مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «تأملات في سورة العلق» “الحلقة 1”

مقدمة:

الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.

لقد نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجزاها في ظاهرها على بواطن أسرارها ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصوَّرها الحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحول التراكيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه. ثم الإقرار بأن هذا القرآن إنما هو أثرمن لغة قوم جاوزوا في الحضارة حد أهلها من سائر الأجيال، وبلغوا من أحوال المدنية أرقى هذه الأحوال، وكانوا من العلوم في مقام معلوم، لأن هذا الماء الصافي الذي يترقرق في عبارته، وهذا النظم الجيد الوثيق، وما اشتمل عليه من بدائع الأوصاف، وما فيه من روائع الحكمة ثم ما احتوى عليه من إشارات السماء إلى الأرض، وضراعة الأرض للسماء. [1]

فهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان أول ما نزل في كتاب الله تعالى سورة العلق أو سورة اقرأ التي أبانت عن حكمة الله فى خلق الإنسان، ومن كرم الله على الإنسان أنه علمه من البيان ما لم يعلم وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما في الأرض.

وسنقف في هذا المقال عند تفسير الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني المعنون بـ «معارج التفكر ودقائق التدبر» بدءا بسورة العلق، ولعل السؤال المطروح لماذا البدء بهذه السورة عوض البدء بسورة الفاتحة كما هو مألوف في جل التفاسير؟ وهنا لابد من الإشارة إلى أن الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني في تفسيره قد بناه وفق كتابه الآخر قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، وسمى تفسيره بالتفصيل: «معارج التفكر ودقائق التدبر: تفسير تدبري للقرآن الكريم بحسب ترتيب النزول وفق منهج كتاب «قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل»، وقد سلك منهجا على غير عادة المفسرين واعتمد في تفسيره على تاريخ نزول السورة، ورأى أن ذلك من التدبر الأمثل لكتاب الله الذي ينبغي أن يسلك طريقه المفسر فذكر: «أنه من الثابت قطعا أن كثيرا من السور مثل البقرة وآل عمران والنساء والأنفال هي من التنزيل المدني، وأن كثيرا من السور هي من التنزيل المكي قطعا مثل سورة العلق وقد رأيت بالتدبر الميداني للسور أن ما ذكره المختصون بعلوم القرآن الكريم من ترتيب نزول، هو في معظمه حق، أخذا من تسلسل البناء المعرفي التكاملي، وتسلسل التكامل التربوي، واكتشفت في هذا التدبر أمورا جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين، وحركة المعالجات التربوية الربانية الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم، وللذين آمنوا به واتبعوه، وللذين لم يستجيبوا لدعوة الرسول متريثين أو مكذبين كافرين».[2] وسورة العلق تحتوي آياتها مقاصد جليلة وفوائد عظيمة وفضائل متعددة.

أهم مقاصد سورة العلق:

وتسمى كذلك «اقرأ» مقصودها الأمر، على أن «اقرأ» يشير إلى الأمر،  و«العلق» يشير إلى الخلق، و«اقرأ» يدل على البداية وهي العبادة بالمطابقة، وعلى النهاية وهي النجاة يوم الدين باللازم، والعلق يدل على كل من النهاية ثم البداية بالالتزام، لأن من عرف أنه مخلوق من دم عرف أن خالقه قادر على إعادته من تراب، فإن التراب أقبل للحياة من الدم، ومن صدق بالإعادة عمل لها، وخص العلق لأنه مركب الحياة، ولذلك سمي نفسا «بسم الله» الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالإلهية «الرحمن» الذي عمت نعمته فاستوجب الشكر من سائر البرية «الرحيم» الذي وفق من شاء من خواصه لما أنالهم به المواهب السنية والعطايا الوفية.[3]

ومن مقاصد سورة العلق أنها ابتدأت بالدعوة إلى القراءَة والتعليم، وأشارت إلى بعض المراحل في خلق الإنسان، وبينت فضل الله على رسوله الكريم بإِنزال القرآن، وتذكيره بأَول النعماءِ وهو يتعبد ربه بغار حراءَ حيث تنزل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ» [العلق:1-2]

ثم تحدثت عن طغيان الإِنسان في هذه الحياة مغترًّا بما أُوتي من قوة وثراءٍ، وعن تمرده على أَوامر ربه بسبب ما أَولاه، وهددته بالعودة إِلى خالقه لينال الجزاءَ: «كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رآهُ اسْتَغْنَى … » [العلق: 6-7]

ثم تناولت قصة أَبي جهل الذي كان يتوعد الرسول وينهاه عن الصلاة انتصارًا لعبادة الأَوثان: «أَرأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى». [العلق: 9-10].

ثم أَبرزت تهديد ذلك الشقي، وزجره بأَقصى العقوبات إِذا استمر على بغيه وضلاله: «كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ».[العلق: 15-16]

وكان ختام السورة الإِشارة إِلى عجز ذلك الشقي عن تنفيذ تهديده للرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة عشيرته ووفرة أَنصاره حين أَغلَظ صلى الله عليه وسلم له القول لردعه: «فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ» [العلق: 17-18].[4]

ولعلك تسأل عن تناسق الآيات؟ والجواب: لما ذكر الله فيما ذكر بعض مظاهر القدرة والعلم وكمال النعم التي أنعم بها على الإنسان، ومقتضى ذلك ألا يكفر به أحد، ولكن الإنسان كفر وبغى فأراد الله أن يبين السبب فقال ما معناه: إنه حب الدنيا والغرور بها والحرص عليها حتى تشغله عن النظر في الآيات الكبرى! بعد أن أمر الله نبيه بأن يتلو ما أوحى إليه من الكتاب وأبان له سبب كفر الإنسان ضرب له مثلا برأس من رءوس الكفر قيل: هو أبو جهل، وإن كانت الآية عامة.[5]

كما أن السورة تضم بين ثناياها فوائد لغوية دالة على غزارة هذا الكتاب المعظم بعلوم جمة؛ كالنحو والبلاغة والفقه وغيرها فيها من متانة الألفاظ ما لا يوجد في كتاب آخر.

تأملات لغوية:

سورة العلق أو اقرأ المكية بالإجماع هي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء، حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره، تضمنت الأمر بالقراءة مفتاح العلم، وبيان خالق الإنسان وبعض مظاهر قدرة الله على الإنسان، وزجر الكافر الطاغية المعاند، الذي يكون غناه سببا في طغيانه، وينهى عن الخير والصلاة، مع أنه لو أمر بالتقوى والخير، لكان مستحقا المثوبة الكبرى في جنة المأوى، ليته يعلم بأن الله يرى كل شيء وكل تصرف منه، ويعلم الغيب والشهادة، وسيجازي كل إنسان على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولئن لم ينته هو وأمثاله من الكفار عن ضلالهم ليعذبنه الله عذابا شديدا، كما تبين هذه الآيات في سورة القلم.[6]

واستهلت السورة الكريمة بلفظة «اقرأ» وهي فعل أمر مبني على السكون، وفاعله مستتر تقديره: أنت، و«باسم» متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل، أي مفتتحا، وأعربها ابن خالويه زائدة تابعا في ذلك لأبي عبيدة، قال: الباء زائدة، والمعنى: اقرأ باسم ربك، كما قال: سبح اسم ربك، وقيل الباء زائدة كقول الشاعر: [7]

سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ

وقيل دخلت لتنبه على  البداية باسمه في كل شيء، كما قال تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم» فعلى هذا يجوز أن يكون حالا، أي: مبتدئا باسم ربك.[8] ، وذكر الميداني أن الأصل في القراءة أنها متابعة النطق بما يرى القارئ من مكتوب بالخط على صحيفة أو أي شيء يمكن أن يكتب عليه، [9] ، و«بسم ربك الذي خلق»، فـ «الذي» نعت للرب وهو في محل جر، وجملة خلق لا محل لها لأنها صلة الذي والضمير فيه يعود على الذي، و«خلق الإنسان» بدل منه، ويجوز أن يكون تأكيدا لفظيا، فيكون قد أكد الصلة وحدها، و«الإنسان» مفعول به و«من علق» متعلقان بخلق، وقوله: «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم» جاء في هذه الآية تكرير الأمر بالقراءة للإشعار بحاجة الإنسان لمتابعة القراءة في حياته لتغذية فكره وقلبه ونفسه بالمعارف والعلوم والمفهومات الصحيحات.[10] فـ«اقرأ» فعل أمر تأكيد لـ«اقرأ» الأول، والواو استئنافية، و«ربك» مبتدأ و«الأكرم» خبره، فتكون جملة علم الإنسان هي الخبر والذي خبر ثان وجملة علم صلة، وفاعل «علم» مستتر يعود على الله ومفعولاه محذوفان، أي: علم الإنسان الخط بالقلم، و«بالقلم» متعلقان بعلم، والواقع أنها متعلقة بالخط، و«علم الإنسان ما لم يعلم» جملة علم الإنسان تأكيدا لعلم الأولى أو بدل أو خبر، والإنسان مفعول به أول، و«ما» اسم موصول مفعول به ثان، وجملة «لم يعلم» صلة ما والعائد محذوف، أي: لم يعلمه. وجاء الدرس الثاني من السورة زاجرا ودافعا لاعتراض ورافضي تلقي الرسالة الربانية المنزلة على محمد صل الله عليه وسلم حيث يقول تعالى: «كلا إن الإنسان ليطغى» فـ«كلا» ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن واسمها واللام المزحلقة، وجملة يطغى خبر إن.[11]

 وقوله تعالى «أن رآه استغنى» الفاعل والمفعول به في عبارة رآه واحد، أي: رأى من ذاته أنه استغنى، وهذا من أفعال القلوب التي يصح فيها أن يكون ضميرا الفاعل والمفعول به واحدا، ومنها « حسبتني وظننتني»[12] فـ«أن» حرف مصدري ونصب، و«رآه» فعل ماض والفاعل هو، والهاء مفعول به أول، وجملة استغنى مفعول به ثان، والهاء تعود على الإنسان، ومعناه: أن رأى نفسه. وقوله تعالى: «إن إلى ربك الرجعى» كلام مستأنف مسوق لمخاطبة الإنسان الطاغي بطرق الالتفات، وإن حرف مشبه بالفعل، و«إلى ربك» خبر إن المقدم و«الرجعى» اسمها المؤخر.[13]

وفي موضع آخر من السورة تحول الخطاب إلى صيغة أخرى بدأ بالتعجيب من واقع حال شر الأقسام وأخسهم، بأسلوب طرح الاستفهام التعجيبي الموجه لكل من يصلح لخطاب بكلام ذي مضمون فكري، فقال الله عز وجل: «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى» فأرأيت بمعنى أخبرني، فإنها تتعدى إلى مفعولين ثانيهما جملة استفهامية، وهنا قد ذكرت ثلاث مرات، وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية، فتكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على الذي ينهى عبدا الواقع مفعولا أول لأرأيت الأولى، وأما أرأيت الأولى فمفعولها الأول الذي، ومفعولها الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثالثة، وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثان، فحذف الأول لدلالة المفعول الأول من أرأيت الأولى عليه، وحذف الثاني لدلالة مفعول أرأيت الثالثة، فقد حذف الثاني من أرأيت الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثالثة، وليس ذلك من باب التنازع؛ لأن التنازع يستدعي إضمارا والجمل لا تضمر، إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة، وجملة ينهى صلة لا محل لها، وعبدا مفعول ينهى.[14]

بيد أن التركيب الاستفهامي يكاد يكون هو الظاهرة الملفتة للنظر في البينة التركيبية لسورة العلق، «والاستفهام هو أسلوب لغوي أساسه طلب الفهم»[15]، وكما هو معروف فقد حدد النحاة حرفين للاستفهام هما: الهمزة وهل فأصلهما الاستفهام، والهمزة هي أم الباب عند النحاة، وقد كثر  في القرآن الكريم الاستفهام بالهمزة.[16]  غير أن للاستفهام  في سورة العلق وظيفة تتجاوز طلب الفهم، وتتجه نحو التقرير والإنكار، فكان للاستفهام  بالهمزة حضوره الأقوى بتكرار لفظة أرأيت، علاوة على استخدامها بصيغة ألم يعلم أي مع الجزم بغرض النفي وهي هنا تؤدي وظيفة الإنكار.

وقد اشتد النص في توجيه التحذير والتهديد والزجر للطاغي الباغي الذي ينهى عبدا إذا صلى، فقال الله عز وجل عقب التلويح الذي سبق: «كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة»  أكّد الردع الأول بحرف الردع الثاني في آخر الجملة وهو المَوْقع الحقيق لِحرف الردع إذْ كان تقديم نظيره في أول الجملة، لِما دعا إليه المقام من التشويق، عقب الردع بالوعيد على فعله إذا لم يرتدع وينته عنه، واللام في «لنسفعا» واقعة في جواب قسم محذوف، واللام في «لئن» موطئة للقسم ونسفعا فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد الخفيفة.[17] التي يكثر دخولها في القسم المثبَت، وكتبت في المصحف ألِفاً رعياً للنطق لها في الوقف لأن أواخر الكلِم أكثر ما ترسم على مراعاة النطق في الوقف.[18] ولنسفعا يقال لغة: سفعه على وجهه إذا لطمه براحته، وسفعه بالعصا إذا ضربه بها، وسفعه بناصيته ورجله إذا قبض عليهما قبضا شديدا بعنف، وجذبه منهما وأخذه.[19]

والتعريف في « الناصية» للعهد التقديري، أي بناصيته، أي ناصية الذي ينهى عبداً إذا صلى وهذه اللام هي التي يسميها نحاة الكوفة عوضاً عن المضاف إليه، وهي تسمية حسنة وإن أباها البصريون فقدروا في مثله متعلِّقاً لمدخول اللام.و«ناصية» بدل من الناصية وتنكيرها لاعتبار الجنس، أي هي من جنس ناصية كاذبة خاطئة.و«خاطئة»  اسم فاعل من خَطِىء من باب عَلِم، إذا فعل خطيئَة، أيْ ذنْباً، ووصفُ الناصية بالكاذبة والخاطئة مجاز عقلي. والمراد: كاذب صاحبُها خاطِىء صاحبها، أي آثم، ومُحَسِّن هذا المجازَ أنّ فيه تخييلاً بأن الكذب والخِطءَ بَاديان من ناصيته فكانت الناصية جديرة بالسفع .[20]

ولما كان هذا النص قد نزل بمناسبة قول أبي جهل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ألم أنهك عن هذا؟ إنك لتعلم أنه ما بها رجل أكثر ناديا مني كان من المناسب أن يوجه له النص التحدي بأن يدعو كل أهل ناديه، أي: بأن يدعو كل أنصاره مستظهرا بهم على رسول الله فإن الله سيمنع رسوله ويحفظه منهم، إذ سيرسل الزبانية وهم ملائكة إهلاك وتعذيب، فينزلون به وبأنصاره الذين يدعوهم تعذيبا شديدا وإهلاكا، ويمنعون رسول الله منهم،[21] فقال الله عز وجل: «فليدع ناديه سندع الزبانية» أمر تحدّ بأسلوب خطاب الغائب، ولام الأمر في «فليدع ناديه»  للتعجيز، وهذه الآية معجزة خاصة من معجزات القرآن فإنه تحدى أبا جهل بهذا وقد سمع أبو جهل القرآن وسمعه أنصاره فلم يقدم أحد منهم على السطو على الرسول صلى الله عليه وسلم  مع أن الكلام يلهب حميته. وإضافة النادي إلى ضميره لأنه رئيسهم ويجتمعون إليه، وقوله: «سندع الزبانية» جواب الأمر التعجيزي، أي فإن دعا ناديَه دعوْنا لهم الزبانية ففعل «سندع»  مجزوم في جواب الأمر، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل، والزبانية الذين يزبنون الناس، أي يدفعونهم بشدة، والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشُّرطة.[22]

وأخيرا أعاد النص زجر هذا الصنف الطاغي فقال الله عز وجل: «كلا» وبعده التفت الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوب الخطاب الإفرادي فقال له «لا تطعه واسجد واقترب»، وهو خطاب موجه لكل مؤمن يعبد ربه، ويجد من ينهاه عن إيمانه وعبادته.  وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة والمعنى: لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يَضرك.وأكد قوله : «لا تطعه» بجملة  «واسجد»  اهتماماً بالصلاة وعطف عليه،  «واقترب» للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلّي مقترباً من الله تعالى.والاقتراب: افتعال من القرب، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد [23]

واعتمدت البينة التركيبية لسورة العلق على الجمل الفعلية في تناوب محدود مع الجمل الاسمية، ويمكن بيان أهم الظواهر والعلاقات التركيبية على نحو ما يوضحه الجدول التالي:

تدل البنية التركيبية للسورة على العلاقات الكائنة بين الضمائر الشخصية ( الله، النبي، الإنسان عموما) وشبكة الضمائر والعلاقات الكائنة بينها هي التي تؤسس الفضاء الأساسي المتواصل والمنتظم للتواصل والمعنى في كل الخطاب القرآني من أوله إلى آخره.[24]

فكما احتوت السورة جمال اللفظ وتركيبه ومعناه، ضمت كذلك أساليب بلاغية فبدت منسجمة في أعلى مستويات الانسجام، فجاءت ألفاظها وصيغها في أسلوب ينساب في عذوبة وسلاسة، وحسن تركيب، وبديع ترتيب، وتلك هي قمة البلاغة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، الرافعي، ص:55،   دار الكتاب العربي – بيروت

الطبعة الثامنة – 1425 هـ – 2005 م.

[2] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/6، دار القلم دمشق، الطبعة الاولى، 1420هـ/200م.

[3] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، 8/478، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

[4] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، 10/1964، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، لطبعة: الأولى، (1393 هـ = 1973 م) – (1414 هـ = 1993 م).

[5] التفسير الواضح،الحجازي محمد محمود، 3/884، دار الجيل الجديد بيروت، الطبعة: العاشرة – 1413 هـ.

[6] التفسير الوسيط، د وهبة بن مصطفى الزحيلي ، 3/2901، دار الفكر دمشق، الطبعة : الأولى – 1422 هـ.

[7] شرح الشواهد الشعرية في أُمَّات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»، محمد بن محمد حسن شُرَّاب، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان الطبعة: الأولى، 1427 هـ- 2007 م، 1/470، هذا البيت ينسب لشاعرين، الأول: الراعي النميري، عبيد بن حصين، والثاني:القتال الكلابي عبد الله بن مجيب – شاعر إسلامي – والبيتان في التشوق إلى الأحباب.

[8] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/362، محيي الدين درويش، دار اليمامة، دمشق -بيروت، دار ابن كثير دمشق- بيروت.

[9] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/41.

[10] نفسه، 1/48.

[11] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/362.

[12] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/56.

[13] إعراب القرآن الكريم وبيانه ، 8/363.

[14] نفسه، 8/364.

[15]  في النحو العربي، نقد وتوجيه، مهدي المخزومي، ص: 264، دار رائد العربي بيروت لبنان، الطبعة الثانية، 1406هـ/1986م.

[16]  الأدوات النحوية ودلالاتها في القرآن الكريم، د.محمد أحمد خضير، ص: 45.

[17] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/67.

[18] التحرير والتنوير، الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، 30/449-450، دار سحنون للنشر والتوزيع- تونس.

[19] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/67.

[20] التحرير والتنوير، 30/449/450.

[21] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/68-69.

[22] التحرير والتنوير، 30/451-452.

[23] نفسه، 30/453.

[24] مجلة الدراسات المستدامة، ص:104-105، السنة الثانية، المجلد الثاني العدد الثاني لسنة 2020م، 1441 هـ، سورة العلق دراسة دلالية، موسى جاسم عجيل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق