مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

نصوص مغربية محققة في تاريخ العلوم

 

 

تقديم : عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

العنوان : نصوص مغربية محققة في تاريخ العلوم (الرياضيات والفلك والطب والنبات والأغذية)

تنسيق وتقديم : د. إبراهيم الهرام ود. الخياطي الريفاعي

مراجعة : د. الحسن طالبي

الناشر : دار بصمة لصناعة الكتب، الطبعة الأولى، 2022. (192 صفحة)

   أَقْدَم بعض الباحثين المغاربة الجادين على خطوة مهمة من خلال نشرهم لبعض النصوص العلمية العربية التي تنتمي للتقليد العلمي بمنطقة الغرب الإسلامي. تكتسي هذه الخطوة بعض الدلالات الإيجابية المتعلقة بالاشتغال بمبحث تاريخ العلوم داخل بلداننا العربية. نشير من بينها إلى دلالتين : تتعلق الأولى بالمرحلة التي نُشرت إبانها هذه النصوص، إذ يبدو أن الاهتمام بمبحث تاريخ العلوم قد شهد نوعا من التراجع النسبي في الآونة الأخيرة لدى الباحثين عموما. لهذا، نأمل أن تمثل هذه المبادرة نوعا من التذكير بأهمية دراسة المتون العلمية العربية من جهة، وبالمهمة الملقاة على الباحثين الشباب لاستكمال ما دشنه بعض الباحثين السابقين منجهة أخرى. أما الدلالة الثانية، فتتعلق بالمنطقة الجغرافية التي تنتمي لها هذه النصوص. لقد أحسنوا بتركيزهم على نشر بعض النصوص العلمية المغاربية، وذلك نظرا لأن التراث العلمي لهذه المنطقة لا يزال يحتاج إلى تظافر جهود عدة باحثين للكشف عن أهميته (أي التراث) العلمية ودلالاته الثقافية المتعددة. بتعبير آخر، لا بد من تكاثف جهود الباحثين لدراسة الترابط العضوي الذي حصل بين الجانب العلمي وبعض الجوانب الأخرى التقنية والعمرانية والاجتماعية خلال مغرب العصر الوسيط.

   سنقدم في ما يلي وصفا موجزا لهذا الكتاب الذي نأمل أن تعقبه إسهامات أخرى تزيد هذا المبحث العلمي – في بلداننا – عمقا في التنظير وتعددا في المقاربات.يتزوع الكتاب على ثلاثة أبواب : خُصّص الباب الأول لنصوص في الرياضيات والحساب، بينما خُصص الباب الثاني للفلك والهيئة، أما الباب الثالث فقد وقِفَ على الطب والنبات والأغذية.

يتعلق النص الأول بالأرجوزة الياسمينية في الجبر والمقابلة، وقد حقق هذا النص كل من د. إبراهيم بحيات ود. لبنى العماري.تطرق الباحثان، قبل إيراد النص المحقق، إلى بعض المعطيات التاريخية الخاصة بالسياق الذي عاش فيه ابن الياسمين. كما أشارا أيضا إلى بعض المعطيات البيوغرافية الخاصة به مع التعريج باقتضاب على بعض أعماله العلمية، إضافة إلى الإشارة إلى بعض المسائل البيبليوغرافية الخاصة بالأرجوزة الياسمينة مع محاولة إبراز أهميتها – وأهمية مؤلفها – ضمن التراث العلمي للغرب الإسلامي.

تبوأت هذه الأرجوزة القصيرة نسبيا مكانة مهمة داخل التقليد الرياضي العربي، حيث عمل بعض رياضيي الغرب الإسلامي ومشرقه على شرحها والتعليق عليها.سيشرحها رياضيون من الغرب الإسلامي كالقلصادي وابن قتفذ القسنطيني، كما شرحها بعض الرياضيين المشارقة كابن الهائم المصري (1412م)[1] الذي استخدم في ذلك (شرحها) بعض المكتسبات الرياضية التي تحققت على يدي الكرجي في المشرق الإسلامي وعلى يدي ابن البنا المراكشي بالمغرب.[2]تعكس هذه المسألة أمورا مهمة ليس فيما يخص أهمية الأرجوزة الياسمينية فحسب، بل أيضا في ما يتعلق بانتشار المعارف العلمية داخل البلدان الإسلامية ومدى تفاعل الرياضيين، أو العلماء بصفة عامة، مع نصوص بعضهم البعض أو نصوص سابقيهم.

  يتميز نص الأرجوزة الياسمينية المنشور ضمن هذا الكتاب – الذي نحن بصدد تقديمه –  باعتماد المحققين أكثر من نسخة، كنسخة مكتبة الإسكوريال ونسخة المتحف البريطاني ونسخة مكتبة الملك عبد الله بالسعودية. رغم ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه النشرة ليست هي الوحيدة ولا الأولى، فقد سبق أن نُشرت الأرجوزة محققة أكثر من مرة. حيث حققها سابقا التهامي زمولي ضمن رسالته للماجستير، ونشرها أيضا جلال شوقي ضمن كتابه المعنون بـ”منظومات ابن الياسمين”، كما نشرها الأستاذ المهدي عبد الجواد ضمن تحقيقه لنص ابن الهائم المصري المعنون بـ”شرح الأرجوزة الياسمينية في الجبر والمقابلة”، وأعاد نشرها إلكترونيا بشكل منفرد. نظرا لأهمية هذه الأرجوزة فقد ترجمها الأستاذ المهدي عبد الجواد وعلق عليها بالشرح والتفسير مع تحويل بعض قضاياها الرياضية إلى لغة رمزية معاصرة، ناشرا معها أيضا الصيغة العربية.[3]

لكن، لا يعني ذكرنا لهذه المعطيات البيبليوغرافية بتاتا أي تقليل من أهمية نشر هذه الأرجوزة ضمن هذا الكتاب، بل بالعكس تماما، فنشر النص محققا أكثر من مرة أمر بالغ الأهمية في دراسة النصوص التراثية عموما، ونصوص تاريخ العلوم العربية بصفة خاصة.

   أما النص الثاني المحقق ضمن الباب الأول – الخاص بالرياضيات – فهو “منظومة في الكسور” للرياضي إبراهيم بن هلال السجلماسي (م. 1498). تتكون القصيدة من أحد عشر بيتا تتناول العمليات الأساسية المرتبطة بالكسور كالضرب والجمع والطرح … عملت الباحثة قبل إيراد المنظومة على التطرق لبعض المسائل المتعلقة بالسياق الثقافي الذي ظهرت إبّانه هذه القصيدة، مركزة على طرائق التعليم المتداولة آنذاك وما اتسمت به هذه الكيفيات من “حفظ” و”استظهار”، وهو ما انعكس، في نظر الباحثة، سلبا على جودة التعليم الذي غاب عنه عنصرا التجديد والإبداع. كما أشارت أيضا إلى النسخ الخطية التي اعتمدتها في تحقيق المنظومة مقدمة في الآن نفسه توصيفا لهذه النسخ الخطية.

تولى د. ياسين زواكي تحقيق النص الرياضي الثالث المعنون بـ”أرجوزة المقنع في علم الجبر والمقابلة” للرياضي ابن الهائم المصري (م. 1412). وقد ارتأى الباحث أن يُعرّج، قبل إيراد النص المحقق، على تقديم نبذة تاريخية موجزة حول تطور الأنشطة الرياضية داخل التقليد الرياضي العربي في العصر الوسيط مع التطرق لمكانة المنظومات والأراجيز ضمن هذا التقليد الرياضي. ثم أشار بعد ذلك إلى بعض المعطيات البيوغرافية والبيبليوغرافية الخاصة بالمؤلف (ابن الهائم المصري). هذا بالإضافة إلى الإشارة إلى أماكن تواجد النسخ المخطوطة للقصيدة في مكتبات العالم مع تقديم وصف للنسختين المعتمدتين في التحقيق، ليختم الباحث تقديمه بالحديث عن أحد الشروح التي وُضعت على هذه المنظومة وعن الحاشية التي وضعت على هذا الشرح نفسه. يتعلق الأمر هنا بشرح زكريا بن محمد الأنصاري المسمى “فتح المبدع في شرح المقنع” وحاشية أحمد الشافعي الجنحاني المالكي على شرح الأنصاري، أي إن العمل الثاني (حاشية الجنحاني) يُعتبر شرحا من المستوى الثاني حيث يتعلق الأمر بشرحٍ يتوخى شرحَ الشرحِ الذي وضع على منظومة ابن الهائم.

   يتضمن الباب الثاني، المخصص لعلم الفلك والمواقيت، نصا لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد التادلي(1894م) ونصا آخر لمحمد بن سعيد السوسي المرغيتي (1678م). حقق النص الأول وقدم له د. الخياطي الريفاعي، ويتعلق هذا النص بمجال الآلات الفلكية – بالضبط بآلة الأسطرلاب – وهو ما يتضح من العنوان نفسه : “رسالة أولي الألباب في العمل بالأسطرلاب”. عمل المحقق على تقديم نبذة تاريخية بخصوص هذه الآلة مؤكدا على أهميتها ومكان الصدارة الذي تبوأته ضمن الآلات الفلكية في التقليد الفلكي العربي.مشيرا إلى وجود نوعين من الكتابات العلمية حول هذه الآلة : مصنفات تهتم بشرح طرق صنع الأسطرلابات، ومصنفات تبسط وتصف كيفيات استعمال هذه الآلة. كما أورد بعض التعريفات المتضمنة في الكتب العلمية التراثية التي تقدم تعريفات لآلة الأسطرلاب مصحوبة بالإشارة إلى أنواعها…أعْقَبَ ذلك بتقديم ترجمة للمؤلف مشيرا إلى شيوخه وتلاميذه ومؤلفاته المخطوط منها والمطبوع مع تقديم وصف للنسخ الخطية للرسالة، والتي تتكون من مقدمة (في خمس صفحات) وأحد عشر بابا (في ما يقارب تسع صفحات).

أما النص الثاني ضمن هذا الباب (أي الباب الثاني الخاص بالفلك) فهو “معونة اليحسسوبي في الربع المجيب” للمؤقت محمد بن سعيد السوسي المرغيثي (1978م). يتطرق الباحث محمد أجردي، بعد تقديم موجز يخص بعض المسائل المرتبطة بالمنظومات عموما، للمعطيات البيوغرافية الخاصة بالمؤلف (سيرته وشيوخه) ولبعض المعلومات البيبليوغرافية، حيث أشار إلى بعض أعماله مقدما في الآن نفسه وصفا لمحتوياتها. كما تحدث في نوع من التدرج عن “المنظومة” باعتبارها طريقة مخصوصة في الكتابة مع الإشارة إلى بعض تعريفاتها وخصائصها، ثم تطرق بعد ذلك لـ'”نشأة النظم المغربي السوسي” (أي نسبة إلى منطقة سوس المغربية التي ينتمي إليها المؤلف)، لينتقل بعد هذا للحديث عن شكل وبنية المنظومة المحققة (معونة الحيسوبي في الربع المجيب). كما خصص حيزا للتعريف بالآلة الفلكية (الربع المجيب) التي تتحدث عنها المنظومة مشيرا في الوقت نفسه – وبتفصيل – لأهم الأجزاء المكونة لها …

يتعلق الباب الثالث –والأخير- بمجال الطب والنبات والأغذية. حقق فيه د. إبراهيم الهرام نصا لمحمد بدر الدين الشاذلي الحسني عنوانه “رسالة في ما اشتمل عليه الأتاي من المنافع وبيان طبخه وطريق استعماله”، وهو عبارة عن رسالة تتكون من اثنتي عشرة صفحة. تحدث الباحث في تقديمه عن السياق التاريخي والاجتماعي لظهور الشاي في تاريخ المغرب ومدى انتشاره بين الأوساط المختلفة للمجتمع، إضافة إلى بعض السجالات التي دارت حول هذه المادة في تلك الآونة … كما تطرق لسيرة المؤلف وبعض مؤلفاته، خاتما تقديمه بالحديث عن أهمية الرسالة مع عرض موجز يصف فيه اللنسختين المعتمدتين في التحقيق.

   يتعلق النص الأخير في هذا الكتاب بعمل لـ”الشيخ الإمام شرف الدين العمريطي (1581م)”،وهو منظومة عنوانها “في ذم القهوة وتحريمها وتوبيخ شاربها ومتعاطيها”. يعالج الباحث شاح محمد، محقق المخطوط، في تقديمه بعض المسائل المتعلقة ببعض الروايات الخاصة بظهور القهوة وانتشارها. ثم أعقب ذلك بالحديث عن مدى نسبة المخطوط لمؤلفه، ليُحلل بعد ذلك مضامين المنظومة. قدم كذلك ترجمة للمؤلف مصحوبة بوصف للمخطوط وبعض الأمور التقنية الخاصة بمنهج التحقيق. ليختم تقديمه بالتطرق لبعض الدلالات الاجتماعية والسياسية والثقافية– ناهيك عن العلمية – المرتبطة بموضوع المنظومة.

في الختام، نشير باقتضاب شديد إلى أن أهمية مثل هذه النصوص المحققة المدرجة في هذا الكتاب لا تكاد تنحصر في الجانب العلمي الصرف، بل إنها يمكن أن تشكل مادة غنية يستفيد منها باحثون ينتمون إلى مجالات علمية مختلفة، وذلك بحكم الترابط الإيجابي الذي شهدته الحضارة العربية الإسلامية بين مختلف الأبعاد العلمية والاجتماعية والثقافية … كما نأمل أن تشكل مبادرة هؤلاء الشباب حافزا لمبادرات ومشاريع علمية أخرى.

[1]– بخصوص بعض شراح الأرجوزة الياسمينية يُنظر : نوال الأشهب،طرائق التعليم والتأليف الرياضي بالغرب خلال القرن 15م : منظومة في الكسور لإبراهيم بن هلال السجلماسي (المتوفى 903 هـ/1498 م) نموذجا، ضمن : نصوص مغربية محققة في تاريخ العلوم، تنسيق وتقديم د. إبراهيم الهرام ود. الخياطي الريفاعي، دار بصمة لصناعة الكتاب، 2022. (ص. 31-48). ص. 37.

[2]– يقول الأستاذ د. المهدي عبد الجواد محقق نص ابن الهائم :

“Partant de ce poème, Ibn al-Ha’im construit un manuel utilisant les savoirs algébriques développés aussi bien en Orient, en particulier par al-Karaji (m. 1029), qu’en Occident, en particulier par Ibn al-Banna (m. 1321).” Mahdi Abd eljaouad, Mathématiques et culture : l’exemple du Maghrébin Ibn al-Yāsamīn (m. 1204), in Actes du colloque Printemps de Cirta : Eclosions mathématiques et philosophiques, Constantine, 2009.

  • يقول الأستاذ المهدي عبد الجواد في مقدمة تحقيقه لنص ابن الهائم : “ومن ناحية أخرى يستعمل ابن الهائم كتب الكرجي استعمالا غير مصرح عنه، وقد تكون الفقرات في بعض الحالات نسخة مطابقة للأصل. وهذا الاستعمال ظاهر في تقديم حساب الأنواع المجهولة وفي حل بعض المعادلات من درجة أكبر من اثنين وفي التطرق إلى الاستقراء وغي العديد من المشاكل التي ترجع إلى إحدى المعادات الست”. ص. 18. ويقول أيضا : “اتبع ابن الهائم، في دراسته للأعداد الجذرية، وخاصة ذوات الأسماء والمتفصلات، ما كتبه ابن البناء في تلخيص أعمال الحساب وفي رفع الحجاب. وكذلك الحال عند دراسته جمع الأعداد المتوالية …”. ص. 21. ابن الهائم المصري، شرح الأرجوزة الياسمينية في الجبر والمقابلة، تحقيق وترجمة د. المهدي عبد الجواد، منشورات الجمعية التونسية للعلوم الرياضية. 2005.

[3]–  MAHDI ABDELJAOUAD, 12TH CENTURY ALGEBRA IN AN ARABIC POEM: IBN AL-YASAMIN’S URJUZA FI’L-JABR WA’L-MUQABALA, in : LLULL, 28, p. 181-194.

Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق