وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

 بعض مظاهر التسامح والتعايش بين المسلمين والمسيحيين في رحلة ابن جبير

الدكتور مصطفى مختار

باحث بمركز علم وعمران

الحلقة الأولى

شكلت رحلة محمد ابن جبير مظهرا من مظاهر السلام والتعايش بين المسلمين وأهل الكتاب بالرغم من نتائج الصراع الشهير خلال الحروب الصليبية ببلاد المشرق[1]. حيث قبل ابن جبير، بنوع من التسامح النسبي، وصف عرس وقداس مسيحيين شاهدهما عيانا. وبيّن، في جانب آخر، أشكال التعايش بين المسلمين والمسيحيين في أكثر من موطن. وأشار إلى حقوق المسلمين أقلية وأجانب داخل جزيرة صقلية، بحسب ما سنعرضه في ما يأتي.

وصف عرس مسيحي نوع من التسامح النسبي:

حضر محمد ابن جبير عرسا مسيحيا، بمدينة صور، خلال التواجد الصليبي بها، واصفا آلات الموسيقى والمدعوين إناثا وذكورا، متوقفا عند وصف لباس العروس وحليها وطريقة مشيها[2].

حضور قداس مسيحي نوع ثان من التسامح الديني:

حضر محمد ابن جبير أول شهر نونبر قداسا دينيا أقامه حجاج مسيحيون إلى بيت المقدس رافقوا المسلمين خلال رحلتهم البحرية من ميناء عكا[3]. حيث “كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتفلوا له في إسراج الشمع، وكاد لا يخلو أحد منهم، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، من شمعة في يده، وتقدم قسيسوهم للصلاة في المركب بهم، ثم قاموا واحدا واحدا لوعظهم وتذكيرهم بشرائع دينهم، والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجا متقدة، وتمادينا على تلك الحالة أكثر تلك الليلة“[4].

وإلى جانب مظهريْ التسامح الحضاري والديني التي أبان عنهما الفقيه محمد ابن جبير، وقف الرحالة نفسه على مظاهر أخرى للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في جزيرة صقلية خلال حكم وليام الثاني الملقب بالطيب.

التعايش بين المسلمين والمسيحيين في جزيرة صقلية:

شكل العاهل الصقلي غليام (وليام الثاني) ضامنا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في جزيرة صقلية. إذ “هو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم  في أحواله والمهم من أشغاله“[5].

ومن مظاهر التعايش تشبّهُ العاهل المسيحي المذكور “في الانغماس في نعيم  الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته بملوك المسلمين“[6].

ومن مظاهر التعايش بين المسلمين والمسيحيين وجود المساجد والكنائس لكلا الفريقين، بمدينة أطرانبش الصقلية [7]. ومنها إغضاء مسيحييها عن مسلميها خلال خروج هؤلاء إلى صلاة عيد الفطر. حيث “خرج أهل البلد إلى مصلاهم مع صاحب أحكامهم وانصرفوا بالطبول والبوقات، فعجبنا من ذلك ومن إغضاء النصارى لهم عليه“[8]. ومنها تكفل بعض مسلمي جزيرة صقلية بافتكاك الأسرى [9]، بوصف ذلك مظهرا من مظاهر التعايش والسلم والسلام.

ومن مظاهر التعايش الأخرى التشابه في الزّي النسوي، بمدينة بلارمة (بلرم). حيث “زيّ النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين: فصيحات الألسن، ملتحفات، منتقبات“[10].

ومن مظاهر التعايش المذكور، يبدو أن المسلمين والمسيحيين كانوا يستحمون ببعض الحمات والحمامات بمدينة أطرابنش الصقلية أو في الطريق إليها[11]. ولعل ذلك كان يتم بشكل منفصل.

يتبع        

الإحالات:

[1] راجع: حول نقل البحرية المسيحية لحجاج الغرب الإسلامي تأملات في رحلة ابن جبير، محمد الأمين البزاز، في: الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرون الوسطى، تنسيق: محمد حمام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات، رقم: 48، بدعم من مؤسسة كونراد أديناور، الرباط، الهلال العربية للطباعة والنشر، ط. الأولى، 1995 م، ص81- 82، وص83، وص84، الهامش رقم 8، وص85- 86، وص87، وص88- 89.

[2] رحلة ابن جبير وهي الرسالة المعروفة تحت اسم اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك، محمد ابن جبير، تقديم ووضع حواشي وتعليق: إبراهيم شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون لنشر كتب السنة والجماعة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. الأولى، 1424 هـ- 2003 م، ص237.

[3] انظر: رحلة ابن جبير، ص241. وراجع: حول نقل البحرية المسيحية لحجاج الغرب الإسلامي، ص89- 90.

[4] رحلة ابن جبير، ص242- 243. راجع: حول نقل البحرية المسيحية لحجاج الغرب الإسلامي، ص90.

[5] رحلة ابن جبير، ص251.

[6] نفسه.

[7] نفسه، ص259.

[8] نفسه، ص259- 260.

[9] انظر: رحلة ابن جبير، ص252، وص253، وص263.

[10] نفسه، ص257.

[11] نفسه، ص258.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق