مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكقراءة في كتاب

قراءة في كتاب “شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة “لأبي العباس أحمد الأزدي العدوي المراكشي العددي الشهير بابن البناء (ت. 721هـ)

لا يخفى على الباحث الأكاديمي المتخصص في دراسة التراث ما يكتسيه التحقيق من أهمية علمية في الحفاظ على الإرث العلمي النفيس لمختلف الأمم، وهو ما من شأنه الإسهام في نهضتها وبعث حضارتها من جديد.

ومن أجل ذلك أقبل الباحثون الأكاديميون على العناية بالتراث العلمي المخطوط بإخراجه من رفوف المكتبات إلى حيز الوجود والظهور قصد تحقيق الفائدة والعائدة العلمية والحفاظ على المعالم العلمية للأمة، وفي هذا الإطار يندرج هذا العمل [1] الذي يكتسي أهمية بالغة يمكن تحديدها في المزايا الآتية:

ـ كونه مكرمة علمية أسهمت في الحفاظ على هذا العمل القيم من حيث تحقيقه وإخراجه إلى الساحة العلمية.

 ـ صاحبه الجليل الأجل ابن البناء المراكشي العالم المتمكن الجامع لمختلف أصناف العلوم، إذ داع صيته ونبغ نجمه في علوم مختلفة نذكر منها إجمالا وليس تفصيلا علم الحساب والرياضيات والهندسة والجبر والفلك والتنجيم، وقد تحدث عنه ابن خلدون واصفا إياه ب: “شيخ المعقول والمنقول”[2]، ولا شك أن شخصية بهذه المنزلة والتميز جديرة بأن تحظى من الباحثين المعاصرين بالاهتمام والعناية بإنتاجاتها الفكرية والمعرفية، والكشف عن إبداعاتها والتعريف بها .

ـ تعلقه بعلوم مختلفة حيث مزج فيه بين الفلسفة وعلم الكلام والتصوف في جانب واحد، إذ يتعذر  أن يدرج هذا المؤلف تحت واحد منها لأنه يندرج تحتها جميعا في توليفة متسقة ومنسجمة،  يظهر من خلالها  أن ابن البناء رحمه الله قد وقف على مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والصوفية، ولكنه وقف منها وقفة الناقد الممحص الذي احتكم إلى العقل  لتكون العقائد مستدلا عليها عن طريق الدراية لا عن طريق التقليد، وإلى نفحات روحية تفسح المجال للفكر والتأمل واستكناه الأسرار،  مما جعل من مؤلفه هذا مؤلفا مميزا فيه جودة وجدة،  خاصة بعد شرحه للمتن الذي  يبين فيه ما تم إيجازه في المراسم .

نبذة عن عمل المحقق:

استهل المحقق تحقيقه لكتاب”شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة” بدراسة تضمنت ترجمة وافية لمؤلفه “ابن البناء المراكشي” بدءا من ولادته بمدينة مراكش ومرورا بمراحله التعليمية مع ذكر شيوخه، وتعريجا على مكانته العلمية، ومن ثمة ذكر من تأثروا  بعلومه المتنوعة والنافعة، وكذلك من تمكنوا من شرح مجموعة من أعمال ابن البناء المراكشي خاصة منها تلك المتعلقة بعلم الحساب.

كما أشار المحقق لمؤلفات ابن البناء العديدة والمفيدة، وقام بجرد مهم استوفى معظمها موضحا منهجيته في ذلك حيث استطلع جلها دون الاقتصار على علم من العلوم مفيدا أنها تنوعت بين التخصصات الآتية:

– المؤلفات الشرعية واللغوية.

– المؤلفات الرياضية.

– المؤلفات الفلكية والتنجيمية.

– المؤلفات الفلسفية.

ولعل ما جمل هذه الدراسة القيمة التي قدمها المحقق بين يدي هذا الكتاب التفاته إلى ذلك التزاوج بين التصوف  ومختلف العلوم التي ألف فيها ابن البناء المراكشي، حيث تنبه إلى أن مجموع كتبه “تطرح إشكال العلاقة بين الجوانب المتعددة من تفكيره، والترابط الذي يبرز اجتماع العلوم المختلفة بموضوع الإلهيات، وبنزعته العرفانية الصوفية في إطار سلفية من الكتاب والسنة”[3]؛ إذ برز في هذا الكتاب تشبع ابن البناء المراكشي بالنزعة الصوفية الفلسفية مع نقده لعدد من آراء روادها وتقويمها إياها بما يوافق العقيدة الأشعرية، فحقق بذلك توازنا فكريا ومعرفيا قل نظيره.

أما عن نسبة شرح المراسم لابن البناء فقد ساق المحقق إثباتين  يؤكدان صحة النسبة:

* أولهما نقلي من حيث ورود النسبة لصاحبه ابن البناء المراكشي في النسخ الخمسة المعتمدة في التحقيق، وكذا من تتبع الحديث عن الكتاب وصحة النسبة في كتب التراجم.

* وثانيهما عقلي توصل إليه المحقق باستعمال العقل خاصة بعد الشك الذي انتابه من ورود بعض صيغ القول في المتن وفي الشرح بصيغة الغائب، والذي سرعان ما انمحى بعد تتبعه لذلك بين المتن وشرحه مدعما حجته بالتوافق الحاصل بين المفاهيم الصوفية الواردة فيهما معا،  مما يدعم نسبة الشرح لابن البناء المراكشي رحمه الله.

نبذة عن الكتاب:

قسم ابن البناء كتابه “مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة” إلى سبعة مراسم وخاتمة:

المرسم الأول: في تحقيق الاعتبار حيث لا يملك  الناظر من عالم الشهادة إلا أن يسبح الله عز وجل  على مبدعاته في ملكوته الظاهر والغائب، والمشاهد للعيان والمحجوب عنهم، “فللنفس الصور الخيالية للمحسوسات، وللوهم العلامات لما ليس بمحسوس، وللعقل شهادة اللزوم الحق، وللروح الذكر الخالص بعد طرح العلامة التي ينصبها الوهم”[4]، فحدد ابن البناء وسائل الإدراك ومراتبها؛ مرتبة الخيال، ومرتبة الحس، ومرتبة العقل، ومرتبة الروح التي يغْنيها الذكر لكي تسْبَح في الآفاق.

المرسم الثاني:  الحق؛  الذي ألهمنا معرفته واليقين بأنه الحق الذي لا حق سواه، وأكرمنا بنعمة العقل حتى نحصل يقينا  أنه موجد الوجود  وأنه هو المؤثر ولا مؤثر سواه. فالحق فهم وإدراك باللزومات لا بالإحاطة.

المرسم الثالث: ومعناه الارتباط من جهة الحق؛ حيث يقيم ابن البناء مقابلة – غايتها التبصرة والإفهام- بين الحق بإطلاق وبين الإنسان الذي هو حق من حيث كونه مخلوقا لله وارتباطه بربه وعبادته له، وباطل من حيث فناؤه وعدميته، وفي هذا المرسم يعرض ابن البناء إلى لفظ الحق ودلالته الوجودية في إشارة إلى الذات الإلهية مستشهدا بالآيات القرآنية الدالة على ذلك.

المرسم الرابع:  الارتباط من جهة الخلق بالحق من حيث هو الله الكبير المتعال في ملكه، والغني في ذاته، الباقي والدائم الذي لا يجوز في حقه العدم الواجب فيما سواه.

المرسم الخامس: الارتباط من جهة الخلق بالحق؛  من حيث بيان الأصل من جهة الحق لا من جهتنا، فنحتاج إلى ما هو أصل بحسب الحق؛ إذ لولا هذا الارتباط بين الحق والخلق لهلك الخلق جميعا. ومعناه حال الارتباط وجودا وشرعا من جهة صفات الحق وأسمائه؛  السمع والبصر والكثرة والقدم والحدوث وغيرها من حيث هو الحق المبين.

المرسم السادس: وفيه الارتباط من جهة صفات الخلق وما يطابق من جهة الحق،  من حيث افتقار الخلق  للحق .

 المرسم السابع: ومعناه في تحقيق التسليم والعجز فينا، فنقف على عقد كلي جازم، حيث قرر ابن البناء أن إدراكنا وشعورنا بالعالم الآخر ، عالم البعث يتم وفق مراحل ثلاث: “مرحلة لا إدراك ولا شعور، ومرحلة إدراك الظاهر دون الأرواح الباطنة، ومرحلة إدراك الأرواح الباطنة ظاهرة، كما يدرك الظاهر الآن، وفي المرحلة الأخيرة نرى ربنا حيث يتكيف البصر لنوره، وهي ليست رؤية انفعال وإنما رؤية تميز[5].

الخاتمة: ومفادها أن تجرُّد العبد من نفسه وهواه كفيل بأن يفتح بصيرته لما يجد في كينونته من أمر الحق فيه، فالتخلص من الأنا والغيبة عن شهودها يحقق بالضرورة شهود موجدها  والبقاء معه، ومن ثمة يعود الإنسان إلى فطرته التي كان عليها ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾[6]، ومن شأن هذا أن يسلم العبد إلى الرضى والتسليم وتطويق العمل بالخوف والرجاء سيرا على النهج السليم؛ الكتاب والسنة، مبتعدا عن الاستخفاف بحق الربوبية الذي هو مرض القلب، مسميا هاته المراسم التي ذكرها بالمخاطبات[7]، ومشيرا إلى أنه كان موجهها لنفسه قبل غيره، مبينا ذلك بمثل جميل” إياك أعني وافطني ياجارة”.

أما شرح “مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة” فقد سار ابن البناء رحمه الله تعالى في هذا الشرح  على فصول عدة في كل مرة يقوم بشرح هذه المراسم السبعة دون أن ينسى كذلك شرح العنوان شروحا مختلفة تنبثق من رؤية فلسفية تتخللها نبرات صوفية، أعطت فهوما متعددة لكل مرسم  بحسب تنوع  إدراكات الخليقة. فكان له تدرج في تعريف المراسم ومعانيها بحسب السياق والمقتضيات، دون أن يكون بين هذه الشروحات ترتيب معين غير الترتيب العام الذي وضعه للمتن ومعانيه. وجعل من التجزئة العامة لأقوال مراسمه منطلقا إلى القضايا العامة التي بينها ووضحها وبسط القول فيها وبين غموضها، واستنبط معانيها، وبرهن على  آرائه، مبديا اهتماما  بالكلمات، والأقوال، والمعاني، والقضايا المعرفية، واللغوية، والنحوية، والمنطقية.

وخلاصة القول يعد كتاب “شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة” إضافة معرفية وإبداعية مغربية بامتياز، جمعت آراء علمية حول قضايا فلسفية وعرفانية توجتها مناقشة ابن البناء لها بتميز وجدة في عهده، ولعل هذا الكتاب يحتاج دون شك لقراءات متعددة من أجل الخلوص لقضاياه الهامة والمتفردة في بابها؛ إذ تفتح للمتلقي آفاقا بحثية في المجالات المختلفة؛ الكلام، والتصوف، وكذا الفلسفة؛ لما يذخره من آراء وما يكتنزه من قضايا جديرة بالمدارسة.

الهوامش:


[1]“شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة” لأبي العباس  أحمد الأزدي العدوي المراكشي العددي الشهير بابن البناء (ت. 721هـ). دراسة وتحقيق: الدكتور محمد العربي الناصر، ط.1، 2014، نشر: مركز الإمام أبي الحسن الأشعري التابع للرابطة المحمدية للعلماء. دار الأمان، الرباط، المغرب.

[2] – التعريف، ابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، تحقيق ابن تاويت،  الدار العربية  للكتاب، ص:36.

[3] – شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة،  ص: 55.

[4]ـ شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة ، ص: 64.

[5]– شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة ، ص:67.

[6] – سورة الروم، الآية 30.

[7]– شرح مراسم طريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة ، ص:114.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق