مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

وجوه إعجاز القرآن الكريم من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش -الحلقة الثانية: فنون البلاغة في قوله تعالى: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)

كان من وجوه إعجاز القرآن الكريم أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، ويظهر ذلك في كل آية منه، وهو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا تفنى غرائبه، ولا تحصى لطائفه.

ونقف في هذه الحلقة عند قوله تعالى من سورة البقرة: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، انطلاقا من كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش، حيث وقف رحمه الله فيها على أربعة فنون بلاغية لم أر من نبه عليها في هذا الموضع قبله باستثناء واحدة منها، وهي تدل على بصيرة وتأمل خصب للمؤلف في كتاب الله تعالى. ونحن نبسط في ما يلي هذه الفنون وهي: الاطراد والاحتراس والمساواة وحسن البيان، لنرى بعد ذلك كيف تألفت في هذه الآية.

1- الاطراد: قال المؤلف: «في قوله تعالى: (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الآية، فنّ من فنون البلاغة يسمى الاطراد»(1)، وقد أشار إلى ذلك أيضا الطاهر ابن عاشور رحمه الله في تحريره وتنويره.

وهو من فنون البديع وحَدُّهُ «أن يذكر المتكلم آباء من يتحدث عنه متسلسلة على وفق الترتيب الطبيعي الذي هو لهم، في سلسلة نسبهم، بدءا من الجد الأعلى وتنازلا إلى الأب المباشر، أو بالعكس، إذا كان له غرض بذكرهم، وسموا هذا «الاطراد» وهذه التسمية ملائمة للمعنى اللغوي للكلمة، فالاطراد في اللغة: التتابع والتسلسل، يقال: اطرد النهر، إذا تتابع جريان مائه، واطرد الكلام أو الحديث، إذا جرى مجرى واحدا متسقا. ومخالفة الاطراد هذا لا تحسن إلا لنكتة بلاغية يريد المتكلم بها الإشارة إليها، فالاطراد يلائم السلسلة الفكرية الطبيعية لدى المتلقي(2).

وقد تجاوز الله تعالى في الآية جدهم الأدنى وهو إسحاق إلى جدهم الأعلى وهو إبراهيم لكونه المبتدأ بالملة المتبعة.

 وإنّما عدّ إسماعيل مع الآباء؛ لأنّ العمّ يدخل في عداد الآباء، كما أنّ الخالة تدخل في عداد الأمّهات(3)، والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأم كالأخوال. وذلك كثير فِي كلامهم(4)، وبهذا لا يختل الاطراد في الآية.

وقد قصد بهذا الاطراد التنويه بهم كما قال الطاهر ابن عاشور: «وَفِي الإِتْيَانِ بِعَطْفِ البَيَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ضَرْبٌ مِنْ مُحَسِّنِ الِاطِّرَادِ تَنْوِيهًا بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ الأَسْلَافِ»(5).

وثاني هذه الفنون:

2- الاحتراس: ويدخل في علم المعاني، وهو: أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل، فيفطن له، فيأتي بما يخلصه من ذلك(6)، ويدفع به ذلك الإِيهام، ومثل هذا يُوجَد في أرفع الكلم لتحقيق غرضٍ بلاغي(7).

وبيان ذلك في الآية أنه لو وقف عند آبائك لاختلت صحة المعنى، لأن مطلق الآباء يتناول من الأب الأدنى إلى آدم وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملته، فاحترس بذكر البدل عما يرد على المبدل منه لو كان وقع الاختصار عليه فتأمل واعجب(8).

وثالث هذه الفنون:

3- المساواة: قال المؤلف: «وفيه أيضا فنّ المساواة لأن ألفاظ هذا المعنى لا فضل فيها عنه ولا تقصير»(9). وهو يدخل في علم المعاني وحَدُّه أن يؤتى بالكلام مساويا للمعاني التي تدل عليها، دون أن تكون ألفاظه زائدة أو ناقصة(10).

وقد جعل بعضهم القدرة على المطابقة بين الجمل المنطوقة والمعاني المرادة منها، من القدرات النادرة في المتكلمين من الناس، وأن الكلام المطابق للمعاني التي يراد التعبير عنها به حتى يكون بمثابة القوالب لها كلام نادر(11)، وهذا لا يعيا به الله سبحانه وتعالى في كتابه المعجز. ففي الآية حكاية لجواب بني يعقوب عن سؤال أبيهم يعقوب عليه السلام ما تعبدون من بعدي؟ فكان الجواب (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) على قدر السؤال، وكل لفظ في هذا الجواب يحمل معنى يدل عليه فإذا سقط اللفظ نقص المعنى.

ورابع هذه الفنون:

4- حسن البيان: قال المؤلف: «وفيه أيضا حسن البيان لأن فيها بيانا عن الدين بأحسن بيان لا يتوقف أحد في فهمه»(12).

وهو عبارة عن الإبانة عما في النفس بألفاظ سهلة بليغة بعيدة من اللبس، وحقيقته أيضا إخراج المعنى المراد في أحسن الصور الموضحة له، وإيصاله لفهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها، لأنه عين البلاغة(13).

فقد أبانوا في جوابهم في الآية عن سؤال أبيهم عن الدين الذي سيتبعونه أحسن بيان؛ حيث جاء قولهم (نَعْبُدُ إِلَهَكَ) بإضافه إله إلى ضمير يعقوب عليه السلام وإلى آبائه التي تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه يصفون الله بها فيما لقنه لأبنائه منذ نشأتهم، وفي هذا أيضا إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم(14) ، وهذا هو المعنى المراد إيصاله إلى السائل وهو يعقوب عليه السلام، لأن سؤاله لهم كان للنظر في مقدار ثباتهم على الدين، وكذلك لبيان صفة المعبود.

والحقيقة أن كل فن من فنون البلاغة في هذه الآية يخدم غيره، فاطراد الآباء في الآية وقع به الاحتراس، وهذا الأخير كَمَّلَ المعنى في الآية، فحسن البيان فيها، والكلام مع كل ذلك مساوٍ للمعنى دون زيادة في اللفظ أو نقصانه. وقد جاءت معظم آيات الكتاب العزيز مشتملة على الفنين الأخيرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/178.

2- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/459.

3- دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر 1/250.

4- انظر: معاني القرآن للفراء 1/82.

5- التحرير والتنوير 1/733.

6- تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر ص: 245.

7- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/84.

8- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/178.

9- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/178.

10- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/16.

11- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/16- 17.

12- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/178.

13- انظر: تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر ص: 489- 490.

14- انظر: التحرير والتنوير 1/733.

*************

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البلاغة العربية أسسها، وعلومها، وفنونها، وصور من تطبيقاتها بين طريف وتليد، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الرابعة: 1434هـ/ 2013م، منشورات دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت.

– تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع، تقديم وتحقيق: الدكتور حفني محمد شرف، منشورات: الجمهورية العربية المتحدة- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- لجنة إحياء التراث الإسلامي.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر، لعبد القاهر الجرجاني، محقق القسم الأول: طلعت صلاح الفرحان، محقق القسم الثاني: محمد أديب شكور أمرير، الطبعة الأولى: 1430هـ/ 2009م، منشورات دار الفکر، عمان، الأردن.

– معاني القرآن، للفراء، تحقيق: أحمد يوسف النجاتي، محمد علي النجار، عبد الفتاح إسماعيل الشلبي، منشورات دار المصرية للتأليف والترجمة، مصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق