مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

حول بعض ما نسبه المتأخرون للخنساء من شعر مما ليس في ديوانها

أ ـ من الأبيات التي نسبت للخنساء، وليست لها، أبياتٌ من البسيط أورد منها ابن عبد البر(ت: 463 هـ) في “بهجة المجالس” بيتا واحدا هو:

إن(1)-   الجليس يقول القول تحسبه                 خيرا(2)-   وهيهات فانظر ما به التمسا –  (3)

        وقد أضيف إلى هذا البيت بيت آخر في كتاب “شمس العلوم” لنشوان بن سعيد الحميري (ت: 573 هـ)، وذلك عند شرحه لمعنى اللبس في اللغة، فذكر أنه التمويه، ثم أورد بيتا شاهدا على ما قاله نسبه للخنساء، وهو:

        صَدِّقْ مَقَالَتَهُ، وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ                         وَالْبِسْ عَلَيْهِ بِشَكٍّ(4)-   مِثْلَ مَا لَبَسَا-  (5)

        وكذلك فعل القرطبي (ت: 671 هـ) في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن” إذ شرح “اللبس” فذكر أنه الخلط. وبه فسر قوله تعالى في سورة البقرة/42: “ولا تلبسوا الحق بالباطل”، ثم أورد شاهدا على ذلك هذين البيتين، والشاهد فيهما قولها:

والبس عليه أمورا مثلَ ما لَبَسَا(6).-

        وفعله بعده أيضا السمين الحلبي(ت: 756 هـ) في كتابه “الدر المصون”(7)  ، وابن عادل الدمشقي(ت: بعد 880 هـ) في كتابه “اللباب في علوم الكتاب”(8)   عند تفسير هذه الآية نفسها.

        وقد ورد البيت الذي في “بهجة المجالس” في “زهر الأكم” لليوسي (ت: 1102 هـ)، أيضا، غير أنه لم يذكر البيت الذي ورد في “شمس العلوم”، و”الجامع لأحكام القرآن”، و”الدر المصون”، و”اللباب” تاليا له، وإنما ذكر بيتا قبله لم يرد في المصادر السابقة، فقال:” وللخنساء:

تَـرَى الأُمُـورَ سَـوَاءً وَهْـيَ مُـقْـبِـلَـةٌ                 وَفِـي عَـوَاقِـبِـهَا تِـبْـيَـانُ مَـا الْـتَـبَـسَــــا

تَرَى الْجَلِيسَ يقولُ القولَ تحْسِبُهُ             نُصْحاً وَهَيْهَاتَ مَا نُصْحاً بِهِ التمسا

        ويُحكى أن أمير المؤمنين عُمَرَ، رضي الله عنه، استنشدها فأنشدته هذا الشعر، فقال لها: أنتِ أشعر كلِّ ذي هَنٍ! فقالت: وكلِّ ذي خُصْيَيْنِ!”(9).

        فاستقامت لنا بذلك الروايةُ ثلاثةَ أبيات، وهي التي نجدها مجموعة في كتاب “البدر السافر لهداية المسافر إلى افتكاك الأسارى من يد العدو والكافر” لمحمد بن عبد الوهاب بن عثمان (ت:1214هـ) (10)،   وهو كتاب رحلة، وصاحبه ليس ممن يحتج بهم في مثل هذا، غير أن الاستشهاد به في هذا الموطن مناسب جدا لمعرفة ما كان يتداوله المتأخرون من محفوظ شعري ينسبونه للخنساء. والغالب أنهم استعملوه في الدرس البلاغي التعليمي في شواهد الإيغال، فإننا نجد هذه الأبيات مجموعة، مثلا، في كتاب كتبه صاحبه بعد أقل من قرن من تاريخ كتابة “البدر السافر”، وهو كتاب “الوسيلة الأدبية” للمرصفي (ت: 1307 هـ / 1890م)، حيث ورد هناك ضمن شواهد الإيغال(11).   فذلك سر تداولها في كتب المتأخرين دون المتقدمين.

        وأيضا فإن ما قاله اليوسي لا يستقيم من وجوه:

        1 ـ منها: أنه نفسه في شك من هذه الرواية، لاستعماله صيغة التمريض فيها، وهي قوله: ويُحكى، وهذه صيغة تحتمل عدم الثبوت، أو تطرق الشك إلى الخبر في الغالب، على ما جرى عليه الأمر عند حذاق المحدثين بعد عصر ابن الصلاح(ت: 643هـ). وإن كنا نحمل هذا الأمر على الأغلب، لأنه قد يتساهل أهل غير الحديث في ذلك.

        2 ـ ومنها أن ما نسب إلى عمر من قول فاحش، وهو قوله: أنتِ أشعر كلِّ ذي هَنٍ!، مما لا يتصور عقل يعرف تشدد عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في مثل هذا، أنه يمكن أن يكون من قوله. وإنما كانت الرخصة في ذكر الهن في موضع واحد لا غير، وهو موضع من تعزَّى بعزاء الجاهلية. وذلك في قولهم له: اعضُضْ هَنَ أَبِيكَ. والسبب في ذلك أن “ذِكر هَنِ الأب هاهنا أحسن تذكيراً لهذا المتكبِّرِ بدعوى الجاهلية بالعُضو الذى خَرَجَ منه، وهو هَنُ أبيه، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أن يتعدَّى طَوْرَهُ”(12).

        3 ـ ومنها أن قول الخنساء في هذه الرواية لعمر ـ رضي الله عنه ـ :”وكلِّ ذي خُصْيَيْنِ!”. مما يستبعد وقوعه منها لهيبةٍ عُرِفَ بها عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ، ولأنه مما لا يليق صدوره من امرأة كبيرة في السن، تحسن وضع طبقات الكلام على طبقات الناس.

فأما هيبته فقد روى” مُحَمَّد بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قُمْنَ فَبَادَرْنَ الحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الحِجَابَ. فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيهًا يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ”(13).

        وأما سنها فقد ذكر ابن حمدون (ت: 562هـ) في تذكرته أن بني عمها أقبلوا بها إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهي عجوز كبيرة(14).  وذكر لها حديثا مع عمر ـ رضي الله عنه ـ يعظها فيه، هو مناف لهذا الحديث المبني على الجراءة الشديدة. قال:” ولم تزل الخنساء تبكي على أخويها وأبيها في الجاهلية حتى أدركت الاسلام، فأقبل بها بنو عمها إلى عمر بن الخطاب وهي عجوز كبيرة، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه الخنساء لم تزل تبكي على أبيها وأخويها في الجاهلية حتى ذهبت عيناها، وأدركت الاسلام وهي تبكي، وقد قرحت مآقيها كما ترى، فلو نهيتها رجونا أن تنتهي. فقال عمر لها: حتى متى يا خنساء؟ اتقي الله وأيقني بالموت، فقالت: إني أبكي أبي وخيري مضر: معاوية وصخرا، وإني لموقنة بالموت يا ابن الخطاب، فكأنّ عمر رحمه الله رقّ لها وقال: خلّوا سبيل عجوزكم لا أبا لكم، فإنّ كلّ امرىء يبكي شجوه، نام الخليّ عن بكاء الشجيّ”(15).

        وقد مدحت الخنساء أخاها بالعفة، فينبغي أن تكون هي من أحرص الناس عليها، وأن تكون في كبرها أشد حرصا، وأكثر عناية. فمن ذلك قولها فيه:

لَمْ تَرَهُ جَارَةٌ يَمْشِي بِسَاحَتِهَا          لِرِيبَةٍ حِينَ يُخْلِي بَيْتَهُ الْجَارُ(16) 

        وهذا بيت تجده في قصيدتها الرائية المشهورة: ما هاج حُزْنَكِ أَمْ بِالعَيْنِ عُوَّارُ(17).   وهي من الشعر الذي يقال بأنها أنشدته عمر ـ رضي الله عنه ـ ، فعلق على قولها منه:

أَغَرُّ أَبْلَجُ تَأْتَـمُّ الهُدَاةُ بِـهِ              كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ(18) 

بقوله:” أما رضيتِ أن تجعليه عَلَماً حتى جعلت في رأسه ناراً. ذاك رسول صلى الله عليه وسلم. يريد: البيان والدلالة”(19).   فهذا الكلام ـ كما ترى ـ أليق به وبها.

        4 ـ ومنها أن ما ذكره اليوسي لم يذكره غيره. والأقرب إلى الصواب في هذا ما جاء في “الشعر والشعراء” لابن قتيبة(ت: 276 هـ) ، وغيره من المصادر القديمة(20)،   من أن هذا كان من كلام لها في الجاهلية ترد على النابغة الذبياني. قال:” وكان النابغة تُضْرَبُ له قبّةٌ حمراءُ من أَدَمٍ بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسّان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السّلميّة فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أنّ أبا بصير أنشدني (آنفا) لقلت إنّك أشعر الجنّ والإنس. فقال حسّان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدّك! فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي، إنك لا تُحْسِنُ أن تقول مثل قولي:

فإنّكَ كاللّيل الّذي هو مُدْرِكِي                 وإنْ خِلْتُ أنّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ

ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيتُ ذاتَ مثانة أشعرَ منكِ! فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خُصْيَيْنِ!!” (21).

وهذه قصة لم تغب عن اليوسي (ت: 1102 هـ)، فقد ذكرها في “زهر الأكم” كاملة، غير أنه أسقط منها قول النابغة لها: والله ما رأيتُ ذاتَ مثانة أشعرَ منكِ!، وجوابها الذي ذكرناه(22).    وليس مثل اليوسي ممن يخطئ في مثل هذا، فكأنه تصور أن مثل هذا الكلام مما يناسب أن يقوله رجل فيه غلظة، وشدة، وقوة(23).

        ب ـ ونظير الأبيات السابقة في ضعف نسبتها للخنساء أبيات رواها الشريف المرتضى(ت: 436 هـ) في أماليه(24)،   والحصري القيرواني (ت: 453 هـ) في “زهر الآداب” للخنساء، حيث ورد في أمالي المرتضى قوله: “وإني لأستحسن قولَ الخنساء، وقد قيل لها: ما مدحت أخاك حتى هَجَّنْتِ أباك! فقالت:

جــارَى أبـــاهُ فـأقْـبَــــلا وهُمـا               يــتــعـــاوَرَان مُــــــــــــــلاءةَ الحُضْــــرِ(25) 

حتى إذا نَزَتِ القُـلُــوبُ وقَــــدْ               لُـزَّتْ هُـنَـاكَ الـعُــــــــذْرُ بِـالـعُــــــــــــــذْر

وعلا هُـتَـــافُ النَّاسِ: أيُّـهُـمـا؟              قــــــال المـجـيـبُ هنـــــــاكَ: لا أدري

برزَتْ صَحِيفَةُ وَجْهِ والـــــــدِهِ              ومـضـى عـلـى غُـلَـوَائِــــــهِ يَـجْـــــــرِي

أَوْلَـى فَـأَوْلَـى أن يُـسَـاوِيَــــــهُ               لولا جَـــــلالُ السِّــــنِّ والكُـبْـــــــــــــــرِ(26) 

وهـمــا كأنَّـهُـمَـــــــا وقــد بَــــرَزَا         صَـقْـــرَان قــد حَـطَّـــا إِلَـى وَكْــرِ

ويقال: إنه قيل لأبي عبيدة: ليس هذه الأبيات في مجموع شعر الخنساء. فقال أبو عبيدة: العامَّةُ أسقطُ من أن يُجاد عليها بمثل ذلك“(27).

وهذا سبب ضعيف لا يفسر سبب عدم ورود هذه الأبيات في شعرها، وإن كان كثير التداول، لم نر أحدا طعن فيه، أو علق عليه.

وقد ذكر ابن نباتة (ت: 768هـ) في كتابه “سرح العيون” عبارة أخرى، لا أراها تستقيم، هي قوله:” وقيل لأبي عبيدة: إن هذه الأبيات ليست في مجموع شعر الخنساء، فقال: لعله أسقط من أن يجاء عليها بمثل هذا”(28).   فهذا كلام لا يستقيم مع جعل ابن نباتة نفسه هذه الأبيات من محاسن شعر الخنساء، ولعل العبارة تحتاج إلى تصحيح.

        وهذه الأبيات أشهر من الأولى، وهي أيضا من شواهد البلاغة، فقد ذكرها ابن أبي الإصبع المصري (ت: 654هـ) في “تحرير التحبير” في باب جمع المؤتلفة والمختلفة(29)،   وهذه التسمية، عنده، “عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الآخر فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية”(30).

        وقد نقل هذا الباب كله عنه النويري(ت: 733 هـ) في “نهاية الأرب”(31)  ، وإن لم يشر إلى ذلك.

        وليس كثرة تناقل هذه الأبيات بمصحح لها ضرورة، فإننا لم نجدها في مصادر الشعر الأولى، ولم يذكرها كبار رواة شعر الخنساء ولم ترد فيما روي عن أعلم الناس بشعرها، وهم رواة بني سليم، وفيهم من كان يمت إليها بقرابة(32).

        ومع ذلك فإنك تجد الأب اليسوعي لويس شيخو يفعل ما لم يفعله الرواة المحققون فيضم إلى ديوانها هذه الأبيات نقلا عن الحصري، وذلك في شرحه لديوانها الذي سماه: “أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء”(33).

        والظاهر من استعمال الشريف المرتضى لصيغة التمريض في قوله: “ويقال: إنه قيل لأبي عبيدة: ليس هذه الأبيات في مجموع شعر الخنساء(34)”.   أنه يشك في صدور هذا الكلام من أبي عبيدة، وإن كان لا يشك في نسبتها للخنساء.

        وعندي أن أصل هذه الرواية ما نُسِبَ للأصمعي في قصة، زعموا، أنها وقعت له مع الرشيد، ذكرها الشريشي(ت:619هـ) في شرحه لمقامات الحريري. قال:” ..وذلك أن الرشيد أجرى الخيل يوما بالرّقة فوقف متلوّما حتى طلعت، فإذا في أولها فرسان في عنان واحد، فتأملهما، فقال: فرسي والله. ثم تأمل وقال: وفرس ابني عبد الله، فجاء الفرسان أمام الخيل؛ فرسُه السابق وفرس المأمون المصلّي، فسُرّ بذلك الرشيد سرورا عظيما. قال الأصمعيّ: فقلت للفضل: يا أبا العباس، هذا من أيامي، فاحتل حتى توصّلني، فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن الأصمعي قد أعدّ في أمر الفرسين شيئا يريد به سرور أمير المؤمنين، فقال: هات يا أصمعيّ، فقلت: يا أمير المؤمنين، كنتَ وابنك اليوم وفرساكما، كما قالت الخنساء، وقد قيل لها: كيف تفضلين أخاك على أبيك؟ فقالت:

جارى أباه فأقبلا وهما                 يتعاوران ملاءة الحضر”(35).   

وذكر بقية الأبيات.

        فهذه القصة لو صحت لكانت نسبة هذه الأبيات للخنساء تعود لراوية ثقة قديم، وهو الأصمعي(ت: 213 أو 216 أو 217 هـ)، غير أننا لا نستطيع تصحيح وقوعها، ولم نجدها في كتاب قبل كتاب الشريشي، ولم يذكر الشَّرِيشِي لها سندا، وقد اخْتُلِقَ كذبٌ كثيرٌ ونُسب للأصمعي ليكون ذلك أدعى لقبوله(36)،   فلا يبعد أن يكون هذا من ذاك.

وعلى هذا فإننا لا نطمئن لمثل هذه القصة، ولسنا نجد أحدا نسب هذه الأبيات للخنساء في رواية صحيحة، ولسنا نجدها في كتاب ألف قبل القرن الخامس الهجري، فإن أقدم مصدرين نجد هذه الأبيات فيهما هما: أمالي الشريف المرتضى(ت: 436 هـ) (37)،   وكتاب “زهر الآداب” للحصري القيرواني (ت: 453 هـ) (38)  . ثم نجدها بعد ذلك في كتب لاحقة منها كتاب الذخيرة لابن بسام (ت: 542هـ)، وشرح مقامات الحريري للشريشي (ت: 619 هـ)، والحماسة البصرية لصدر الدين علي بن أبي الفرج الحسن البصري (ت: 656 هـ) (39)،   ونهاية الأرب للنويري (ت: 733هـ) (40)،   وقد يرد منها بيت واحد كما في معجم البلدان لياقوت(ت: 626 هـ) (41)  ، ونضرة الإغريض للمظفر العلوي(ت: 656 هـ)، وهو البيت الأول، وذلك لما فيه من استعارة في قولها: يتعاوران ملاءة الحضر. وهي استعارة زعموا أنها تبعت فيها قول القائل:

يُنيران من نسج الغُبار ملاءة                 قميصين أسمالاً ويرتديانِ

وتبعها بعد ذلك عدي بن الرقاع في قوله:

يتعاوران من الغبار ملاءة           بيضاءَ محدثةً هما نسَجاها(42) 

لذلك كان هذا البيت عندهم صالحا للاستشهاد في بابي براعة الاستعارة، وبراعة الأخذ، فهو يذكر هناك في كتبهم. وعن ياقوت والحصري نقل البغدادي(ت: 1093 هـ) كلاما في هذا المعنى أورده في خزانته(43).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1.-  في “الدر المصون في علوم الكتاب المكنون” لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي. 1/322، تحقيق: د. أحمد محمد الخراط. دار القلم ـ دمشق. وفي “اللباب في علوم الكتاب” لابن عادل الدمشقي. 2 / 20. تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ومحمد سعد رمضان حسن ومحمد المتولي الدسوقي حرب. دار الكتب العلمية ـ بيروت. الطبعة الثانية ـ 2011م: ترى الجليس.

2.-  في “شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم” لنشوان بن سعيد الحميري اليماني. 1/ 5993. : رشدا. تحقيق: حسين بن عبد الله العمري، ومطهر بن علي الإرياني، ويوسف محمد بن عبد الله. دار الفكر ـ دمشق ـ بيروت. 1999م/1420هـ. الطبعة الأولى.

وكذلك هو في “الدر المصون”. 1/322. وفي كتاب “الجامع لأحكام القرآن” لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. 1/340. الطبعة الثالثة. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر. 1387 هـ/ 1967م.  واللباب في علوم الكتاب. 2/ 20. وفيهما أيضا: فانظر ما به التبسا.

3.-  بهجة المَجالس وأُنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي. 1/50. تحقيق: محمد مرسي الخولي. دار الكتب العلمية ـ بيروت. الطبعة الثانية. 1981م.

4.-  في الجامع لأحكام القرآن 1/340، والدر المصون 1/322، واللباب في علوم الكتاب. 2/20: والبس عليه أمورا.

5.-  شمس العلوم. 1/ 5993.

6.-  الجامع لأحكام القرآن. 1/ 340.

7.-  الدر المصون. 1/322.

8.-  اللباب في علوم الكتاب. 2/20.

9.-  زهر الأكم في الأمثال والحكم للحسن اليوسي. 3/187. تحقيق: د. محمد حجي ود. محمد الأخضر. دار الثقافة ـ الدار البيضاء. الطبعة الأولى ـ 1401 هـ / 1981م.

10.-  البدر السافر لهداية المسافر إلى افتكاك الأسارى من يد العدو والكافر لمحمد بن عبد الوهاب بن عثمان. ص: 103. تقديم وتعليق: د. عبد الهادي التازي. الرياض. الطبعة الأولى. 1433هـ/2012م.

11.-  الوسيلة الأدبية للعلوم العربية للشيخ حسن المرصفي.1/567. مكتبة الثقافة الدينية. القاهرة. الطبعة الأولى. 1433 هـ/2012م.

12.-  زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية. ص: 356. دار ابن حزم ـ بيروت. الطبعة الأولى ـ 1420هـ/1999م.

13.-  الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري). لمحمد بن إسماعيل أبي عبدالله البخاري الجعفي.4/126. تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر. دار طوق النجاة. الطبعة الأولى. 1422هـ.

14.-  ن. التذكرة الحمدونية لمحمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون. 4/272. دار صادرـ بيروت . الطبعة الأولى. 1417 هـ.

15.-  المصدر نفسه.

16.-  ديوان الخنساء بشرح ثعلب. ص: 388. تحقيق: د. أنور أبو سويلم. دار عمار. عمان ـ الأردن. الطبعة الأولى. 1409 هـ / 1988م.

17.-  المصدر نفسه. ص: 378 ـ 392.

18.-  المصدر نفسه. ص: 386.

19.-   التعازي والمراثي والمواعظ والوصايا الأزدي، لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد. ص: 124. تحقيق: إبراهيم محمد حسن الجمل. مراجعة: محمود سالم. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.

20.-  ن. مثلا: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. 9/340. دار الكتب ـ القاهرة. وخزانة الأدب لعبد القادر البغدادي. 8/ 113. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي ـ القاهرة. الطبعة الرابعة ـ 1420 هـ/2000م.

21.-  الشعر والشعراء لابن قتيبة. 1/344. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر. دار المعارف. القاهرة. 1982.

22.-  ن. زهر الأكم. 1/ 218 ـ 219.

23.-  هذا هو رأي كثير من الناس في عمر رضي الله عنه ـ وقد كان صاحبه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أعلم به وبحاله إذ قال لعبد الرحمن بن عوف، وقد قال له عبد الرحمن:  إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ رَأْيِكَ إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ غِلْظَةٌ، :” ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرَانِي رَقِيقًا، وَلَوْ أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَيْهِ لَتَرَكَ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَمَقْتُهُ فَكُنْتُ إِذَا غَضِبْتُ عَلَى رَجُلٍ أَرَانِي الرِّضَاءَ عَنْهُ، وَإِذَا لِنْتُ لَهُ أَرَانِي الشِّدَّةَ عَلَيْهِ”. الكامل في التاريخ لعز الدين ابن الأثير. 2/266. تحقيق: عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي. بيروت – لبنان . الطبعة الأولى. 1417هـ / 1997م.

24.-  أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد) للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي. 1/98 ـ 99. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. الطبعة الأولى. 1373 هـ/1954م.

25.-  قولها: مُلاءة الحضر: الحضر: العَدْو والجري، تريد بملاءة الحضر: الغبار.

26.-  قال البرقوقي(ت: 1363هـ).  في “الذخائر والعبقريات”1/60: “الكِبر: أظنها بضم الكاف بمعنى الأكبرِ، أي: ولولا جلال الأكبر، ولك أن تقرأها الكبر، بكسر الكاف، أي الكِبرَ، ولكنه أسكن الباء ضرورة”.

الذخائر والعبقريات – معجم ثقافي جامع. عبد الرحمن البرقوقي.  مكتبة الثقافة الدينيةـ القاهرة.

قلت: قول البرقوقي: ولكنه أسكن الباء ضرورة. ذهب فيه مذهب كثير من قدماء اللغويين والنحاة في تذكيرهم الضمير العائد على الشاعرة، فكأنهم يريدون القائل، دون أن يعنيهم اسمه أو جنسه. ن. في بيان ذلك ما كتبه الدكتور محمود محمد الطناحي في مقدمة تحقيقه لكتاب الشعر لأبي علي الفارسي. 1/ 19 ـ 20. كتاب الشعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب. لأبي علي الفارسي. مكتبة الخانجي ـ القاهرة. الطبعة الأولى. 1408 هـ/1988م.

27.-  أمالي المرتضى. 1/ 98 ـ 99. ون. زهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني. 4/996. ضبط وشرح: د. زكي مبارك. زاد في تحقيقه: محمد محيي الدين عبد الحميد. دار الجيل ـ بيروت. الطبعة الرابعة ـ 1972م. والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لأبي الحسن علي بن بسام الشنتريني. 3/512. تحقيق: د. إحسان عباس. دار الثقافة ـ بيروت. 1399 هـ/ 1979م. وشرح مقامات الحريري لأبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي. 3/149. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. المؤسسة العربية الحديثة ـ القاهرة. 1972م.

28.-  سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لجمال الدين بن نباتة المصري. ص: 429. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية ـ بيروت. 1419 هـ/1998م.

29.-  تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن لابن أبي الإصبع المصري. ص: 344 ـ 345. تحقيق: حفني محمد شرف. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ـ القاهرة. 1963م.

30.-  المصدر نفسه. ص: 344.

31.-  نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري. 7/ 151 ـ 152. دار الكتب والوثائق القوميةـ القاهرة. الطبعة الأولى، 1423 هـ.

32.-  ن. في معرفة رواة ديوان الخنساء، وشراح شعرها، ما كتبه الدكتور أنور أبو سويلم، في مقدمة تحقيقه لديوانها. ص: 6 ـ 16.  ديوان الخنساء بشرح ثعلب. دار عمار. عمان. الطبعة الأولى ـ 1409 هـ / 1988م.

33.-  ن. أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء للأب لويس شيخو. ص: 136 ـ 139. المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت. 1896م.

34.-  أمالي المرتضى. 1/99.

35.-  شرح مقامات الحريري للشريشي. 3/ 149.

36.-  ن. في بعض ذلك كتاب: النثر الفني في القرن الرابع لزكي مبارك. 1/ 304. دار الجيل بيروت. 1975م.

37.-  أمالي المرتضى. 1/98 ـ 99.

38.-  زهر الآداب. 4/996.

39.-  الحماسة البصرية لصدر الدين علي بن أبي الفرج الحسن البصري. 2 / 540 ـ 541. تحقيق: د. عادل سليمان جمال. مكتبة الخانجي ـ القاهرة. الطبعة الأولى. 1420 هـ/1999م.

40.-  نهاية الأرب. 7/151 ـ 152.

41.-  معجم البلدان لشهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي.3/185 ـ دار صادر، بيروت. الطبعة الثانية. 1995 م.

42.-  خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي. 7/308. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي ـ القاهرة. الطبعة الرابعة ـ 1420 هـ/2000م.

43.-  المصدر نفسه.

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق