مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

“المصادر الأولى للنقد والبلاغة “الدرس السابع

معنى الخطيب والخطبة عند الجاهليين:

الخطيب عند الجاهليين هو الذي يلقي الكلام أمام القوم. وفي «المفضليات» من  شعر عامر بن وهب المحاربي(ت: 86 ق ـ هـ) قوله:

وهُمْ يَدْعَمُونَ القومَ في كلِّ مَوْطِنٍ … بِكلِّ خَطِيبٍ يَتْرُكُ القومَ كُظَّمَا

والخطبة الكلام الذي يلقيه الخطيب أمام القوم. قال زهير بن جناب الكلبي(ت: 74 ق ـ هـ):

وَنَطَقتُ خُطبَةَ ماجِدٍ… غَيرَ الضَّعيفَةِ وَلا الْعَيِيَّهْ.

فهذا هو معنى الخطيب والخطبة عندهم. وإن كانوا استعملوا الخطيب أيضا بمعنى: المطلوب. وهو فعيل بمعنى مفعول. وبهذا المعنى وردت هذه الكلمة في شعر  الجميح الأسدي(ت: 53 ق ـ هـ) في قوله:

أَوْ لاخْتَطَبْتُ فإنِّي قد هَمَمْتُ به… بالسَّيفِ، إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ.

ولستَ تجد المصدر (الخطابة) عند الجاهليين. وهو ما توصل إليه الباحثون في المعجم التاريخي للغة العربية عند جردهم لهذه المادة. وإن كان هذا المعجم غير تام، فهو قابل أن يستدرك عليه. ذلك أنه يقف عند حدود أواخر القرن الثاني للهجرة. ولا شك أنه عند جرد الكتب التي كتبت بعد هذا العصر، سنقف على نصوص جاهلية وإسلامية كثيرة أغفلها الجرد الأول. ومن ذلك أننا نجد في كتاب “البيان” كلاما منسوبا إلى الكميت بن زيد الأسدي فيه ورود لمصطلح الخطابة، والكميت من رجالات القرنين الأول والثاني(60 ـ 126 هـ )، وذلك عندما قال، وقد أُنْشِدَ قولَ الطِّرِمَّاح:

إذا قُبِضَتْ نَفْسُ الطِّرِمَّاحِ أَخْلَقَتْ *** عُرَى الْمَجْدِ وَاسْتَرْخَى عِنَانُ القَصَائِدِ

ـ إي والله، وعِنَانَ الخطابة والرواية.

فهذا لا شك أنه سيُضَمُّ إلى مادة المعجم بعد ذلك.

      وأما ما نقله الشيخ محمد الخضر حسين عن “البيان” منسوبا إلى الكميت فخطأ بين. وذلك أنه نسب إليه أنه قال: “إنما يجترئ على الخطابة الغُمْرُ الجاهل، أو المطبوع الحاذق، الواثق بغزارته واقتداره”. فهذا من كلام الجاحظ. وإنما انتقل نظر الشيخ من قول الكميت: «إن للخطبة صَعْدَاءَ(أي : مشقة) وهي على ذي اللُّبِّ أَرْمَى» إلى تعليق الجاحظ: “ولم أر الكميتَ أَفْصَحَ عن هذا المعنى، ولا تَخَلَّصَ إلى خاصته. وإنما يجترئ على الخطبة الغِرُّ الجاهل”. (في تحقيق الدكتور عبد السلام هارون، رحمه الله تعالى، للكتاب: الغر، وفيما نقله الشيخ محمد الخضر حسين: الغُمْر. وهو الساذَج الذي ليس له تجربة).

       أنماط الخطب عند العرب وما يتصل بذلك من هيئات وشروط:

         ذكر الجاحظ من أنواع الخطب: خطبة النكاح، وخطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة التَّواهُب.

          وكان لبعض هذه الخطب هيئة خاصة. ففي خطبة النكاح، مثلا، كانوا يخطبون قعودا، فلا يرتقي الخطيب المنبر. وهذه الهيئة لها معنى، ولها تأثير. ولذلك عندما ذكر ابن المقفع قولَ عمر، رضي الله عنه: ما يَتَصَعَّدُنِي كلامٌ (أي: ما يشق علي كلام) كما تتصعدني خطبة النكاح. قال، فيما نقله عنه الجاحظ في البيان: “ما أعرفه إلا أن يكون أراد قُرْبَ الوجوه من الوجوه، ونظر الحِدَاقِ مِنْ قُرْبٍ في أجواف الحِدَاق، ولأنه إذا كان جالسا معهم كانوا كأنهم نُظَراء وأكفاء، فإذا علا المنبر صاروا سُوقَةً ورعية”.

        ومما يتعلق بالهيئات، أيضا، مدحهم الخطيب بجهارة الصوت، وما تعلق بذلك.

        ونظروا أيضا فيما بين الشعر والخطابة من علائق. فكرهوا، كما ذكر الجاحظ، استعمال الشعر في الخطبة، خاصة في الخطب الطوال.

          وهذه مسألة تذكرنا فيما بحث فيه بعض المناطقة من علاقة الشعر بالخطابة. فاعتبروا الخطابة قائمة على الأقاويل الإقناعية، والشعر قائما على الأقاويل التخييلية. ووضعوا سؤالا عن كَمِّ الأقاويل التخييلية التي يمكن استعمالها في الخطبة، وَكَمِّ الأقاويل الإقناعية التي يمكن استعمالها في الشعر.

          وتعلق بسؤال العلاقة بين الشعر والخطابة، عند الجاحظ وغيره، سؤال آخر هو: هل يمكن أن يكون الخطيب شاعرا والشاعر خطيبا؟

        فوجدوا أن هذا الأمر حاصل، واستشهدوا على حصوله بذكر جملة من الشعراء الخطباء. لعل أشهرهم البعيث الشاعر الذي كانوا يصفونه بأنه كان أخطب الناس.

        وقد ذكر الجاحظ من هؤلاء جماعة منهم: من الجاهليين: قُسُّ بن ساعدة، وممن بعدهم: عمران بن حِطَّان، والكميت بن زيد الأسدي، ونصر بن سيار، وبشار بن برد، وعمرو بن الأهتم، والعتابي، وعلي بن إبراهيم بن جبلة، وأعشى همْدان.

     وفي هذا دليل على أن الموهبة في الشعر لا تمنع أن يكون الشاعر خطيبا، فإنه قد يجمع الرجل بين الموهبتين، أو بين الملكتين.

     وللعرب عناية بالخطابة والخطيب، وإن كانت عنايتهم بالشعر أقوى، حتى ذكر أهل السيرة أن وفد بني تميم قَدَّمَ، في قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم، عُطارد بن حاجب خطيبا، والزبرقان بن بدر شاعرا. فأجابهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، وأجابهم عنه شعرا حسان بن ثابت. فقال قائلهم، وهو الأقرع بن حابس: تَعْلَمُنَّ، والله، إن هذا الرجل مؤيَّدٌ مصنوع له، وذكر علة ذلك فقال: والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا…

        فعنايتهم بالخطابة وانتباههم إلى قدرتها في التأثير كانت مسألة لا نشك فيها، ولا تحتاج إلى دليل. وآية ذلك أنهم كانوا يميزون رجلا معروفا بها لكي يكون خطيبا عنهم. وهذا عرفناه في مواطن شتى من السيرة، منها، مثلا، عند ذكرهم  قصة جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، مع النجاشي، إذ سألهم النجاشي في قصة طويلة، فقال: وأخبروني ما تقولون في عيسى بن مريم؟

قال أهل السير: وكان(أي: جعفر) خطيب القوم.

         ومنها، أيضا، ما ذكروه في قصة عبد الله بن أمية. وكان، قبل إسلامه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نؤمن لك حتى نرى لك بيتا من ذهب يُحْدِثُه لك ربك، أو ترقى في السماء، ثم لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتابٍ ونحن نراك، ونقرؤه لك…

        قال أهل السيرة، عند ذكر كلامه هذا: وكان خطيب القوم ومتكلمهم… وقد وردت هذه القصة في التفاسير، أيضا، وذلك في تفسير آيات من سورة الإسراء وذلك قوله تعالى: «وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء، كَمَا زَعَمْتَ، عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء، وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا» [الإسراء: 90-93].

 ومن المواطن التي وردت فيها عبارة: خطيب القوم، في كتب السيرة، حديثهم عن خطبة ثابت بن قيس بن شماس بين يدي النبي، صلى الله عليه وسلم، وقوله: ومن يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَد، ومَن يَعْصِهما فإنَّه لا يضُرُّ إلَّا نفْسَه، ولا يضُرُّ اللهَ شيئًا.

        إذ قال له سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: بئس خطيب القوم أنت.

       فقوله، صلى الله عليه وسلم: بئس خطيب القوم أنت، دال على أن خطيب القوم هذه كانت رتبة معروفة. وفي بعض ذلك قال البغدادي في الخزانة: وخطيب القوم هو المتكلم عنهم لكونه أفصحَ منهم، وأبلغ.

        ما المقصود بالخطابة عند أهل المنطق وما هو المقصود بها عند أهل البلاغة؟

يرى المناطقة أن الخطابة هي القياس المؤلَّف من أقوال مظنونة أو مقبولة.

 يقصدون بالأقوال المظنونة ما يؤخذ فيها بالمحتمِل الراجح، ويقصدون بالأقوال المقبولة ما تُتَلَقَّى ممن يُعتقَد صدقُه وسداد رأيه. ومن أراد الأمثلة على ذلك، فقد ذكر منها الشيخ ابن عاشور، رحمه الله تعالى، في الكتاب الذي أشرنا إليه في الدرس السابق: أصول الإنشاء والخطابة، أمثلة كافية.

ويُراد من الخطابة القوةُ الصانعة للأقوال المقنعة. ومعنى ذلك أن الخطابة قوة يطيق صاحبها إقناعَ المخاطبين في كل شيء يدعي أنه غرض صحيح.

 والإقناع تقوية الظن، وهو ما تعتمد عليه صناعة الخطابة، كما أشرنا إلى ذلك.

وأما أهل الأدب والبلاغة فيرون أنها التأثير بالبيان. وإن شئت فلك أن تقول: هي إلقاء الكلام المنثور، سجعا أو مرسلا، لاستمالة السامعين إلى رأي، أو ترغيبهم في عمل.

وعلاقة هذا التعريف بالتعريف الأول بينة، إذ مدار التعريفين على التأثير والاستمالة. وهو ما قد يُعَبَّرُ عنه بالقبض والبسط.

 ومن أدل الشواهد على ذلك في كتب الأدب ما ذكره الجاحظ عن مالك بن دينار،  أنه قال: “رأيت الحجاج يتكلم على منبره، ويذكر حسن صنيعه لأهل العراق، وسوءَ صنيعهم له، حتى إنه لَيُخَيَّلُ إلي أنه صادق مظلوم”.

فهذا فيه إشارة إلى هذا التأثير. وذلك أنه كاد أن يقتنع بأنه صادق مظلوم لقوة الإقناع في كلام الحجاج.

 

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق