مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء (من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه‍) -35- محمدُ بن عبد الله بن مَيْمونِ بن إدريسَ بن محمد بن عبد الله العَبْدَريُّ، أبو بكر، ابنُ مَيْمون(1)

محمدُ بن عبد الله بن مَيْمونِ بن إدريسَ بن محمد بن عبد الله العَبْدَريُّ، قُرْطُبيٌّ استَوطَنَ مَرّاكُشَ، أبو بكر، ابنُ مَيْمون.

رَوى عن أبي بكرِ ابن العَرَبيّ، وآباءِ الحَسَن: شُرَيْح وعبد الرحمن بن بَقِيّ وابن الباذِش ويونُسَ بن مُغيث، وأبي عبد الله ابن الحاجّ، وأبي محمد بن عَتّاب، وأبي الوليد ابن رُشْدٍ ولازَمَه عشْرَ سنين، قرَأَ عليهم وسَمعَ وأجازوا له.

وسَمع أبا بحرٍ الأَسَديَّ، وأبوَيْ بكر: عَيّاشَ بن عبد الملِك وابنَ أبي رُكَب، وأبا جعفرٍ ابنَ شانْجُه وأبا الحَسَن عبدَ الجليل، وآباء عبد الله: ابن خَلَف ابن الإِلبِيريِّ وابنَ المُناصِف وابنَ أُختِ غانم، ولم يَذكُرْ أنّهم أجازوا له. ورَوى أيضًا عن أبوَيْ عبد الله: جعفرٍ حفيدِ مكِّي وابن مَعْمَر، وأبي الوليد بن طَريف.

رَوى عنه أبو البقاءِ يَعيشُ ابنُ القديم، وأبو الحَسَن بن مُؤْمن، وأبو زكريّا المَرْجيقيُّ وأبو يحيى أبو بكرٍ الضَّرير، واختَصَّ به.

وكان عالمًا بالقراءات، ذاكرًا للتفسير، حافظًا للفقهِ واللُّغةِ والآداب، شاعرًا مُحسِنًا، كاتبًا بليغًا، مُبرِّزًا في النَّحو، جميلَ العِشرةِ حسَنَ الخُلُق متواضِعًا، فكِهَ المحاضرة طَريفَ الدُّعابة، وصنَّف في غير فَنّ من العلم، وكلامُه نظمًا ونثرًا كثير مُدوَّن.

ومن مصنَّفاتِه: «مَشاحذُ الأفكار في مآخِذ النُّظّار»، وشَرْحاه: الكبيرُ والصَّغير على «جُمَل» الزَّجّاجي، وشَرْحُ «أبياتِ الإيضاح العَضُديّ»، و«مقاماتِ الحَرِيريّ»، و«شَرْحُ مُعشَّراتِه الغَزَليّة ومُكفِّرتِها الزُّهْديّة»، إلى غيرِ ذلك، وكلُّه مما أبانَ به عن وُفورِ علمِه، وغَزارة مادّتِه، واتّساع معارِفِه، وحُسن تصرُّفِه.

واستُقضيَ بمنتورَ: من عمل قُرطُبة، فحُمِدت سِيرتُه، ثم صُرِف عن ذلك، وآثَرَ التحوُّلَ إلى مَرّاكُش، وانتَصبَ لتدريسِ ما كان يَنتحلُه من فنونِ العلم، فقَلَّ مَن لم يأخُذْ عنه من طلبة العلم بها، وكان بنو عبد المُؤْمن وأتباعُه يتنافَسُونَ في القراءةِ عليه، ويتباهَوْنَ في إجزالِ أياديه، وكان يَحضُرُ مجلسَ عبد المُؤمن معَ أكابرِ من يَحضُرُه من العلماء فيَشِفُّ على أكثرِهم بما كان عليه من التحقُّق بالمعارف، إلى أن أنشَدَ عبدَ المُؤْمن أبياتًا كان قد نَظَمَها في أبي القاسم عبد المُنعم ابن محمد ابن تيسيتَ المذكورِ في مَوْضعِه من هذا الكتاب، وهي:

أبا قاسمٍ والهوى جِنَّةٌ … وها أنا من مَسِّها لم أُفِقْ

تقَّحمتَ جاحمَ نارِ الضُّلوعِ … كما خُضتَ بحرَ دموعِ الحَدَقْ

أكنتَ الخليلَ أكنتَ الكليمَ … أمِنتَ الحريقَ أمنتَ الغَرَقْ

فهجَرَه عبدُ المُؤمن، ومنَعَه من الحضورِ بمجلِسه، وصَرَفَ بَنيهِ عنِ القراءةِ عليه، وسَرَى ذلك في أكثرِ من كان يقرأُ عليه ويتردَّدُ إليه، على أنه كان في المرتبةِ العُليا من الطّهارةِ والعفافِ والذّكاء.

وفي أبي القاسم هذا، وكان أزرقَ، يقولُ وقد دَخَلَ عليه ومعَه أبو عبد الله بنُ أحمدَ بن محمد الشاطِبيُّ وأبو عثمانَ سعيدُ بن قوشترةَ المذكورانِ في موضِعَيْهِما من هذا «المجموع»، فقال ابنُ قوشترةَ :

عابوهُ بالزَّرَقِ الذي بجفونهِ … والماءُ أَزرقُ والسِّنانُ كذلكا

فقال أبو عبدُ الله الشاطِبيُّ:

الماءُ يُهدي للنفوسِ حياتَها … والرُّمحُ يَشرَعُ للمنونِ مَسالِكا

فقال أبو بكر بنُ مَيْمون:

وكذاك في أجفانِه سبَبُ الرَّدى … ولقد أرى طِيبَ الحياةِ هنالكا

وله في أبي القاسم هذا مُقَطَّعات غَزَليّةٌ كثيرة حُفِظت عنه وتناقَلَها الناسُ.

ومما استفاضَ من شعرِه: قولُه في صِباه:

لا تكترِثْ بفِراقِ أوطانِ الصِّبا … فعسَى تنالُ بغرهنَّ سعودا

فالدُّرُّ يُنظَمُ عند فَقْدِ بحارِهِ … بجميلِ أجيادِ الحِسانِ عقودا

وقال: أنشَدتُهما شَيْخيَ الأديبَ الكاتب أبا جعفر بنَ شانْجُهْ، فقال: والله يا بُنيّ لقد غُصْتَ في بحرِ الأدب فاختَرْتَ منه دُرّةً نفيسة.

قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: معنى هذا البيتِ الأخير قد تداوَلَه الناسُ كثيرًا قديمًا وحديثًا، فلأبي الثناءِ حَمّادِ بن هبة الله الحَرّانيِّ:

قالوا: ترحَّلتَ عن دارٍ نشَأْتَ بها … وليس للمرءِ إلّا دارُهُ شرَفُ

قلتُ: انظُروا الدُّرَّ في التِّيجانِ موضعُهُ … لمّا تفتَّح من مكنونِهِ الصَّدَفُ

أنشَدتُهما على شيخِنا الراوِية الحافظ أبي عليٍّ الحَسَن بن عليّ الماقَريِّ عن أبي [….] فيما أُذِنَ له فيه عن قائلِهما، وأنشَدتُ على شيخِنا أبي الحَسَن الرُّعَيْنيِّ لنفسِه:

فارِقْ ولا تَغْنَ بالأوطانِ تَعمُرُها … ففي سواها تنالُ العزَّ والشَّرَفا

فالدُّرُّ لم يَعْلُ أجيادَ الحِسانِ ولا … زانَ التّرائبَ حتى فارَقَ الصَّدَفا

وفيما أوردتُه من هذا كفاية، إذِ الإطالةُ في مثلِه تُخْرِج عن مقصودِ الكتاب، وله موضعٌ آخرُ، وإنّما أورِدُ من هذا وأشباهِه ما أورِد، لِما جُبِلَتْ عليه النفوسُ الزَّكيّة من المَيْل إلى هذه الطريقة الأدبيّة، إلى ما فيه من إجمامِها خوفَ الإملال، وإصلاحِها في تصريفها بالنَّقْل من حالٍ إلى حال.

ومن مشهورِ شعرِ الأستاذِ أبي بكر بن مَيْمونٍ: قولُه، نفَعَه اللهُ:

توسَّلتُ يا ربِّي بأنّيَ مؤمنٌ … وما قلتُ: إنّي سامعٌ ومطيعُ

أيصلى بحر النارِ عاصٍ موحِّدٌ … وأنت كريمٌ والرسُولُ شفيعُ؟!

وذيَّلَها بعضُ الأُدباء، فقال:

ومن يتَشفَّعْ بالنبيِّ محمدٍ … عليه صلاةُ الله، كيف يَضيعُ؟!

شفاعتُه مقبولةٌ ومحلُّهُ … لدى ربِّهِ في الأنبياءِ رفيعُ

ولي بصريحِ الحُبِّ فيه وسيلةٌ … بها جانبي مما أَخافُ منيعُ

وحُبِّ ضجيعَيْه بتُربةِ طَيبةٍ … فلله مدفونٌ بها وضجيعُ

فيا ربِّ سوِّغْني رضاكَ بحبِّهمْ … فأنت مُجيبٌ للدعاءِ سميعُ

وقولُه، وحضَرَتْه الوفاة، وآنسَه بعضُ أصحابِه بترَجِّي الشّفاءِ من مرَضِه وإطالةِ عُمُرِه:

أيرتجي الخُلْدَ مَنْ عليهِ … دلائلٌ للرَّدى جَليّهْ

أوّلُه مُخبِرٌ بثانٍ … ذاك مَنِيّ وذي مَنِيّهْ؟!

وقد قال في هذا المعنى الباخَرْزِيّ:

أرى أَولادَ آدمَ أطَرتْهم … حُظوظُهمُ من الدُّنيا الدَّنِيّهْ

فلِمْ بَطِروا وأوّلُهمْ مَنِيٌّ … إذا نُسِبوا وآخِرُهم مَنيَّهْ؟!

توفِّي الأستاذُ أبو بكر بنُ مَيْمونِ، عفَا اللهُ عنه، على خير عمل بمَرّاكُشَ يومَ الثلاثاءِ لاثنتَيْ عشْرةَ ليلةَ بقِيت من جُمادى الآخِرة سنةَ سبع وستينَ وخمس مئة، ودُفن بمقبُرة باب تاغزوتَ داخلَ مَرّاكُشَ وقد قارَبَ السّبعينَ أو بَلَغَها.

  • الذيل والتكملة 4/ 348-352.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق