مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

تاريخ علم الفلك بالغرب الإسلامي

 

تقديم: عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

   صدر لمؤرخ العلوم الإسباني د. خوليو سامسوJulio Samsó سنة 2020 عن دار النشر بريل Brill كتاب يقع في ما يقارب 1028 صفحة، ويحمل هذا الكتاب العنوان التالي :”على جانبي مضيق جبل طارق: دراسات في تاريخ علم الفلك بالأندلس والمغرب”[1].يمثل هذا العمل العلمي خلاصة تجربة مديدة راكمها هذا المؤرخ على امتداد سنين طوال، وقد تركزت أغلب مجهودات الأستاذ خوليو سامسو على تاريخ علم الفلك في الحضارة العربية الإسلامية، خصوصا بمنقطة الغرب الإسلامي،إضافة إلى امتدادات هذا المبحث داخل شبه الجزيرة الأيبيرية بعد انقضاء الفترة العربية الإسلامية، كارتباطاته (أي مبحث علم الفلك)مثلا بالأعمال العلمية التي التي أنجزت بدعم وإشراف من الحاكم الإسباني ألفونسو العاشر الملقب بالحيكم el sabio.

   ألف الأستاذ سامسو العديد من الأعمال والدراسات المتعلقة بتاريخ العلوم في الحضارة العربية الإسلامية، وقد فاقت أعماله العلمية مئتي (200) عنوان بين كتب ومقالات باللغة الإسبانية والإنجليزية والفرنسية.[2] لكن، لم تعرف منها – حسب علمنا- إلا أربع مقالات تقريبا طريقها إلى الترجمة العربية للأسف الشديد. فاز ببعض الجوائز التقديرية عن جل مجهوداته في تاريخ العلوم، منها مثلا ميدالية ألكسندر كويري لتاريخ العلوم سنة 1995، وهي من أهم وأرقى الجوائز المخصصة لتاريخ العلوم. كما أسس مجلة “سهيل” المتخصصة في تاريخ العلوم العربية، وتُعد هذه المجلة حاليا ومجلة العلوم والفلسفة العربية التي تصدر من أوكسفورد[3] أهم مجلتين متخصصتين في تاريخ العلوم العربية على المستوى العالمي.

   يقع هذا الكتاب، كما أشرنا سالفا، في ما يقارب 1028 صفحة، ويرجع في أساسه إلى فكرة جوهرية بدأت تتشكل في ذهن المؤلف منذ مدة طويلة، ستتأكد هذه الفكرة لدى المؤلف بعد قيامه بالعديد من الأبحاث والقراءات لبعض الترجمات اللاتينية والقشتالية (الإسبانية) لنصوص في علم الفلك، وقراءته كذلك لبعض الدراسات والأبحاث العلمية المعاصرة لمؤرخي علوم كمياس Millás وغولدشتاينGoldstein وشاباسChabás. مفاد هذه الفكرة هو وجود تقليد علمي فلكي في منطقة شبه الجزيرة الأيبيرية والمغرب، يقول المؤلف: “لقد توصلت أخيرا إلى خلاصة مفادها أنه كان هناك تقليد فلكي مشترك كُتب بالعربية واللاتينية والعبرية من طرف [علماء] مسلمين ويهود ومسيحيين بشبه الجزيرة الأيبيرية والمغرب، أي على جانبي مضيق جبل طارق“.[4] يشير المؤلف بد ذلك أن ظروف والتزامات العمل بجامعة برشلونة لم تتح له إمكانية لإنجاز هذا العمل، ولن يتأتى له ذلك إلا بعد أن تقاعد ليتفرغ لإنجازه في مدة ناهزت سبع سنين.

يمثل هذا العمل إنجازا فريدا في عملية التأريخ للأنشطة الفلكية بمنطقة الغرب الإسلامي وامتداد هذه الأنشطة بشيه الجزيرة الأيبيرية بعد انقضاء الفترة العربية-الإسلامية بالأندلس. إذ رغم وجود أعمال علمية مميزة أنجزها بعض الباحثين حول هذه الأنشطة، سواء كانت كتبا عامة أو مونوغرافيات خاصة، إلا أننا لا نعلم وجود كتاب آخر عالج هذا الموضوع بهذا الحجم وبهذا التفصيل الدقيق، ناهيك عن انفتاح مؤلفه على مصادر ومراجع متنوعة وغنية، حيث استثمر العديد من الدراسات المنجزة إلى حدود تلك اللحظة واستفاد كذلك من أبحاثه الخاصة وتجربته العلمية الرصينة التي راكمها مدة غير يسيرة من الزمن. كما حرص المؤلف كذلك على تزويد النص بالعديد من المعطيات العلمية المهمة، من قبيل أشكال للهيئات الفلكية وصور لبعض الآلات وكذا أزياج فلكية وجداول مقارنة تضم العديد من القيم التي أعطاها بعض الفلكيين لبعض الكواكب…

   ليس من اليسير فعلا تقديم كتاب يتميز بهذه السعة والدقة، لذا فقد ارتأينا في هذا التقديم المتواضع أن نعتمد بشكل أساسي على التلخيص الدقيقالذي قدمه المؤلف نفسه لأبواب الكتاب في الصفحات XIV-XV. لذا فإن أهم، أو جل، المعطيات والمعلومات الواردة في ما يلي هي أشبه بترجمة بنوع من التصرف في ما ورد في تقديم وتلخيص المؤلف نفسه.

   يبدأ الباحث كتابه بوضع جرد زمني موجز يعتبره خلاصة لمجمل الكتاب، كما يتطرق كذلك في هذه الخطوط العامة أو الموجز التاريخي لبسط وجهة نظره الخاصة فيما يتعلق بالدور الذي لعبته الأندلس في انتقال العلوم العربية إلى أوروبا،مبرزا السبب الذي دفعه للقول أن المصادر العلمية العربية التي أنتجت في المشرق الإسلامي ابتداء من القرن الحادي عشر الميلاديلم تصل إلى الأندلس إلا في حالات نادرة، في حين انتقلت هذه المصادر العربية إلى أوروبا انطلاقا من المشرق الإسلامي وليس عن من الأندلس.

   أما الباب الثاني والثالث من الكتاب فهو مخصص للجوانب التطبيقية من علم الفلك، كما يبحث في الأسباب والدواعي التي أدت إلى الاهتمام بهذا العلم وازدهاره في العصور الوسطى. ويجمل المؤلف هذه الدواعي في كون هذا المبحث كان يتيح للمجتمعات – بما فيها المجتمع الإسلامي – مجموعة من المزايا والخدمات المتصلة بشكل مباشر بالحياة اليومية والدينية لهذا المجتمع، منها مثلا ضبط أوقات العبادات كأوقات الصلاة ووقت دخول رمضان، ومنها أيضا تحديد اتجاه القبلة في العديد من المدن الإسلامية التي كانت تمتد على رقعة جغرافية جد  شاسعة. كما لا يخفى أن علم الفلك كان مرتبطا بـ”علم التنجيم” الذي كان يلقى رواجا لدى بعض العامة وحتى لدى بعض النخب السياسية، إذ كان هؤلاء وأولئك يطعمون في التنبؤ ببعض من أمور المستقبل، وهذا ما كان يعدهم به المنجمون أو “علماء التنجيم”. ويفسر هذا من جهة أخرى دعم بعض الخلفاء لعلم الفلك، إذ لم يكن في مستطاع “علماء التنجيم” أن يقوموا بما كانوا يقومون به دون توفرهم على بعض الأدوات الأساسية، كبعض الحسابات الفلكية أو الأزياج (جداول فلكية)… ولا يمكن أن يوفر هذه الأمور إلا علم الفلك، ومن هنا يمكن فهم أحد أسباب دعم بعض الخلفاء لهذا العلم.

   يخصص المؤلف الباب الرابع للآلات الفلكية التي حظيت بعناية كبيرة من لدن علماء الفلك بالغرب  الإسلامي، كما سيدخلون عليها العديد التحسينات، خصوصا على مستوى التصميم. وفرت هذه الأدوات والآلات الفلكية خدمات مهمة لهؤلاء العلماء، من أهمها أنها أعفتهم من إجراء العديد من الحسابات المعقدة في سبيل الحصول على نتائج تقريبية لحركة الشمس وحركات الكواكب الثابتة وكذا حساب مواقع الكواكب بالنسبة لخط الاستواء. كما أشرنا أعلاه بخصوص الارتباط الوثيق بين علم الفلك وعلم التنجيم واستفادة الثاني من الأول، فإن هذه الأدوات الفلكية ستخدم علماء التنجيم أنفسهم من خلال تحسين المعايير التي اعتمدوها في بعض عملياتهم التنجيمية.

   يتطرق الباب الخامس من الكتاب إلى جزء من علم الفلك لا يقل أهمية عن سابقيه، وهو ما يسمى لدى علماء الفلك العرب والمسلمين بـ”علم الهيئة”، أي علم هيئة العالم، أو بتعبير آخر، علم الكوسمولوجيا. ويبدو أن هذا الجزء كان أقل تقدما في الغرب الإسلامي إذا قيس بالإنجازات المهمة التي سيعرفها المشرق الإسلامي على يد علماء مرصد مراغة أو على يد مؤقت المسجد الأموي بدمشق العالم الفلكي ابن الشاطر. يمكن القول إجمالا أن البطروجي (القرن 12م) هو الفلكي الوحيد بالغرب الإسلامي الذي حاول تجاوزالنموذج الفلكي البطلميوسي من خلال تقديمه لوصف للكون يتفق مع المبادئ والنظريات الخاصة بالفيزياء الأرسطية أو الأفلاطونية المحدثة. لكنه لم يوفق في ذلك وباءت محاولته بالفشل. ويمكن اعتبار ما قام به العالم اليهودي يوسف بن نحمياسJoseph ibn Naḥmias (القرن 15م تقريبا) في كتابه “نور العالم”الذي كتبه باللغة العربية، أكثر المحاولات جدية لتجاوز نواقص وعيوب التصور الكوسومولوجي الذي قدمه البطروجي.

   أما الباب السادس المخصص لعلم الفلك النظري والباب السابع الخاص بالأزياج فيشكلان، في نظر المؤلف، النواة الأساسية للكتاب كله. يتطرق الفصل السادس إلى التجديدات التي أدخلها الفلكي الأندلسي الزرقالي أو الزرقالة على علم الفلك البطلميوسي. هذه التجديدات التي سيعتمدها فيما بعد علماء الفلك بالغرب الإسلامي وسيضمنونها أزياجهم الفلكية. كما يلاحظ أيضا تأثير نظريات الزرقالي الفكلية حتى لدى بعض علماء الفلك المسيحيين واليهود الذين أنجزوا أعمالهم في ظل الحكم المسيحي لشبه الجزيرة الأيبيرية. ولا شك في أن هذا الأمر يقوم مقام دليل مهم على وجود تقليد علمي فلكي مشترك انتشر على “طرفي مضيق جبل طارق”.

   يعتبر الباب السابع  بمثابة عملية جرد أو فحص شاملة للجداول الفلكية (الأزياج) التي أنتجت وانتشرت بهذه المنطقة خلال الفترة الممتدة من القرن 10م إلى القرن 15م.من الملاحظ أن هذا التقليد الفلكي-التنجيمي الذي ساد هذه المنطقة كان إلى حدود القرن 12م يقوم أساسا على حساب مواقع الكواكب اعتمادا على ما ورد في زيج الخوارزمي. لكن،سيعمل هذا التقليد ابتداء من القرن 12م على اعتماد الأزياج الفلكية التي وضعتها مدرسة البتاني، وهي أزياج كانت موجودة ومعروفة بالأندلس منذ القرن 10م.سيستمر هذا الأمر مع فلكيين يهود كأبرهام بن عزرا وغيره، ويبدو هذا واضحا في أزياج ألفونسوAlfonsine Tables، التي أنجزها فلكيون يهود للملك ألفونسو العاشر، وفي أزياج برشلونة. كما سيتأكد الأمر بقوة خلال القرن 15م ضمن ما يسمى بـZacut’salmanacs، وهي عبارة عن أزياج فلكية أنجزها الفلكي اليهودي Abraham Zacutoالمولود بمدينة سلامانكاوالمتوفى حوالي 1510م.

   نفس الأمر سيحدث بالمغرب لكن بشكل مستقل. ويرجع تخلي علماء الفلك المغاربة عن نظريات الزرقاليالفلكية إلى عدة اسباب، لعل أهمها أنهم استنتجوا بعد عمليات الرصد المختلفة التي قاموا بها أن القدرة التنبؤية (أي معرفة المواقع التي سيتخذها كوكب ما من خلال حسابات معينة) لنظريات الزرقالي الفلكية فقدت قدرتها، حيث لا حظوا وجود فوارق واختلافات كبيرة بين ما تقدمه العمليات الحسابية وبين مواقع الكواكب التي تم رصدها. فما كان منهم إلا أن طرحوا التقليد الأندلسي-المغربي ليعتمدوا بدل ذلك على الأزياج الفلكية التي أنجزت في المشرق الإسلامي.

لا ريب في أن كل هذه المعطيات تشير، أو بالأحرى، تؤكد وجود تقليد علمي فلكي مشترك بهذه المنطقة. وهذه الفكرة بالذات، هي مدار الكتاب كله وقطب رحاه.

[1]– Julio Samsó, On Both Sides of the Strait of Gibraltar: Studies in the History of Medieval Astronomy in the Iberian Peninsula and the Maghrib, Brill, 2020. 1028 pages.

– أتقدم بجزيل الشكر لمؤرخ العلوم د. خوليو سامسو على مدي بنسخة من هذا الكتاب العلمي المميز.

[2]– يُنظر بخصوص مجمل أعماله سيرته العلمية المنشورة على الرابط التالي:

http://www.ub.edu/arab/cv/Julio%20Samso%20cv.pdf

[3]– Arabic Sciences and Philosophy : A Historical Journal, CAMBRIDGE University Press.

[4]– ص. XIV

Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق