وحدة الإحياءدراسات محكمةمفاهيم

قراءة سيميو لسانية لسورة القدر

أود في البداية أن أمهد لهذه المقاربة بمدخل منهجي حتى نكون على بينة من الأمر. فماذا نعني بالقراءة؟ وماذا نعني بالسيميولسانية؟

القراءة في حقيقتها هي نشاط فكري لغوي ذاتي يمارسه القارئ حول نص ما موضوعي، ويعتبر (رولان بارت) القراءة “رغبة تستهدف إقامة علاقة مع النص” فكل قارئ ينطلق من ثقافته الذاتية أثناء قراءته، ومن هنا “تختلف قراءة النص الواحد مع كل قراءة، وبين قارئ وآخر، بل وتختلف عند القارئ نفسه باختلاف أحواله وأطواره” وهذا ما يعلل تعدد تفاسير القرءان الكريم، حتى قال بعض علماء التفسير: “لا يفقه المرء حتى يرى القرءان وجوها” فكل يقرأه حسب ما رزقه الله، تعالى، من قدرة على الفهم والتأويل، وكلما تطورت وسائل القراءة عند القارئ اكتشف معاني ولطائف جديدة تزكي صدق المعجزة القرءانية وحقيقة الرسالة المحمدية. وما قراءتنا هذه سوى محاولة في هذا الصدد تقف بنا منبهرين خاشعين أمام معزة النص القرءاني.

والقراءة أنواع متعددة، فهناك قراءة الشرح التي تكتفي بالشرح المعجمي، وقراءة التفسير التي تحلل النص في إطار السياق العام، وقراءة التأويل، وهذه قراءة إبداعية يطغى فيها عنصر الذات. كما أن هناك المتعة وقراءة المنفعة، وغير ذلك من أنواع القراءات…

وعموما يمكن تقسيم القراءة إلى قسمين: قراءة أفقية سطحية تكتفي بظاهر النص، وقراءة عمودية تأملية تغوص في باطنه، وفي تصورنا أن القراءتين معا ضروريتان ومتكاملتان؛ إذ لابد من قراءة أفقية أولية ثم قراءة ثانية عمودية تنفذ إلى أعماق النص وتسبر أغواره؛ لأنه لا يمكننا أن نصل إلى البنية العميقة دون المرور من البنية السطحية، وهذا النوع من القراءة هو الذي سنتبناه في قراءتنا لهذه السورة الكريمة بحول الله.

أما السيميولسانية فلقد كتب عنها الكثير وتضاربت حولها الآراء والمفاهيم، ونعني بها، بكل بساطة، منهجا مركبا من السيميائيات واللسانيات، فهو يعنى أكثر ما يعنى بنصوصية النص وبنيته الداخلية والعلاقات التي تربط بين بنياتها وتحقق انسجامه، غير انه لا يغفل دور السياق العام للنص، ثم إنه يوظف كل العمليات الإجرائية السيميائية واللسانية التي قد تفيد في تحليل النص وتأويله. ويجعل المكونات التركيبية في النص بمثابة سمات تؤثر على دلالات معينة من اجل تحقيق مقاصد تداولية.

ويقودنا هذا التصور إلى تقسيم النص إلى مستويات دلائلية ثلاثة هي:

ـ المستوى التركيبي؛ ويهتم بعلاقة الدوالي ببعضها.

ـ المستوى الدلالي؛ ويهتم بعلاقة الدال بالمدلول.

ـ المستوى التداولي؛ ويهتم بعلاقة الأدلة بمستعمليها.

ثم العمل على تحديد مكونات كل مستوى وتحليلها وإبراز العلاقات الداخلية فيما بينها، وكذا الكشف عن مدى تعالق هذه المستويات: الثلاثة، وعن درجة تناميها بصورة دينامية حول نواة النص، فبقدر حصول هذه الدينامية تتحقق جمالية النص ويؤدي مقصديته المنشودة سواء أكان إفصاحيا أو إقناعيا أو تواصليا.

وتختلف طبيعة هذه المستويات باختلاف طبيعة النصوص وجنسها الأدبي وعموما فإن هنالك نوعين أساسيين:

  1. نصوص أبدية فنية تعنى بالشكل وتتسم بتحرر الدوالي وبالانزياحات والتوازيات…
  2. نصوص طبيعية عادية تعنى بالمضمون ولا تحفل بشيء مما سبق وإنما غايتها تحقيق التواصل لا غير.

ومعلوم أن النص القرءاني هو من نوع مركب، أي فني لما يحتوي عليه من عناصر فنية بلاغية، وتواصلي في نفس الوقت لأنه يقصد إلى التوجيه والإرشاد، أو بالأحرى إنه يوظف العناصر الفنية من اجل تحقيق أغراض تواصلية، وهذا ما سنكشف عنه بعد حين.

وتبقى عملية لا بد من الإشارة إلى مكوناتها ومبررا ت توظيفها لأننا سنعتمدها في قراءتنا كما سبق ذكره، فيحددها (بروان ويول) فيما يلي: (المتكلم، المخاطب، الرسالة، الزمان، المكان، نوع الرسالة). وأما المبررات فإنها لا تخفى على كل ذي عين بصيرة، إذ “كلما توفر القارئ على معلومات عن هذه المكونات تكون أمامه حظوظ قوية لفهم الرسالة وتأويلها، أي وضعها في سياق معين من اجل أن يكون لها معنى “كما يكون تأويله بعيدا عن الشطط والزلل وقريبا إلى جادة الصواب. ولقد تنبه علماؤنا الأفاضل منذ زمن بعيد إلى أهمية معرفة السياق لفهم النص، فكانوا يمهدون لكتاباتهم بذكر بعض الظروف المحيطة بها، كما أنهم جعلوا أسباب النزول” علما أساسيا ضمن علوم القرءان.

بعد أن تعرفنا على المنهاج الذي سنعتمده يمكننا الآن أن نتعاقد عليه ونقوم بعملية القراءة مبتدئين بعرض بعض المكونات السياقية لهذه السورة الكريمة ثم نقرأها قراءة أفقية، وبعد ذلك ننتقل إلى القراءة العمودية.

بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر: 1-5).

سورة القدر سورة مكية ومما ورد في سبب نزولها: أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذكر يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين، وهم: (أيوب وزكرياء، وحرقيل، ويوشع) فعجب أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من ذلك، فاتاه جبريل، عليه السلام، فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله خيرا من ذلك، فقرأ عليه سورة القدر فسر بذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم، والناس معه. ولقد رويت كثيرا من الأحاديث الشريفة حول هذه السورة الكريمة تتعلق بسبب نزولها، وبفضائلها التي لا تعد ولا تحصى، ومما جاء في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر”.

ويتجلى من خلال السياق انه لهذه السورة مكانة خاصة بين سور القرءان الكريم وأهمية بالغة لدى المسلمين لأنها تتحدث عن ليلة القدر، الليلة العظيمة التي أنزل فيها القرءان الكريم والتي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.

وتتكون هذه السورة من خمس آيات: الآية الأولى يخبرنا الله، سبحانه وتعالى، فيها انه أنزل القرءان الكريم في ليلة مباركة من شهر رمضان المعظم هي ليلة القدر، نستفيد هذا المعنى من الآية الكريمة ومن آيتين أخريين هما قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ وقوله عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ﴾. (أما طريقة نزول القرءان الكريم فلقد بينها الصحابي الجليل ابن عباس، رضي الله عنه، حيث قال: “أنزل الله القرءان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، ومعنى ليلة القدر، ليلة تقدير الأمور وقضائها، وقيل سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الشهور. والآية الثانية: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾؛ يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها. ومعنى الآية الثالثة: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ أي أن عملها وصيامها وقيامها خر من ألف شهر، ومعنى قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ  أَمْرٍ﴾؛ أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، و(الروح) المراد به هنا جبريل، عليه السلام، وقيل هم ضرب من الملائكة ينزلون من سدرة المنتهى صحبة جبريل إلى الأرض،بعد أن يأذن الله لهم ويدعون للمؤمنين والمؤمنات بالرحمة والمغفرة. ومعنى “من كل أمر“؛ أي تقدر فيها الأمور، لقوله تعالى في أية أخرى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، فيكون المعنى آنذاك: (من أجل كل إنسان)، وروى ابن جرير عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه كان يقرأ: (من كل امرئ). وأما الآية الأخيرة: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾. فلقد قيل في شأنها أن الملائكة تسلم فيها على المؤمنين، وقيل أيضا يعني أنها ساعة من الشهر لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو أذى، ومن معاني السلام الأمان والاطمئنان والخير العميم.

ولعل أول ما ينبغي أن نبدأ به بالنسبة للقراءة الثانية العمودية هو تحديد الموضوع المهيمن، فهو بمثابة المفتاح الذي سيساعدنا على ولوج عالم النص، ويتجلى من خلال القراءة الأولى أن الموضوع المهيمن في هذه السورة هو (ليلة القدر)، نستخلص هذا من خلال عنوان السورة، فالعنوان عادة يكون اسما على مسمى ويعرب بدقة وتحديد عن فحوى النص، والغرض المقصود منه، والسورة، كما هو معلوم، معنونة بسورة القدر. كما أن ليلة القدر” تكررت خمس مرات: ثلاثا بكيفية صريحة، واثنتين بصورة مضمرة، ومعنى هذا أن القضية قضية ليلة القدر فهي المحور الذي تقوم عليه دينامية النص.

أما بناء النص فمنسجم جدا، إذ كل آية تؤدي إلى أخرى وتتنامى فيما بينها لتخدم الغرض المقصود. ويمكن اعتبار الآية الأولى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ بمثابة جملة الانطلاق. حيث إنها وردت في بداية النص، ومنها تنطلق الجمل التالية، وجملة المنطلق هذه تعادل المطلع في القصيدة الشعرية من حيث العناية بها لتكون مؤثرة وجذابة ومحفزة على تتبع ومواصلة التلقي، وهي هنا مكثفة بكثير من الدلالات المحفزة، فهناك الذات الإلهية (إنا) وهناك الحدث العظيم (التنزيل) وهناك الموضوع القيم (القرءان) وهناك الزمن الجليل (ليلة القدر) أما الآية الثانية ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾؛ فهي جملة القنطره؛ إذ بواسطتها يعبر المتلقي من جملة المنطلق إلى جملة المحور، فالاستفهام هنا يغري المتلقي بالعبور إلى الآية المقبلة  لمعرفة الجواب، ويرد الجواب في الآية الثالثة ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، وهذه هي الجملة المحورية في النص، يؤشر على ذلك كونها الجواب المتطلع إليه والموضوع المبحوث عنه، ويزكي ما ورد في النص الخبر الوارد في السياق ففضلها يفوق فضل ألف شهر، وبهذا يغنم المسلمون في ليلة واحدة ما غنمه الإسرائليون الأربعة في ثمانين عاما، ويؤشر عليها أيضا على مستوى التركيب توسطها في السورة من حيث الترتيب وتوجه كل الإحالات إليها سواء من الأمام بواسطة إحالة الضمير (فيها، هي)، كما أن “ليلة القدر” تصدرت جملة المحور بخلاف الجمل الأخرى، وهي الليلة المنبورة المستهدفة إذ أعرب عن قيمتها بصورة مادية فهي خير من ألف شهر.

أما الآية الرابعة ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾؛ فهي الجملة المقوية التي تقوي جملة المحور وتعضها، حيث تنزل الملائكة التي تقدر الأمور بما فيها من ثواب وعقاب، وبذلك يحصل المؤمنون على الفضل الذي ورد في جملة المحور، كما أن نزول الملائكة يزيد الليلة فضلا وتعظيما، وكل هذا تقوية وتعضيد للجملة السابقة. أما الآية الخامسة ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؛ فهي جملة الختام تلخص ما سبق من فضل، وتعرب عن المقصود وتودع المتلقي، فليست هذه الليلة سوى خير عميم وسلام من رب رحيم، ومما يؤشر على الختام، بالإضافة إلى موقعها في السورة، كلمة “سلام” وعبارة “مطلع الفجر” فكل من السلام وطلوع الفجر يوحيان بالختام والانتهاء.

بعد توضيحنا لبناء السورة الكريمة ننتقل إلى تحليل مستوياتها الدلائلية، ولنبدأ بالمستوى التركيبي بمعناه العام؛ أي (الصوت والمعجم والنحو والبلاغة).

  1. الصوت: يلاحظ أن الأصوات المهيمنة على السورة هي الأصوات المجهورة المفخمة القوية، سواء على مستوى الحروف أو المقاطع أو النبر أو التنغيم. فالحروف التي تتكرر أكثر هي حروف مجهورة: (الهمزة، اللام، القاف، الدال، الراء…)، والمقاطع في معظمها إما مقفلة أو ممدودة (إنا، أن، زل، نا، في، لي، قدر…) وفي كلتا الحالتين تؤشر على القوة، وكذلك النبر فقد ورد قويا أيضا، ويطالع المتلقي منذ الآية الأولى (إنا) كما أنه يتكرر بتكرار الفواصل، وبقوة شديدة على وزن (فعل): (… ليلة القدر،… ليلة القدر…) ألف شهر،… كل أمر،… مطلع الفجر) وروي السجعات الذي هو حرف “الراء” (حرف تكراري مجهور) قوي أيضا. ومن حيث التنغيم تبدأ السورة الكريمة بنغمة قوية صاعدة لتلائم عظمة الله وجلال الحدث ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ثم تنزل النغمة بعض الشيء إثارة الانتباه المخاطب ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ ثم يعقب نغم منبور مفاجئ يلائم الجواب المنتظر، ومتقطع مسترسل ساير عملية عد الثواب والجزاء ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. ويبقى النغم قويا في الآية الرابعة لكنه ينزل قليلا عن المستوى الأول ليتناسب مع عملية نزول الملائكة عليهم أزكى السلام ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾.

 أما في الآية الختامية فنشعر بهبوط النغمة ورقة الأصوات حيث تكثر الحروف المهموسة الرقيقة: (السين، الهاء، الحاء، التاء، الفاء) حتى تتلائم مع حصول السلام والرحمن: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾. وهكذا تنتهي السورة بنغمة هابطة بعد أن بدأت بنغمة صاعدة لتواكب النغمات عملية نزول الملائكة من سدرة المنتهى إلى كوكب الأرض في وتيرة واحدة هي وتيرة الجلال، كما يتجلى من خلال توالي الفواصل المنبورة على وزن (فعل).

  1. المعجم: يتكون معجم النص من ثلاث حقول:

أ. حقل الذوات: يتضمن الله، الرسول، الملائكة، المؤملين، (القرءان الكريم كذات شيئية).

ب.حقل الأحداث: نزول القرءان الكريم، نزولا لملائكة والروح، تقدير الأمور وقضائها، السلام والدعاء للمؤمنين.

ج. حقل الزمن: ليلة القدر، ألف شهر، مطلع الفجر. وكل هذه الحقول المعجمية توحي بالجلال ويغلب عليها الجانب القدسي الروحي. وتترابط هذه الحقول بعلاقات روحية هي:

ـ علاقة القدرة: الله- القرءان والملائكة.

ـ علاقة الرحمة: الله – الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأمته.

ـ علاقة الدعاء: الملائكة – المؤمنون .

والملاحظ أن كل تركيب يتكون في وحدتين معجميتين، وتقوي الوحدة الأولى الوحدة الثانية.

ـ فالله ينزل القرءان الكريم: (إنا أنزلناه).

ـ والرسول يتطلع إلى الإدراك: (وما أدراك).

ـ والليلة مخصصة بالقدر: (ليلة القدر).

ـ والشهر يتكرر ألف مرة: (ألف شهر).

ـ والملائكة يتصدرها الروح: (الملائكة والروح).

ـ والإذن يوجه من الرب: (بإذن ربهم).

ـ والفجر في وقت الطلوع: (مطلع الفجر).

هكذا تتقوى الوحدات المعجمية فتزداد فخامة وتعظيما وجلالا تناسبا مع عظمة هذه الليلة المباركة.

  1. النحو والبلاغة: يلاحظ أن السورة الكريمة كبنية تركيبية كبرى تتكون من خمس وحدات تركيبية صغرى تشكل كل واحدة آية:

ـ الآية الأولى: جملة اسمية تدل على الثبوت، وبما أن المسند فيها جملة فعلية فهي تدل على الحدوث أيضا، كما أنها جملة خبرية من النوع الطلبي لأنها مؤكدة بـ”إن” وهي مقيدة بمفعول ضمير “ﻫ” يعود على القرءان الكريم بقرينة السياق القرءاني العام، ومقيدة أيضا بجار ومجرور يفيدان الزمان، وبإفادة تفيد التخصيص، أما المسند إليه فورد في صورة ضمير “نا” عائد على اسم الجلالة، ولقد تكرر مرتين، وما نستخلصه من هذا النسق التركيبي هو ثبوت حكم حدوث إنزال القرءان الكريم إلى الله، سبحانه وتعالى، على وجه التوكيد والتعظيم والتخصيص.

ـ الآية الثانية: معطوفة على الآية الأولى برابط الواو، وهي جملة إنشائية استفهامية طلبية أيضا، خرجت عن معناها الأصلي إلى معنى آخر هو التعظيم والتشويق إلى التطلع لباقي الخبر، والحض على طلب المعرفة والإدراك.

ـ الآية الثالثة: جواب على الاستفهام الوارد في الآية السابقة فهي لا تحتاج إلى رابط، وهي جملة اسمية تدل على ثبوت الحكم، وخبرية ابتدائية لأنها موجهة إلى خالي الذهن، وهي مركبة من مفضل ومفضل عليه، فالعلاقة الداخلية بينهما تضامنية.

ـ الآية الرابعة: جملة فعلية، تدل على حدوث الفعل على وجه الكثرة كما تؤشر عليه التاء الزائدة والزاي المضعفة (تنزل)، ولقد ذكر فيها الخاص (الروح) بعد العام (الملائكة) تعظيما للخاص. والجملة خبرية ابتدائية كسابقتها موجهة أيضا لخالي الذهن، لأنها تعقيب على الخبر السابق، وهي مقيدة بقيود تخصيص عملية التنزيل من حيث الزمن (فيها)، ومن حيث الجهة (بإذن ربهم)، ومن حيث الموضوع (من كل أمر).

ـ أما الآية الخامسة: فهي جملة اسمية خبرية ابتدائية، قدم فيها المسند على المسند إليه للتعجيل بالمسرة فبدئ بالسلام وكذلك لإفادة حصر السلام على هذه الليلة المباركة، وقيد هذا الحصر بقيد زمني هو طلوع الفجر.

المستوى الدلالي: إن كل السمات التركيبية من (صوت ونحو ومعجم وبلاغة) تدل دلالة واضحة على إجلال وتعظيم (ليلة القدر)، فلقد حصل التعظيم على المستوى الصوتي من حيث هيمنة الأصوات القوية سواء على مستوى (الحروف أو المقاطع، أو النبر أو التنغيم)، وكذلك من خلال تكرار الفواصل على صيغة (فعل) وروي الراء، وعلى المستوى المعجمي باستعمال معجم فخم فلقد ذكرت ألفاظ جليلة: (الله، القرءان، القدر، ألف، الملائكة، الروح، الرب، الأمر، كل، سلام، الفجر) وكلها تنتمي إلى حقل روحي مقدس مفعم بالجلال، وعلى المستوى النحوي والبلاغي بالتركيز على الأركان من (مسند ومسند إليه) بدل القيود التي ليست إلا فضلات في الكلام، وباعتماد جمل اسمية وأخرى فعلية لإفادة ثبوت الحدوث، وبتعقيب الإنشاء على الخبر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ وبالإضافة إلى استعمالات بلاغية أخرى؛ كخروج الاستفهام عن مقتضى الظاهر، وذكر الخاص بعد العام وبالتكرار الذي حصل في (ليلة القدر)، وتوافق الفواصل، واستعمال أسلوب التفضيل، وأسلوب الحصر…

وهكذا يتجلى لنا أن التركيز في الدلالة وقع على تعظيم هذه الليلة المباركة وتفخيمها ووسمها بالجلال والتقديس. وهنالك عناصر أخرى ذات طابع سردي تؤكد هذه الدلالة نفسها، نعرضها فيما يأتي:

  1. الذوات: وأول ما يطالعنا منها (الله)، سبحانه وتعالى، بصورة مباشرة: (إنا)، ثم يتكرر (أنزلنا)، وإيراد اسم الجلالة بهذه الصورة المباشرة ثم تكراره بنفس الصورة ظاهرة جليلة تكفي وحدها للدلالة على عظمة هذه الليلة، ثم تلي ذات أخرى هي ذات الرسول، صلى الله عليه وسلم، كمخاطب: (وما إدراك)، ومعلوم أن الله، سبحانه وتعالى، عندما يوجه الخطاب إلى رسوله فكذلك يكون موجها إلى أمته أيضا من خلاله، وبعد ذلك نجد الملائكة يتصدرهم جبريل عليه السلام، وكل هذه الذوات جليلة وعظيمة، وهل يوجد اجل وأعظم من الله ورسوله عند المسلمين؟ والملاحظ أنها جميعا في حالة استنفار (إذا صح التعبير)، فالله تعالى ينزل القرءان الكريم ويأذن للملائكة بالنزول من سدرة المنتهى إلى الأرض، والرسول متشوق لإدراك فضل ليلة القدر، والملائكة تنفذ أوامر الله فتنزل إلى الأرض وتقدر أمور المؤمنين وتسلم عليهم.
  2. الأحداث: نلاحظ في السورة أحداثا جساما تصدر عن الله تعالى مباشرة، فحدث نزول القرءان الكريم مسند إلى الله عن طريق المتكلم، وحدث نزول الملائكة كذلك مرتبط بالله (بإذن ربهم)، وكذلك الشأن بالنسبة لحدث تقرير الأمور وتقديرها، ولو حصل حدث واحد من هذه الأحداث لكان كفيلا بجعل هذه الليلة عظيمة جدا، ولكن حصول هذه الأحداث الثلاثة دفعة واحدة يزيدها جلالا فوق جلال.
  3. الزمان: يمكن تقسيم الزمان في السورة الكريمة إلى زمانين: زمن مادي هو زمن العمل وتحصل فيه العبادة، وهو زمن قصير بحيث لا يتعدى ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان المعظم، وزمن معنوي روحي هو زمن الجزاء، يكافئ الله تعالى به عباده المؤملين وهو زمن مديد ينيف عن ألف شهر.
  4. المكان: تجري الأحداث بين مكانين: مكان روحي سماوي عال لا يعلم كنهه إلا الله، ومكان آخر مادي هو كوكب الأرض، والعلاقة بين المكانين علاقة نزول من فوق إلى أسفل: نزول القرءان – (كتاب الهدى)، ونزول الملائكة (رسل السلام).

وإنه لمر مروع أن يتكثف ألف شهر في ليلة واحدة، وان ينزل القرءان الكريم وتنزل الملائكة من سدرة المنتهى على الأرض في هذا الظرف الوجيز، وأن يتعالق الزمكان الروحي الأزلي الخالد بالزمكان المادي المحدود الفاني إنه لأمر جلل!

وما دامت كل هذه العناصر السردية متوفرة فلا بأس من توظيف العوامل السيميائية لتحليل البنية السردية للسورة الكريمة، ونعرض لها بالصورة الآتية:

  1. العامل الآمر          الله (سبحانه وتعالى).
  2. العامل المأمور           أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
  3. العامل الهدف           فضل ليلة القدر.
  4. العامل الذات          محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
  5. العامل المساعد           الملائكة والروح .
  6. العامل المعوق           الشياطين وإبليس

وتتصارع هذه العوامل فيما بينها لتكون النتيجة إما انتصار بالفوز بفضل ليلة القدر، أو انهزام بالحرمان من فضلها.

المستوى التداولي: وبعد: فمما لا شك فيه أن تلك المكونات التركيبية والبلاغية وما تؤشر عليه من دلالات الجلال، وهذه العناصر السردية وما تنطوي عليه من روعة فوق التصور البشري، كل هذه المكونات والعناصر جميعا لم ترد في هذه السورة الكريمة جزافا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما قصد بها إلى شيء بلغ الذروة في التعظيم، إنها عظمة هذه الليلة المباركة التي نزل فيها القرءان الكريم (كتاب الهدى) وتنزل فيها الملائكة لتقدر فيها أمور العباد، إنها عظمة الرحمة الربانية التي أنعم الله بها على عباده المؤمنين، والتي تتجسد في فضل ليلة القدر الذي يفوق فضل ألف شهر؛ أي (ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر) بمعدل عمر الإنسان في ليلة واحدة، وتصور إذا عبد الإنسان الله في هذه الليلة طيلة عمره كم سيتضاعف له من فضائل آلاف الشهور. هكذا يبدو جليا أن المستوى التركيبي يصب في المستوى الدلالي، كما أن هذا الخير يصب في المستوى التداولي، فلقد وضعت التراكيب بتلك الصورة الفخمة لتؤدي إلى دلالة تعظيم ليلة القدر، وتبيين فضائلها من اجل تشويق المؤمنين إليها وحثهم على التعب فيها واغتنام فضائلها. وكل آية من الآيات الكريمة توجه المتلقي نحو الغرض المقصود، ففي الآية الأولى وجه إليه الخطاب مؤكدا لأن المتلقي غافل عن عظمة هذه الليلة: (إنا أنزلناه…) وفي الآية الثانية وجه إدراكه إلى التطلع إليها: (وما أدراك)…)، ثم أغراه بفضلها على مستوى الكم: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ثم قوى الإغراء على مستوى الكيف إذ تنزل الملائكة لتقدر الأمور: (تنزل الملائكة… أما في الآية الأخيرة: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ فلقد استعجله لاغتنام فضلها حيث حصرها بطلوع الفجر، فعليه أن يبادر ويشمر ويشد المئزر قبل فوات الأوان كما كان يفعل الرسول، عليه أزكى السلام، وهذه المقصدية المنشودة في هذه السورة الكريمة وردت بصورة غير مباشرة، وإنما نستشفها من خلال البنية العميقة المتوارية خلف المكونات التركيبية وحمولاتها الدلالية، وورودها على هذه الصورة لطيفة من لطائف إعجاز القرآن الكريم، كما أن تنامي المكونات داخل كل مستوى وتمحور المستويات حول النواة جعل هذه السورة تتوفر على دينامية في منتهى الروعة من الهرمونية والانسجام، وهذه ظاهرة أخرى من مظاهر المعجزة القرآنية.

Science
الوسوم

د. عبد الواحد بنصبيح

المدرسة العليا للأساتذة-تطوان 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق