وحدة الإحياءقراءة في كتاب

روح الحداثة في فكر “طه عبد الرحمن”: من عقلانية التجريد إلى عقلانية التأييد

أولا: في أخلاقيات روح الحداثة الإسلامية

لا أخال أن الخلفية المنهجية والنظرية التي تحكم تفكير طه عبد الرحمن إلا تلك المزاوجة بين النظر النقدي (التقويمي) وفعل التأسيس والبناء؛ إذ يقوم الرجل بعملية الهدم أو بالأحرى التقويم من أجل الهدم. كما هو حال أهل الحداثة وما بعدها الذين يدعون أن “الأصل لا أصل له”، وأن المعنى إستراتيجية، وأن الأخلاق إرادات القوة والهيمنة. ذلك أن شغلهم الشاغل هو ترديد أقاويل الغرب ومقولاته وتقليده أينما ولى وجهه، فهذا يقلد “إيمانويل مونيه”، وذاك يقلد “هيغل”، وهذا يقلد “ماركس” وأتباعه، وذاك يقلد “باشلار” وتلامذته (…). وقد يتقلب الواحد منهم في هذا التقليد، فيبدأ شخصانيا، ثم يصير أشبه بالمادي الجدلي، أو يبتدئ ماديا جدليا فيصير بنيويا…1″.
من هنا، كان من اللازم البحث عن مقومات الإبداع وشرائط التجديد من مفاهيم القيم والمنهاج والتخلق والتكوثر والاتساع والانتفاع… وغيرها من المفاهيم الأصلية التي تدل دلالة قوية على مدى فاعلية في مواجهة عوائق الإنشاء والابتكار.

وهذا لا يتم إلا بعد التحرر من آفة التقليد والقدامة التي تكرسها اليوم القيم الأمريكية من استتباع وتخريب ثقافي وتنميط فكري لا يطاق.. ومن المؤكد أن درء الاستتباع الثقافي لا يكون إلا عن طريق “التحرر الثقافي” و”التكافؤ الثقافي2″. ودرء “التخريب الثقافي” لا يتحصل لنا إلا عن طريق “الإعداد الثقافي3”. كما أن الانفلات من التنميط الثقافي لا يتحصل عند طه عبد الرحمن إلا من خلال “التعارف الثقافي” و”التكامل الثقافي4″. من ثمة، تكون هذه القيم الفكرية والأخلاقية الإسلامية مقومات لنهضة الأمة وإبداعها على أساس النظر الملكوتي القائم على الآيات والعلل الحكمية بدلا من التقوقع في مربع النظر الملكي الواقف عند حدود الظواهر. ويتولد من هذا أن القيم الأمريكية والغربية الحديثة هي قيم خاصة لا كونية فيها، ونسبية غير مطلقة.

والأهم من هذا كله، أن الحداثة الإسلامية تتأسس على النظر الملكوتي الذي يؤسس العقل على الإيمان5، ويؤسس السياسة على الخير6، ويؤسس الثقافة على الفطرة7. بخلاف القيم الغربية الحديثة التي تنظر إلى العقل السياسي على أساس المصلحة والسلطة، وتنظر إلى الثقافة على أساس الصراع والصدام بين القيم والمبادئ.. والمعلوم أن انتقاد التعددية القيمية على شكل النزاع والصراع لا يلغي مبدأ حق التعدد القيمي8 ..

لا ريب أن من منطلقات الحداثة الإسلامية في مشروع طه عبد الرحمن هي النظر الاعتباري الذي يعتبر من أسمى النظرات وأشرفها، وعلامة ذلك مدى فعاليته في تقريب المشكلات وتذليل المعضلات التي تصيب العالم الإنساني عامة والإسلامي على وجه الخصوص. فكم من آفات أخلاقية وفكرية يمكن تجاوزها بالعمل التعارفي والجهاد الأخلاقي والجهد الارتقائي الكلي.. وهكذا فالأخذ بهذا الطريق الاعتباري قد لا يكون، بالضرورة الملزمة، في شكل استدلالات برهانية أو بناءات علمية، وإنما يؤخذ في صورة أخبار وصورة قصص9. قال تعالى: ﴿الر، تلك ءايات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان وإن كنت من قبل لمن الغافلين﴾ (يوسف: 1-3).

وبهذا الاعتبار، كان المسلمون، على الدوام، يتطلعون إلى تمثل حادث “شق الصدر” باعتباره الميثاق الأول لصياغة المسار الروحي والمعنوي للأمة المسلمة المجاهدة. فذاك الحادث هو “الذي صلح به قلب الإنسان النموذج، واستعد أن يكون صاحب الخلق العظيم10”. إذن، فأخلاق “شق الصدر” أخلاق تطهير11 وأخلاق تأهيل12 وأخلاق تجديد13.

وغني عن البيان، أن هذا التحول في المسار الإنساني الديني قد سايره التحول والانقلاب في القبلة والذي هو مؤشر كبير على تكامل أخلاق إشارة14 مع أخلاق انفتاحية15 مع أخلاق اجتماعية16 لتستوي الدعوة الإسلامية أو الحداثة الإسلامية في وجهها الأخلاقي في ما بين أخلاق الروح وأخلاق الجوارح، أخلاق القلب وأخلاق الظاهر. يقول طه عبد الرحمن: “في حادثة تحويل القبلة أنها تمد الإنسان بأخلاق تجعله يتوسل بالعبارة المحسوسة للانتقال إلى الإشارة المعقولية، كما يطلب الانفتاح والتعرف على الأشياء والأحياء من حوله، ويندفع في الحياة الجماعية متقلبا مع أطوارها المختلفة، تمد الإنسان بأخلاق تخرجه إلى العالم17”. فانظر كيف أن هذا التجديد الأخلاقي الإسلامي الأصيل، يفتح أمام الإنسان المسلم آفاقا جديدة من التفاعل مع الذات من حيث هي مشاعر وأحاسيس وعواطف وبين التفاعل مع العالم الخارجي بهمة أخلاقية عالية تتطلع إلى التخلق. فالإنسان ما خلق، كما يقول الكاتب، إلا ليتخلق.

وعلى هذا؛ فإن تصريف هذه القيم والمبادئ الأخلاقية الإسلامية أو بالأحرى بناء الحداثة الإسلامية يستلزم إعادة بناء القيم السائدة وتصحيحيها وتقويم اعوجاجها. وذلك ببيان فساد دعوى الانفصال بين العلم والأخلاق، وبيان بطلان دعوى التعارض بين الغيب والعقل عن طريق إبراز قيمة الجهد الإنساني للمسلم الذي يندفع نحو بلوغ الغاية؛ بمعنى: “إخراج الشيء من دائرة العبث إلى دائرة المعنى18″، و”إزالة العائق” الذي يجعل الإنسان يقوم بجهد لتجاوزه والتخلص منه، ثم تكبد المشقة للتغلب على الموانع والعوائق؛ أي اقتحام العقبة. وقد ميز طه عبد الرحمن ما بين نوعين من الجهد: الجهد الارتقائي الجزئي والجهد الارتقائي الكلي. وأما الأول؛ فيتكون من “تحقيق القيمة” و”استحضار النية” واقتحام العقبة “وتقبل الكلفة19″؛ ويستفاد من هذا أن هذا النوع من الجهد يرتكز على القوة الروحية والإيمانية التي ترتقي بالفرد المسلم من مرتبة إلى أخرى لبلوغ الغاية والقيمة المنشودة.

وأما الجهد الارتقائي الكلي؛ فهو يقوم على أفعال مخصوصة وهي: “تحقيق قيم الدين الخاتم” و”ابتغاء التقرب إلى الله” و”عمل الصالحات” و”حمل الأمانة20″. ناهيك عن أن هذا النوع الثاني من الارتقاء يتسم بسمات الإيمان الملكوتي المفضي إلى أشرف اعتقاد وأيقن اعتقاد وأعمل اعتقاد21.. فهذه التجربة الإيمانية للمسلم تزوده بالقوة الأنطولوجية أو الكيانية التي تجعل كينونة المؤمن كينونة متصلة. وهذا معناه أن المؤمن في اتصال دائم ومستمر بالعوالم المعنوية والروحية حتى يتحصل لديه معنى “التواجد”، أو قل حتى يحصل إلى مستوى إنسان ملكوتي.. وهو على عكس الإنسان الملكي الذي يمتلك “كينونة منفصلة انفصالا كليا، بحيث لا يصح من منظوره الخارجي أو قل على مقتضى عالم الملك22”.

وهكذا، فإن الاتصال الكلي لكينونة الذات المؤمنة “لا يفتأ يتقلب بين العوالم، حتى يحقق بكينونته اتصالا على قدر طاقته، ولما كانت تبلغ الجهد الارتقائي الكلي، فإن تقلبه بين العوالم لا يبقى محصورا في عوالم محددة، بل يشمل كل العوالم المادي منها والمعنوي (..) فإذن، حد الاتصال هو كون ذات المسلم موجودة في العالم المادي ومتواجدة بكل العوالم المعنوية23”.

واللازم من هذا أن اتصال الإنسان المسلم بالعوالم المعنوية والروحية المغايرة لا تتأسس إلا على النظر الملكوتي، الذي يشرع في تأصيل الفعل الخلقي، بل وتوجيه وترشيد النظر الملكي القابع في مربع الظواهر والقوانين. فإذا تمكن هذا الإنسان من الارتقاء الكلي بقيمه وأخلاقه حصل ما يسميه طه بـ”الكينونة المتصلة”.
لا يخفى على ذي بصيرة من أن الحداثة الإسلامية تسعى أيضا إلى التأصيل لمعايير الفعل الخلقي الرفيع من خلال معيار العدل ومعيار المساواة ومعيار الإحسان. ففي معرض “العدل” “لا يكون إلا من أجل استرداد حق سلبه ظالم، لا يتعداه إلى انتزاع حق أحد24”.

كما أن الأمة المسلمة لا تجعل هدفها وغاياتها خدمة ذاتها ومصالحها فسحب، إنما تسعى سعيا جادا، لا شبهة فيه، إلى بسط الخيرات والفضائل على الأمم الأخرى للنهوض بالأخلاق الإسلامية والإنسانية جمعاء. وهذا مرده إلى الخصوصية الإسلامية المبادرة إلى تجديد روح الإنسان على مقتضى التخلق المستمر والعطاء الدائم مع الذات والآخر عن طريق الجهد الاعتيادي والجهد الارتقائي الكلي وجهد الاكتمال. حيث تتخلق الأمة المجاهدة بالإخلاص للقدوس، فتظهر في حاضرها أكثر مما تظهر في مستقبلها، وتظهر في مستقبلها أكثر مما تظهر في ماضيها، ولما كان الحاضر على ضربين: زمني وسرمدي، كان تظاهرها بحاضرها السرمدي الذي يصلها بالقدسي أكثر من ظهورها في حاضرها الزمني. فإذن، الأصل في اتصال ديمومة الأمة المخلصة هو تظاهر بالحاضر السرمدي مع تقدم ظهورها في المستقبل على ظهورها في الماضي25″ فانظر واعتبر!!

ثانيا: لا حداثة مع وجود التقليد

يتصور د. طه عبد الرحمن مفهوم الحداثة الغربية المشهودة على أنها حداثة خارجة عن مقتضيات الفطرة الإنسانية التي تنبني على الشعور الإيماني والديني والأخلاقي؛ إذ إن الاكتفاء بالنظر العقلاني المجرد وحده يوقعنا في سلبيات وآفاق مسدودة26.

والغريب أن بعض المفكرين العرب والمسلمين مازالوا لم يرتدوا عن تقليد للغرب حد النعل بالنعل، من دون تجديد أو نقد أو حتى تعليق محتشم! وكأن أمر الحداثة عند كانط وهيغل ودولوز أمر مقدس. مما يجعلهم يخالفون مقتضى الحداثة والأنوارية ذاتها من حيث مبدأ النقد؛ أعني خروج الإنسان من القصور إلى الرشد. متى علمنا أن أبا الوليد قد تزعم قافلة التقليد في الممارسة الفلسفية العربية الإسلامية، علمنا أن ذلك التقليد قد تراكم عندهم وترسخ في نفوسهم طبعهم. وبالتالي؛ لا مجال للإبداع والاجتهاد. فإذا كان ذلك كذلك، فإن التقليد أيسر وأهون من مجاهدة النفس، وإضافة عناء على عناء، ومشقة على مشقة من أجل التجديد والإبداع. وقد كان طه عبد الرحمن من الأعلام المعاصرين الذين كلفوا نفسهم مشقة إخراج الأمة المسلمة وأبنائها من ظلمانية التقليد وقهره إلى حقانية الإبداع ومشروعيته.

فلما كانت الحداثة الغربية تزعم أنها حداثة كونية وكليانية بمقتضى وحدة العقل الإنساني والتاريخ، فإن الأمر عند طه عبد الرحمن لا يكمن إلا في خلطها بين “روح الحداثة” و”واقع الحداثة”. فروح الحداثة هي من “صنع المجتمع الغربي الخاص، حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطوراه (…) لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر، كما لا يبعد أن يبقى في مكنتها أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنسانية27”.

في حين أن “واقع الحداثة” لا يعدو أن يكون “تطبيق واحد من الإمكانيات التطبيقية المتعددة والمختلفة التي يحملها روحها (…) بل لا نعدو الصواب إن قلنا بأن هذا التطبيق للحداثة الخاص هو نفسه اتخذ في المجتمعات الغربية أشكالا مختلفة، حتى كادت أن تكون لكل مجتمع منها حداثته الخاصة به28”.

من أهم مبادئ الحداثة الإسلامية في فكر طه عبد الرحمن هو مبدأ الرشد ومقتضاه خروج الإنسان من حالة القصور إلى حالة الرشد29، ويحتوي هذا المبدأ على ركنين أساسيين هما: “الاستقلال” و”الإبداع”. فالاستقلال هو التحرر من كل وصاية، حتى يحقق الإنسان ذاتيته في النظر والتأمل والتفكير. والركن الثاني هو الإبداع، حيث يسعى “الإنسان الراشد الى أن يبدع أفكاره وأقواله وأفعاله وكذا أن يؤسس هذه الأفكار والأفعال على قيم جديدة يبدعها من عنده أو على قيم سابقة يعيد إبداعها حتى كأنها قيم غير مسبوقة30”.

وبهذا الاعتبار، فإن أجرأة مبدأ الرشد بركنيه قد تم عند طه عبد الرحمن حينما تصور أن الدعوة الى الإسلام يتطلب فهمها على مقتضى الجمع بين “التنوير الذي هو توعية تخرج المدعو من الجهل السابقة إلى المعرفة النافعة وبين مقتضى التحرير الذي هو تعبئة عملية تخرجه من قيود المخلوق القديمة إلى أفعال الخالق الواسعة31”. كما أن للاستقلال معاني متباينة ومنها المعنى السياسي الذي يظهر متى اندفع المسلم المعاصر إلى معرفة، كما يقول د. طه عبد الرحمن، سبل “رفع مظاهر المحاصرة، سواء كانت ذاتية أو داخلية أو خارجية32” عن طريق التنوير الروحي والاجتهاد العملي للداعية والانقطاع عن توسله بالآخر (العدو خاصة). ويتولد من هذا أن تنتقل الأمة المؤمنة المجاهدة من حالة القصور إلى حالة الرشد الخلاق.

ومن المؤكد أن من مظاهر تطبيق مبدأ الرشد في فكر طه عبد الرحمن هو مراجعته للعديد من التصورات الترجمية العربية السائدة تحت عنوان: “الترجمة الحداثية والاستقلال المسؤول33″؛ إذ شرع طه في بيان أوجه الاختلاف بين تجربة المأمون الترجمية الأولى التي كانت بإرادة واختيار وإثبات الذات، وبين تجربة الترجمة النهضوية العربية الحديثة والتي كانت صادرة عن الاضطرار أو قل صادرة عن صدمة الحداثة34.

ولعل من شرائط تحصيل الاستقلال المسؤول في هذا المعرض هو الوعي التام بمقتضيات الفعل الترجمي وأداوره ومناحيه التي تلتزم بقواعد اللغة والمعرفة والعقيدة أو من قبيل أن “الترجمة لا تستنفذ الأصل ولا تكافئه35”. من ثمة، يكون من مقاصد المترجم تجديد الهوية على منوال الأصول التراثية الإسلامية الأصيلة، وليس على دروب الغير وتقلباته وتحولاته الحاصلة؛ إذ بذلك “تتولد من النظر إلى الذات بعين الذات والنظر إلى الغير بعين الذات أيضا36”. وهذا فضلا عن أن “الترجمات تختلف باختلاف فئات المتلقين37”. كل ذلك من شأنه أن يدفع الممارسة الفكرية الإسلامية العربية المعاصرة إلى الإقلاع عن ظلمانية التقليد إلى ترسيخ حقانية الإبداع ومشروعية الاستقلال المسؤول.

وينجم عن هذا، أنه “ينبغي أن يعمل المترجم على تحقيق هذا التحرر للعقل وليس يتأى له ذلك إلا إذا أثبت هو نفسه قبل غيره أنه قادر على أن يتحرر من وصاية النص الأصلي التي يفترض أنه يقع تحتها، وعلامة تحرره هي أن يأتي يترجمته لا على مقتضى استنساخ الأصل بواسطة لغته، كما جرت بذلك العادة، وإنما على مقتضى ما نسميه بـ”استكشاف الأصل”؛ أي أن تكون ترجمة استكشافية38”.

ويستفاد من هذا، أن الترجمة الحداثية هي التي تبدع في مفاهيمها وتبتكر في تصوراتها في منأى عن التقليد والتبعية. وهذا لا يتحقق إلا إذا تم الانفلات كليا من آفة الاستقلال المقلد. هذه الآفة التي ترسخت في نفوس العرب والمسلمين، قديمهم (فئة المقلدة المتقدمين) وحديثهم (فئة المقلدة المتأخرين)، حتى “لا يرون في تقليدهم المحدثين تقليدا، بل يرون فيه على العكس من ذلك تجديد (…) كل ذلك يدل على فهم سقيم لماهية روح الحداثة، على انتشار هذا الفهم بين أظهرهم، فهذه الروح لا يملكها حقا إلا من وطن نفسه على أن يبدع في كل شيء39”.

وهكذا، فإن اليقظة المغربية الفلسفية قد وقعت في هذه الآفة؛ أي آفة التقليد، حتى أضحت حداثة فلسفية جامدة لا إبداع فيها، وساكنة لا حركية معها. وذلك مرده إلى اندماجها كليا في ما قرره الغير في التفلسف. “فيكون هذا الضرب من الحداثة إلى الوهم والأسطورة أقرب منه إلى الواقع والحقيقة40”. فأمام هذا الاستقلال المقلد لابد من تفعيل الاستقلال المبدع بحيث تصير “روح الحداثة” على مقتضى ما قررته الذات من التفلسف وعن طريق مقتضيات تراثها الأصيل، حتى “تكون صبغتها الواقعية ثابتة41”. ويكون الإبداع فيها جليا، بل قل تتبلور حداثة فلسفية حية. كما أن من مبادئ روح الحداثة كذلك مبدأ النقد الذي مقتضاه الانتقال من حالة الاعتقاد إلى حالة الانتقاد42، ويحتوي هذا المبدأ على ركنين هما: “التعقيل” و”التفصيل”.

من الواضح أن الانتقال من التعقيل المقلد إلى التعقيل المبدع، إنما يشترط فيه شرط الوعي بأن “الحداثة لا تنال إلا بطريق الإبداع؛ بمعنى أنه على الحداثي (…) أن يبدع في تعقيله للأشياء وتفصيله لها43”. وذلك أن يخرج من ظلمانية تقليديته نحو مزيد من “الجهد الارتقائي” الكلي المتصل بعالم الحداثة المؤيدة المبدعة. ومن ثمة فإن “أهل التقليد لم يكلفوا أنفسهم عناء تبرير “تقليدهم” وبيان مشروعيته، ولا بالأولى اجتهدوا في تمحيص آليات النقد التي اقتبسوها44″. وحسبنا تلك القراءات المغرضة التي رفعت شعار”القراءة الحداثية” للقرآن الكريم.

لقد سعت هذه القراءات الحداثية للنص القرآني مع محمد أركون وعبد المجيد الشرفي ويوسف الصديق ونصر حامد أبو زيد.. وآخرون، إلى تفعيل العمليات المنهجية والوسائل المعرفية الحديثة عن طريق الخطط التالية: خطة التأنيس وخطة التعقيل أو العقلنة وخطة التاريخ أو الأرخنة45.

وهكذا، فإن محاولة قراءة القرآن قراءة حداثية إنما تتجاهل النظر الاعتباري الذي ينظر في العلل الحكمية أو قل يجعل النظر الملكي مؤسس على النظر الملكوتي. كما تتغافل عن الاختلاف الجوهري بين القرآن الكريم وما بين التوراة والإنجيل اللذان أصابهما التحريف.

كل ذلك من شأنه، أن يؤدي بهؤلاء المثقفين المعاصرين إلى تقليد الغرب في أحواله ومناهجه ومقولاته. يقول طه عبد الرحمن: “وإذا نحن تأملنا هذه القراءات في ضوء هذه الخلفية، تبين لنا أن أصحابها لم يمارسوا فيها الفعل الحداثي في إبداعيته كما حصل في تاريخ غيرهم، مقلدين أطواره وأدواره، ويتجلى في كون خططهم الثلاث المذكورة مستمدة من واقع الصراع الذي خاضه “الانواريون” في أوروبا مع رجال الكنيسة..46″.

ويتبين أن تقليدهم هذا قد خرج بهم الى ترك الاشتغال بالله والانكباب على مفهوم الإنسان، وترك التعلق بالوحي والآخرة والاندفاع بقوة وحماس نحو التوسل بالعقل والعقلنة. ومن ذلك، كانت تلكم القراءات الحداثية والعصرية للقرآن الكريم. ويمكننا إجمال ذلك في أن قراءاتهم تتسم بالخصائص التالية:
ـ فقد القدرة على النقد47.
ـ وضعف استعمال الآليات المنقولة48.
ـ والإصرار عن العمل بالآليات لمتجاوزة49.
ـ وتهويل النتائج المتوصل لها50.
ـ وقلب ترتيب الحقائق الخاصة بالقرآن51.
ـ وأخيرا وليس آخرا تعميم الشك على مستويات النص القرآني52.

ولعل من بين شروط ومبادئ التعقيل المبدع لا المقلد هو أن العقل لا يمكن – كما يزعم أهل الحداثة العربية، أن يدرك ذاته بذاته، وأن العقل لا يعقل الكل؛ لأنه جزء من الكل، والجزء لا يحيط بالكل. كما أن العقل لا يدخل في صراع وسيادة على الطبيعة وموجوداتها، وذلك لأن حقيقة العقل في تصور الحداثة الاسلامية أنه يود الطبيعة وبراحمها53. فضلا عن ذلك أن التعقيل المبدع يكون موسعا لا مضيقا، ويكون متنوعا لا أحاديا.

لقد عمل د. طه عبد الرحمن على بيان القراءة الإبداعية للقران الكريم ومنطلقاتها، بحيث ترنو، هذه الأخيرة، إلى الحفاظ على مقتضيات المجال التداولي الإسلامي العربي. فالإبداع الموصول هو الذي يعتبر أن الأصل في الممارسة الإسلامية هو التفاعل مع الدين، واعتباره المحرك الأساس لكل فعل أو قول لكل نظر أو عمل54، وهو أصل مغاير لمقتضى الفعل الحداثي الذي أدى به طريق “الإبداع المفصول” إلى الإبداع والتجديد والتغيير حينما كان السياق رهين بالتصادم مع مؤسسة الكنسية التي كانت تناهض العلم والتقدم والتنوير. ويستفاد من هذا أن منطلقات القراءة الحداثية المبدعة لدى طه عبد الرحمن تتجلى في شرطين اثنين وهما: “أحدهما؛ رعاية قوة التفاعل مع النص القرآني” أو بعبارة أخرى أدق “ترشيد التفاعل الديني” والآخر “إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول، أو قل “تجديد الفعل الحداثي55”.

كما أن الانتقال من التفصيل المقلد إلى التفصيل المبدع إنما يستلزم الإقرار بأن الحداثة قد وقعت في الفصل بين الحداثة والدين باعتباره فصلا مطلقا. والحال أن فكر الحداثة فيه من الأساليب الدينية ومضامينها ما لا يعد ولا يحصى. ومن ثمة، فلا تعارض بين الدين والعقل وتطوره ونموه56.

وعلامة ذلك أن طه عبد الرحمن قد اتجه بقوة بيان مدى فعالية مقتضى الفعل الحداثي الإسلامي؛ إذ صارت “خطة التأنيس المبدعة” أكثر تغلغلا في الحداثة من التأنيس المقلد57، ونتج عن ذلك إبطال المماثلة اللغوية بين النص القرآني والنصوص البشرية. الخطة الثانية؛ هي “خطة التعقيل المبدعة” التي تعمل على توسيع العقل والتفاعل مع الآيات، أو بالأحرى تأسيس النظر الملكي على النظر الملكوتي58، ومن ثمة تبطل الماثلة الدينية بين النظر القرآني والنصوص الدينية الأخرى59. وأما الخطة الثالثة؛ فهي خطة التأريخ المبدع الذي يكرس الأخلاق والقيم. وعليه، تبطل المماثلة التاريخية ما بين النص القرآني والنصوص التاريخية الأخرى60.

ومن هنا؛ فإن الإقلاع عن آفة التقليد والتبعية التي سقطت فيها القراءات الحداثية للقرآن الكريم، إنما يتطلب إنشاء مفاهيم جديدة، وابتكار مضامين أصيلة بحيث تراعى فيها قواعد المجال التداولي والخصوصية الإسلامية. وأما مبدأ الشمول الذي هو كذلك من مبادئ روح الحداثة الإسلامية في فكر طه عبد الرحمن فهو يحتوى على ركنين مهمين وهما: “التوسيع” و”التعميم61″.

من هنا سارع د. طه عبد الرحمن إلى تفعيل هذا المبدأ في إسهاماته الإبداعية الفكرية، حتى يتسنى لنا الانتقال من التوسيع المقلد إلى التوسيع المبدع، ومن التعميم المقلد إلى التعميم المبدع.

لا مراء في أن من مسلمات “التوسيع المبدع” عند طه عبد الرحمن أن الإنسان أقوى من الحداثة، بل “له القدرة أن يبدع حداثة ثانية؛ أي واقعا حداثيا، أفضل منها62. والثانية أن الواقع الحداثي يستلزم منه استيعاب روح الإنسان مثلما هو الحال لحاجيات جسمه63. وبهذا يكون التوسيع توسيعا مبدعا في روح الحداثة.

وأما من مسلمات التعميم المبدع هو أن من متطلبات المجتمع العالمي هو التفكير المتعدي حتى يستحق أن يكون تطبيقا سليما لروح الحداثة..64″، وأن يكون المسلم متوسلا بعقلانية الآيات لا عقلانية الآلات، ثم أن الحداثة ليست كونية بقدر ما هي حداثة مبدعة، حيث تصير “تعميما وجوديا65”.

وعلى هذا فإن الدعوة إلى مبدأ الشمول بركنيه: “التوسيع المبدع” و”التعميم المبدع” إنما ينسحبان على شروط التجديد الديني والفكري على حد سواء. عن طريق مقولتي: الشمول والتكامل. يقول طه عبد الرحمن: “لذا يجب أن تضع شروط الفكر الديني في الاعتبار صفتي الشمول والتكامل المميزتين للحقيقة الدينية66”.

وهذا معناه أن الأخلاق هي أساس التجديد الديني في الإسلام، أو قل في الممارسة الفكرية عامة. فانظر كيف أن الانبعاث الإسلامي الجديد قد انصرف عن الانشغال “بالجانب الروحي من الممارسة الإسلامية، وانساق إلى إيلاء كل عنايته للجانب المادي من هذه الممارسة، مثل الجانب السياسي والجانب الاقتصادي” وبذلك يسعى طه عبد الرحمن إلى تقويم أسس ومنطلقات الحداثة الغربية والعربية المعاصرة التي تربعت على عرش التقليد بجميع أشكاله وألوانه ومظاهره.

واللازم من هذا، أن الحداثة لا تكون إلا بطريق الإبداع، والحداثة لا تكون مع وجود التقليد. وبهذا سارع طه عبد الرحمن إلى بيان مبادئ روح الحداثة التي تتأسس على مبدأ الرشد بركنيه: الاستقلال والإبداع. ومبدأ النقد بركينه: التعقيل والتفصيل. ومبدأ الشمول بركنيه: التوسيع والتعميم. إذن، تلكم مبادئ روح الحداثة الإسلامية التي تخرج العرب والمسلمين اليوم من ظلمانية التقليد إلى حقانية الإبداع.

ثالثا: الحداثة مشروع أخلاقي: نحو عقلانية مؤيدة

تعتبر الحداثة الإسلامية في فكر طه عبد الرحمن حداثة أخلاقية؛ لأنها ترنو إلى ترسيخ قيم النظر الملكوتي في الجماعة والأمة والمجتمع الإنساني عامة. وهذا مخالف لواقع الحداثة الغربية التي تؤسس رؤيتها على فصل العلم عن الأخلاق، وإبعاد الغيب عن العقل. حتى كاد أهل الحداثة ودعاتها من العرب والمسلمين اليوم يقعون في الفصل المطلق بين السياسية والدين وبين القانون الأخلاقي والأديان السماوية. والحال أن فلاسفة الغرب الكبار من قبيل اسبينوزا وكانط وهيوم قد أخذوا تصوراتهم الأخلاقية من النصوص الدينية الموروثة.

وهكذا، فإن الحداثة المؤيدة، إن جاز التعبير، هي الحداثة التي تشيد على أسوار التجربة الروحية من قيم ومبادئ وعبادة ومجاهدة والكينونة المتصلة بالعوالم الأخرى. ويستفاد من هذا أن القول بأن نظرية الاتصال عند ابن باجه وغيره هي نفي المعارف النظرية والعلوم العقلية67، الذي مرده إلى تقليد أرسطو في مسألة الفصل بين النظر والعمل. وإذا كان الأمر كذلك عند فلاسفة الإسلام، فإن التجربة الصوفية والروحية عند طه عبد الرحمن “لا تتعارض أبدا مع المعرفة العقلية، بل إنها تكون سببا من أسباب إثراء هذه المعرفة والتغلغل فيها68”.

وفي هذا المعرض، فإن فرضية تعارض فكر الحداثة أو روح الحداثة مع الأخلاق والقيم الدينية في مشروع طه عبد الرحمن، هي فرضية باطلة، ولا أساس لها من الصحة. فالحداثة الإسلامية هي مشروع أخلاقي يتطلع إليه المسلم بتحصيله الجمع بين العلم والأخلاق، والجمع أيضا بين الغيب والعقل، وما بين الجانب المادي والجانب الروحي… بمعنى أنها حداثة “تزودنا بأسباب العقل الكامل69”.

ذلك لأن العمل في الثقافة الإسلامية العربية الأصيلة” كائنا ما كان لا ينفك بفعل ويؤثر في النظر، والنظر لا ينفك يوسع وسائله وينمي بنيانه تحت هذا التأثير العملي70″.

وحسبنا أن بعض الباحثين المعاصرين قد اجتهد في بيان العلاقة ما بين المنطق والتصوف عند ابن البناء المراكشي، متوخيا بذلك “تقديم حالة ابن البناء المراكشي كشاهد بينهم لإمكان “التأثيل” التصوفي للمنطق المنقول عن الفكر اليوناني..71″. وبهذا الاعتبار، فإن العقلانية المجردة لم ترق إلى مستوى العقلانية المؤيدة التي تنظر في دلالة الداخل على الخارج وتقتدي بسلوك القدوة والتحقق بالصدق، إضافة إلى التكامل بين حاجيات الجسم ومتطلبات الروح.. وهذه الأمور لم تأخذ بها العقلانية المجردة. فكان منطق طه عبد الرحمن هو منطق الحداثة بامتياز، لكن على غير طريق دعاة تقليد الحداثة أو أصحابها من الغربيين، يقول طه: “هو أننا لم نقم في هذا بتقليد غيرنا كما يفعلون وبه ينصحون، وإنما صادفنا حداثته بموجب شعورنا بحاجة المسلم المعاصر إلى فكر ديني متميز يناسب عصره، فنكون قد أتينا بحداثة من إبداعنا لا من إبداع من هو أجنبي عنا تاريخا وتداوليا72”.

ومن هنا، فالتجديد والإبداع ليس له طريقة واحدة أو شكل واحد بقدر ما هو طرق ومسالك متعددة تختلف باختلاف الأمم والحضارات، ووفق مقتضياتها اللغوية والعقدية والمعرفية. وبهذا فإن الاجتهاد الحي في الثقافة الإسلامية هو الاقتداء بالمعاني الروحية والأخلاقية في النظر في المقولات والعلوم. كل ذلك من شأنه أن يحقق لنا التعقيل المبدع لا المقلد والتفصيل المبدع لا المقلد. فانظر كيف أن العقل المجرد يطلب معرفة الصفات، وأن العقل المسدد يروم معرفة الأفعال. في حين أن العقل المؤيد يحصل الجمع بين النظر والعمل والتجربة73؛ إذ بذلك تحقق الأمة المسلمة المجاهدة والارتقاء الكلي في التخلق مع الخالق سبحانه والذات والآخر، وسائر الكائنات والموجودات.. أليست هذه هي قمة الحداثة؟ فهي أيقن وأعقل وأكمل!

لقد اعتبر الدكتور طه عبد الرحمن أن مبادئ روح الحداثة الإسلامية تتأسس على مبدأ الرشد ومبدأ النقد ومبدأ الشمول، وهي المبادئ التي أسهمت في تميز الإسهام الخلقي المغربي عن غيره من الأعمال الخلقية والروحية الإسلامية والعربية.

ويتبين أيضا أن من خصائص العمل الخلقي المغربي هو التكامل بين النظر والعمل؛ إذ أن “كل معرفة عقلية كاملة لابد لها من أن تنتقل من مستوى التمييز المجرد إلى مستوى التخلق السلوكي، حتى ولو كانت علما نظريا أو آليات كاللغة والمنطق والحساب؛ لأن التخلق بها سبب في نفوذ المعاني والقيم إليها74”.

ولعل هذه الخاصية التكاملية هي ميزة رجال التصوف والتشوف من الأخلاقيين المغاربة، الذين كانوا ومازالوا يجمعون بين “التخلق والتفقه” ويجمعون بين “التجرد والتسبب” ويجمعون بين “المجاهدة والجهاد”.

ويستفاد من هذا أن كل ممارسة أو معرفة أو نظر أو تأمل هي مفتاح إلى الاهتداء إلى طريق الله. “فالموضوعات أو الموجودات التي تنظر فيها العلوم، هي على التحقيق مجلي قدرة الله ومظهر صنعه..75”.

ومن المؤكد، أن انتقادات طه عبد الرحمن إنما تنكب على تقويم العقلانية المجردة في مظاهرها المتنوعة وتجلياتها المختلفة، وذلك بعلة اعتبارها، في هذا السياق، أن التصوف والعرفانية هي أدنى مراتب العقلانية، بل قل إن التصوف والعرفان هو بالأساس اللاعقلاني.. يقول الدكتور الجابري رحمه الله: “.. إن التأويل الباطني والتفسير الصوفي يعتبران كلاهما عبارات القرآن ظاهرا وراءه باطن، ومهمة المؤول هي اتخاذ العبارة القرآنية إشارة وجسرا لمعنى أو معان جاهزة لديه (…) نحن هنا أمام باطن يعبر عنه المتصوفة تعبيرا إشاريا، وفي الغالب بعبارات “مستغربة”؛ بمعنى أنها غير مقبولة لا عقلا ولا شرعا. والمتصوفة يعترفون بهذه “الغرابة” في التعبير؛ أعني بعدم احترام قوانين العقل كمبدأ الهوية وعدم التقيد بالعقيدة كما يقررها ظاهر الخطاب الشرعي76″.

والحال، أن العلم في الإسلام في تصور طه عبد الرحمن “لا تصنعه عقول البشر من غير تسديد الوحي، وأن العقل فيه لا ينفع إلا من حيث ارتكازه على الاشتغال الشرعي77”. وأما الخاصية التداولية فهي التي تتجلى في “النفور من الفروع الفقهية” و”النفور من الجدل الكلامي” و”النفور من الحكمة العرفانية78″.

ويترتب عن هذا، أن الصوفي يعمل أولا على تعظيم الشرع، ثم يسعى ثانيا إلى ترجمة هذا التعظيم والإجلال في المعارف والعلوم النقلية والقلبية حتى تحقق مقصد معرفة الله والاشتغال به في النظر والعمل. وهكذا فإن زعم دعاة العقلانية المجدرة باستيفائهم شرائط العقلانية، هو أمر مردود. ذلك أن العقل التحقيقي أو الذوقي باستيفائه شرط القرب التجريبي يكون قد استوفى شرط المقاربة النظرية المحددة للعقلانية المجردة بأفضل مما استوفاها العقل المجرد..79″.

ومن الواضح، أن نعت العقلانية المؤيدة أو التجربة الروحانية الذوقية بأنها لا عقلانية هو يصدق في حق هؤلاء، وأن “وصف العقلانية الذين يدعون الاختصاص به يصدق في حق أهل الذوق أكثر مما يصدق في حقهم هو80”.

وأما الخاصية الثالثة من خصائص العمل الخلقي المغربي فهي خاصية التأنيس81 التي تسعى سعيا جادا إلى تكريس المدلولات التالية: المدلول الروحي للجهاد، والمدلول الإنساني للدعوة، والمدلول المعنوي للنسب. ولعل ذلك مرده إلى تشبث المغاربة بالمذهب المالكي الذي يستند إلى “العمل” و”الصحبة” باعتبارهما من مصادر التشريع الإسلامي، مما رسخ في نفوس تابعيه ومقلديه “الشمول الإنساني” و”الشعور بالواقع” و”الإخلاص في الالتزام82″، وهي، لا محالة، من أوصاف التجربة الأخلاقية الصوفية الإسلامية الأصيلة. وهكذا فإن الإصلاح الروحي والأخلاقي لا يأخذ بمبدأ التسييس أو التغيير الثوري والعنف الرديكالي بقدرما يأخذ بالتأنيس الذي يترجم عقلانية المقرب وهي أعلى مراتب العقلانية اليوم.

ويتحصل مما تقدم، أن روح مبادئ الحداثة الإسلامية لا تجافي خصائص العمل الأخلاقي الصوفي أو قل العقلانية المؤيدة. وذلك بعلة أن الحداثة الإسلامية هي، عمقها، حداثة أخلاقية تتطلع إلى ربط العمل بالنظر، والقول بالفعل، والغيب بالعقل، والقيم بالعلم، والشاهد بالغائب.. من هنا صارت الحداثة المؤيدة أيقن وأعقل وأكمل. فانظر كيف أنها تبعث في الأمة المسلمة روح الإبداع والتجديد، وتزرع في أحشائها جاذبية الاجتهاد ومقاومة التقليد والاتباعية.

روح الحداثة في فكر "طه عبد الرحمن": من عقلانية التجريد إلى عقلانية التأييد

الهوامش :

                       ——————————————————————————

1. الرحمن (طه)، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2006، ص139.
2. عبد الرحمن (طه)، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2005، ص 90.
3. المرجع نفسه، ص91 -90.
4. المرجع نفسه، ص93 – 94.
5. المرجع نفسه، ص48 – 49.
6. المرجع نفسه، ص49 – 50.
7. المرجع نفسه، ص50 – 51.
8. لقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية في بعض فلاسفتنا ومنظريها إلى اعتبار أن القيم هي قيم تصادمية. وذلك راجعا إلى ظروف وأسباب إيديولوجية وإستراتيجية التي زادت من ترسيخ مفهوم صدام الحضارات. يقول د. طه عبد الرحمن: “.. ينبغي التفريق بين التعددية القيمية التي نشأت في ظروف حداثية و”إيديولوجية” و”إستراتيجية” خاصة وبين واقع التعدد الذي نلمسه في حياة الإفراد وتاريخ المجتمعات ونلحظه في كل الظروف المكانية والزمانية، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، حسبنا منها تاريخ الممارسة الفكرية الإسلامية الذي شهد ألوانا من الاتجاهات وإشكالا من الطوائف زادت عن حدها، وعلى هذا؛ فإبطال التعددية القيمة المعاصرة لا يلزم منه البتة إبطال مبدأ التعدد القيمي، ولا بالأحرى الحرمان من حق التعدد القيميي..” ص74، من كتاب “الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري”، م، س.
9. عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المركز الثقافي العربي، ط 1، 2000، ص157.
10. المرجع نفسه، ص161.
11. المرجع نفسه.
12.المرجع نفسه، ص162.
13.المرجع نفسه، ص163.
14. المرجع نفسه، ص164.
15. المرجع نفسه، ص166.
16.المرجع نفسه، ص166.
17. المرجع نفسه، ص166-167.
18. عبد الرحمن (طه)، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2005، ص223 – 224.
19. المرجع نفسه، ص229.
20. المرجع نفسه، ص236
21. المرجع نفسه، ص236 – 237.
22. المرجع نفسه، ص224.
23. المرجع نفسه، ص249.
24. المرجع نفسه، ص254.
25. المرجع نفسه، ص279.
26. راجع تفاصيل ذلك في الفصل الثالث من الباب الأول من هذا الكتاب.
27. عبد الرحمن (طه)، روح الحداثة. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2006، ص31.
28. المرجع نفسه، ص30.
29. المرجع نفسه، ص25.
30. المرجع نفسه، ص26.
31. عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2000، ص173.
32. يمكن للقارئ العودة إلى تفاصيل الفصل السابع المعنون بـ “دعوة العودة إلى أخلاق الإسلام، كيف نفكك عنها طوق الحاصر، ضمن كتاب “سؤال الأخلاق..”، م، س.
33. عنوان الفصل الثالث: “الترجمة الحداثية والاستقلال المسؤول”، ضمن كتاب “روح الحداثة. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2006.
34. المرجع نفسه، ص151 – 152.
35.عبد الرحمن (طه)، روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2006، ص151.
36. المرجع نفسه، ص158.
37. المرجع نفسه، ص152.
38. المرجع نفسه، ص161.
39. المرجع نفسه، ص 38 – 39.
40. عبد الرحمن (طه)، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، م، س، ص148 – 149.
41. المرجع نفسه، ص149 – 148.
42. عبد الرحمن (طه)، روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، م، س، ص26 – 27.
43. المرجع نفسه، ص34.
44.المرجع نفسه، ص42.
45. يمارس أصحاب القراءات الحداثية للقران الكريم عدة خطط منهجية وهي على ثلاثة أنحاء:
أ. خطة التأنيس: نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، ص178-179.
ب. خطة التعقيل: تستهدف أصل رفع عائق الغيبية (…) إزالة هذا العائق هي التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة.. ص182-183.
ج. خطة التأريخ: يستهدف أساسا رفع عائق الحكمية (بضم الحاء)، ويتمثل هذا العائق في اعتقاد أن القران جاء بأحكام ثابتة وأزلية، والآلية التنسيقية التي تتوسل بها خطة التأريخ، وهي إزالة هذا العائق ووصل الآيات بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة.. ص184-185.
46. المرجع نفسه، ص188-189.
47. المرجع نفسه، ص190.
48. المرجع نفسه.
49. المرجع نفسه، ص191.
50. المرجع نفسه.
51. المرجع نفسه.
52. المرجع نفسه، ص192.
53. المرجع نفسه، ص43.
54. المرجع نفسه، ص194.
55. المرجع نفسه، ص193 – 194.
56. المرجع نفسه، ص51.
57. المرجع نفسه، ص200.
58. المرجع نفسه، ص201.
59. المرجع نفسه، ص204.
60. التوسيع: “لا تنحصر أفعال الحداثة في مجال أو مجالات بعينها، بل إنها تنفذ في كل مجالات الحياة ومستويات السلوك..” ص28 – 29.
– التعميم: “لا تبقى الحداثة حسب المجتمع الذي نشأت فيه، بل إن منتجاتها العالية وقيمها التي تدعو بقوة إلى تحرير الإنسان، ترحل إلى ما سواه من المجتمعات، أيا كانت الفروق التاريخية والثقافية بين الطرفين..” ص293.
61. المرجع نفسه، ص56.
62. المرجع نفسه، ص58.
63. المرجع نفسه، ص63.
64. المرجع نفسه، ص67.
65. عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، م، س، ص187.
66. المرجع نفسه، ص191.
67. عبد الرحمن (طه)، حوارات من أجل المستقبل، م، س، ص103.
68. المرجع نفسه.
69.عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، م، س، ص 98 – 99.
70. عبد الرحمن (طه)، حوارات من أجل المستقبل، م، س، ص104 – 105..
71. النقاري (حمو)، دراسة: “نظرية الحق” في فكر ابن البناء المراكشي”، ضمن كتاب “العلم والفكر العلمي بالغرب في العصر الوسيط”، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 94، بتنسيق بناصر البوعزاتي، ص52.
72. عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، م، س، ص225. يقول طه عبد الرحمن عن مسألة الإبداع والتجديد في السياق العربي والإسلامي: “والحق أن الحسم في قيمة هذا التجديد موكول إلى المستقبل الذي سوف يفصل إن كان هذا العمل قد نجح أو فشل في خلق فضاء فكري تتحرك فيها معاني الدين وخصائصه بكفاءة استشكاليه واستدلالية، لا تقل عن الكفاءة التساؤلية والتدليلية لغيرها من المعاني والحقائق المقررة في عالم الممارسة الفلسفية” ص227.
73. عبد الرحمن (طه)، العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، ط 4، 2006، ص129..
74. المرجع نفسه، ص147.
75. المرجع نفسه، ص148.
76. الجابري (محمد عابد)، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، ط 2، 1991، ص289.
77. عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، م، س، ص149.
78. المرجع نفسه، راجع تفاصيل الأصناف المذكورة أعلاه، من 210 إلى 212.
79. عبد الرحمن (طه)، العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، ط 4، 2006، ص168.
80. المرجع نفسه، ص167.
81. عبد الرحمن (طه)، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، م، س، ص212.
82. عبد الرحمن (طه)، العمل الديني وتجديد العقل، م، س، ص181. . عبد الرحمن (طه)، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2006، ص139.

د. يوسف بن عدي

أستاذ ومؤلف في شؤون الفلسفة والفكر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق