مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

فقيد القرآن الشيخ أحمد زهران (ت1441هـ، 2020م)

الحمد لله القائل في كتابه «اِ۬لذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ اُ۬لْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَٰوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُومِنُونَ بِهِۦ» [البقرة: 120]، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، القائل من حديث عثمان: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

وبعد:

بُعَيْدَ مغرب يوم عرفة من سنة 1441 هـ، الموافق لـ30 يوليوز 2020، فَقَدَت مدينة مراكش عَلَما من أعلام القرآن والقراءات، شيخنا ووالدنا سيدي أحمد زهران المشهور في مراكش بـ: السي أحمد ورش، رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جنانه، وجعله مع السفرة الكرام البررة. 

الشيخ أحمد زهران رحمه الله

هذا الشيخ كان زاهدا في متاع الدنيا، مخلِصا في تعليمه لكلام رب العالمين، ذا صوت نَديٍّ، لا زالت نبرة صوته الشجي تصدح في أذني.

خَصّص حياته كلَّها لتعليم القرآن، استفاد منه جميع طبقات المجتمع، من مثقف وطبيب ومهندس وأستاذ وحِرفيّ، ولا أبالغ إن قُلتُ أن عدد طلبةِ الشيخ يفوق الألف.

كان، رحمه الله، كريما مع قلة ذات اليد؛ يُكرِم طلبتَه، ويشتري لهم ما يحتاجونه من كتب وغيرها، كأنه خُلِق لخدمتهم.

كان حافظا لكتاب الله حِفظا متقنا، رسما وضبطا، ماهرا به، مجوِّدا لحروفه، متَّبعا لأوامره، منتهيا عن نواهيه.

فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنه مما يواسينا في فقدان الشيخ رحمه الله وفاته في هذا اليوم الفضيل، ومما يواسينا أيضا في فقدانه أنه رُئي في المنام بعد وفاته في أحسن حال. فاللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وأدخله الفردوس الأعلى.

وقد تأثر بوفاة الشيخ طلبته وأصدقاؤه، وهذه بعض الشهادات في حقه من لدن بعض تلامذة الشيخ. 

كلمة الأستاذ جمال كريد من طلبة الشيخ

«ودَّع أهل القرآن في مراكش علما شامخا في سماء التلاوة، وشيخا نحريرا وهب نفسه لتدريس القرآن، تخرج على يديه قراء وحفظة لا يحصون، إنه الشيخ المقرئ أحمد زهران الملقب سيدي حماد ورش، لشدة حبه رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق.

كان الشيخ رحمه الله يمضي وقته كله في تدريس القرآن، في دار القرآن وفي محضرته بمسجد بوكار، يجيء مشيا على قدميه من بيته إلى المحضرة رغم تقدم سنه، عُرِف الشيخ سيدي حماد ورش بحبه الشديد للقرآن وأهله، وتذوقه لكلام الله، وقد حدثنا من عاصره بصوته الشجي الذي كان يصدح في مسجد بوكار، قصده الطلاب على تفاوت أعمارهم، وكانت له حصة تجمع النخبة من أطباء وأساتذة ومهندسين جمعوا على يديه القرآن.

سألتُه ذات مرة عن الشيوخ الذين تلقى عنهم  القرآن والعلوم الشرعية، فأخبرني أنه حفظ القرآن بسوس، فقرأ على الشيخ عبد الله الشريف روايةَ ورش عن نافع من طريق الأزرق وذلك بزاوية واد البطمي، وقرأ على الشيخ عبد الله أزكار رواية قالون عن نافع، كما قرأ على الشيخ سي جامع بالمدرسة العتيقة سيدي ميمون متن ابن عاشر ومتن الآجرومية في النحو، وقرأ على الشيخ محمد الرسموكي قراءة المكي، وقرأها  على الشيخ سي محمد باعمران، وقرأ على الشيخ الموالي متن الشاطبية وبعض المتون.

من أبرز الشيوخ الذين أخذوا عنه المقرئ سمير بلعشية، وعمر القزابري، ورشيد بلعشية، ومحمد نافع، وهشام الزبيدي، وعبد الرحيم أدميعي.

للشيخ سيدي حماد رحمه الله مناقب كثيرة، فقد كان رحمه الله شديد الورع والتقوى، زاهدا في الدنيا وأهلها، محبا للقرآن، متواضعا غيورا على طلبته، مكرما لهم، كنا لا نبدأ الحصة في محضرته حتى يأتينا بالفطور، وكان رحمه الله يشتري لنا كتب القراءات بماله.

حدثنا ذات مرة وقد سألته كيف كان يراجع القرآن، فأخبرني أنه كلما كان يزور أمه بسوس كان يختم في سفره.

الحقيقة أن المصاب به فت الأعضاد، وفتت الأكباد، فنسأل الله أن يغفر له ويرحمه، وأن يسكنه فسيح جناته، ويحشره مع النبيئين والصديقين والشهداء، وأن يرفع مقامه في الجنة عدد ما تلاه عليه طلبته حرفا حرفا، وأن يرزق أهله الصبر».

كلمة الدكتور إبراهيم وامومن وهو أيضا من طلبة الشيخ

«بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين، وإمام المرسلين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،  وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا مزيدا.

أما بعد.

فإن موتَ العلماء مصيبةٌ من المصائب العظيمة التي تنزل بالأمة، وإن ذهاب الصالحين وفقدانهم لمِن أعظم الكوارث، ذلك لأن صلاحهم وعلمهم وخيرهم يعم الناس جميعا، فإذا ذهبوا فقدت الأرض من كان ينشر فيها العلم والصلاح،  فتَحنّ الأرض إلى رجال العلم والفضل، كما تحن إلى الأمطار، فأهل العلم والفضل، والخير والصلاح، بمثابة الأوتاد في هذه الحياة، ولا يعلم قدر ذهاب أهل العلم إلا العلماء، ولا يقدر ثمن وجودهم في هذه الدنيا إلا أولوا البصيرة من الناس. ولذلك قالوا: موت العالم ثلمة.

وتخليدا لذكر علمائنا، وتسجيلا لمآثرهم، واعترافا بمجهودهم، وإقرارا بفضلهم، وحفاظا للعهد والود، دَأَبَ علماءُ الإسلام على كتابة أعمالهم الجليلة، وما جادت به قرائحهم، في تراجم تعد ناطقة بمآثرهم، تربط  الأجيال ببعضها البعض، وتبقى دليلا وشاهدا على ما قدمه السلف للخلف، ولا يكاد يحصي الدارس ما كتبه المؤرخون القدامى والمحدثون في هذا الصدد من كل الاتجاهات وكافة التخصصات، من ذلك غاية النهاية في طبقات القراء للإمام ابن الجزري، وطبقات القراء للإمام شمس الدين الذهبي، وكتاب طبقات القراء السبعة وذكر مناقبهم وقراءاتهم لأبي محمد عبد الوهاب بن السلار، وكتاب تراجم لبعض علماء القراءات لمحمد سالم محيسن..

وسيرا على هذا النهج القويم، وإحياء لهذه السنة الحميدة نتناول في هذه العُجالة حياة إمام مغمور، ومقرىء مجيد، وصالح تقي، فارقنا هذه الأيام، ترك في النفوس أثرا، وفي القلوب جرحا، وفي المجتمع فراغا، إنه الإمام المقرئ المجيد، والفقيه الأريب، الزاهد التقي، العابد الناسك، الولي الصالح، سيدي أحمد زهران المشهور بـ: لقب «ورش» بين تلامذته وطلبته،  وأرجو أن تكون هذه المحاولة لبنة أولى، تليها محاولات أخرى من طرف تلامذته ومحبيه، لوضع ترجمة كاملة تتناول جميع الجوانب المتعلقة بحياته.

وسيتم التركيز في هذه السطور على بعض الأوصاف المتعلقه بشخصيته، وبسببها عرف، وتميز وتفرد، عسى أن يتولى أحد طلبته إبراز ما يتعلق بالجانب القرائي والصناعي، وما أكثرهم بحمد الله تعالى.

أوصافه ومناقبه:

إن الذي يهمُّنا من ترجمة الشيخ في هذا المقام إبراز الأوصاف التي كان يتحلى بها الشيخ، والخِلال التي كان يتَّصف بها، والأخلاق التي كان يتَّسم بها، وميَّزته بين أقرانه، ورفعته في مجتمعه، وهذه الأوصاف تعد بحق الترجمة الفعلية لمعاني القرآن الكريم الذي كان يحمله في صدره، وتجسيدا له في أرض الواقع، ولا يمكن أن نذكر هنا كل تلك الأوصاف واستقصاءها وتتبعها وحصرها، بقدر ما يهمنا أن نعدد بعضها لنبرز من خلالها مكانة الشيخ ودرجته، وما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جُلُّه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

1-الإخلاص في القول والعمل:

إن أعظم ما كان يتميز به الشيخ رحمه الله إخلاصه في عمله، وتفانيه في تحفيظ القرآن الكريم وتلقين قواعد التجويد ومبادئه لكل طلبته، دل على هذا قرائن وأحوال كان يتميز بها.

منها: أن الشيخ منذ أن عرفناه وهو في محراب القرآن الكريم وفي حضرته، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، صبحا وعشيا، صحة ومرضا، وبجد واجتهاد، وتفان وإتقان، لا يعرف الكلل، ولا يتسرب إليه الملل، وباعتباري ممن تتلمذ على يديه فقد كان يحرص الحرص الشديد على حلقته، حتى في أوقات السفر والمرض، وأوقات زيارة أهله وأقاربه، فقد جرت العادة أن يسافر الشيخ صباح يوم كل خميس لزيارة والدته بإقليم مدينة أكادير، وفي الكثير من الأحيان يوصي أحد طلابه للنيابة عنه من باب الاحتياط، فيلتحق الشيخ بحلقته قبل الوقت، وتجده ينتظر طلابه قبل مجيئهم، ويحاول أن يخفي تعبه من شدة طول السفر، وآثار العياء، وعلامة التعب بادية على مُحيّاه، وقد تأخذه السِّنة وهو في وسط الحصة والطلبة يستظهرون عليه، فتكشف في الأخير أن الشيخ قد التحق بالحصة مباشرة بعد السفر، أي من الحافلة إلى الحلقة.

كما أن الشيخ رحمه الله لم يكن يذكر لك أمور الدنيا قطعا، أو أن يتحدث عن المقابل، أو عن الأجر، أو عن الامتيازات، هجيراه هو تدريس القرآن، شغله الشاغل الاستماع لطلبته، في دار القرآن، وفي كُتّابه بمسجد بوكار، أو في الطريق، ما توقف عن تحفيظ القرآن الكريم في يوم أو لحظة حتى هاجمه المرض، وأَلْزَمَه بيته.

2- الحرص على طلبته والاهتمام بهم وبشؤونهم:

مما هو معروف عن الشيخ رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جناته، اهتمامه الكبير، وعنايته الشديدة بطلبته، والحرص عليهم، وقضاء حوائجهم، والسعي في مصالحهم، فكان يهتم بهم من الناحية الإقرائية، كما كان يهتم بهم من الناحية الاجتماعية، شأنه في ذلك شأن كل عالم ربّاني، وكان يفعل ذلك لعلمه أن الطالب المنكسر والمحتاج لا يستطيع التحصيل، ولذلك تجده يتبنى الطالب، فيرعى شؤونه، ويتولى أموره، فيحس الطالب بقرب الشيخ منه، ودنوّه منه.

 إن الشيخ رحمه الله تعالى في هذه النقطة جسَّد ما أصَّله علماء الإسلام في أدبيات طلب العلم، من حسن العلاقة بين الشيخ وتلامذته.

ولا يكاد ينسى كل من تتلمذ على يديه الإحسان والإكرام الذي يوليه لطلبته، وكيف يحرص على إسعافهم، وخاصة في أوقات الحاجة، مثل السفر، والمرض، وقضاء الديون،…وحتى من لم يكن محتاجا يتعاهده بالهدية من أجل كسب وُدّه، وتأليف قلبه، وتحبيب مجالس القرآن الكريم له، وكم كنا نسعد ونفرح ونحن نستظهر على الشيخ في كُتّابه، فيوقف الحصة حتى نتناول وجبة الفطور، ومن ماله الخاص، وفي كل يوم، ويتخير لنا ما كنا نميل إليه ونشتهيه من المآكل والمشارب، فرحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.

3- التواضع ولين الجانب وخفض الجناح:

مما كان يتميز به الشيخ رحمه أنه كان قريبا من الناس، في حلقة الإقراء، وفي الشارع، وفي السوق، وفي المجامع واللقاءات، فقد وضع الله له القبول في الأرض، وأعطاه الله تعالى قدرة كبيرة في استيعاب معظم طبقات المجتمع، ويستطيع أن يتعامل مع كل الأطياف والمشارب، وأن يعطي لكل ذي حق حقّه، ومن هنا تجد للشيخ طلبة وتلاميذ من كل المستويات، من الطبقات العليا في المجتمع، مرورا بالطبقة المتوسطة، إلى الطبقة الدنيا، وحلقته كانت تضم الطبيب والمهندس والإعلامي والأستاذ والإداري، كما كانت تضم أرباب الأموال وأهل التجارة، وأصحاب السلطة، على اختلاف مراتبهم، كما تجد فيها أيضا أهل الحرف والصنائع، وأصحاب المهن، من النجارين والحدادين والجزارين والسوقة….كما تضم الصغار والكبار، وكافة الفئات العمرية، وحتى من يلج المدرسة، ولم يتعلم الحروف الأبجدية، وهذه ميزة يتميز بها وحده، ولا يستطيع شيخ مقرئ أو مدرر أن يستوعب كل هذه الفئات، وكل من مارس هذه المهمة سيعرف أن القضية فتح إلهي، وتوفيق رباني.

بل إن الشيخ، رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، رزقه الله قبولا بين العباد، فتراه وهو في الشارع يصافح هذا، ويسلم على ذاك، ويعانقه آخر، فلا تكاد تمر على صاحب محلة تجارية إلا ويناديه ويوقفه ويقبل رأسه، ولا يمر على مجموعة إلا واستوقفوه وبادلوه التحية، وتجاذبوا معه أطراف الحديث، كان محبوبا عند الناس، وحديثه مع الناس لا يكاد يخلو من دعابة، أو طرفة، أو نصيحة… ويصح أن نصف الشيخ بأنه كان شعبويا قريبا من الناس جميعا.

4- التركيز على رواية ورش وحدها في الاقراء:

معروف عن سيدي أحمد رحمه الله اهتمامه الكبير برواية ورش وحدها في الإقراء دون غيرها من الروايات الأخرى. ولا يعد هذا إنكارا منه للروايات الأخرى الصحيحة والمتواترة والمشهورة بين القراء، وإنما يعني هذا الصنيع عنده تقديم للرواية التي جرى الأخذ بها في المغرب، كما يعني أيضا التدرج في باب طلب القراءات كما هو الشأن بالنسبة لجميع العلوم الأخرى، ويعني أيضا عدم الخلط بين الروايات، واحترام اختيارات المغاربة، وهذا ملحظ قوي، وفهم صحيح، ورأي سديد في باب التربية والتعليم.

ومن شدة حرصه على هذه الرواية كان لا يسمح للمبتدئ أن يبتدئ برواية من الروايات إلا إذا أتقن رواية أهل البلد.

وانتسابه لهذه الرواية، واشتهاره بهذا الاسم «ورش» ليس زورا وبهتانا وكذبا، أو من باب الظهور والسمعة والرياء، وإنما من باب إحقاق الحق، واعترافا بالواقع، فقد عرف عنه ضبطه الشديد لهذه الرواية رواية ودراية، نظريا وتطبيقيا، أما من الناحية النظرية فهو ملم بجميع الأحكام المتعلقة برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق، بكل أوجهها وتحريراتها، فلا تكاد تمر على وجه خلافي في الإقراء إلا وأوقفك عنده حتى تأتي بكل ما يتعلق به، وإن فاته شيء من ذلك، أو نسيه سأل عنه من يثق فيه وفي علمه وإتقانه من أهل هذا الفن، وهذا من تواضعه رحمه الله تعالى.

وربما ذكرك به في حصة أخرى من أجل أن يوقفك عند الوجه المختار.

أما من الناحية التطبيقية والعملية فكل من جلس بين يديه يستحضر جيدا كيف كان الشيخ لا يتسامح في مد، ولا إدغام، ولا قلقلة، ولا ترقيق أو تفخيم، ولا قاعدة واحدة من قواعد التجويد، وخاصة ما يتعلق برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق، بل كان الشيخ يتفاعل مع الطالب وهو يستظهر عليه، ويعدد له حركات المد بأصبعه، وقد يستعمل معه بعض الأحيان ضربا خفيفا إن على كتفه، أو على ظهره، أو على يديه، وطبعا ضرب الشيخ الرحيم بطلبته. وقد يحدث الشيخ بلجة في حلقته بفضل الحركات التي يقوم بها، والأفعال التي تصدر منه أثناء قراءة الجزء المقرر مع أحد طلبته، وتجد تفاعلا ونشاطا وحركية أثناء حصته، وخاصة مع بعض المبتدئين ممن يجدون صعوبة كبيرة في إخراج الحروف من مخارجها من ذوي التعتعة واللثغة، ولا شك أن هذه بيداغوجيا كان يتميز بها الشيخ ويتفرد بها.

5- الجمع بين العلم والعمل:

مما أنعم الله به على الشيخ وأكرمه به، أن جمع بين علم الظاهر وعلم الباطن كما يعبر أهل التربية والسلوك، فكان رحمه الله تعالى قارئا متدينا متنسكا، محافظا على الواجبات، مكثرا من نوافل الخير، وكل من عاشره وجده إماما في الزهد والتقوى، فلا يكاد يفوته قيام الليل محافظا على أوراده، أما الصلوات في وقتها ومع الجماعة فهذا مما لا يناقش في حياته رحمه الله تعالى، ولسانه لا يفتر عن ذكر الله، قواما بالليل، صواما بالنهار، ذاكرا لله تعالى في كل أحيانه، مؤديا للفرائض، مجتنبا للنواهي، متحليا بمكارم الأخلاق، مجتنبا لسفاسفها، جامعا بين الشدة والحزم، مع لطافة بطلبته وشيء من المزاح الذي لا يذهب بهيبته ولا يفقد كرامته.

وفي الجملة: فقد كان وقّافا عند كتاب الله تعالى، ممتثلا لأوامره مجتنبا لنواهيه، متحليا بأخلاقه، متصفا بأوصافه.

وختاما:

فإذا كان الكبار يخلدون أسماءهم من خلال المنجزات التي أنجزوها سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، فإن العلماء والمصلحين خلدوا ذكرهم من خلال مؤلفاتهم وكتبهم، ومن خلال الأجيال التي علَّموها وأحيوها وأنشؤوها.

وإذا كان بعض علماء الأمة يذكرون بعد موتهم بسبب كتبهم فإن الشيخ رحمه الله تعالى ترك مجموعة من الطلبة بمثابة نسخ وكتب منتشرين في شتى المدن والقرى، داخل المغرب وخارجه، يحملون لواء العلم والتربية، وهمّ الدعوة والإصلاح، ما بين إمام من أئمة المساجد، وأستاذ لمادة التربية الإسلامية، والشريعة والفقه والقانون، والطب والصيدلة، والقضاء والإدارة، والحرفيين والصناع، فقد أخرج الله على يديه عددا كبيرا من طلبة القرآن الكريم، يحفظون كلام الله، ويتقنونه: أداء وتلاوة، وفهما وتنزيلا، وقد أجرى الله الفتح على يديه، فكل من جلس في حصته إلا ونالته بركته، وسهل الله له حفظ كتابه.

فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنان، وجعل الله القرآن العظيم  في قبره مؤنسا، وعلى الصراط نورا، وإلى الجنة رفيقا، وفي القيامة شفيعا، كما نسأله أن يجزيه عن طلبته وعن الإسلام والمسلمين دخول الجنة، ومرافقة الأنبياء، وورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا».

كلمة الدكتور عماد بن أحمد فوزي وهو أيضا من طلبة الشيخ

«ذكرياتي مع الشيخ الفقيه سيدي احماد زهران المعروف بـ«احماد ورش»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛

فهذه بعض ذكرياتي مع فضيلة شيخنا ووالدنا المجَوِّد الزاهد الورع التقي الخفي سيدي احماد زهران، المعروف في أوساط طلاب العلم بلقب «ورش»، وقد نظمتها تحت عناوين فرعية تبين خصاله وشمائله ومواقفه التربوية العظيمة، مع ما قد يحصل بينها من تداخل.

في حلقة الشيخ سيدي احماد ورش رحمه الله: كانت بداية علاقتي بالشيخ رحمه الله تعالى في صيف سنة 1992م، حينما التحقت بدار القرآن الكريم بحي أسيف، فكنت أقرأ صباحا على الشيخ محمد جريف حفظه الله تعالى -وهو أول من قرأت عليه كتاب الله تعالى وأخذت عنه التجويد- وفي المساء أقرأ على الشيخ أحمد ورش، وكان من جملة تأديبه لنا أنه ينهانا عن التمايل أثناء التلاوة، ويقول: إن هذا من فعل اليهود عند قراءة كتابهم فلا ينبغي التشبه بهم(1).

ثم توطدت العلاقة مع الشيخ غفر الله له وأعلى درجته، فكنت أذهب إليه في كُتَّابه بمسجد حي بوكار صباحا في أوقات العطل المدرسية، وأما في سائر الأوقات فأكتفي بالقراءة عليه مساء بدار القرآن بحي أسيف في حلقته العامرة، التي يتردد عليها مختلف فئات الناس من شيوخ وكهول وشبان وأطفال، وأساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين وصناع وتجار، بل وأميين يقرئهم الشيخ سماعا بسعة صدر وحلم وصبر وتواضع قل نظيره، همه تعليم القرآن دون كلل أو ملل، وكان هذا دأبه صيفا وشتاء، صباحا مساء، يُقرئ القرآن كل يوم ما عدى يومي الخميس والجمعة، فقد كان يذهب إلى سوس لزيارة والدته، ومكث على هذه الحال ما يربو عن أربعين سنة.

كانت حلقته رحمه الله تطبعها الحيوية والنشاط، بحيث لا يدب إلى طلابه الملل أو السآمة أو الشرود، لأنه كان حلو المفاكهة كثير التنبيه لهم والمداعبة، فإذا نقص الطالب مقدار مدّ مثلا جبذه من منكبه ورفع يده مشيرا بإصبعه إلى السماء، تنبيها له على ضرورة الزيادة في المد، وإذا غفل عن غنة أخذ بأرنبة أنفه تنبيها له على الغنة، فلا يكاد ينسى ذلك بعد.

سبب تلقيبه بلقب «ورش» واشتهاره بذلك: اشتهر الشيخ رحمة الله عليه بلقب «ورش» حتى صار علما عليه لا يكاد يُعرف إلّا به، وذلك لقوة إتقانه لهذه الرواية، ولشدّة إنكاره على الطلبة المبتدئين الذين يرغبون في تعلم رواية حفص قبل أن يتقنوا رواية ورش، لما يجدون من سهولة في تلك الرواية، ولكثرة الأشرطة المسجلة لمن يقرأ بها في العالم الإسلامي وانتشارها، فكان يقول لهم: يجب أن تتعلموا بداية الرواية المعروفة في بلدكم قبل غيرها، حتى إذا قُدِّم أحدكم للصلاة بالناس أو للقراءة في مَجْمع فيه عامة الناس، قرأ بما يعرفونه فلا يحدث فتنة فيهم(2)، وهذا من حكمته وكمال عقله رحمه الله، وكثيرا ما كان غفر الله له يراعي مثل هذا الأمر وينبه عليه، فقد أذّن مرة أحد الطلبة لصلاة العشاء بدار القرآن، فخالف في صيغة الأذان المعروفة بإحدى الصيغ الواردة في السنة، فأنكر ذلك الشيخ وقال: إن هذا ربما حصل به فتنة في عوام الناس وإن صحت به السنة، فلا ينبغي فعل مثل ذلك في مكان يرده عموم الناس.

وقال لي مرة: لماذا لا أراك تلبس الجلباب المغربي؟ فهو أصيل ويكسب صاحبه هيبة ووقارا، وهو المعهود من لباس طلبة القرآن، فأجبته على استحياء: أنا أرتدي هذا الثوب وهو كذلك جميل وليس فيه مخالفة للشرع، وليس عندي اعتراض على لبس جلباب ولا غيره من المباح، فتبسم رحمه الله وقال لي: أنت دبلوماسي أو قال جوابك سياسي أو كلمة نحوها، والحقيقة أنني لم أنتبه لما نبهني إليه من قبل، وكان سبب جوابي له بذلك أني كنت في ذلك الوقت طالبا بالثانوي ولا أملك ثمن جلباب، واستحييت إن أخبرته بذلك أن يكلف نفسه أن يأتيني به، لما أعلم من كرمه وعنايته بطلبته وحسن رعايته لهم.

تواضعه رحمه الله: كان الشيخ رحمه الله متقنا ضابطا لرواية ورش من طريق الأزرق؛ يعرف ذلك من قرأ عليه، حيث يوقف القارئ بين الفينة والأخرى ليختبره في أوجه الرواية، ويخبره بالمقدم أداء فيها وغير ذلك، كما أنه كان لا يستنكف رحمه الله أن يسأل بعض طلبته عما يشك فيه من وجوه الرواية ليستثبته، وقد يسأل عن بعض المسائل الفقهية التي أشكلت أو خفيت عليه، أو يكلف من يبحث له عنها دون استعلاء أو ترفع، ثم يشكر من أجابه ويدعو له، ويقول في تواضع عظيم: «هذه الأشياء نحن لم نتعلمها»، ما يزيده رفعة ومحبة لدى طلبته.

ذوقه في القراءة: كان الشيخ رحمه الله تعالى يستحسن طريقة الشيخ الحصري في التلاوة ويفضله على غيره، وقال لي مرة: إن الشيخ الحصري نبيه وفطن (معْلّم/بالعامية) -وضَمّ إصبعه السبابة إلى الإبهام مشيرا بيده بحركته المعروفة في مدح الشيء والثناء عليه- فإنه لما دعاه الملك الحسن الثاني رحمه الله إلى افتتاح الدروس الحسنية قرأ برواية ورش.

وقال لي: كنا قد تعلمنا التجويد نظريا ولا ندري كيف نطبق قواعده، حتى ذهب الشيخ مولاي أحمد أبا عبيدة إلى مصر فجلب تسجيل المصحف المرتل للشيخ الحصري برواية ورش من طريق الأزرق، فكنا نستمع إليه ونتعلم كيف نطبق تلك القواعد.

وكان الشيخ ينكر الطريقة التي شاعت عند بعض المعلمين والطلبة في نطق قلب النون الساكنة ونون التنوين عند الباء بترك فرجة يسيرة بين الشفتين، ويقول: لقد رأيت الشيخ الحصري في شريط فديو لا يفعل ذلك وإنما يُطْبِق شفتيه إطباقا غير مُمَكَّن.

حرصه على الوقت: فإذا استظهرت ولَمّا أُنْه بعدُ وِرْدي وأراد الشيخ الانصراف، يقول لي: سنكمل في الطريق، شأنه في ذلك شأن السلف الصالحين من هذه الأمة محدثين ومقرئين في اغتنام الأوقات، كمقرئ الكوفة أبي عبد الرحمن السلمي(4) وغيره، فأرافقه مشيا مع بعد ما بين بيته وكتابه من المسافة، وربما عرض عليه بعض الناس أن يوصله إلى بيته بدراجته أو سيارته، فيعتذر الشيخ قائلا: أفضِّل المشي لأنه أنفع لي.

حفاوة الناس به ومحبتهم له: كتب الله تعالى لشيخنا المحبة والقبول لدى الناس، ففي أثناء الطريق وأنا أقرأ عليه ما بقي من حصتي، تتوقف التلاوة بين الفينة والأخرى لما يعرض من سلام الناس عليه وتحيتهم له؛ فهذا يوقفه ليعانقه ويسأل عن حاله، وآخر يقبل رأسه، وثالث يحاول تقبيل يده فيجذبها الشيخ منه، وهو يدعو كل من لقيه أن يأتي لتعلم القرآن الكريم.

كرمه ووجوده عليه الرحمة والرضوان: فإذا وصلنا عند البيت ربما دعاني إلى الغداء فأعتذر خشية إحراجه، وأقول: إن والدتي تنتظرني، ولم تكن في ذلك الوقت هذه الوسائل المتوفرة الآن للتواصل، فقال لي مرة: إذن غدا تتغدى معي إن شاء الله فأخبرها بذلك، وقال: ماذا تريد للغداء هل تأكل كذا؟ هل تأكل كذا؟ وعدد أصنافا من الطعام، فأحرجني بكرمه، وقلت له: الذي يتيسر فهو طيب بحول الله.

كما كان الشيخ رحمه الله تعالى -على قلة ذات يده- يصل طلابه ببعض المال ويشتري لهم بعض الكتب بُلغة وتشجيعا.

عبادته وعمله بما تعلم: كان شيخنا رحمه الله تعالى عابدا زاهدا متقللا من الدنيا، لا هَمّ له ولا شغل إلا تعليم كتاب الله، فإذا دخل الكُتَّاب توضأ واستاك وصلى الضحى، وكان محافظا على النوافل والرواتب، لا يفتر لسانه عن ذكر الله، فتراه وأنت تقرأ عليه يحرك شفتيه بذكر الله، مع تنبهه وتيقظ لما قد يحصل من خطإ أو لحن في التلاوة، وكان يعمل بما تعلمه ولو كان يسيرا حقيرا، ففي أثناء مرافقتي له كان كلما رأى شوكا أو حجرا أو زجاجا ربما آذى الناس أماطه عن الطريق، فنتلقن منه دروسا عملية دون موعظة أو خطبة في منصة أو وجود كامرات وأضواء ونحوها.

حكمته وكمال عقله عليه رحمة الله: كان رحمه الله تعالى من الرجال الكُمّل حكيما عاقلا، يتألف الناس ويراعي أحوالهم النفسية على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وأذكر أنه مرة جاءته امرأة -يظهر عليها أثر اليسار والثراء- إلى كُتّابه بولد لها ليعلمه القرآن، وأخبرت الشيخ أنها ليس لها إلا هذا الولد ولم تنجبه إلا بعد مدة طويلة وأنها عانت في ذلك كثيرا، ورأى من حالها أنها لا تصبر على فراقه، فقبل منها الشيخ أن تجلس وتنتظر ولدها حتى يقرأ وهي تنظر إليه حتى أنهى حصته، والشيخ يتألف الفتى ويلاطفه.

ومن حكمته وكمال عقله رحمه الله تعالى أنه كان ينهى بعض الطلبة الذين قد تأخذهم الحماسة والعجلة أحيانا في طلب العلم على الرغبة في الرحلة للتعلم في مناطق وبلدان أخرى، ويعلم الشيخ من تجربته في الحياة وخلطته للناس أن هؤلاء الطلبة قد لا يتحملون عناء الرحلة والغربة، وربما خشي عليهم كذلك -وهم في حداثة السن- أن يتلقوا بعض الأفكار المنحرفة أو الأخلاق السيئة، فيقول لهم: ما سترحلون إليه موجود في بلدكم، فتعلموا أولا ما هو متوفر هنا ثم إن شئتم فارحلوا بعد ذلك، وقد حصل مرة ونحن في كتّاب الشيخ أن كان أحد الطلبة يريد أن يرحل ليحفظ كتاب الله فقال له الشيخ رحمه الله: بإمكانك أن تحفظ القرآن هنا ثم ترحل للاستزادة من العلوم التي لا توجد هنا، والطالب مصر على الرحلة حتى ضاق ذرعا بكلام الشيخ ونصيحته فأراد الانصراف، وقال للشيخ: كم الساعة الآن؟ فأجابه الشيخ: «إن الله عنده علم الساعة»، فلما أحسّ الطالب غضب الشيخ منه رجع واعتذر.

ومن حكمته كذلك أنه كان يدعو أئمة المساجد ويحثهم أن يأتوه ليتعلموا التجويد ويصححوا تلاوتهم، ويقول لهم إن هذا أمر متأكد جدا في حقكم لأنكم تصلون للناس، فيستجيبون ويأتونه طائعين يجلسون بين يديه يقرأون عليه ولعل بعضهم أسَنّ منه.

نهيه رحمه الله عن ضرب المتعلمين وتعنيفهم وشفاعته لإصلاح ما قد يحصل بسبب ذلك: كان الشيخ رحمه الله ينهى معلمي القرآن أشد النهي عن العنف وضرب المتعلمين، وقد حصل مرة أن ضرب أحد المعلمين طفلا من رواد دار القرآن ضربا شديدا أبقى أثره على جسده، وكان والد ذلك الطفل شديدا، وفزع المعلم أن يتعاظم  الخطب ويشتد، فبين الشيخ للمعلّم جسيم خطئه، ونصحه بأن يعتبر من هذه الحادثة فلا يعيد الكرة، ثم ذهب الشيخ إلى والدة ذلك الطفل واعتذر منها وسألها العفو، وأبدى لها ندم ذلك المعلم وأسفه وأنه لم يتمالك نفسه غضبا من طيش الأطفال وكثرة عبثهم في حلقة القرآن، فقبلت الأم شفاعة الشيخ وأخفت الأمر عن والد الطفل، وذهبت به إلى المستشفى وعالجته وطويت القضية، وأتت بالطفل بعد ذلك ليتعلم، فكان الشيخ يقول لي: إن والدة فلان امرأة عاقلة.

حفاوته بطلبته: سبق أن ذكرت أنّ حلقة الشيخ سيدي أحمد رحمه الله تضم أطيافا مختلفة من الناس، وذلك لما حباه الله تعالى به من القبول وما رزقه من الحكمة والعقل في تأليف الناس والتودد إليه وحب الخير لهم مع سلامة صدر وسعته، وكان من رواد حلقته أحد الجنود الحفظة لكتاب الله تعالى، وأخبرني الشيخ أن ذلك الجندي قد شارك في مسابقة خاصة بالجنود بمدينة الرياض، لكن تأسف الشيخ أن تلميذه حصل على الرتبة الرابعة، وقال لي: إن اللجنة لم تنصفه، لأنهم لا يتذوقون الصيغة المغربية في الأداء ولا معرفة لهم بها.

علاقته بطلبته: كان الشيخ رحمه الله يسأل الطلبة عن أسمائهم وأحوالهم، فقال لي مرة بعدما عرفني وعرف والدي ووظيفته وغير ذلك: إنني أعرف والدك قبل أن تولد أنت، وذلك حينما توفيت جدتك في سنة 1978م، وكانت له ذاكرة قوية رحمه الله.

وكان رحمه الله تعالى على حسن العهد في السؤال عن طلابه وتفقد أحوالهم، فكنت إذا زرته سألني عن أخويّ عبد الإله وعبد الحق -وهما من جملة طلابه الذين لا يحصيهم إلا الله سبحانه-، كما يسألني كذلك عن حال بعض أقراني من الطلبة، فإذا أخبرته عنهم وعن حسن حالهم فرح لذلك ودعا بالخير والبركة.

كان رحمه الله تعالى رحيما بطلبته، يتودد إليهم ويرغبهم في حفظ كلام الله تعالى بحسن خلقه وكرمه وتواضعه الجمّ، فكنت إذا ذهبت إلى إليه عفا الله عنه صباحا في كُتَّابه بحي بوكار قلما أسبقه إليه، بل الغالب أن يأتي قبلي، فأستظهر عليه ما حفظت ثم أقرأ عليه القسط الذي سأحفظه بعد ذلك، وحينما يستشعر مني تعبا يقول لي: ما رأيك أن نتوقف للإفطار؟ فأقول له كما تشاء «يا فقيه»، ثم يقول: ماذا تريد أن تأكل؟ لبنا أو حليبا أو نُعِدّ شايا هنا؟ فأقول له كما تشاء «يا فقيه»، فيقول: طيب إيت بحليب «بسيرو» وخبز وجبن، وأحيانا يأتينا ببعض البسكويت، مراعيا لسننا وما يشتهي من هم في مثل أعمارنا في ذلك الوقت، على أن هذا قد يوافق يوم صيام الشيخ رحمه الله تعالى تطوعا.

والحاصل أن شيخنا عليه الرحمة والرضوان قد اجتمع فيه من خصال الخير ما تفرق في غيره، من زهد، وورع، وعفة، وجود، وكرم، وكمال عقل، ورحمة، وشفقة، وسماحة، وحلم، وصبر، وصفاء سريرة وسلامة صدر، وقد فُجعت بموته كما فجع غيري من طلابه ومحبيه، وكان وقع فقده شديدا على قلوبنا، وبخاصة أن كثيرا لم يتمكنوا من حضور جنازته وتشييعها والله المستعان.

يموت قوم ولا يأسى لهم أحد         وواحد موته هَمّ لأقوام

لكنا لا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراق شيخنا لمحزونون، وعزاؤنا أن ربنا تبارك وتعالى قد اختار قبض روحه في ليلة الجمعة من يوم عرفة، ورجاؤنا فيه كما ختم له بالحسنى أن يكرم نزله ويعلي درجته ويسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

كتبه عماد بن أحمد فوزي بمراكش الحمراء صبيحة يوم الاثنين 20 ذي الحجة عام 1441 للهجرة».

كلمة الأستاذ لحسن جاكوم إمام وخطيب بمدينة مراكش

«شهادة حق في حق علم من أعلام القرآن: الشيخ أحمد زهران رحمه الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة  على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

الموفق من وفق لحسن الخاتمة

بعد غروب شمس يوم عظيم ومشهود، يوم الغفران والرحمات والبركات، يوم عرفة، انتقل إلى دار البقاء والحق والجزاء؛ الشيخ أحمد زهران، المعروف في حياته،بالسي احماد ورش، رحمه الله، كانت وفاته في هذا اليوم وفي ليلة الجمعة، ليلة العيد، ليلة يوم الحج الأكبر، علامة من علامات حسن الخاتمة، ذلكم لأن الطيبين يموتون غالبا في أوقات فاضلة ومعلومة وطيبة.

صدمة وفاجعة

لما وصلني خبر وفاة الشيخ أحمد زهران، وقفت دهِشا ومصدوما وباكيا، حيث تذكرت أن موت العلماء والقراء مصيبة كبيرة. قلت قول الحق:إنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم أخبرت نفسي أن السماء بدأت تأخذ نجومها، وتسترد شموسها إليها. وإنى والله أخشى أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم على وشك الظهور والتحقق؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بموت العلماء والقراء». نسأل الله اللطف والسلامة والعافية.

حياة الشيخ مع القرآن

توفي الشيخ الحبيب أحمد زهران، والقلب قد حزن، والعين دمعت، واللسان قال مايرضي الله، ونحن لفراقه لمحزونون، ولكن مايخفف الألم والحزن ويثلج الصدر أن شيخنا أحمد زهران كان من أهل القرءان الذين هم أهل الله وخاصته.

عاش مع القرءان وللقرآن ولأهل القرآن. عاش مع القرءان قراءة وتدبرا وعملا وتعليما، إلى أن لزم بيته بسبب المرض.

كان رحمه الله رجلا قرآنيا بامتياز، أفنى حياته كلها مع القرءان، ومن أجل القرآن وأهله.

كان رحمه الله شديد التأثر بالقرآن، كثير الاهتمام به،تلاوة وتجويدا وتعليما.

كان رحمه الله يحرك القلوب بتلاوته عندما يقرأ، رغم ضعف في صوته، إلا أن قراءته كانت ممتازة للغاية، وقد طلبت منه، وأنا من تلاميذه، مرات عديدة أن يقرأ على مسامعنا ما تيسر من الذكر الحكيم، فكان كلما قرأ آية كأنك تسمعها لأول مرة، كل ذلك من شدة صدقه وإخلاصه، وشدة غيرته على القرآن وقراءته.

كانت رغبته، رحمه الله، أن يفوز بالخيرية التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل القرآن عندما قال: «خيركم من تعلم القرءان وعلمه». متفق عليه.

حياة الشيخ في دار القرآن حي أسيف مراكش

شيخنا أحمد زهران كان صاحب البصمات القوية في دار القرآن حي أسيف مراكش،

كان حضوره قويا، حلقته معروفة ومحبوبة، يتسابق إليها كثير من الطلبة، ختم عليه كثير من الطلبة.

عبد ربه هذا؛ لحسن جاكوم ختم عليه القرآن مرات برواية ورش عن نافع بطريقيه:الأزرق والأصبهاني. كان رحمه الله يوقفني عند كل قاعدة من قواعد التجويد، بطريقته الخاصة التي جعل الله فيها البركة والتيسير.

أخلاقه رحمه الله

أقول بصدق: كان خلقه القرآن، كان قرآنا يمشي فوق الأرض، قرآنا يمشي في دروب أحياء مدينة مراكش، نرى فيه وتعلمنا منه التواضع، والحلم، والحكمة، والصبر، والصدق، والإخلاص، والوفاء، والعزيمة، والتوكل على الله، والمحبة، والحنان، والرفق، والكلمة الطيبة، وإنه لعلى خلق عظيم وجميل. كان رحمه الله بارا بأمه وأبيه ، كما كان بارا بالقرآن وأهله.

شيخنا أحمد والابتلاء

ابتلي الشيخ في حياته الشخصية والأسرية بلاء كبيرا، كعادة العلماء الربانيين، فصبر صبرا جميلا، آمن بقضاء الله في السراء والضراء، وكان رحمه الله كثيرا مايذكر أن أشد الناس ابتلاء : الأنبياء،ثم الأمثل، فالأمثل.فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، واجعل الجنة دار مستقره، اللهم نور قبره، ويمِّن كتابه، ونور وجهه، وثقل ميزانه بحسنات القرآن وعمله الصالح، اللهم شفع فيه القرآن، واجعله من أهل جنة الفردوس، يارب العالمين.

كتب هذه الشهادة في حق الشيخ أحمد زهران فقيدِ أهل القرآن: لحسن جاكوم إمام بمسجد الأنوار، وخطيب بمسجد السعادة بمدينة مراكش».

كلمة الأستاذ يونس البزوني

«الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على سيد ولد عدنان، سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الأطهار.

أما بعد؛ فبعد أن سكنت روحي للمصاب الجلل الذي حلّ بقراء القرآن بفقد الوالد العزيز المربي سيدي أحمد زهران رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان، أردت أن أشرُف بالحديث عنه لعلي أوفِي حبة من رمل خيره علي رحمه الله، فأقول وبالله التوفيق:

لقد جمع الله عز وجل للشيخ رحمه الله من البركات والمكرمات ما قلّ في نظيره وفي جيله من علم، وتقوى، وورع، وزهد، وحب الخير للناس، وتقرب إلى الصغير والكبير، وقبول ملء الأركان والأرجاء، فمن ذلك:

أنني أظن أني ما أحببت الدرس القرآني ومداومة الذهاب إليه إلا بتلك الروح المرحة التي كان يتمتع بها رحمه الله، فلقد كنت أتشوق للذهاب من أجل ملاقاته والأخذ من مرحه وفرحه بالقادم إليه بالطريقة التي كان يدرس بها من شد وضرب خفيف مداعب، ومزاح حق، وإبداء الإعجاب بالأداء وتثمينه، وتثمين الحفظ، وتصحيح لقواعد التجويد بكل سلاسة، وهذه الأخيرة قلَّ من يوفق لها، فالجلوس أمام من يضبط المخارج والقواعد غالبا ما يؤدي – خصوصا بالمبتدئ – إلى النفور، لكن الحال لم يكن أبدا هو مع الشيخ المبارك رحمه الله.

وها هو في تواضع جم يصحب تلامذته في الطريق، ولا ينزعج من فرق السن، بل تصبح الطريق مهما طالت قصيرة برفقته، فها هو يحكي لك من طرائف الأحداث التي عاشها وكانت كثيرة جدا، أو تراه يعلق على مسألة فقهية أو تجويدية، أو حتى يقوم بسؤالنا على بعض المسائل! وأثناء كل ذلك قَلَّما يمر بمجمع فلا يسلمون عليه، أو بحي فلا ينبئك بمن فيه من أصحاب القرآن أو الفقه أو الطب أو غيرها، حتى ما إذا وقف على جماعة احتفوا به وقدروه ولاقوه بما ينبغي له من الاحترام، ولقد رأيت ذلك من عامة الناس وخاصتهم.

أما عن تواضعه فحدث بما شئت ولا تخش المبالغة، فقد كان يسألني! عن قاعدة تجويدية ثم يقول لي أليست كذا؟ وكيف أداؤها؟ فأشعر بنشوة عارمة وأنا الغلام الجفر، لكنني فهمت بعد ذلك أنما كان ذلك لاختبار معارفي وتشجيعي على المضي قدما! فيا له من شيخ وكأنه جمع كل البيداغوجيات وتعلمها وطبقها، وكيف لا، وهو الرجل القرآني الفريد رحمه الله.

وإن كنت أنسى فلن أنسى موقفا غريبا، حيث حدثنا رحمه الله عن مسألة إخفاء الميم في الباء ومعها الإقلاب حالة النون الساكنة وأن هناك قارئا عراقيا قال بأنه ليس ثمة حاجة لفُرجة الفم، فسألت على إثر ذلك الدكتور توفيق العبقري حفظه الله، فأخبرني أنه إنما تكلم العراقي عن إخفاء الميم فقط بهذه الكيفية ثم وجهني إلى كلام العلماء في ذلك فنقلته له رحمه الله، فتبسم كعادته وأطرق السمع منتبها، ثم أجابني: إذن هذا هو المقصود، مثنيا على الدكتور حفظه الله.

وتتوالى الأيام، وتبعدنا السنون، وتقل الأخبار والمحادثات، وأُفجَعُ بأعز من أملك وأغلى شيء في الحياة: أمي رحمها الله ورفع درجتها في المهديين؛ وفي غمرة ما أنا فيه إذ بالهاتف يرن، فإذا به الشيخ رحمه الله، يعزيني ويعتذر لعدم المجيئ بنبرة حزينة لم أعهدها في صوته، فعظُم في نفسي أكثر وأكثر، والغرض من هذه الواقعة أن الشيخ رحمه الله كان شديد الحرص على تلامذته ويسأل عن حالهم ولو غابوا عنه.

         هذه نبذة وومضة من حياتي مع الشيخ وما تركته من مناقبه أكثر مما ذكرت، والحقيقة أنني حينما أتأمل في شخصه أجده قد شرب القرآن، وحُق عليه وصف الإمام الشاطبي رحمه الله:

بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ                        وَكانَ لَــــهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسِلاَ
                 وَطَــــابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُــهُ فَتفَتَّقَتْ                          بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ
                 فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمَّهُ             وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ
              هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ                   قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ

فحري بتلامذته أن يقتدوا بهذا العلم في التربية والدعوة، وذلك أعظم ما يقدمون له بعد موته رحمه، ولقد رأيت فعلا أثر ذلك في بعضهم ولله الحمد منهم شيخي المحبوب الأستاذ سمير بلعشية حفظه الله ونفعنا بعلمه، والدكتور إبراهيم وامومن وغيرهم، فتلامذته مما لا يمكن للمرء عدهم. والحمد لله رب العالمين».

هوامش:

  • ينظر لذلك الكشاف للزمخشري، والبحر المحيط لأبي حيان عند تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف: «وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة…» الآية: 171.
  • (2) وقد حدثنا بعض مشايخنا أن الشيخ العلامة الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان لما ذهب إلى مدينة الرياض، قُدّم للصلاة بالناس فقرأ برواية ورش، فلما أنهى الصلاة أنكر ذلك العوام إنكارا شديدا.
  • (3) كذا، لأنه اسمه العائلي.
  • (4) انظر معرفة القراء الكبار للذهبي ص: 27.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق