مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

ضوابط الانفتاح على الآخر من خلال نماذج من السيرة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، وجعل أكرمهم عند الله أتقاهم، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، بلغ الرسالة إلى خاصة قومه، ثم تجاوزهم إلى سائر العرب، ثم إلى الدول  وسائر الممالك  وبعد:

    يعد الانفتاح على الآخر ضرورة من الضروريات الملحة في المجتمع ، ما دام هذا الانفتاح منضبطا وممنهجا لا يتعارض مع الدين الإسلامي، وهو من منطلق الإقرار بسنة التنوع والاختلاف التي أشاد بها القرآن الكريم في العديد من آياته، من ذلك قوله تعالى: ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنا أكرمكم عند الله أتقاكم) ([1])، وقوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) ([2]) . والنبي صلى الله عليه وسلم بمنهجه الواضح في هذا الشأن، وضع لنا ضوابط  الانفتاح على الآخر ، وضرب لنا أروع الأمثلة على ذلك من خلال هديه صلى الله عليه وسلم؛ ولأهمية هذا الموضوع أحببت أن أتناوله في مقال، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق: 

 من ضوابط الانفتاح على الآخر:

إن الدين الإسلامي دين وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ([3])، وقضية الانفتاح على الآخر لابد له من أن تضبطه ضوابط معينة، وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في هذا الصدد؛ ومن يتصفح سيرته يجدها  حافلة بما يدل على ذلك، ومن هذه الضوابط أذكر أربعة منها:

1-أن يكون الانفتاح على الآخر بعد العلم بالدين الإسلامي، وترسيخ العقيدة  الإسلامية وأحكامها في النفوس، والثقة بها؛ لهذا لم يكن غريبا إن وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على سيدنا عمر رضي الله عنه  عندما رأى في يده صحائف من التوراة؛ فقال له: “أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني”([4]).

2-تعلم لغة الآخر  لمعرفة ما لديه ومحاورته؛.فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه تعلم لغة الآخر ليتمكن من معرفة ما لديه ومحاورته، وأخذ الحيطة والحذر، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: “أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتابة اليهود، وقال: “إني والله ما آمن يهود على كتابي” فتعلمته فلم يمر بي نصف شهر حتى حذقته قال: “إني كنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليه” ([5]).

3-أن لا يكون الانفتاح على حساب الدين الإسلامي؛ لأن الانفتاح المطلوب هو الانفتاح المنضبط بهويتنا الدينية؛ فنقبل الآخر ونرحب بثقافته؛ لكن مع الاحتفاظ بهويتنا الدينية، وقد هاجر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة التي عاشوا بها سنين مع الاحتفاظ بهويتهم الدينية، بل هم من دعوا النجاشي إلى الإسلام، فأسلم هذا الأخير وحسن إسلامه.

4-الاستفادة من الآخر في الأمور الدنيوية  التي فيها مصلحة للمسلمين دون الانبهار بهم؛ فلا حرج أن نأخذ من الآخر من علومهم ما يفيد الأمة الإسلامية؛ لكن دون الانبهار بهم مما يجعلنا مقلدين لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من أسرى بدر في تعليم أولاد المسلمين الكتابة؛ فلم يجد غضاضة في أن يستفيد من الآخرين، وإن كانوا كفارا ما دام ذلك يعود على المسلمين بالنفع العميم، ولا يخالف عقيدة الإسلام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم   فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة([6]).

كما استفاد من سلمان الفارسي في مسألة حفر الخندق  في غزوة الأحزاب، هذه الفكرة التي لم تكن معروفة آنذاك عند المسلمين، وإنما هي فكرة معروفة عند الفرس([7]).

واستفاد كذلك من الأنظمة المعمول بها في رسائل الملوك كما  يفعل ملوك الروم وغيرهم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختوما. فاتخذ خاتما من فضة ونقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنما أنظر إلى بياضه في يده”([8]).

الخاتمة:

وفي نهاية هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-يعد الانفتاح على الآخر ضرورة من الضروريات الملحة في المجتمع.

2-من الضروري أن يكون ذلك الانفتاح منضبطا بميزان الدين الإسلامي ولا يتعارض معه .

3-أشرت في المقال إلى أربعة ضوابط وهي:

أ-أن يكون الانفتاح على الآخر بعد العلم بالدين الإسلامي، وترسيخ العقيدة  الإسلامية وأحكامها في النفوس، والثقة بها.

ب-تعلم لغة الآخر  لمعرفة ما لديه ومحاورته.

ت-أن لا يكون الانفتاح على حساب الدين الإسلامي.

ج-الاستفادة من الآخر في الأمور الدنيوية  التي فيها مصلحة للمسلمين؛ لكن دون الانبهار بهم.

*********************

هوامش المقال:

([1])  سورة الحجرات من الآية: 13.

([2])  سورة هود من الآية: 118.

([3])  سورة البقرة من الآية: 143.

([4])  أخرجه أحمد في مسنده (23 /349)، برقم: (15156).

([5])  المستدرك على الصحيحين (1/ 147) برقم: (252).

([6])  المستدرك على الصحيحين (2 /152 ) برقم: (2621).

([7])  انظر نسيم الرياض (3 /361) بتصرف.

([8])  صحيح البخاري (4 /69-70) ، كتاب: اللباس، باب: اتخاذ الخاتم ليختم به الشيء أو ليكتب به إلى أهل الكتاب وغيرهم برقم (5875).

*********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1/ 1400هـ.

المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري مع تضمينات الإمام الذهبي في التلخيص والميزان والعراقي في أماليه والمناوي في فيض القدير وغيرهم من العلماء. دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (د.ت).

مسند أحمد. لأحمد بن حنبل الشيباني. (ج 23) حقق هذا الجزء: شعيب الأرنؤوط- عادل مرشد- سعيد اللحام. مؤسسة الرسالة بيروت لبنان ط1/ 1419هـ- 1998مـ.

نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض. لشهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي . ضبطه وقدم له وعلق عليه: محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت. (د.ت).

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق