مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف ومقاصد الشريعة الإسلامية، قاعدة: “الإخلال بالمكملات طريق إلى الإخلال بالضروريات”

مصطفى بوزغيبة                                                                                                                              مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

هذه القاعدة جليلة القدر، عظيمة النفع، ومعناها: أن المكلف إذا تجرأ على الإخلال بالمكملات، فغدا أو بعد غد سيتجرأ على الإخلال بالضروريات، من باب النظر إلى مآلات الأفعال، وذلك أن النفس البشرية من طبعها الخلود إلى البطالة والكسل، واستصعاب كل سهل، والتهاون في الأمور البسيطة، وبالتالي تركن إلى الرخص، ولا ترى فيها أي بأس، بل تُزين له ترك العمل الصالح، والإقدام على المكروهات، وتتدرج معه حتى تسقط هيبة الشريعة من قلبه، حينها لا يجد غضاضة في ترك الواجبات والفرائض والإخلال بالضروريات، وارتكاب المحظورات، وعلى هذا المعنى حمل بعض العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده[1] لأن ثمن البيضة أقل من نصاب السرقة، ولكن بالنظر إلى ما سيؤول إليه عمل السارق في المستقبل من التجرؤ على سرقة ما هو أعظم من البيضة.

 من أجل ذلك جاءت هذه القاعدة لتضبط لنا سلوك المكلف من التهاون والتفريط في الأحكام الشرعية مهما تكن درجتها إلا في حالات استثنائية (الضرورة…).

وقد عمل السادة الصوفية بهذه القاعدة وخرّجوا على ضوئها مسائل هامة استند إليها الشاطبي كثيرا في كتابه الموافقات، وأثنى على الصوفية بعملهم هذا، وفيما يلي هذه المسائل:

1-   اقتضاء الأوامر: الوجوب والنواهي الحرمة:

من المعلوم عند علماء الأصول، وعند الصوفية على السواء، أن الأوامر والنواهي تتفاوت من حيث اقتضاؤها أقسام الحكم الشرعي:  الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، باعتبار جلب المصلحة ودفع المفسدة الناشئ عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي، إلا أن الصوفية لهم تقسيم آخر، حيث يُبقون الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان :

    أحدهما: اقتضاء الفعل.

    والآخر: اقتضاء الترك.

فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم.

“وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما بل ربما أطلق بعضهم على المندوب انه واجب على السالك وعلى المكروه انه محرم وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص”.[2]

وقد أخذ الصوفية بهذا المسلك لعدة اعتبارات:

     أحدهما: أنهم ينظرون إلى الآمر، أي الجهة التي صدر منها الأمر لا الأمر في حد ذاته، فهم يعملون على إرضاء حبيبهم والتودد إليه وذلك لا يكون إلا بالامتثال لكل ما يوجبه والانتهاء عما منعه.

     والثاني: ينظرون إلى معنى الأمر والنهي، وله اعتبارات:

         1-“النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك.

فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما انه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده لأن الجميع يقتضي نقيض القرب وهو إما البعد وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب”.[3]

لذلك نجدهم يحذرون مريديهم من الوقوف مع المقامات والأنوار ويطالبونهم بالتحرر منها لأنها من الأغيار إلى ما هو مطلوب آلا وهو الحبيب المحبوب.

          2- “النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ودرء المفاسد عند الامتثال وضد ذلك عند المخالفة. فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ومكمل مخدوم وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت المندوبات كملت الواجبات وبالضد فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد.

وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كان رائدا لها وأنسا بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها”.[4]

2-  الأخذ بالعزائم دون الركون إلى الرخص:

وهي من الأصول التي بنا عليها الصوفية مذهبهم في العمل بمقاصد الشريعة، لأنها من مقتضى العمل بالأوامر واجتناب النواهي  وترك الرخص التي هي من قبيل التوسعة على الناس.

“ومن تم لا نراهم يأخذون بالرخصة أو المباح المطلق لاستوائهما في الاشتمال على حظ العبد بجانب حق الخالق. وإذا عَنَّ لهم الأخذ بها، فإنما يكون ذلك من حيث ورود الإذن الشرعي المجرد، معتبرين فيها حق الله أولا، حتى إذا تحقق لهم حظ النفس من خلالهما كان بطريق التبعية لا بالأصالة”.[5]

فالصوفية يتحملون المشاق في سبيل إرضاء حبيبهم وإبقاء حبل الوصال معه، وذلك لن يتأتى إلا بمحاربة الكسل والخمول والبطالة وكذا مخالفة الهوى والنفس.

من أجل ذلك مدح  الشاطبي طريقتهم واعتبرها مسلكا سليما لأن العمل بالرخص فيه إتباع للشهوات النفس وأهوائها كما لا يؤمن فيه من السقوط في حبائل الشيطان ومكره “ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك إتباع الرخص جملة وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم وهو أصل صحيح مليح مما أظهروا من فوائدهم  رحمهم الله”.[6]

ولذلك قالوا: “إذا انحط الفقير عن درج الحقيقة إلى رخص الشريعة فقد فسخ عهده مع الله تعالى ونقضه”.[7]

وبهذا يتميز نظر  الصوفية عن نظر الفقهاء فهم ينظرون إلى مآلات الأفعال من تحصيل الكمال والتقرب إلى مولاهم بأحسن الهيئة وأتم صورة، يقول الشيخ زروق: “نظر الصوفي للمعاملات أخص من نظر الفقيه، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط  به الحرج، والصوفي ينظر ما يحصل به الكمال”.[8]

إن هذا المنهج الذي سلكه الصوفية جعلهم لا يخرجون عن الوسطية والاعتدال التي هي من خصائص هذه  الأمة، بل هم واقفون عند حدود الشرع في حركاتهم وسكناتهم، ويحاسبون أنفسهم على النقير والقطمير أكثر من غيرهم ممن لم ينتظم في سلوكهم، ويدافع الشاطبي عن أحوالهم هته بقوله: “فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على إتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة”.[9]

وحجتهم في ذلك أن الرخصة تختلف من شخص إلى آخر وكذلك فإنها تتأثر  بالأحوال وكذا الزمان، والمكلف فقيه نفسه في الأخذ بها أو تركها.

والصوفية بسلوكهم طريق المجاهدات والمكابدات والتضحية بالغالي والنفيس في ذات الحبيب صار الصعب الشاق سهلا، بل يتلذذون به ويجدون فيه حلاوة لا تضاهيها حلاوة، وعلى هذا يتخرج قولهم “سقطت عنا التكاليف” أي كُلفة ومشقة أداء العبادة لا العبادة نفسها كما يتوهم البعض، يقول الإمام الشاطبي متحدثا عن أحوالهم: “فإِلفُ الشيء والاعتياد عليه يحول الصعب الشديد إلى الميسور المحتمَل ودليل ذلك ما يأخذ به أرباب الأحوال أنفسهم من رياضات ومعالجات تصير الشاق وغير المعتاد عند غيرهم إلى مألوف  ومعتاد عندهم وهم ليسوا بدعا في ذلك بل لهم أصل يستندون إليه آلا ترى إلى قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين[10] حيث بين الله عز وجل أن الصلاة كبيرة على المكلف واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كانت قرة عينه الصلاة حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ويقول: {أرحنا بها يا بلال}[11] وقام بها حتى تورمت قدماه.

فإذا كان كذلك فمن خص بورثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية”.[12]

والسبب الثاني الذي يجعل الشاق سهلا والصعب ميسورا هو: الوصال من محبوبهم، والطمع في رضاه والخوف من البُعد، ولسان حالهم يقول:

    إذا صح منك الود  فالكل  هين              و كل ما  فوق  التراب  تراب

    ليتك  تحلــو و الحياة   مريـرة              وليتك تصفـــو والأنام غضاب

ويبين الشاطبي هذا السبب بقوله: “فإننا ندرك ونشاهد أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس وحسبنا من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم حرصا عليها واغتناما لها طمعا في رضا المحبوبين واعترفوا بأن الشدائد والمشاق سهلة عليهم بل لذة لهم ونعيم وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم اليم.

وعلى هذا الأصل يتخرج كثير من الأعمال الثقال التي وردت عن كبار الصوفية بل وعن كبار الصالحين من الصحابة والتابعين”.[13]

وما تميز به الصوفية عن غيرهم كذلك، أخذهم بالعزائم المكية التي  في غالبها مطلقة غير مقيدة “وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات  عند أرباب العقول فعملوا بمكارم الأخلاق على وجه الإطلاق دون التعبدات  التي شأنها التوقف  عند المنصوص عليه  أما غير ذلك مما كان موكولا إلى أنظار المكلفين  ومصروفا إلى اجتهاداتهم فقد أخذوا فيه بعزائم المكيات دون ترخص المدنيات وأخذ كل منهم بما لاق به وما قدر عليه من المحاسن  الكليات “.[14]

ومثال ما أخذ فيه الصوفية بالعزائم المكية، قصة الإمام الشبلي  لما سأله أحدهم: “كم في خمس من الإبل؟، قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله”.[15]

يقول الإمام الشاطبي معلقا على هذه القصة: “وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم  فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذه المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات إلى غاية تسكن نفس المنفق فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به وإلتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة وإسقاط لحظوظ نفسه وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع”.[16]

والناظر إلى أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده يرى أنهم اتصفوا بالعزائم المكية لما فيها من القيام بحقوق العبودية والأخذ بالاحتياط في العبادات والمعاملات وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: “وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول.

وعلى هذا القسم الأول عول من شهر من أهل التصوف وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه”.[17]

لذلك استدل الشبلي رحمه الله  على ما ذهب إليه بعمل أبي بكر رضي الله عنه فقال: “من خرج عن ماله كله، فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه وترك بعضه فإمامه عمر، ومن أخذ لله، وأعطى لله، وجمع لله، ومنع لله، فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها فإمامه علي. وكل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا، فليس بعلم”.[18]

من خلال ما سبق يتبين أن الصوفية قدموا نظرات جديدة وفوائد نافعة لعلماء المقاصد، خاصة الإمام الشاطبي الذي بنى صرح علم المقاصد بالاعتماد عليهم في بعض مباحثه، مع العلم أن البوادر الأولى لنشوء علم المقاصد بدأت مع الحكيم الترمذي الصوفي المشهور.

 

الهوامش:


[1]– صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب اعن السارق إذا لم يُسمّ، دار الحديث، القاهرة، 2004م، 4/280، ح6783.

[2] – الشاطبي، الموافقات،كتاب الأحكام، المحقق: عبد الله دراز ومحمد عبد الله وعبد السلام محمد، دار الكتب العلمية، لبنان، ط7، 2005، 3/239.

[3] – الثابت والمتغير في فكر الإمام أبي إسحاق الشاطبي، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ط2، 2002م، ص456.

[4] – الموافقات، 340/3 – 343.

[5] – الثابت والمتغير في فكر الإمام أبي إسحاق الشاطبي، ص464.

[6]– الموافقات،338/1 و 130/2.

[7]– الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، عبد الوهاب الشعراوي، تحقيق وتقديم: طه عبد الباقي سرور والسيد محمد عيد الشافعي، مكتبة المعارف، بيروت، ط1، 2003م، 48/1.

[8]– قواعد التصوف، للشيخ زروق، تقديم وتحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2007م، (ق55)، ص43.

[9]– الموافقات، 639/4.

[10]– البقرة، الآية:45.

[11] – شرح سنن أبي داود للعلامة آبادي، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2001م، 309/8.

[12]– الموافقات، 135/2.

[13]– الموافقات، 315/1.

[14]– الثابت والمتغير في فكر الإمام أبي إسحاق الشاطبي، ص470.

[15]– قواعد التصوف، (ق33)، 28.

[16]– الموافقات، 240/4.

[17]– الموافقات، 238/4.

[18]– قواعد التصوف، (ق33)، 29.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق