير دوهيم ومارشال كلاغيت وإيرنست مودي في النصف الأول من القرن العشرين بخصوص علم الأثقال، والتي تمخضت عن نشر جل الكتابات اللاتينية المتعلقة بدراسة الأثقال في القرنين 13م و14م، اعتبر الباحثون الغربيون أن ولادة علم الأثقال تحققت مع من سمته بعض وثائق العصر الوسيط جوردانوس النيموري (Jordanus Nemorarius).  في الواقع هذا اسم علَم لا نعرف عنه شيئا تقريبا، كما أن الأعمال التي تركها مضطربة ومشوشة في بنيتها النصية، لكنها مع ذلك تتضمن نتائج مهمة تتجاوز ما وصله علم الأثقال العربي، ومن المحتمل أنها تنطوي على نصوص عربية مترجمة إلى اللاتينية لم نعثر على أصولها. والجدير بالإشارة هنا هو أن منطلق تأسيس علم الأثقال اللاتيني مصدره عربي، بدأ بالترجمة اللاتينية لكتاب ثابت بن قرة في القرسطون وبالترجمة اللاتينية لكتاب إحصاء العلوم للفارابي، وفي هذه الترجمة نجد عبارة علم الأثقال = scientia de ponderibus. كل هذا يبين أننا في الواقع أمام تقليد مشترك رغم الفروق اللغوية والجغرافية والتاريخية، كما هو الأمر في حالة أخرى شهيرة، هي استناد الثورة الكوبرنيكية إلى نتائج مدرسة مراغة.[12]

. باتت أهمية الرياضيات بالنسبة لجل المباحث العلمية الأخرى أمرا مسلما به.هل شهدت البيئة الإسلامية أي محاولة أو أي استثمار فعلي من لدن علماء الميكانيكا العربية للأداة الرياضية في تطوير هذا المبحث؟

شهد التقليد العلمي العربي استخداما واسعا للرياضيات في دراسة الظواهر الطبيعية، وهو أمر شبيه بما حدث لدى الإٍغريق. نتحدث هنا عن الرياضيين وليس عن فلاسفةالطبيعة المنتمين إلى المدرسة المشائية التي تولي ظهرها بشكل تام للرياضيات.وظّف التقليد الإغريقي في الفلك والمناظر وعلم الحيل الرياضيات في بحوث بطلميوس وأوقليدس وأرخميدس وإيرون وبابوس الإسكندرانيان وغيرهم. وما قلناه عن التقليد الإغريقي ينطبق أيضا على التقليد العربي، لكن يجب أن نكون واضحين، فالأمر يتعلق في التقليدين معا باستخدام للرياضيات في حل العديد من المسائل ووصفها من الخارج والتمثيل لها بنماذج وبراهين رياضية، مع بقاء مسافة بين هذه الأبحاث والأداة الرياضية. أي أن الأمر يتعلق باستخدام للرياضيات ولا يتعلق بعملية ترييض على المستوى الكيفي. هذا الترييض لم يحدث سوى في بحوث جاليليو حول الحركة. وسبب ذلك واضح ولا علاقة له بالانحياز للعلم الحديث. السبب هو أن الترييض الكامل ينصب على الموضوع الأكبر والأخطر في الطبيعة، وهو الحركة، كما بيّن أرسطو في بداية المقالة الثالثة من كتاب الطبيعة حين اعتبر الطبيعة مبدأً “للحركة والوقوف والتغير”، أي مبدأ الحركة والسكون، وبالتالي عليها تتأسس وتقوم الفلسفة الطبيعية. لذلك اقتضت عملية ترييض الطبيعة حصول نضج تام في دراسة الحركة، الأمر الذي توفَّق جاليليو في إنجازه في بداية القرن السابع عشر، وانتظر نحو أربع عقود لنشره في  كتاب خطابات وبراهين رياضية (1638)، الذي احتوى أول نموذج ناجح للفيزياء الرياضية كما نعرفها. وسيصير الأمر بعد جاليليو عبارة عن تقليد حقيقي نجده لدى جل العلماء اللاحقين (جاسيندي وهويجنز وهوك ونيوتن…) إذ ما يجمع كل هؤلاء هو تطبيق الرياضيات بطريقة خلاقة على موضوع الحركة.

-نلاحظ وجود اختلاف كبير بين المقاربات التي تسعى لتفسير وفهم تراجع الفكر العلمي، من حيث أسبابه وزمانه، داخل الحضارة الإسلامية.ما هو تقييمكم لمجمل هذه المقاربات وكيف تفسرون من جهتكم تراجع الاهتمام بالفكر العلمي والفلسفي داخل البيئة الإسلامية؟

يجب بداية أن نميز بين التراجع الذي حصل في الإنتاج العلمي وذلك الذي طال النظر الفلسفي، لكي يتأتى لنا فهم جيد لأسباب تراجع كل منهما على حدة. ولنبدأ بتاريخ الفلسفة التي لها تسمية عالمية هي الفلسفة الإسلامية. يذهب العديد من الباحثين إلى أن الفلسفة الإسلامية توقفت بعد وفاة ابن رشد، وهذا ما يدل عليه انتاج النصوص وتداولها. ومن الصعب جدا إثبات وجود تقليد فلسفي عربي حقيقي بعد المرحلة الرشدية، رغم وجود شذرات ونصوص ودلائل على استمرار النظر الفلسفي في بعض الدوائر، وهذا أمر طبيعي، ومن قبيل استمرار الحركة العُطالية ولا يغيّر من الحكم التاريخي أن التقليد الكلاسيكي للفلسفة الإسلامية وصل قمته في نهاية القرن الثالث عشر وتوقف عندها. من جهة أخرى، أؤكد أني أتحدث هنا عن الفلسفة الإسلامية المكتوبة بالعربية، أما ما أنتج بعد هذا التاريخ بلغات أخرى فإنه فلا ينتمي لهذا التقليد بحكم أن العالم الإسلامي الذي تشكل في نهاية العصر القديم كان قد انفرط عقده. بالتالي، فما كُتب آنذاك بغير اللغة العربية صار ينتمي للتقليد الثقافي الإيراني أو التركي أو غيرهما. غير أن هذا الحكم الذي تدعمه المعطيات ينبغي تنسيبه بما ينطبق على وضع الفكر العلمي، والذي سنأتي إليه، حيث يتوجب الانتباه إلى التلازم بين البحث العلمي والنظر الفلسفي.

أما فيما يخص الفكر العلمي فالأمر مختلف تماما كما تدل على ذلك النصوص المتوفرة، إذ نجد انتاجا علميا متواصلا في مختلف المجالات حتى نهاية القرن السادس عشر، وأقول دائما بأن تقي الدين بن معروف كان هو آخر عالِم كبير في التقليد العلمي العربي الكلاسيكي. لكن الملاحَظ أيضا هو أنه مع اقترابنا من تاريخ ابن معروف نشهد تراجعا تدريجيا للإنتاج العلمي، كما وكيفا. يبقى أمر تفسير هذا التراجع. التفسير الوحيد الذي يأخذ به المؤرخ هو القائم على عوامل مادية: التراجع الحضاري في البيئة الإسلامية بعد الهجمة المغولية المدمِّرة؛ وتصاعد القوة الأوربية التي تكللت بالنجاح المعروف في الكشوفات الجغرافية. كان للعامل الأول تأثير كبير في تحييد المنطقة الوسطى من العالم الإسلامي، وأغدق العامل الثاني المكاسب والموارد المادية على أوربا الغربية بدءً من 1500. وهنا بدأ الشق يتسع والفرق يتسارع.

من ناحية أخرى، لئن لم يتمكن التقليد العلمي في هذه الفترة المتأخرة من أن يؤتي ثماره داخليا، فإنه أسهم دون ريب في النهضة الأوروبية. ويكفي هنا أن نشير إلى ما أثبته الباحثون من استفادة كوبرنيك نفسه من النتائج العلمية المهمة التي حققها علماء مدرسة مراغة ومن نتائج أبحاث الفلكي الدمشقي ابن الشاطر. ونفس الأمر يقال عن الفلسفة الإسلامية، خصوصا في ما يتعلق بتأثير ابن رشد في المفكرين اللاتين في إطار ما عرف بالمدرسة الرشدية اللاتينية، وقد استمر هذا التأثير حتى القرن السادس عشر. وما يلفت النظر في عملية التأثير هذه، سواء في العلوم أو في الفلسفة، هو أن الأوربيين آنذاك بقدر ما كانوا يعرفون قيمة هذه المعرفة المنقولة ويستفيدون منها، بقدر ما أخفوها وحاولوا حذفها لأسباب إيديولوجية، كما أثبت ذلك مؤخرا مؤرخ الفلسفة الألماني داغ نيكولاوس هيسَّه (Dag Nikolaus Hasse) حين بيّن تأرجُح النُّخبة المثقفة الأوربية بين 1200 و1600 بين الحب والنفور تجاه المعارِف ذات المصدر العربي؛ حيث استفادت منها وشغفت بها وعمِلت في ذات الوقت ما في وسعِها لـمَحو وإخفاء الإحالة إليها، في إطار استغلال انتهازي جسّد استيلاءً واعيًّا على كنزٍ معرفيٍّ.[13]

. يذهب العديد من الباحثين إلى أن مجموع المخطوطات العربية المبثوثة في مكتبات العالم يقدر بأكثر من أربعة ملايين مخطوطة. كيف تُقيّمون –في ظل معطيات كهذه- الدراسات المُنجزة حول التراث العربي-الإسلامي؟

لا أعتقد أن  مجملا لمخطوطات يصل إلى هذا العدد، ولا أحد أحصى هذه المخطوطات إحصاءً دقيقًا. وعلى كل حال، لنفرض مثلا أنه أقل ولنقل مثلا مليونان، فهذا لا ينفي أن المدونة الثقافية المكتوبة باللغة العربية غنية جدا ودورها كان مهما في المسار التاريخي للثقافة العالمية. توجد مخطوطاتها موزعة على أهم مكتبات العالم، إضافة إلى المخطوطات التي يملكها أفراد أو عائلات في خزائنهم الخاصة. كما أرى أن الأهم من تحديد عدد هذه المخطوطات هو دراستها وتحقيقها وإخراجها إخراجا نقديا وفق المعايير الأكاديمية المعمول بها. وهذه المهمة لا يجب أن تبقى على مستوى فردي، بل يجب أن تتم في إطار مؤسسي وأكاديمي. والأكيد أن هذه المقاربة ستؤدي إلى نتائج أفضل. ولا أجد توصيفا أدق لوضع تعامل الثقافة العربية الحالية مع تراثها العلمي سوى القول بإن الثقافة العربية المعاصرة هي الثقافة الوحيدة العريقة في العالم التي تهمل تقليدها العلمي الكلاسيكي إهمالا تاما، وتتجاهله في ثقافتها المتداولة وفي وجامعاتها وفي مؤسستها الأكاديمية، وتكتفي بالتصفيق له من بعيد وهي تحسب النقاط التي يحققها البحث الأكاديمي العالمي حين يُخرج الكنوز المعرفية العربية من المخطوطات فيحققها ويترجمها ويدرسها ويستخرج دُررها ويضعها بجوار المكتشفات الإنسانية الكبرى في العلم والمعرفة.

– نلاحظ وجود جهل كبير لدى المثقفين فضلا عن العامة بالإسهامات العلمية الجليلة لأسلافهم. ما هي السُبل الكفيلة بدرء هذه الآفة من جهة، وما الدور الذي يمكن أن تلعبه الدراسات المتعلقة بتاريخ العلوم العربية في نشر ثقافة العلم والمعرفة داخل مجتمعاتنا العربية من جهة أخرى؟

بكل صراحة ووضوح، لا سبيل إلى هذا الأمر دون إرساء دعائم تقليد جامعي وأكاديمي يتأسس على تكوين متين على مستوى الماستر والدكتوراه ويتوجه إلى الطلبة المتميزين في هذا المجال كي يصيروا باحثين محترفين. ولا يكون هذا التقليد الجامعي معزولا في معهد أو مركز، بل لا بد من خلق أقسام أو شعب لتاريخ وفلسفة العلوم وكذا توظيف أساتذة على نطاق واسع من خلال فتح مواد متعددة يُدرس فيها هذا التخصص، في كليات الآداب والعلوم الاجتماعية وفي الكليات العلمية ومدارس المهندسين وكليات الطب والصيدلة.

[1]مصطفى نظيف، الحسن بن الهيثم: بحوثه وكشوفه البصرية (القاهرة، مجلدان، 1942-1943)؛ أعيد طبعه ببيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)؛ ومصطفى نظيف،علم الطبيعة: نشوءه ورقيه وتقدمه الحديث (القاهرة: مطبعة مصر، 1927).

[2]Jean-Jacques Sédillot (1777‒1826);Louis-Pierre-Eugène Amélie Sédillot (1808-1875).

[3]التذكرة في علم الهيئة مع دراسات لإسهامات نصير الدين الطوسي الفلكية، دراسة وتحقيق عباس سليمان (الصفاة/القاهرة: دار سعاد الصباح، 1993).

F. J. Ragep, Naṣīr al-Dīn al-Ṭusī’s Memoir on Astronomy: Al-Tadhkirafīʿilm al-hayʾa, 2 vols. (Berlin: Springer Verlag, 1993).

[4]Ahmad Y. al-Hassan, “The Arabic Original of the Liber de composition ealchemiae: The Epistle of Maryānus, the Hermit and Philosopher, to Prince Khālid ibn Yazīd”. Arabic Sciences and Philosophy (Cambridge University Press), vol. 14 (2004): pp. 213–231.

أنظر أيضا:

Marion Dapsens, “De laRisālat Maryānusau De Composition ealchemiae: Quelques réflexions sur la tradition d’un traité d’alchimie », Studiagraeco-arabica (Pisa University), vol. 6 (2016): pp. 121-140. Online at :

http://learningroads.cfs.unipi.it/wp-content/uploads/2016/12/%D9%8DSGA-6-2016_Dapsens.pdf.

[5] M. Abattouy, “The Mathematics of Isochronism in Galileo: Fromhis  Manuscript Notes on Motion to the Discorsi,” Society and Politics (SAGE Publishing), vol. 11, No. 2(22), November 2017, pp. 23-54. Online at: http://socpol.uvvg.ro/docs/2017-2/3.Abattouy_last.pdf.

[6]سر الأسرار: السّياسة والفراسة في تدبير الرّئاسة لأرسطوطاليس، ترجمة يوحنّا بن البطريق (نحو 200هـ/815م)، في: عبد الرحمن بدوي، الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية- مطبعة دار الكتب المصرية، 1954)، صص. 67-171؛ كتاب الآثار العلويّة لأرسطوطاليس، ترجمة يوحنّا بن البطريق. تحقيق كازيمير بَترايْتِس (بيروت: دار المشرق، 1967).

[7]حول مفهوم الإصلاح أنظر:

  1. Abattouy, “Iṣlāḥcomme un mode éditorial d’appropriation: la tradition arabe de Maqāla fī ‘l-mīzān un traité sur la théorie du levier attribué à Euclide.” Majallat kulliyyat al-ādāb wa ‘l-ʿulūm al-insāniyya bi-Fās (Fez) N° 13, 2004: pp. 153-193 ; “Latradition arabe de Maqāla fī al-mīzān un traité sur la théorie du levier attribué à Euclide”. In: Ayené-ye Miras (Miror of Heritage). Quarterly Journal of Book Review, Bibliography and Text Information (Tehran), New series, vol. 4, issue 4 (N° 35), Winter 2007, pp. 67-104.

[8]دافع عن هذه الأطروحة المثيرة أولا الألماني مارتين كلامروث (1855-1890) وطوَّرها لاحقا مؤرخ الرياضيات الإغريقية الأمريكي ويلبور نور (1945-1997). أنظر:

Martin Klamroth, “Über den arabischen  Euklid”, Zeitschrift der Deutschen Morgenländischen Gesellschaft, vol. 35 (1881): pp. 270-326 (online at : https://menadoc.bibliothek.uni-halle.de/dmg/periodical/titleinfo/48075); Wilbur R. Knorr, “On Heiberg’s Euclid”, Science in Context(Cambridge University Press, double special issue edited by M. Abattouy, Jürgen Renn and Paul Weinig), vol. 14 (2001): pp 133-143. Onlineat:

https://www.cambridge.org/core/journals/science-in-context/issue/journal-sic-volume-14-issue-1-2/C4B01E477532E6EB5D49063868BD5B1A).

[9]بنو موسى بن شاكر، مقدمات كتاب المخروطات، في:

Apollonius, Les Coniques, tome 1.1, Livre I. Commentaire historique et mathématique, édition et traduction par Roshdi Rashed (Berlin: De Gruyter, 2008), pp. 500-533.

[10]Henry George Liddell, Robert Scott,A Greek-English Lexicon, revised and augmented (Oxford :Clarendon Press, 1940). Online at : https://www.perseus.tufts.edu/hopper/text?doc=Perseus:text:1999.04.0057:entry=fu/sis.

[11] Ahmad Y. al-Hassan, “The Crank-Connecting Rod System in a Continuously Rotating Machine”, online at : http://www.history-science-technology.com/notes/notes3.html; M. Abattouy, “La pompe hydraulique d’al-Jazarī (début du XIIIe siècle)”, Les découvertes en pays d’Islam (Paris: Editions Le Pommier, 2009), pp. 130-135.

[12] M. Abattouy, “The Corpus of Mechanics of Al-Isfizārī: Its Structure and Signification in the Context of Arabic Mechanics.” In: Micrologus: Nature, Sciences and Medieval Societies (Florence, Sismel-Edizioni del Galluzzo), N° 24, 2016, (special issue of “Micrologus’ Conferences”: The Impact of Arabic Sciences in Europe and Asia, pp. pp. 121-172. Online at :

https://www.academia.edu/37578585/_The_Corpus_of_Mechanics_of_Al_Isfiz%C4%81r%C4%AB_Its_Structure_and_Significance_in_the_Context_of_Arabic_Mechanics_In_Micrologus_N_24_2016_pp_121_172_ISBN_978_88_8450_686_3.

[13] Dag Nikolaus Hasse, Success and Suppression : Arabic Sciences and Philosophy in the Renaissance (Cambridge, Ma. : Harvard University Press, 2016).

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق