وحدة الإحياءمفاهيم

الجمع بين القراءتين والمنهج التوحيدي للمعرفة.. قراءة في المتن الفكري لطه جابر العلواني

 أود في بداية هذه الورقة الإشارة إلى نقطتين:

الأولى: التكامل المعرفي في التجربة الإسلامية المبكرة

على الرغم من أن مصطلح “التكامل المعرفي” لم يتم تداوله بين العلماء المسلمين في تاريخهم الفكري المبكر، إلا أن هناك عدد من الشواهد تدل على أن مضمون هذا المفهوم يستمد أصالته من التقاليد الإسلامية الفكرية المبكرة، فقد أوضحت عدد من الدراسات المكانة الرفيعة التي تبوأها العلم والعلماء في الإسلام، كما ناقش الباحثون مغزى هذه المكانة وأهميتها.

فمن خلال نقاش الدوال المعرفية لنزول القرآن الكريم على محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، والميزات التي تمتع بها القرآن الكريم، تميز بها عن الكتب المقدسة الأخرى، مثل: إلهية مصدره، وكونه آخر وحي من السماء، وبه اكتملت الرسالات السماوية، وأنه خطاب للناس جميعا، يخلص النشار، على سبيل المثال، إلى أن هذه الميزات قد نبهت المؤمنين إلى أن القرآن لابد أنه رسم للناس عامة قواعد الفكر والنظر إلى جانب قواعد الحياة العلمية، وأن هذا القرآن قد اشتمل على تصور نهائي للكون (ميتافيزيقي)، وأنه قد وضع قواعد السلوك الإنساني (الأخلاق)، وأنه لم يترك جانبا من جوانب الفكر والعمل (أو الدين والشريعة)، إلا وملأه بوضع صورته كاملة. وقرر النشار كذلك أن المسلمين قد تلمسوا مادة فكرهم وعملهم من مصدرين هما: القرآن والسنة، اللذان سارا متعاونين يرسمان للمسلم الحياة الجديدة، ويرسخانها في جميع قواعدها[1].

 ومنذ وقت مبكر أسس ابن خلدون على فكرته بأن العلم والتعليم طبيعي في البشر؛ أن “العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها تحصيلا وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذ عمن وضعه، والأول؛ هي العلوم الحكمية الفلسفية… والثاني؛ هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر من الواضع الشرعي”[2].

 ومن خلال هذا التصنيف الذي انتهى إليه ابن خلدون يمكن الإشارة إلى بعض الأدبيات التي تمثل عند جماعة كبيرة اليوم أصول فكرة التكامل المعرفي.

الثانية: أدبيات التكامل المعرفي في الفكر الإسلامي المعاصر

لا يمكن اعتبار الدعوة للتكامل المعرفي ترفا فكريا لدى القائلين بها في المحيط الإسلامي، فهناك ظروف واقعية اقتضتها، وتتمثل تلك الظروف في الازدواجية التي صاحبت التعليم منذ أن استحدث في الدول الإسلامية نظام تعليمي حديث مواز للتعليم الديني التقليدي. فقد خلقت هذه الازدواجية أزمة تعليمية وفكرية فشلت معها عدد من محاولات الإصلاح الحديث والتحديث لتجاوزها.

 ويفترض مشروع التكامل المعرفي لدى القائلين به أن تجاوز ذلك لا يتم إلا بالعمل على تطوير نظام تعليم إسلامي تتكامل فيه علوم الوحي والعلوم المكتسبة بجهد العقل البشري، باعتبار أن ذلك خطوة أولية مهمة في طريق الإصلاح الفكري المنشود.

فالحديث عن التكامل، اقتضاه من جهة، إخفاق مشروعات تحديث التعليم الديني لتجاوز تلك الازدواجية، من خلال إدراج العلوم الحديثة جنبا إلى جنب مع العلوم الدينية في مؤسسة تعليمية واحدة دون إدراك للاختلاف الجوهري بينهما على المستويين الفلسفي والمنهجي، ومن جهة ثانية، اقتضته محاولة ساذجة ظن أصحاب الدعوة لها أن أسلمة التعليم الحديث، القائم على المنهج الغربي العلماني، ممكنة من خلال فرض تدريس مقررات الثقافة الإسلامية في كل مراحل التعليم.

 أما وجهة نظر دعاة التكامل المعرفي فتكمن في أن تجاوز هذه الأزمة لا يتم إلا باستحداث نظام تعليم إسلامي يتجاوز إخفاق نظام التعليم التقليدي الحديث، ويفسح المجال لتكامل دائرتي العلم والإيمان بحيث لا تنشطر الدائرة الأولى لتكون محل اهتمام العلوم الحديثة، وتصبح الثانية شأنا أهليا خاصا تؤسس له مؤسسات منكفئة على نفسها تزهد في خلق أي نوع من التواصل المتبصر مع العلم الحديث.. وفي هذا السياق فإن التكامل المعرفي يمكن أن يعرف بأنه “مشروع فكري يسعى لتطوير منظور توحيدي تصدر عنه كل العلوم والمعارف”[3].

يمكن تتبع المعنى المشار إليه في عدد من الدراسات المهمة من أبرزها، دراسات طه جابر العلواني: وخاصة “الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون”[4].

أولا: البعد الإبستيمولوجي في المتن الفكري لطه جابر العلواني

قبل تناول هذا البعد بالعرض والمناقشة، أود في بداية هذه الورقة الحديث عن جانب مهم في فكر طه جابر العلواني، إنه الجانب المتعلق بآرائه في المعارف والعلوم، وهو جانب يكتسي من الأهمية أكثر مما يعتقد، سواء بالنسبة لمشروعه الذي ضمنه مختلف كتبه أو بالنسبة للفكر العربي والإسلامي المعاصر.

إن آراء العلواني في العلوم والمعارف وأصنافها لم تكن مجرد استطرادات، ولا مجرد أفكار جاءت نتيجة تداعي المعاني، بل إنها جزء لا يتجزأ من مشروع العلواني ككل يكتسي من الأهمية داخل مشروعه مثل ما يكتسيه أي جانب آخر منه، كنظرياته في الاجتهاد والتجديد الأصولي، أو موقفه من النسخ أو المحكم والمتشابه أو الردة…

وسيكون من جملة أهداف هذه الورقة توضيح ذلك بشكل يبرز وحدة العلوم والمعارف لدى العلواني، أما الهدف الرئيسي فعلاوة على أنه يخدم نفس القضية فهو أكثر طموحا: إن التحليل الذي قدمه العلواني في متنه الفكري عن المعرفة وأنواعها والعلوم وأصنافها ينطوي في نظرنا على ابستيمولوجيا كاملة، بالمعنى الحديث للكلمة بوصفها نظرية في العلوم وبعبارة أوضح بوصفها: “دراسة نقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها وأصنافها لبيان أسسها المنطقية وحصيلتها الموضوعية”[5].

إن الخطاب الإبستيمولوجي للعلواني منظورا إليه من هذه الزاوية سيكون بالضرورة خطابا يسعى من خلاله دراسة العلاقة بين الوحي والكون، وفي ذات الوقت يستقي من هذه العلاقة كما يتصورها مبادئه المعرفية وكيف تسهم في العمران البشري.

ثانيا: تكاملية معارف الوحي ومعارف الكون في ابستيمولوجيا العلواني

 تعد دراسة “الجمع بين القراءتين” جهدا فكريا معاصرا لفهم العلاقة التكاملية بين العلوم والمعارف من خلال التأكيد على بعدين اثنين في الجهاز المعرفي:

ـ بعد يتحدد بالوحي: كتاب منزل متلو معجز وهو القرآن.

ـ بعد يتحدد بالكون: مخلوق مفتوح وهو الخلق والكون والتجارب البشرية فيه ومنه التعامل مع الإنسان نفسه، فهو جزء من الخلق وابن شرعي للطبيعة.

والعقل بينهما وسيلة وأداة معرفة واستنباط وحدس وإدراك، بل وتوليد لأبعاد أخرى في الوقت ذاته[6].

  وبذلك تكون القراءة المأمور بها مزدوجة: قراءة في الكون المخلوق، وكل ما يتعلق به من عالم الخلق، والتشيؤ بما في ذلك تراث الأمم الذي دونته وآثارها، وقراءة في الكتاب المسطور الوحي المنزل المتمثل في الكتاب الكريم، المحدد لغاية الحق من الخلق، والمنبه على السنن الحاكمة لهذا الوجود الموضح للمنهج والشرعة والحقائق الأساسية.

 فبالقراءتين تدرك الفروق بين الأمم التي استفادت بالوحي واتبعته، واستنارت به، وبين الأمم التي تجاهلته، وتعاملت مع الطبيعة أو الكون وحده، دون استنارة بهداية الوحي، أو أهملت الكون أو التجارب البشرية وعبر التاريخ ودروسه.

وفي هاتين القراءتين تتمحور القوامة المعرفية للمنهج القرآني حول قراءة الوحي وقراءة الكون. وهما قراءتان تتأسس فيها الثانية على الأولى، لكن الأمر بينهما دائماً ما يستلزم نوعاً من الاعتدال والموضوعية والتوازن، ولا يتطلب طغيان إحداهما على الأخرى، أو الاكتفاء بواحدة منهما، وإلا أحدث ذلك خللاً وقصوراً حاداً في طرائق الفكر ناتج عن نقصان المعطيات المعرفية. لكن ظهور الاثنتين مجتمعتين إنما يعني وجود حضارة حقة.

التوحيد الأساس النظري لفكرة التكامل المعرفي في المنهج القرآني

وقد صمم العلواني دراسته بحيث تستجيب لتغطية موضوعات في التاريخ والأخلاق والاجتماع والمعرفة، جاعلا من التوحيد الأساس النظري لمفهوم التكامل المعرفي. فالتوحيد في المتن الفكري للعلواني من أهم المحركات الموضوعية المؤثرة في اتجاه وإفراز الدواعي والقوى المحركة للمعرفة وتحديد مضمونها.

إذ تنطلق الدراسة من فكرة محورية هي أن هذه الأمة تنفرد من بين سائر الأمم بالاحتفاظ بصورة نقية من التوحيد الخالص، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الصفات، وهو التوحيد الشامل الذي جاء به الأنبياء كلهم. ليبقى التوحيد معياراً وميزاناً قادراً على بيان الحدود والفواصل بين الألوهية والعبودية. فهو جوهر العقيدة، وركن الإيمان وعموده[7].

 والتوحيد في المتن الفكري للعلواني، إضافة إلى أنه تجربة دينية، يشغل فيها الخالق وضعا مركزيا، فإنه كذلك تصور عام للحقيقة، بما فيها الدنيا والحياة والتاريخ، والتوحيد يوضح حدود وأبعاد الدور الإنساني في الكون والحياة، وفي الوقت نفسه يحقق قدرة كبيرة على صياغة المفاهيم الضرورية لبناء فاعلية الإنسان، وتشكيل دافعية العمران والتسامي فيه، وإيجاد المنطلقات المعرفية والثقافية السليمة لدى الإنسان[8].

تتمثل أهمية التوحيد بالنسبة للمعرفة عند العلواني في أن المعرفة سيعاد صياغة مبادئها في ضوء المبادئ التالية:

المبدأ الأول؛ يتعلق بوحدة المعرفة والصورة التي تظهر عليها المعرفة، فالمعرفة في جوهرها واحدة، لان الحقيقة واحدة، ولكنها غالبا ما تظهر في مجالات وحقول معرفية وفروع، فهناك مثلا: علم السياسة، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، وعلم الفيزياء، وكل هذه حقول، وهذه المجالات المعرفية تكونت بسبب أن المعرفة تتعلق بظاهرة أو حقيقة، وهذه الظاهرة أو الحقيقة الواحدة لها جوانب مختلفة؛ طبيعية واجتماعية ونفسية، وأن دراسة هذه الجوانب تقتضي مثل هذه التقسيمات الإجرائية.

فما قد نراه من العلوم والمعارف المستقلة في الظاهر بعضها عن بعض، ليس في الواقع إلا أجزاء وأعضاء مترابطة… فهي في الحقيقة ليست… مستقلة عن بعض، حتى إنه بوسع كل من أراد أن يتجه إلى واحد منها بالدراسة والاختصاص دون أن يعبأ بالعلوم الأخرى. بل إن بينها من التمازج والتداخل ما يجعل الباحث لا يحيط علما بأي منها إلا بمقدار ما يبصره المجموع الكلي للهيكل الكوني الشامل.

والمبدأ الثاني، يقول إن وحدة المعرفة تعنى بترجمة مبادئ التوحيد في المجال المعرفي، إذ يناط بها تحويل التوحيد من مجرد علاقة تصورية لثنائية عالمي الخالق والمخلوق، إلى محتوى معرفي يصل الإنسان بربه. فمبدأ الثنائية في نظام الخلق والتكوين (كمثل: عالمي الغيب والشهادة، والروح والجسم والعقل والقلب)، اقتضى أن تستمد المعرفة من مصدرين مختلفين هما: الوحي الإلهي، وعالم الخلق.

غير أن هذه الثنائية في مصادر المعرفة ليست ثنائية تضاد، وبمقدور الإنسان تصور الوحدة الكلية التي تعكسها وإحداث تكامل بين طرفيها، وذلك عن طريق تعقله للوحي واكتشافه لسنن الخلق بشرط انقياده لأمر الله سبحانه. فبدون هذا الانقياد ستظل الأهواء النفسية متحكمة في النظر العقلي على نحو يقضي الحقيقة إذ لم تأت وفقا لتمنيات تلك الأهواء.

أما المبدأ الثالث، فيتعلق بالغاية من اكتساب المعرفة، التي تفسح مجالا واسعا لربط المعرفة بالأخلاق، في إطار التفاضل القائم، بين القيم الأخلاقية والقيم النفعية.

والمبدأ الرابع، يتعلق بتطبيقات المعرفة وانعكاسات العلم على السلوك الإنساني، بحيث لا ينظر للمعرفة فقط من زوايا الإدراك الحرفي المهني البحث الذي يحصر المعرفة في حدود التخصص الضيقة، فيتم استيعاب المعرفة الإنسانية ضمن مهام الاستخلاف والأمانة.

ووفقا لهذه المبادئ العامة، فإن المعرفة كي يتسنى لها تجاوز الإحالات الوضعية التي التصقت بها حديثا، وكي يتم بناؤها في ضوء التحديات الفكرية، والعقدية المعاصرة، لابد لها أن تتشكل وفقا لمبادئ التوحيد آنفة الذكر على المستويين النظري والتطبيقي. إذ لا يكفي التأصيل النظري لفكرة التكامل المعرفي، بل لابد من صياغة المعرفة والسير بتطبيقاتها في ضوء مبادئ التوحيد، حتى تظهر نتائج عملية التكامل المعرفي كما يراد لها أن تظهر.

أخطاء القراءة المنفردة وسلبياتها

في سعيه لتأكيد تكاملية المعارف ووحدة العلوم يقدم لنا العلواني أخطاء القراءة المنفردة وسلبياتها، إذ يقول: “فمن تجاوز القراءة الأولى في الوحي النازل إلى النبيئين، واستغرق استغراقا كليا في القراءة الثانية التي تمثل علم الكون أو معارف الطبيعة، منقطعة عن الله، تعالى، فقد العلاقة بالله، وتجاهل الغيب، وانطلق بفلسفة إنسانية مستقلة وضعية منبتة عن الله، عوراء قاصرة في مصادرها، تحاول أن توحد بين الإنسان والطبيعة بإطلاق. وتعد الخالق والغيب كله مجرد ما ورائيات أو ميتافيزيقا تجهلها أو تجاوزها.

 فيتخذ الوجود شكل القوى المتصارعة المتنابذة، ويتخذ الإنسان الغافل، من نفسه وهواه، شكل المتأله المسيطر بالعلم على كل شيء، فيمجد ذاته ويتخذ إلهه هواه، ويتوهم أن له أن يستمد قيمة من ذاته ومن الطبيعة. والدين والإيمان، نفسه، قد يتحول في إطار هذه القراءة المنفردة العوراء إلى شيء يوظفه من شاء ساعة لتلبية رغبة، أو لأداء خدمة. وهنا يحق عليه القول، فيقع في الاستبداد والطغيان على أخيه الإنسان. وتحدث كوارث البيئة، ويختل التوازن وتظهر أمراض الانحراف والشذوذ في المعمورة، فقارات يعمها الجوع، وأخرى تعمها الأمراض بكل أشكالها، والجرائم بكل أنواعها، وتسود المعيشة الضنكة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 122).

أما إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المسخرة؛ أي إهمال قراءة الوجود والكون والاقتصار على قراءة الوحي وحده منقطعا منبتا عن الوجود، فإنه يؤدي إلى نفور من الدنيا، واستقذار لها ولما فيها، يشل طاقات الإنسان العمرانية والحضارية، ويعطله عن أداء مهام الخلافة والأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير. ويعطل فكره، وينقض من قيمة فعله، بل قد يلغي إدراكه لفعله فلا يرى الإنسان نفسه فاعلا في شيء، ولا يرى لوجوده في الحياة معنى عمرانيا، وكل هذه الأفكار منافية تماما لمنهج القرآن العظيم.

إذن، لابد من الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي، وقراءة الوجود، وبناء العقل الإنساني بهما، معا، لئلا يقع الإنسان في أي من دينك الطرفين الذميمين”[9].

كيفية الجمع بين القراءتين

إن المدخل الأساس للجمع بين القراءتين يبدأ باكتشاف العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن الذي أعطى القرآن “وحدته البنائية” وإعجاز “نظمه”، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود، والمهيمنة على حركته للكشف عن الناظم المنهجي الذي يربط بينهما. فالقرآن وحي إلهي نتعقل به ونتفهم به هذا الوجود انطلاقا من أن القرآن مطلق، ومحيط شامل. وبقدر ما تتسع معرفتنا للاثنين معا بقدر ما تتكون لدينا القدرة على “الجمع بين القراءتين”، واكتشاف التداخل المنهجي بين منهجي الوحي والكون، فمنهجية القرآن موازية لمنهجية الوجود، ولا ينبغي الاقتصار على قول ذلك نظريا أو إدراجه في دائرة “فضائل القرآن”، ولكن ينبغي اكتشاف ذلك تطبيقيا.

فالقول النظري قد لا يتجاوز حالة تسير بفرضية قد تكون غير صحيحة أو مما يمكن الطعن فيه، ولهذا يكون التحدي الأول والاهم للمسلم المعاصر هو الكشف عن التداخل المنهجي بالجمع بين القراءتين؛ بين الوحي الإلهي والعلوم الطبيعية والإنسانية القائمة على السنن الإلهية في الكون والحياة والإنسان، أما الحديث عن عظمة القرآن وفضائله، فإن القرآن عظيم، حقا، ومعجز، فعلا، وذو فضائل لا يمكن حصرها، وقد كتب الناس عن عظمته وإعجازه وفضائله آلاف الصفحات، بل ملايينها، لكن تلك الكتابات لم تستطيع أن تكتشف للناس عن منهجيته المستوعبة للكون وحركته، والمتجاوزة لها، والقادرة على إقامته على قواعد الهدى ودين الحق. كما لم تؤد إلى الكشف عن التداخل المنهجي بين قراءة القرآن في وحدته البنائية، وقراءة الكون في وحدته القائمة على سننه وقوانينه. فقد بقيت آيات كريمة كثيرة ومقولات دينية كثيرة عرضة لتأويلات شتى. وفي كثير من تلك التأويلات تبدو الإسقاطات الإسرائيلية ونحوها واضحة.

كذلك بقيت في المعارف الإنسانية والاجتماعية الحديثة، بل وفي العلوم الطبيعية كذلك أبعاد غائبة، وأسئلة كثيرة لا تجد من مدارس تلك العلوم المختلفة إجابات شافية؛ لأنها لم تكتشف ذلك التداخل المنهجي بين القراءتين إلا في حدود جزئية تمثلت في محاولات انتقائية يغلب على بعضها التلفيق الذي يجعلها تبدو مفتعلة إلى حد كبير كتلك المحاولات التي تبدو فيما عرف أخيرا بـ”الإعجاز العلمي”.

 فتأكيدنا الدائم على ضرورة وجوب “الجمع بين القراءتين”، وحسبان ذلك شرطا مسبقا للخروج من الأزمة الفكرية والمعرفية في مستوياتها العالمية والمحلية يحمل توكيدا على وجوب الالتفات إلى ذلك الارتباط المنهجي بين القرآن والكون والإنسان: فالقرآن ضم قواعد “الوحي الإلهي” الذي جاء به المرسلون كافة. والكون مجال كلمات الله ومظهر إرادته ومشيئته. والإنسان مستخلف للاهتداء بالوحي في إعمار الكون؛

 وبذلك تكتمل حلقات التصور الإنساني، وتظهر سائر مقوماته، وتبرز علاقة الغيب بالطبيعة والإنسان. ويتخلص الإنسان من مأساة الفصام بين اللاهوت والناسوت والملكوت، أو بين الدنيا والآخرة، أو بين التنزيل الإلهي والفلسفات الوضعية البشرية، وما جره ذلك الفصام النكد من مشكلات.

إن هذه القواعد لا يستطيع النهوض بها إلا من أوتي القرآن وحظا من العلوم والمعارف كافيا لاكتشاف ذلك التداخل المنهجي بين القرآن والكون والإنسان.

خاتمة

شيّد طه جابر العلواني مرتكزات “نظام معرفي قرآني”، تبعا لما انتهت إليه تأويلاته لآيات القرآن الكريم، وظلّ على الدوام في تفكيره مفارقا للسائد، فلم يتحدث عن “حاكمية إلهية”، وميّز بين “الحاكمية الإلهية المباشرة”، و”حاكمية الاستخلاف” و”حاكمية الكتاب”. انطلاقا من أن الله، عز وجل، قد تدرج بالبشرية لتحكم نفسها وتلك غايته من الخلق، من “الحاكمية الإلهية” إلى “حاكمية الاستخلاف” إلى “حاكمية الكتاب البشرية”؛ أي “حاكمية الإنسان”.

وهي حاكمية تأتي خارج منهج الهيمنة الإلهية المباشرة على الإنسان والطبيعة” الحاكمية الإلهية”، وكذلك خارج منطق الاختيار الإلهي والتسخير” حاكمية الاستخلاف”. كما قدّم تأويلا بديلا لمفهوم النسخ والمحكم والمتشابه، كذلك خرج في موارد متعددة أخرى على مشهور وإجماع الفقهاء، وتجاوز آراء معظم المفسرين، في ضوء ما رسمه من “نظام معرفي قرآني”، وكيفية التعامل مع الكتاب الكريم، بنحو أفضى به إلى مواقف خلافية، لا تتطابق مع فتاوى وأحكام المدونة الفقهية.

لا يقتصر العلواني في اجتهاده على إنتاج رأي جديد، وبناء مفاهيم مختلفة، وإنما تتميز كتاباته بثراء لغوي، وبمعجم اصطلاحي يختص به، يتألف من مصطلحات نحتها هو، أو استقاها من غيره، ودمجها كعناصر تكوينية في بنية النظام المعرفي الذي صاغه. من ذلك مفهوم “الجمع بين القراءتين” المحدد الأساسي لمنهجية القرآن المعرفية عنده، والتي تتحقق من قراءة كتابين تؤسّس على مقابلتهما والكشف عن التكامل والتفاعل بينهما، الكتاب الأول: هو كتاب الكون المتحرك الذي يتضمن ظواهر الوجود كافة، والكتاب الثاني: هو كتاب الوحي المقروء “القرآن”، لأنه الكتاب الذي يعادل الوجود الكوني وحركته ويستوعبهما بأبعاده الكونية.

وعلى ذلك، فالسؤال في رؤيتنا هو: كيف للمسلم المعاصر الذي يشمخ بإسلامه أن يعجز عن تقديم الترجمة الحقة لقراءة الوحي؟ ولماذا أهمل قراءة الكون والإحاطة بأسراره ولديه الكثير من الحقائق العليا المنطوية في كتابه المقدس؟ ولماذا يقتصر دوره على رد الاكتشافات والإنجازات كافة إلى مرجعيته العقائدية وإبراز النصوص الدالة عليها؟ ولماذا لم تكن الاستدلالات الفكرية آلية من آليات التعامل مع البنية القرآنية؟ ولماذا يظل تيار الوعي لديه تياراً غير منتج، بينما تيار الوعي الغربي يفرز تجليات ذات خطر من النص الديني الإسلامي؟

الهوامش

[1]. سامي علي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، القاهرة: دار المعارف، ط4، 1966م، ج1، ص2-3.

[2]. عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، الإسكندرية: دار ابن خلدون، د. ط، د. ت، ص305.

[3]. أبو بكر محمد إبراهيم، التكامل المعرفي وتطبيقاته في المناهج الجامعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2007م، ص31-32.

[4]. طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، القاهرة: مكتبة الشروق، ط1، 2006م.

[5]. محمد عابد الجابري، ابستيمولوجيا المعقول اللامعقول في مقدمة ابن خلدون، مجلة أقلام، ط1، 1964م، ص2.

[6]. طه جابر العلواني، التوحيد، التزكية والعمران، بيروت: دار الهادي، ط1، 2003م، ص66.

[7]. العلواني، الجمع بين القراءتين، م، س، ص37.

[8]. العلواني، التوحيد والتزكية والعمران، م، س، ص65.

[9]. طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م، س، ص22-24.

Science
الوسوم

د. محمد الناصري

باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق