مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة التاسعة: أسرار البلاغة في الآيتين: 111و 112 من سورة آل عمران

ننظر في هذه الحلقة في قوله تعالى: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)).

وفيما يلي عرض وتحليل للفنون البلاغية التي أشار إليها المؤلف في هاتين الآيتين:

1- «فن الإيضاح»: قال المؤلف: «في الآية الأولى فن يقال له: «فن الإيضاح»، وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها، فإن في ظاهر هذه الآية إشكالين أحدهما من جهة الإعراب والآخر من جهة المعنى»(1).

فأما الذي من جهة الإعراب فعطف ما ليس بمجزوم على المجزوم أي عطف الفعل المضارع المرفوع على المضارع المجزوم، وقد بَيَّن المؤلف رحمه الله أنه عدل عن الجزم إلى الرفع ليعلم أن عدم النصر لهم هو عهد قطعه الله على نفسه، وإن انتفاء النصر عنهم مستمر إلى الأبد، فعدل عن الجزم الذي يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال ثم أخبركم مبشرا بأنهم لا ينصرون في المستقبل أبدا، ولعلمه سبحانه أن الاقتصار على ما هو دون الفاصلة لا يفهم منه دوام هذه البشارة إلى آخر الأبد، والمقصود ديمومتها، قال: (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) ومنع الفعل الجزم، وإن عطف على مجزوم ليبقى على المعنى الذي وضعت له صيغة المضارع من الدلالة على الحال والاستقبال.

والذي من جهة المعنى أن صدر الآية يغني عن فاصلتها؛ لأن توليهم عند المقاتلة دليل على الخذلان، والخذلان والنصر لا يجتمعان، والجواب أن الله سبحانه أخبر المؤمنين بأن عدوهم هذا إن قاتلهم انهزم، ثم أراد تكميل العدة بإخبارهم أنه مع توليه الآن لا ينصر أبدا في الاستقبال، فهو مخذول أبدا ما قاتلهم.

والظاهر في هذا الفن أن جهة المعنى تكون مترتبة على جهة الإعراب، إذ بالإعراب صار المعنى على ما هو عليه.

2- «فن التعليق»: قال المؤلف: «والفن الثاني في هذه الآية هو: «فن التعليق». وهو أن يتعلق الكلام إلى حين»، وقد عرفه ابن أبي الإصبع بقوله: «وهو أن يأتي المتكلم بمعنى في غرض من أغراض الكلام، ثم يعلق به معنى آخر يقتضى زيادة معنى من معاني ذلك الفن»(2)، فقد قرر الله سبحانه وتعالى في بداية الآية مصير اليهود عند القتال وهو الهزيمة والخذلان، فعلق به في آخر الآية عدم النصر أبدا في المستقبل أيضا، وبذلك أصبح المعنيان متعلقين وتم بهما الإيضاح.

 قال المؤلف –رحمه الله-: «ولذلك اختير لفظ «ثم» دون حروف العطف، لأنه يدل على المهلة الملائمة لدلالة الفعل المضارع على الاستقبال، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان، وأسمى في مراتب الإحسان، وهو أن هؤلاء اليهود قوم لا ينصرون البتة مهما واتتهم الإمكانيات، ومهما أغدقت عليهم المساعدات»(3).

3- فن المطابقة المعنوية: قال المؤلف: «والفن الثالث في هذه الآية هو فن المطابقة المعنوية بين نصر المؤمنين وخذلان الكافرين»(4)، والمقصود به الطباق المعنوي أي الذي يفهم من خلال المعنى.

وهذه المطابقة استخلصها المؤلف –رحمه الله- من معنى الآية ولم ترد كما ترى في هذه الآية بهذه الألفاظ عينها، ذلك أن نصر المؤمنين يستوجب خذلان الكافرين وذلهم.

قال الزمخشري: «وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم. وفيه تثبيت لمن أسلم منهم، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهي بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به، مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل»(5).

4- «فن الاحتراس»: قال المؤلف: «والفن الرابع في هذه الآية هو: «فن الاحتراس». لأن الكلام لو عطف بالواو مثلا لظن قصار النظر أنهم إنما وعدوا بالنصر في تلك الحالة ليس غير، فدفع هذا الظن بكلمة «ثم» التي تقطع قطعا لا يرين عليه الشك، بأن النتيجة الحتمية هي النصر المؤزر للمؤمنين، خشية أن يظن بعض الذين لا يحبون المسارعة إلى الموت بأن الوعد بالنصر في تلك الحالة فقط، وأن الحرب قد تكون سجالا، وأنه قد يأتي دورهم بالنصر، فنفى سبحانه هذا الاحتمال، وقطع على هؤلاء الظانين الطريق لالتماس المعاذير للتخلف عن الجهاد»(6).

فقوله: (ثم لا ينصرون) احتراس؛ أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، أو متأملين في الأمر. وفي العدول عن جعله معطوفا على جملة الجواب إلى جعله معطوفا على جملتي الشرط وجزائه معا، إشارة إلى أن هذا ديدنهم وهجيراهم. لو قاتلوكم، وكذلك في قتالهم غيركم(7).

و (ثم) لترتيب الأخبار دالة على تراخي الرتبة. ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام. وهو غير التراخي المجازي، لأن التراخي المجازي أن يشبه ما ليس بمتأخر عن المعطوف بالمتأخر عنه.

وهذا كله وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين، وأنهم ينهزمون، وإغراء للمسلمين بقتالهم(8).

5- «الإيغال»: قال المؤلف: «والفن الخامس: هو الإيغال أي عدم الوقوف عند تولية الأدبار مع تمام الكلام، فأتم بما يوافق بقية الفواصل مع ما يكمل به المعنى التام»(9)، وذلك في قوله تعالى: (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ).

ويسمى هذا النوع إيغالاً، لأن المتكلم أو الشاعر أوغل في الفكر حتى استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائداً على معنى الكلام.

والفرق بين التتميم والإيغال من ثلاثة أوجه: أحدهما أن التتميم لا يرد إلا على كلام ناقص شيئاً ما، إما حسن معنى أو أدب، أو ما أشبه ذلك، والإيغال لا يرد إلا على معنى تام من كل وجه(10).

ووجه ذلك في الآية أن الكلام إلى حدود قوله تعالى: (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ) كلام تام، لكنه تعالى كَمَّلَه بقوله: (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) فتجاوز بذلك حد المعنى الذي هو آخذ فيه.

وقد حقق الإيغال في هذه الآية من جهتين:

الأولى: ولتسمى جهة المعنى؛ إذ به صار المعنى كاملا تاما يحمل معنى زائدا، ووجه ذلك أنه إذا حذفناه من الكلام يظهر النقص ويذهب حسن المعنى ورونقه، وهذا الوجه شديد العلقة بفن الاحتراس؛ فالإيغال بقوله: (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) وقع به الاحتراس، لذلك قال ابن أبي الإصبع: «الإيغال لا بد وأن يتضمن معنى من معاني البديع»(11).

الثانية: ولتسمى جهة المبنى، ونقصد به بناء الآيات؛ إذ بالإيغال أصبحت فاصلة الآية موافقة للفواصل الأخرى ومناسبة لها (الفاسقون/ ينصرون/ يعتدون).

هذا ما يتعلق بفنون البلاغة في الآية الأولى، وننتقل فيما يلي إلى الآية الثانية التي جاءت مكملة للفنون التي تضمنتها الآيتان وذلك على الوجه التالي:

أ- الكناية: قال المؤلف: «الكناية التي هي هنا عبارة عن نسبة، وقد تقدم ذكرها، وهي في ضرب الذلة والمسكنة عليهم كما يضرب البيت أو القبة على أهلهما، على حد قول أبي الطيب المتنبي:

إِنَّ فِي ثَوْبِكَ الَّذِي المَجْدُ فِيهِ /// لَضِيَاءً يُزْرِي بِكُلِّ ضِيَاءِ»(12)

وقد ذهب غيره إلى أنها استعارة مكنية وليست بكناية قال الطيبي: «قوله: (كما يضرب البيت على أهله) أي: شبهت المسكنة بالقبة تشبيهاً بليغاً، ثم أدخلت المسكنة في جنسها، ثم خيلت أنها هي، ثم جعلت تلك القبة المتخيلة مضروبة عليهم كما تضرب الخيمة على أهلها، فهم ساكنون فيها، ففي الكلام استعارة مكنية، ويدل عليه قوله: «كما يضرب البيت على أهله»، لأن الاستعارة مسبوقة بالتشبيه، وقد سبق تمام تقريره في البقرة، وليس بكناية كما ذهب إليه وهم أكثر الناس»(13).

وقد تبعه ابن عاشور أيضا في ذلك حين قال: «ومعنى ضرب الذلة اتصالها بهم وإحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبهت الذلة، وهي أمر معقول، بقبة أو خيمة شملتهم وشبه اتصالها وثباتها بضرب القبة وشد أطنابها، وقد تقدم نظيره في البقرة»(14)، وذلك عند قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) [البقرة: 61]، حيث قال: «فقوله: وضربت عليهم الذلة والمسكنة استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه في علائق المشبه. ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط ومعنى التبعية أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعا لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثا وهو معنى قولهم أجريت في الفعل تبعا لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلا وجعله تبعية وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في شرح الكشاف وخالفه التفتزاني وجعل الضرب استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء»(15).

ب- الاستعارة التمثيلية: في تشبيه التمسك بأسباب السلامة بالتمسك بالحبل الوثيق وقد تدلى من مكان عال، فهو آمن من مغبة السقوط، والخذلان، والارتطام(16)، وذلك في قوله تعالى: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).

و«الحبل»: العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام(17).

فالحبل مستعار للعهد، وتقدم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى: (فقد استمسك بالعروة الوثقى) في سورة البقرة [256] وعهد الله ذمته، وعهد الناس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلت عليها الباء التي للمصاحبة. والتقدير: ضربت عليهم الذلة متلبسين بكل حال إلا متلبسين بعهد من الله وعهد من الناس، فالتقدير: فذهبوا بذلة إلا بحبل من الله. والمعنى لا يسلمون من الذلة إلا إذا تلبسوا بعهد من الله، أي ذمة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولي بأس شديد، وأما هم في أنفسهم فلا نصر لهم.

قال الزمخشري: «والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامّة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل اللَّه وحبل الناس، يعني ذمّة اللَّه وذمّة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية»(18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/506.

2- بديع القرآن 2/171.

3- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/507- 508.

4- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/508.

5- الكشاف 1/401.

6- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/508.

7- التحرير والتنوير 3/54.

8- التحرير والتنوير 3/55.

9- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/508.

10- تحرير التحبير ص: 232- 241.

11- تحرير التحبير ص: 241.

12- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/508.

13- فتوح الغيب 4/222.

14- التحرير والتنوير 3/55.

15- التحرير والتنوير 1/527- 528.

16- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/508.

17- المحرر الوجيز 1/491.

18- الكشاف 1/402.

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– بديع القرآن، لابن أبي الإصبع المصري، تقديم وتحقيق حفني محمد شرف، منشورات نهضة مصر.

– تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع، تقديم وتحقيق: الدكتور حفني محمد شرف، منشورات: الجمهورية العربية المتحدة- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- لجنة إحياء التراث الإسلامي.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي، مقدمة التحقيق: إياد محمد الغوج، القسم الدراسي: د. جميل بني عطا، الطبعة الأولى: 1434هـ/ 2013م، منشورات: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، الطبعة الثانية: 1428هـ/ 2007م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق