وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

المسجد العتيق وصومعته الحجرية بحاضرة فجيج : نموذج فريد في العمران المغربي

من المفيد إثارة الانتباه إلى أهمية حاضرة فجيج في التاريخ الفكري والثقافي والعمراني للمملكة المغربية، إذ ساهمت بحظ وافر في الازدهار العلمي والثقافي لبلاد المغرب خصوصا مع استقرار الحكم للمرينيين ثم تفوقت ونبغت خلال العصر السعدي والعصر العلوي في علاقة مباشرة مع ازدهار العلم بحاضرة فاس، بحيث يمكن اعتبار مدارس العلم بفجيج امتدادا طبيعيا لجامع القرويين المبارك، وهو ما أتبثه الفاضل الباحث المختص في التاريخ العلمي لفجيج بنعلي محمد بوزيان في عديد مؤلفاته التي ستكون لنا معها وقفات في دراسات أخرى...

تتكون هذه المدينة المباركة من سبعة قصور هي: قصر لوداغير، قصر لمعيز، قصر زناڭة، قصر أولاد سليمان، قصر الحمام الفوقاني، قصر الحمام التحتاني وقصر لعبيدات.  إنها قصور مستقلة مجاليا لكنها تكاملت ثقافيا وإنسانيا وحضاريا رغم النزاعات السياسية والاقتصادية التي طفت على السطح من حين لآخر خصوصا بشأن الحصول على منابع المياه...

وقد اخترت في هذه الاطلالة العلمية أن أعرف بمعلمة فريدة من نوعها بالمغرب تقع في قصر لوداغير، أحد أشهر القصور الفجيجية من حيث العلم والصلاح والعمران، يتعلق الأمر بالمسجد العتيق الذي تلتصق به شامخة صومعة عتيقة حجرية تعود للقرن السادس الهجري...

وقد خصص الفاضل الأستاذ العربي الهلالي كتابا للمسجد العتيق وصومعته الحجرية بفجيج، نشر سنة 1981، نستفيد منه أنه لما نزل الشرفاء أحفاد الشيخ عيسى بن الشيخ عبد الرحمن الودغيري-أول من نزل من الشرفاء الأدارسة بفجيج- خلال القرن السادس الهجري إلى مكان يسمى أنجد وأجدير الذي يعرف اليوم بقصر لوداغير شرعوا في بناء مسجد جامع تتأسس عليه الحياة الاجتماعية والثقافية للبلدة، فاختاروا مكانا بالقرب من مستحم "أبي مسلوت" وأقاموا بجانبه زاوية لتعليم القرآن ومبادئ الدين...

كان المسجد المبارك يتكون في أول أمره من ثلاثة صفوف (أساكيب) ذات أقواس وسواري مستديرة مع محراب قصير ومنبر مبني داخل الجدار مع درج من جذع النخيل يتوارى في الجدار بعد انتهاء الخطبة..

استمر المسجد العتيق بفجيج في القيام بدوره كمسجد جامع إلى القرن 12 الهجري حين قرر أهل قصر لوداغير اتخاد الجامع الأوسط، بعدما زيد في مساحته وبناء صومعته ونقل بعض أحباس المسجد العتيق إليه، كمسجد جامع جديد نظرا لموقعه الذي يتوسط القصر بعد أن زاد عدد سكانه وازدهر عمرانه، وهو المسجد الجامع إلى اليوم..

لكن رغم تحويل الخطبة من الجامع العتيق إلى الجامع الأوسط فقد حافظ على أداء مهامه الدينية والاجتماعية والتربوية من إقامة الصلوات والتعليم الذي استمر إلى حدود ستينيات القرن العشرين..

يرجح الفاضل العربي الهلالي في كتابه سابق الذكر أن بناء الصومعة الحجرية الفريدة من نوعها يعود لنهاية القرن الخامس الهجري أو بداية السادس.. ويصفها قائلا إنها "تتكون من قاعدة مربعة يبلغ طول كل ضلع منها 4،5 مترا. وعند علو 5،20 مترا اتخذت شكلا ثمانيا octogonal    بحيث أضيف ضلع جديد بين كل ضلعين مربعين. ويبلغ عرض ضلع كل ضلع من الأضلاع الأربعة التي تعتبر استمرارا للأضلاع القاعدية 2،20 مترا، أما الأضلاع الأربعة الأخرى التي تصلها فيبلغ عرضها 1،80 مترا، ويبلغ العلو الإجمالي للصومعة 19 مترا. يبلغ سمك الحائط 0،70 مترا، ويتكون الحائط الخارجي من صفائح كلسية لا يتعدى سمكها غالبا 0،15 مترا تفصلها طبقات من الطين الأصفر لا يتعدى سمكها 0،05 مترا بحيث تظهر من بعيد وكأن الصومعة الحجرية مبنية بالصفائح الكلسية فقط، ويقدر عدد الصفائح التي بنيت بها الصومعة 13000 قطعة. أما من الداخل فهي مستديرة الشكل، مبلطة بطين رمادي في غاية الصلابة.."

اتخاد الصومعة الحجرية شكلا ثمانيا عند علو 5،20 مترا

الصومعة الحجرية بشكلها الهندسي الثماني

والمثير للانتباه هو حرص بناة الصومعة المباركة على اتخاد شكل ثماني لها في وقت لم تكن هذه الطريقة الهندسية معروفة في المنطقة، وهو ما ينم عن معرفة علمية وهندسية كبيرة في منطقة بعيدة عن المراكز الكبرى للعلم والحضارة في المغرب والأندلس، وهذه مسألة ينبغي الوقوف عندها وتأمل مراميها ومقاصدها، رحم الله هؤلاء الفضلاء وجزاهم عن فجيج والمغرب خيرا...

ونستفيد من سيدي العربي الهلالي أن الصومعة لم تكن تتوفر حتى سنة 1363 هـ على جامور أو أنه قد تلاشى إلى أن بني بإيعاز من الشيخ الفقيه أبو ناصر بن أبي القاسم بن عبو الهلالي (ت 1397) رحمه الله، وهذا مثال آخر على الحس العمراني الذي ميز الكثير من علماء المغرب الذين أضافوا إلى أدوارهم العلمية والتربية مقاصد عمرانية، وهذا مبحث آخر...

 

المسجد العتيق بقصر لوداغير

المسجد الأوسط –الجامع اليوم- الذي تحولت إليه الخطبة خلال القرن 12 هـ

لا شك أن صومعة من هذا القبيل، بتاريخها وهندستها وفنها ومقاصدها تحتاج إلى تعريف وعناية، لأنها لو ضاعت أو تلاشت فستضيع معها ذاكرة دينية وعمرانية وإنسانية شكلت ولا زالت تشكل نسبيا أساس الاجتماع البشري في هذه الحاضرة المباركة... ولنا عودة في حلقات مقبلة إلى بعض مظاهر الحركة العلمية والعمرانية بالحاضرة الفجيجية بتوفيق من الله

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق