مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «نظرات في سورة القلم» «الحلقة العاشرة»

افتتاح سورة القلم بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة، وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.

ورَسمُوا حرف «ن»  بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو « نُون»  «بنونٍ بعدها واو ثم نون»، وكان القياس أن تكتب الحروف الثلاثة لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلا فإنما ترسم سينا، وياء، وفَاء، ولا ترسم صورة سَيْف، ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها.[1]

وقد اشتملت سورة القلم على خمسة دروس نستهلها بالدرس الأول، ويتجلى في:

إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكمال دينه وخلقه:

تضمن علاجا تربويا للرسول صلى الله عليه وسلم استدعته حالته النفسية تجاه مواقف المكذبين برسالته بالقرآن الذي يتنزل عليه إبان نزول السورة، إذ اتهمه بعض كبراء قومه بالجنون[2]، وفي ذلك قال عز من قائل: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ  وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ  فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».[القلم: 1-7] .

قبل الخوض في عرض مادة الآيات الكريمة لا بد من الإشارة إلى ما قالة الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني حول حرف النون أو ما شاكله من الحروف التي تفتتح بها بعض سور القرآن الكريم فقال: ما المراد من هذه الحروف؟ فذكر وجوها لذلك:

أولاها: أن حروف التهجي المقطعة الموجودة في أوائل بعض سور القرآن، هي بمثابة أدوات التنبيه[3].

ثانيها: تشير حروف التهجي المقطعة في أوائل بعض السور إلى ما تضمنه القرآن المجيد من تحد للإتيان بمثله، أو بمثل سورة منه[4].

وثالثها: الحروف المقطعة في أوائل بعض السور هي أسماء لها، فيقال مثلا سورة «نون» وسورة «صاد» وقد ذكر هذا الوجه أكثر المتكلمين، واختاره الخليل، وسيبويه، من أئمة اللغة العربية[5].

ورابعها: أن هذه الحروف المقطعة مأخوذة من كلمات على طريقة العرب في ذكر حرف من كلمة، وهو يريدونها، كقولهم: قلت لها: « قفي» فقالت: « قاف» أي: وقفت.

لكن أكثر السلف قد رأوا أن حروف التهجي المقطعة في أوائل بعض السور مما استأثر الله بعلمه، وأنها سر القرآن[6].

«ن» هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم، وهذه الحروف لا يعلم ما هي إلا واضعها سبحانه[7]. ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم، وكان «نون» مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم، واللوح الذي هو محل ما يثبت من العلم، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة « ق» كما هو أنسب لتضمنه القوة والقدرة والقهر في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في السورة الواقعة بينهما، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف «ن» «والقلم » أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله، ثم قال له: اكتب، فخط جميع الكائنات إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً، فأظهر جميع العلوم، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، والذي يكتب فيه الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم، وذلك هو قوام أمور الدنيا، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج «ن» لأنه من مصنوعات الله الظاهرة التي اقتضت حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم[8]. وفي إعراب «ن» يقول محيي الدين الدرويش: فإن قلت هو مقسم به وجب إن كان جنسا أن تجرّه وتنوّنه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل ودواة والقلم، وإن كان علما أن تصرفه وتجرّه أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان أو يجعل علما للبهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة. وأكد أبو حيان أنه لا يصحّ شيء من ذلك. و«الواو» حرف قسم وجر، و«القلم» مقسم به، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، وأقسم تعالى بالقلم تعظيما لأمره وتنويها بشأنه ولما فيه من الفوائد والمنافع التي لا يحيط بها الوصف؛ أي فالمراد به جنس القلم الشامل للأقلام التي يكتب بها، قال تعالى «وربك الأكرم الذي علّم بالقلم» وبأنه ينتفع به كما ينتفع بالمنطق ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين[9].

فأقسم الله عز وجل لرسوله بالقلم وبما يسطر الكاتبون به من علوم ومعارف وهداية يتنزل بها الوحي من لدنه على أنبيائه ورسله، ولا سيما خاتمتُهُم محمد بن عبد الله على أنه ليس بمجنون كما يحاول أن يروج حاسدوه على النعمة التي أنعم بها عليه إذ اصطفاه بالنبوة والرسالة وإنزال القرىن المعجز المدهش عليه[10]، فقال الله عز وجل خطابا لرسوله: «ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون»، فقوله: « وما يسطرون» أي: وما يكتب الكاتبون، يقال لغة: سطر: السَّطْرُ والسَّطَرُ: الصَّفُّ مِنَ الكتابِ والشجر والنخل ونحوها؛ قال جرير:[11]

مَنْ شاءَ بايَعْتُه مَالِي وخُلْعَتَه،/// مَا يَكْمُلُ التِّيمُ فِي ديوانِهمْ سَطَرا

والجمعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَسْطُرٌ وأَسْطارٌ وأَساطِيرُ؛ ويقال: بنى سَطْراً وغرس سَطْراً. والسَّطْرُ: الخَطُّ وَالْكِتَابَةُ، وهو في الأصل مصدر، يُقَالُ سَطْرٌ من كُتُبٍ وسَطْرٌ مَنْ شَجَرٍ مَعْزُولِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ[12]؛ وأَنشد:[13]

إِني وأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرا /// لقائلٌ: يَا نَصْرُ نَصْراً نَصْرَا

وقال الزجاج في قوله تعالى: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»؛ خبر لابتداء محذوف، وقَالُوا الَّذِي جاء به أساطير الأولين، معناه سَطَّرَهُ الأوَّلون، وواحد الأَساطير أُسْطُورَةٌ، كما قالوا أُحْدُوثَةٌ وأحاديث. وسَطَرَ يَسْطُرُ إذا كتب؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ»؛ أَي وما تكتب الملائكة؛ وقد سَطَرَ الكتاب يَسْطُرُه سَطْراً وسَطَّرَه واسْتَطَرَه. وفي التنزيل: «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ». وسَطَرَ يَسْطُرُ سَطْراً: كَتَبَ، واسْتَطَرَ مِثْلُهُ.[14]

وفي قوله «وما يسطرون»، الواو حرف عطف، وما موصولة أو مصدرية، وعلى كل حال هي معطوفة على القلم، فأقسم أولا بالقلم ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء؛ نفي الجنون عنه، وثبوت الأجر له، وكونه على الملّة الحنيفية السمحاء [15]. والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولاً من الله لأنهم لما نفَوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعَها صفةَ الجنون، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه، وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف «إن» ولام الابتداء إذ قالوا  إنه لمجنون بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده، وبالجملة الإسمية منفية لدلالة الجملة الإسمية على ثبات الخبر، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات [16].

وقوله تعالى: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» فالنِّعمة بالكسر اسم هيئة، قال الراغب: وبناء النِّعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان، كالجِلسة والرِّكبة. ومعنى كونها اسم هيئة: أنها تشير إلى الحالة المستمرة الدائمة للإنسان وتدل على هيئته وهو يتقلب في نعم الله[17]، وهي جملة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب القسم، و«ما» نافية حجازية، و«بنعمة ربك» متعلقان بمعنى النفي المدلول عليه بــ«ما»، و«الباء» للسبب والباء حرف جر زائد، و«مجنون» مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما؛ والمعنى انتفى عنك الجنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوّة وغيرها[18]. والنِّعمة المرادة هنا هي نعمة الاصطفاء بالنبوة والرسالة، ونعمة إنزال القرآن المعجز على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم[19].

ولما نفى سبحانه عنه صلى الله عليه وسلم ما قالوه مما تواقحوا به، فثبت له صلى الله عليه وسلم كمال العقل، وكان المجنون من لا يكون له عمل ينتظم ولا قول يرتبط، فلا يستعمله أحد في شيء ليكون له عليه أجر، أثبت له الأجر المستلزم للعقل فيتحقق إثباته من أحكم الحكماء على وجه أبلغ مما لو صرح به، فقال على وجه التأكيد لإنكارهم له بما ادعوا فيه من البهت: «وإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون». [القلم: 3] فــ«الواو» حرف عطف، والجملة وما بعدها عطف على جملة جواب القسم، فهما من جملة المقسم عليه كما تقدم آنفا، و«إن» حرف مشبه بالفعل، و«لك» خبرها المقدم، و«اللام» المزحلقة و«أجرا» اسمها، و«غير ممنون» نعت أي غير مقطوع[20]، وفي وعد الله لرسوله بالأجر غير الممنون تشجيع له على متابعة جهاده في تبليغ رسالات ربه، دون أن يعبأ بأذى الناس له، وقد جاءت الجملة مؤكدة بالمؤكدات التاليات: إن والجملة الاسمية واللام المزحلقة[21]، ولما ثبت بهذا العقل مع ما أفاده من الفضل، وكان الذي يؤجر قد يكون في أدنى رتب العقل، بين أنه  صلى الله عليه وسلم  في أعلاها بقوله مؤكداً لما مضى: «وإنك» وزاد في التأكيد لزيادتهم في المكابرة فقال: « لعلى خلق»، ولما أفهم السياق التعظيم، صرح به فقال: «عظيم»  وهو الإسلام الذي دعا إليه القرآن لا بالبلاء ينحرف، ولا بالعطاء ينصرف، لأن خلقه – بشهادة أعرف الناس به زوجه أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهما – القرآن، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره ونهيه، فهذا الخلق نتيجة الهدى والهدى نتيجة العقل، وهو سبب السعادة، فأفهم ذلك عدم سعادتهم لعدم عقولهم[22]؛ أي فتعامل يا محمد مع قومك بهذا الخلق العظيم الذي فطرت عليه، إذ تدعوهم إلى سبيل ربك، وإذ تنال منهم ما تنال من أذى، وهنا نلاحظ أن الله عز وجل لم يأمر رسوله صراحة بالصبر، والحلم، والصفح، وسعة الصدر، وتحمل الأذى من قومه، ومتابعة القيام بوظائف رسالته، وإنما ألمح له إلى ذلك إلماحا عجيبا، فكان هذا الإلماح ثناء فاخرا نفيسا بأنه لعلى خلق عظيم، وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدات ثلاثة: إن، والجملة الإسمية واللام المزحلقة[23]، ولما أقسم سبحانه على نفي ما بهتوه ودل على ما وهبه له من كمال العقل وتمام الشرف والنبل تصريحا وتلويحا، فثبت غاية الثبات بأخبار العالم الحكيم، دل عليه بالمشاهدة على وجه هو من أعلام النبوة للحكم على المستقبل فقال مسببا عن صادق هذا الإخبار: « فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُون ».[القلم: 5-6]، وجاء استعمال السين في « فستبصر» للدلالة على المستقبل القريب في الدنيا، ولو كان المستقبل البعيد في الآخرة لكان المناسب استعمال حرف التسويف «سوف» [24].

ولما كان صلى الله عليه وسلم هو ومن معه فريقاً والأعداء فريقاً، وقد أبهم آخر الملك الضال في الفريقين قال: « بأيكم»؛  أي في أي فريقيكم المفتنون،  أي بالضلال والجنون حتى صد عن الهدى ودين الحق، أو بأيكم الفتنة بالجنون وغيره على أن يكون مصدر فتن، قال الرازي: مصدر مثل المفتون وهو الجنون بلغة قريش كما يقال: ما له معقول وليس له مجلود، أي عقل وجلادة.

ولما كان هذا إخبارا بجنونهم المستلزم لضلالهم على هذا الوجه المتصف، وكان مثل هذا قد يقع في محاورات الناس بضرب من الظن، استأنف تعالى ما هو كالتعليل لما أفاده السياق من هذا الحكم عليهم إعلاماً بأنه ناشئ عن علم قطعي لا مرية فيه بوجه[25]، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يكون الأمر على ما أفاده ما تقدم : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين».[القلم: 7] جاءت هذه الآية بمثابة التعليل للإيعاد بالمصير السيء الذي سيصير إليه الذين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون، والوعد بالمصير الحسن السار الذي سيصير إليه الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به واتبعوه، فهو بمضمونه إيعاد ووعد[26]، والجملة لا محل لها لأنها تعليل لما تقدم لأن ما قبلها أنبأ بظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد، و«إن» واسمها وهو مبتدأ، و«أعلم» خبر والجملة خبر إن، ولك أن تعرب هو ضمير فصل وأعلم خبر، وبـــ«من» متعلقان بأعلم، وجملة ضلّ صلة، و«عن سبيله» متعلقان بــ«ضل» و«هو» مبتدأ و«أعلم» خبر، و«بالمهتدين» متعلقان بــ«أعلم»[27].

ومن خلال الآيات التي نحن بصددها نجد حضور المحسنات البلاغية التي تضفي على آيات السورة بعدا جماليا وبها يفهم المغزى، حيث كان فن المناسبة اللفظية قد تجسد في مسار العبارات في ألفاظ متزنات ومقفات بجرس صوتي واحد، تجلى ذلك في قوله تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ».فنجد ألفاظ هذه الآيات تنتهي على نسق واحد هو حرف النون، وأيضا بين مجنون وممنون جناس ناقص لاختلاف الحرف الثاني في الكلمتين.

ومن حروف المباني التي وردت في هذه الآيات حرف النون الذي بدأت به السورة، وجاء مناسبا مع جنس ما ورد فيها، وانتهت معظم فواصل الصورة عامة بهذا الحرف، وفي ذلك تحقيق للتناسب التام، حيث تقاربت الأصوات، وغطى التناغم والتلاؤم على الجو العام للآيات، فأحدث في النفس نوعا من الاطمئنان والراحة النفسية للقارئ (المتلقي).

ومن الحروف كذلك التي وردت في هذه الآيات وكثرت في السورة الكريمة حرف الواو الذي جاء حرفا في المبنى وكذا حرف معنى، فقد ورد حرف مد قبل الحرف الأخير في الفاصلة، وغالبا ما كان الواو والنون، كما لمسناه في قوله تعالى: « ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون »[القلم: 1-2-3] وقوله عز من قائل: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُون»[القلم: 5-6]، وأدى هذا التوافق في المقاطع إلى اتحاد النغم فيها، وأوجد تقاربا بينها ساعد على جعل نسق القول واحدا، ولما كانت هذه الكلمات: يسطرون، مجنون، ممنون، ويبصرون، المفتون، يوقف عليها بالسكون ومسبوقة بحرف المد الواو نجد هناك وحدة في الجرس؛ لأن السكون بعد المد وقعا ترتاح له الأذن.

ومن الحروف التي وردت في الآيات التي بين أيدينا وكان لها وقع بلاغي مؤثر؛ كاف الخطاب التي جاءت مضافة إلى «رب» وذلك في قوله تعالى: « مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون »، وقوله: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» فقد أضاف الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم إلى ذاته المقدسة في تعبير يوحي بالمودة، وفيه عطف وإيناس وتكريم له ووعد بأن يحيطه بنعمته، وفيه تكريم وشرف بمخاطبته دون البشر، كما أن فيه دليلا على عظمة مكانته عند الله، وعلو منزلته والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها[28].

ومن حروف الجر التي جاءت في هذه الآيات حرف الباء في قوله عز وجل: « مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون » والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولاً من الله لأنهم لما نفَوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعَها صفةَ الجنون، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه. وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده، وبالجملة الإسمية منفية لدلالة الجملة الإسمية على ثبات الخبر[29]، وفى هذا كله ما يؤكد تلك الحقيقة التي جاءت الآية الكريمة لتقريرها، وهى بعد النبي- بعدا معنويا، وحسيّا- عن أن يلم بحماه الكريم شىء يمسّ عقله فى سلامته، وكماله، ومثل هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقوله سبحانه: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»، ففى هذين المقامين توكيد لنفى هاتين الصفتين المذمومتين عن النبي: التجبر، والتسيطر، وهذا آكد وأبلغ فى نفى هاتين الصفتين عن النبي، من أن لو جاء النظم هكذا: «ما أنت جبار»[30].

ومن أضرب الخبر الواردة في الآيات التأكيد؛ وأصله في اللغة شدُّ السَّرْجِ على ظهر الدابَّةِ بالسُّيُور حتّى لا يسقط، وتسمّى هذه السُّيُور تواكيد وتآكيد، ثم استعمل التوكيد في توثيق العهود. والغرضُ من توكيد المتكلّم كلامه، إعلام المخاطَب بأنه يقول كلامه جازما، قاصدا لما يدل عليه كلامه، متثبتا منه، لا يقوله عن توهم أو ثرثرة أو تضليل أو اختراع أو نحو ذلك، كما يفعل صانعوا القصص باستعمال قدراتهم التخيلية في تأليف قصصهم المخترعة، والتوكيد في الجمل إنَّما يكون للإِسناد أي: «الحكم» فيها، موجبةً كانت أو سالبة[31]. ومن شواهد التأكيد بالقسم والحروف قوله عز وجل: « ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون »يجري القَسَم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى[32]، وغاية قسم الله بجنس القلم تنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تُنالُ العلوم[33]. فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يُكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى[34]. وتعد«إن» من أكثر الحروف ورودا في سورة القلم ونلمسها في الآيات التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي من الحروف المشبهة بالفعل[35] وهي الأصل في التوكيد، ولها معاني تستفاد منها غير التوكيد، وكثيرا ما استعملت في كتاب الله تعالى، قال عز وجل:« إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ».[الحج: 73].وكثيرا ما يذكر معها لام الابتداء والقسم، مثل قوله تعالى: « إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم ».[الحج: 65][36].

ومن جهة نجد لام الابتداء وهي من أنواع اللام غير العاملة وفائدتها توكيد مضمون الجملة[37]، وقد اجتمع هذان الحرفان «إنّ واللام» في الآيتين الثالثة والرابعة وذلك في قوله عز وجل: « وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» فتجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم، وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها: « وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين[38].

ومن شواهد الحذف في الآيات قوله تعالى: «فستبصر ويبصرون» حيث حذف المسند إليه وهو الفاعل، والتقدير هنا «فستعلم يا محمد»، وفائدته الاختصار والإيجاز بالإضافة، لأنه معلوم لدى السامع.

ومن الأساليب البلاغية التي تقتضيها أحوال المخاطبين، ويقصدها المتكلم؛ أسلوب التعريف والتنكير[39]. ومن شواهد التعريف في الآيات قوله تعالى: « ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون » حيث عُرِّفت لفظة القلم بأل الجنسية، لبيان أن المقصود هو اسم جنس شامل للأقلام، التي تكتب بها أنواع العلوم، ويسطر بها المنثور والمنظوم[40]، ومن شواهد التنكير، تنكير لفظة أجر في قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون»[القلم: 3] أي: عظيمًا، كما يفيده التنكير[41].

ومن شواهد الوصل في هذه الآيات قوله تعالى: « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين ».[القلم:7 ] حيث عطف جملة وهو أعلم الثانية على وهو أعلم الأولى وذلك لأنهما اتفقا في الإعراب، فكلاهما في محل رفع.

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في الآيات الإيجاز الذي تجلى في حذف المضاف وذلك في قوله تعالى: « بأييكم المفتون» والمعنى بأيكم فتنة المفتون ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه[42].

ومن الإيجاز كذلك  إيجاز القصر وهو تضمين الألفاظ القليلة معاني كثيرة من غير حذف، فهو الذي لا يمكن أن نعبر عن معانيه بألفاظ مساوية لتلك الألفاظ التي عُبِّر بها عن هذه المعاني[43]، ونستحضر ذلك في قوله تعالى: « وإنك لعلى خلق عظيم» وهي ألفاظ قليلة لكنها شملت جل المحاسن والمكارم والصفات التي اتصف بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه الألفاظ أدت المعنى المراد بأتمه وأكمله.

ومن أسباب الإطناب التذييل، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى متفقة معها في المعنى تأكيدا للجملة الأولى[44]، ونلحظ ذلك في قوله تعالى:« إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » فقد جاءت الجملة وهو أعلم بالمهتدين تأكيدا لمفهوم الجملة الأولى، أي مؤكدة لمعناها، فمعرفته تعالى بمن ضل عن سبيله تقتضي معرفة المهتدين، فجاء السياق مطنبا للتأكيد.

ومن الأساليب كذلك جناس الاشتقاق في لفظتي فستبصر ويبصرون، وكذلك المطابقة بين الضلالة والهدى في قوله: «ضل»و «المهتدين».

وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسَة مساواةٍ مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى الله عليه وسلم  بحقيقة المفتون. ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون، فتُنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مُساوِيَ المساوي لشيء مساوٍ لذلك الشيء. وهذا الانتقال تضمن وعداً ووعيداً، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلةِ من ضل عنه بالمهتدين، وعمومُ من ضل عن سبيله وعمومُ المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضاً من التذييل [45].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 29/59.

[2] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/203.

[3] نفسه، 1/205.

[4] نفسه، 1/207.

[5] نفسه، 1/207.

[6] نفسه، 1/208.

[7] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 8/90.

[8] نفسه، 8/94-95.

[9] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 8/22-23.

[10] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/210.

[11] ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق الدكتور نعمان محمد أمين طه، 2/698، دار المعارف، وما يكمل التيم وردت في الديوان: ما تُكْمل الخُلج.

[12] لسان العرب، ابن منظور، 4/363.

[13] شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»، محمد بن محمد حسن شُرَّاب، 1/403، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة: الأولى، 1427 هـ- 2007 م.

[14] لسان العرب، 4/363.

[15] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/23.

[16] التحرير والتنوير، 29/61-62.

[17] لطائف قرآنية، صالح عبد الفتاح الخالدي، ص: 178.

[18] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/23.

[19] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/212.

[20] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/23.

[21] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/213.

[22] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/97-98.

[23] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/214.

[24] نفسه، 1/215.

[25] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/99.

[26] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/215.

[27] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/24.

[28] روح المعاني، الألوسي، 15/28.

[29] التحرير والتنوير، 29/61-62.

[30] التفسير القرآني للقرآن،  عبد الكريم يونس الخطيب، 15/1080، دار الفكر العربي – القاهرة.

[31] البلاغة العربية، عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي، 1/185-186، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1416 هـ – 1996 م.

[32] التحرير والتنوير، 29/60.

[33] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، 8/205، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون بيروت، الطبعة: الأولى – 1419 هـ.

[34] التحرير والتنوير، 29/60.

[35] شرح المفصل للزمخشري، يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع، قدم له: الدكتور إميل بديع يعقوب، 4/519، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان،الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م.

[36] البلاغة فنونها وأفنانها، فضل حسن عباس، ص: 117.

[37] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، تحقيق: د. مازن المبارك / محمد علي حمد الله، 1/300، دار الفكر دمشق، الطبعة: السادسة، 1985.

[38] في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/3656.

[39] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 307.

[40] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، 1/878، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م.

[41] نفسه، 1/878.

[42] التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي، تحقيق: الدكتور عبد الله الخالدي، 2/399، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم بيروت، الطبعة: الأولى – 1416 هـ.

[43] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 487.

[44] نفسه، ص:510.

[45] التحرير والتنوير، 29/67/68.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق