مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(9)

الـفـرع الرابع: الشركة الحكمية بين أفراد الأسرة أو نظام الكد والسعاية

يعتبر نظام الكد والسعاية من النظم المتأصلة في عادات وأعراف المجتمع المغربي وخاصة في منطقة غمارة بشمال المغرب وفي منطقة سوس من جنوبه، حيث إن مما تعارفه أهل هذه المناطق اعتبار المرأة شريكة لزوجها بإعطائها نصيبا من المستفاد قل أو كثر بمقدار سعيها وكدها في تنمية ذلك المستفاد.

ولم يقتصر فقهاء هذه المناطق على قصر هذا النظام على ما يخص العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، بل وعمموه ليشمل سائر أفراد الأسرة، فلكل فرد نصيبه من المستفاد بمقدار سعيه وعمله، وهذا طبعا بعد توافر أهلية السعي وشروطه.

1- معنى السعاية لغة واصطلاحا:

السعاية في اللغة ترادف العمل والكسب سواء بقصد الخير أو الشر، قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ﴾([1])، وقال سبحانه: ﴿لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ﴾([2])، أي أن الجزاء من جنس السعي وهو العمل والكسب، ومن السعي بالخير قول النبي ﷺ فيما رواه أبو هريرة: ﴿الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار﴾([3]).

أما في الاصطلاح([4]) فهي في معناها العام عبارة عن حق ناشئ عن اشتراك أفراد الأسرة في تنمية أموالها بسائر وجوه العمل، كل بحسب مؤهلاته المادية والمعنوية، أو بعبارة جامعة السعاية هي الحق الثابت بموجب الشركة الحكمية بين أفراد الأسرة، وإن كان الغالب على النوازليين الاهتمام الأكثر بسعاية المرأة لأن النوازل المتعلقة بها هي الأغلب وقوعا والأكثر شيوعا.

ومما يدل على تعلق حق السعاية بالأسرة ككل وليس قاصرا على الزوجات([5])، ما أورده السجلماسي عن سيدي محمد بن إبراهيم المزواري ونصه: «سئل سيدي محمد بن ابراهيم المزواري عن معنى السعاية التي تذكر في بلادنا وكيف تقسم من أربابها وهل للأولاد مع آبائهم سعاية فيما عملوا مما استفادوه من المال بعملهم وهم في حضانة الآباء وتربيتهم، أو ذلك للذكور دون الإناث أو لا سعاية للأولاد في حياة الأبوين، فأجاب: بأن معنى السعاية ما استفادوه من المال بعملهم، وفي الذكر: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ أي إلا ما عمل، وقد قال مالك تقسم السعاية على قدر العمل، لأن المنصوص أن السعاية تقسم على قدر العمل، فلا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حياة الأب وموته، ولا بين الزوجة والإخوة وغيرهم، فلكل واحد من الشركاء بقدر عمله فيها، فمنهم من له مؤنته فقط، ومنهم من له مؤنته وملبسه، ومنهم من له ذلك وزيادة، وليس القوي كالضعيف ولا الصانع كغيره وليس من يرد أوقية في اليوم كمن يرد ثمنها أو مؤنته فقط»([6]).

أما ما ذهب إليه بعض الفقهاء من استثناء النساء المتحجبات في الحواضر من حق السعاية([7])، فلا يقوى على معارضة الاتجاه العام لدى أغلب الفقهاء، وهو عدم التفريق بين نساء البادية ونساء الحاضرة، ففي نوازل سيدي محمد الورزازي ورد ما نصه: «وسئل يعني سيدي محمد المذكور عن الزوجة إذا كانت تخدم في دار زوجها هل لها حق فيما استفاده زوجها من خدمته وخدمتها أم لا فأجاب: قال الإمام ابن العطار: مذهب الإمام مالك وأصحابه أن المرأة إذا كانت تعمل مثل الغزل والنسج ونحوهما فإنها شريكة الزوج فيما استفاده من خدمتها أنصافا بينهما، وكذا الأم مع أولادها والأخت مع أختها والبنت مع أبويها ونساء الحاضرة والبادية في هذا سواء»([8]).

2- عناصر السعاية:

ويتشكل حق السعاية من العناصر الثلاثة الآتية وهي:

أ- الساعي:

ويراد به كل فرد من أفراد الأسرة له قدرة على السعي والكد والاكتساب، حيث إن أهلية السعاية منوطة بالقدرة على التكسب ولا يعتبر فيها شيء آخر غيرها، كالذكورة والأنوثة أو الصغر والكبر ولا مدخل لجهة القرابة فيها؛ إذ يشترك الأزواج والأولاد والإخوة والأخوان في استحقاق وصف السعاية.

ب- السعي:

وهو العمل الذي يقوم به الساعي أو النشاط الذي يسهم به في تكوين رأس المال إن لم يكن موجودا أو تنميته إن كان موجودا، وتختلف أعمال السعاة تبعا لاختلاف مؤهلاتهم وتباين كفاءاتهم المادية والمعنوية، كما تتفاوت تبعا لتفاوت أعمارهم واختلاف جنسهم، وشأن هذا التفاوت أن يؤثر على مردودية كل ساع وتحديد مقدار نصيبه من سعيه.

ج- تنمية رأس المال أو تكوينه في حال عدم وجوده:

ويسمى رأس المال في الاصطلاح بالدمنة. ولا اعتبار لسعي الساعي إلا إذا كان لسعيه أثر واضح في تكوين رأس المال وتشكيله، فيكون الساعي بموجب ذلك شريكا في ملكية رأس المال ومستحقا لما ينتج عنه من أرباح، أما إذا كان رأس المال موجودا أصلا أي مملوكا لغيره، فليس للساعي إلا ما تحصل عنه بسعايته وجهده، وعليه نجد الفقهاء يميزون في حق السعاية بين الدمنة والمستفاد بالسعي، فالدمنة هي حالة رأس المال قبل دخول السعي عليها بالتنمية، سواء كانت في ملك السعاة أو أحدهم، أو كانت ملكا لغيرهم، وقد لا تكون هناك دمنة أصلا، حيث تكون هي نتاج سعي السعاة.

وإذا كان الأساس في تقسيم المستفاد بين السعاة مراعاة مقدار العمل واعتبار سن الساعي، فإن ذلك يختلف من منطقة إلى أخرى تبعا لاختلاف الأعراف والعادات، ومن الطرق المشهورة في تقسيم أموال السعاية طريقة ابن سليمان الجزولي، وحاصلها إعطاء سهم كامل لكل ساع بلغ 14 سنة فما فوق، وثلاثة أرباع سهم لمن بلغ 13 سنة، ونصف السهم لمن بلغ 11 سنة، ويأخذ صاحب التسع ربع السهم، ومن هو دون هذه السن فلا شيء له؛ إذ لا اعتبار بكسبه.([9])

والملاحظ أن أغلب الفقهاء النوازليين اعتبروا السعاية بابا من أبواب الشركة وأسندوا إليها أوصافها وأحكامها، وفي المقابل نجد منهم من اعتبرها من باب الإجارة حيث اعتبر الساعي أجيرا لا شريكا، وهو ما نجده واردا في جواب سيدي داود بن محمد التملي التونلي عن سؤال تلميذه سيدي حسن بن داود الرسموكي عمن كانت عنده أخته أو غيرها تشتغل له شغلا يمكن توليته بنفسه أو بأمته أو زوجته، ثم بعد ذلك قامت عليه تطلب الأجرة، أَلَهَا ذلك أم لا؟ فأجاب: نعم، لها الأجرة وبه أفتي.([10])

غير أن حمل السعاية على الإجارة أمر مرجوح ولم يحظ بالاعتبار، فقد ورد في المجموعة الفقهية في الفتاوى السوسية:

 

والأجر لا تحكم به لمن كسب بل كسبه فيما أفيد قد وجب([11])

وورد في نوازل سيدي عيسى السكتاني ما نصه: «سيدي جوابكم في شأن امرأة ذات يد وسعاية في مال زوجها المتوفى عنها، فأرادت السعاية وأراد الورثة دفع الكراء في سعايتها، ومال جل طلبة الجبل إلى أن لها الأجرة، ونريد منكم إعلامنا بما هو المشهور، وما قدر كل واحد منهما، أو مع الأولاد إن كانوا؟

الجواب: لها حظها مما حصل من عملها بقدر عمل كل واحد، وأما الكراء فغير مدخول عليه. والله أعلم»([12]).

وورد في أجوبة العباسي: «وكتب داوود بن محمد بن عبد الحق، فالذي جرى به العمل عند فقهاء المصامدة وجزولة أن الزوجة شريكة لزوجها فيما أفاداه مالا بتعنيتهما وكلفتهما مدة انضمامهما ومعاونتهما، ولا يستبد الزوج بما كتبه على نفسه بل هي شريكة له فيها بالاجتهاد، والشركة إذا أطلقت تحمل على التساوي»([13]).

وفي أجوبة المتأخرين: «وكتب سيدي علي بن محمد، وبعد فالذي جرى به الحكم عند فقهاء جزولة أن الزوجين إذا كانا متعاونين في خدمتهما وأفادا بذلك أملاكا أنها مشتركة بينهما على قدر خدمتهما، وأن الزوج لا يستبد بالأشرية ولو كتبت وثائقها عليه»([14]).

على أن الفقهاء حينما لاحظوا في السعاية معنى الشركة وبنوا الاستحقاق فيها على مقتضاها، لم يقصدوا المعنى العقدي للشركة، حيث اعتبر معظم الفقهاء السعاية شركة حكمية أي قائمة بموجب الرباط الاجتماعي بين أفراد الأسرة، ولا احتياج فيها إلى عقد أو صيغة مخصوصة كما هو الشأن في سائر الشركات العقدية كشركة الأبدان والمفاوضة والقراض، يقول الأستاذ الصديق بلعربي: «إن السعاية حق من نوع خاص لا يمكن دمجه ضمن أحد الحقوق أو العقود المعروفة، وإنما هو حق مستقل بذاته، وإن كانت أحكامه تتشابه مع بعض أحكام الشركة فإنها شركة من نوع خاص»([15]).

الهوامش:


([1]) سورة النجم، الآيتان 38-39.

([2]) سورة طه، الآية 14.

([3]) رواه البخاري في كتاب النفقات، 7/62.

([4]) يسمى حق السعاية بحق الكد ويطلق عليه باللغة الأمازيغية تامازالت وهي من فعل أزل الذي يعني سعى أو جرى، انظر حق الكد والسعاية للدكتور محمد مومن ص14-15، منشورات كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، الطبعة الأولى 2006. المطبعة و الوراقة الوطنية، مراكش.

([5]) يقول الدكتور الحسن العبادي: «ومسألة السعاية يدخل فيها كل من قدر على الاشتغال والتكسب من أفراد الأسرة، فنجدهم يعبرون هكذا؛ سعاية اليتيم، وسعاية الأخت، وسعاية الأخ، وسعاية الولد، ومن له عدة زوجات فلكل واحدة سعايتها». عمل المرأة في سوس، ص2، الطبعة الأولى 1425هـ/ 2004م، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب، طوب بريس، الرباط

([6]) شرح العمل الفاسي 2/255، وانظر كذلك المنهل العذب السلسبيل شرح أبي زيد الجشتيمي لما لم يذكره الشيخان ابن عاصم وخليل، للأزاريفي 2/237 وما بعدها، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البضاء، 1400 هـ / 1980 م.

([7]) انظر المنهل العذب السلسبيل، 1/260 و263.

([8]) شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/253.

([9]) المنهل العذب السلسبيل للأزاريفي 2/239، وانظر كذلك عمل المرأة في سوس للدكتور الحسن العبادي ص 31.

([10]) انظر عمل المرأة في سوس، ص 26.

([11]) المجموعة الفقهية في الفتاوى السوسية، جمع وترتيب العلامة محمد المختار السوسي إعداد عبد الله الدرقاوي ص 206، منشورات كلية الشريعة بأكادير، مطبعة النجاح الجديدة، 1416هـ/ 1995 م.

([12]) انظر نوازل السكتاني نقلا عن عمل المرأة في سوس، للحسن العبادي ص 28، وانظر كذلك طائفة من فتاوى العلماء في الموضوع تنحو منحى ترجيح معنى الشركة في السعاية وذلك في كتاب فقه النوازل في سوس قضايا وأعلام، للدكتور الحسن العبادي حيث قال: «إن القول الجدير بالتأييد والترجيح هو الذي يعطي للسعاية أحكام الشركة، والذي يتمشى والموقف الواضح في الفقه المالكي» ص 421، منشورات جامعة القرويين، كلية الشريعة أكادير، الطبعة الأولى 1420 هـ / 1999 م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

([13]) نقلا عن نظام الكد والسعاية، للحسين الملكي 2/48، الجزء الأول طبعة 2002، والجزء الثاني طبعة أولى 2001، نشر وتوزيع مكتبة دار السلام بالرباط.

([14]) نفسه 2/48.

([15]) مقال السعاية، مجلة المرافعة تصدرها هيئة المحامين بأكادير، ع 6 ص 54-72، يونيو 6/1997.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق