مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

المصادر الأولى في النقد والبلاغة ” الدرس العاشر “

 

قال الجاحظ: «…ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه».

التنميق في اللغة معناه التحسين والتجويد. تقول: نمقتُ الكتاب تنميقا، إذا حَسَّنْتَهُ وَجَوَّدْتَهُ. و نَمَّقْتُ الشيءَ: جودته وزينته.

وشاهده القديم قول معود الحكماء (واسمه معاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب. لُقِّبَ بهذا اللقب لِبيت قاله. وهو أخو عامر بن مالك مُلاعبِ الأسِنَّة، وَعَمُّ لبيد بن ربيعة الشاعر) في شعر له:

فَإِنَّ لَهَا مَنَازِلَ خَاوِيَاتٍ  //// عَلَى نَمَلَى، وَقَفْتُ بِهَا الرِّكَابَا

مِنَ الأجْزَاعِ أسفلَ مِنْ نُمَيْلٍ  ////  كما رَجَّعْتَ بالقلمِ الكِتابا

كتابَ مُحَبِّرٍ هاجٍ بصيرٍ  ////   يُنَمِّقُهُ، وحَاذَرَ أنْ يُعَابَا

شبه في شعره هذا آثار ديار صاحبته بالكتابة المنمقة. وقد زعم «لويس شيخو» في كتاب: «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» أن البيت الأخير من هذه الأبيات فيه دليل على حديث الجاهليين عن نقش النصارى لكتبهم الدينية. وذلك على عادته في التوسع في مسألة النصرانية عند الجاهليين. وفي الحقيقة ليس في هذا البيت شيء مما قاله، وإنما فيه حديث عن الكتابة المنمقة لا غير.

فهو يقصد التزيين والتجويد والتحسين. وقد اجتمع في هذا الشاهد الكلمتان: التحبير والتنميق.

ـ  هل يمكن اعتبار “التنميق” مصطلحا بلاغيا أو نقديا؟

هذه مسألة لا يمكن القول بها، إذ ليس له غير هذا المعنى اللغوي الصرف. غير أن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور فعل ذلك، فجعل له معنى في مصطلحات البلاغة، وذلك في كتابه «أصول الإنشاء والخطابة»، في حديثه عن المعنى، حيث نقل عن الشريف الجرجاني تعريف المعنى المشهور عند البلاغيين، وهو كونه الصورة الذهنية من حيث تُقْصَدُ من اللفظ فهما أو إفهاما. أو إن شئت فهو التعبير باللفظ عما يتصوره الذهن. ثم قسم المعنى: بسيطا ومُكَيَّفاً.

 ويُفهم تعريف الجرجاني على وجهه الصحيح بإدراك مقصودهم من ترتب الدلالات. أي دلالة الخط على اللفظ، ثم دلالة اللفظ على الصورة الذهنية، ثم دلالة الصورة الذهنية على الأمر الخارجي. ولك إن شئت أن تبدأ بالرتبة الأولى، أو الدلالة الأولى، وهي دلالة الصورة الذهنية  على الأمر الخارجي، ثم دلالة اللفظ على الصورة الذهنية، وهو المعنى، ثم دلالة الخط على اللفظ.

  وهذا حديث كرر البلاغيون الكلام فيه، ومنهم صاحب “المنهاج” في قوله: “إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجودٌ خارج الذهن فإنه إذا أُدْرِكَ حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلةِ عن الإدراك أقام اللفظُ المعبَّرُ به هيئةَ تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم. فصار للمعنى وجودٌ آخر من جهة دلالة الألفاظ”.

قلت: لما تحدث الشيخ ابن عاشور عن المعنى قسمه إلى ما سماه بسيطا ومُكَيَّفاً.

وقصد بالبسيط الخالي عن التحسين، وسماه أيضا: الخاطر. وقسمه إلى قسمين: قسم مشهور، وقسم عزيز. وضرب للقسم المشهور مثلا قولنا: العلم نافع. وللعزيز، قولنا: الصمت حكمة، و الجِدَةُ عَوْنٌ على المروءة.

 وقصد بالمُكَيَّفِ ما زِيدَ فيه تنميقٌ من خصوصيات الكلام بإفادة محاسنَ للمعنى،  كالاستعارة، والتقديم لإفادة الحصر.

 وبهذا أصبح لمعنى التنميق زيادة نَقَلَتْهُ من مجرد معنى لغوي إلى معنى اصطلاحي. وهذا لا أعرفه عند القدماء، ولكنه استنبطه من كلامهم، ولك أن تقول: إنه أعاد ترتيب كلامهم هذا الترتيب الذي تحدث فيه عن مقامات الكلام. وهي تُقَسَّمُ عنده إلى: مقام تحقيق، ومقام مسامحة، ومقام تبيين، ومقام تنميق، ومقام اقتصاد، ومقام إفراط، ومقام إطناب، ومقام إيجاز.

ويقصد بمقام التحقيق: البرهان، والحكمة، والجد.

 وبمقام المسامحة: الخطابة، والشعر، والتمليح، والمزح الذي يمكن أن يُسَامَحَ فيه المتكلم.

 وبمقام التبيين: الحقيقة، والتصريح، واللفظ المتعارف.

وبمقام التنميق: المجاز، والكناية، والتعريض، والتوجيه، والإبهام، والخصوصي من الألفاظ .

وبمقام الاقتصاد: حكاية الواقع.

 وبمقام الإفراط: المبالغة وفروعها.

وبمقام الإيجاز: ما يستعمل عند ضيق المجال، أو المبادرة خشية الفوات.

وفي مقابله: مقام الإطناب.

و لا شك أن هذه المعاني موجودة في كتب البلاغة قديما، غير أن الذي هو مِنْ فِعْلِ الشيخ، رحمه الله تعالى، إعادةُ الترتيب، والتوزيع، ووضع ذلك في ثنائيات. فالتحقيق في مقابل المسامحة، والتبيين في مقابل التنميق، والاقتصاد في مقابل الإفراط، والإطناب في مقابل الإيجاز.

وفي هذا البناء أصبح التنميق مصطلحا من مصطلحات مقامات الكلام يضم تحته وجوها من وجوه البلاغة. فالمجاز، والكناية، والتوجيه، كل أولئك عنده من أساليب التنميق.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق