مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

بلاغة القرآن الكريم من كتاب (فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب) للإمام العلامة شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبيّ (ت:743هـ) – الحلقة الأولى –

إنّ القرآن الكريم هو الذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو المثل الأعلى في رقة المباني ودقة المعاني والغاية القصوى في جزالة السبك ورصانة الحبك؛ فقد أخرس البلغاء بفصاحته، وأبكم الخطباء ببلاغته، وبهرتهم مطالعه البديعة، واسترقتهم مقاطعه الرفيعة، يقول الطيبي – رحمه الله تعالى – في مقدمة حاشيته: «إن كتاب الله المجيد هو قانون الأصول الدينية، ودستور الأحكام الشرعية، وهو المختص من بين سائر الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق، وونت عنها خُطى الجياد في السباق»(1/610).

وقد اعتنى علماءُ الأمة بكتاب الله وبلاغته، وأطلقوا قرائحهم في حلبات إعجازه وفصاحته، لاستخراج جواهره المكنونة، واستنباط لآلئه البهية المصونة، وألفوا في ذلك كتبا كثيرةً، وحواشي وفيرةً، منها «فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب» للإمام العلامة شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبيّ (ت:743هـ)، الذي ذكر ابن حجر أنه: «آيَة فِي اسْتِخْرَاج الدقائق من الْقُرْآن وَالسّنَن»(الدرر الكامنة (2/186)).

و«الفتوح» حاشية نفيسة وضعها الإمام الطيبيّ على تفسير «الكشاف» الذي ألفه العالم النحرير جار الله الزمخشري (ت:538هـ)، وهو تفسير جليل القدر، وكتاب نابه الذكر، وأثنى عليه وعلى مؤلفه العلماءُ؛ قال عنه السبكي – رحمه الله تعالى -: «الكشاف كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمام في فنّه»، كما قال تاج الدين السبكي، ولم يبالغ المؤلف – رحمه الله تعالى – حين قال فيه: [البسيط]

إن التفاسير في الدنيا بلا عدد  ///  وليس فيها لعمري مثل كشافي

إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته  ///  فالجهل كالداء والكشاف كالشافي

وقد احتوت حاشية الطيبي نكتا وفوائد، وتضمنت دررا وفرائد، ورجع فيها إلى كتب كثيرة؛ يكرع من حياضها، ويتنزه في رياضها، ويخرج منها من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين.

ويقول ابن حجر عن الإمام الطيبي وكتابِه: «شرح الْكَشَّاف شرحاً كَبِيرا، وَأجَاب عَمَّا خَالف مَذْهَب السّنة أحسن جَوَاب، يعرف فَضله من طالعه»(2/186).

ونروم في هذه الحلقات اقتناص بعض فوائد الكتاب المنثورة، واصطياد فوائده المنشورة.

-البسملة:

تكلم الإمام الطيبي – رحمه الله تعالى – عن متعلَّق حرف الجر في (بسم)، ووقف على ضرورة تعلق الجارّ، وقال: «لأن حروف الجر لا تنفك عن متعلق؛ لأن وضعها لإفضاء معاني الأفعال إلى الأسماء، غير أنها تدل على مطلق الفعل، ولابد في تخصيصه من قرينة. وفيما نحن فيه القرينة ما يتبع التسمية، وهو قوله: (الحَمْدُ لِلَّهِ)، وهو مقروء متلوّ، فدل ذلك على أن المضمر: أقرأ أو أتلو، والتعليل في قوله: “لأن الذي يتلو” لتعيين المقدر.

وكان الأنسب أن يقال: الذي يتلو التسمية القراءة؛ لأن الابتداء بالتسمية إنما يكون في الفعل الذي يريد أن يفعله المسمي، يدل عليه قوله: “كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله الرحمن الرحيم كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له”، والمضمر الفعل لا المفعول، كما أن تسمية الذابح إنما يتلوها الذبح لا المذبوح.» (الفتوح 1/683)

وبحث الطيبي أيضا في سبب تقدير المتعلَّق متأخرا، وذكر أن سبب ذلك هو كونُ المتعلِّق – أي بسم الله – أهمَّ من المتعلَّق، أي الفعل المقدَّر، وهو أتلو وأقرأ. (1/686)

-لفظ الجلالة (الله)

 تكلم في أصل لفظ الجلالة، قال الزمخشري –رحمه الله تعالى -: «و(الله) أصله: الإله، قال: [الطويل]

معاذ الإله أن تكون كظبية  ///  …  … … … … … …

ونظيره: الناس، أصله: الأناس، ونظيره: الناس، أصله: الأناس، قال: [مجزوء الكامل]

إن المنايا يطّلعـ      ///       ـن على الأناس الآمنينا

فحذفت الهمزة، وعوض منها حرف التعريف؛ ولذلك قيل في النداء: يا ألله بالقطع، كما يقال: يا إله».

ثم قال الطيبي – رحمه الله تعالى – في بسط كلام المصنّف: «قوله: (ولذلك قيل في النداء: يا ألله)، أي: ولأجل أن حرف التعريف عوض عن الهمزة استجيز قطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في النداء. ويُعلم منه: أنه لو لم يكن عوضاً، وكان حذفاً قياسياً كما نقله أبو البقاء، أصله الإله فألقيت حركة الهمزة على لام التعريف، ثم سكنت وأدغمت في اللام الثانية- لم يجز القطع. وهذا الذي اختاره المصنف أحد قولي سيبويه في هذا الاسم على ما نقل عنه أبو علي في “الإغفال” قال: أصله إله، ففاء الكلمة همزة، وعينها لام، واللام هاء، والألف ألف فعال، فحذفت الفاء لا على التخفيف القياسي.

قال أبو علي: فإن قيل: هلا حمله على الحذف القياسي؛ إذ تقدير ذلك سائغ فيه غير ممتنع، والحمل عليه أولى؟

قيل: فلو كان طرح الهمزة على القياس دون الحذف لما لزم أن يكون فيها عوض؛ لأن المحذوف القياسي ملقى من اللفظ مبقى في النية، كما تقول في “جيل” إذا خففته: جيل، ولو كانت محذوفة في التقدير كما أنها محذوفة في اللفظ للزم قلب الياء ألفاً، فلما كانت الياء في نية السكون لم تقلب كما قلبت في “ناب».

– (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «و(الرحمن): فعلان من رحم، كغضبان وسكران من غضب وسكر، وكذلك (الرحيم) فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي (الرَّحْمَنِ) من المبالغة ما ليس في (الرَّحِيمِ)؛ ولذلك قالوا: رحمنُ الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. ويقولون: إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى. وقال الزجاج في الغضبان: هو الممتلئ غضباً».

وقف الطيبي – رحمه الله تعالى – على الفرق بين اللفظين، وعلى وجه تقديم الرحمن على الرحيم، وذكر مذاهب العلماء في ذلك، وجنح إلى أن الرحمن يشمل جلائل النعم وأصولها والرحيم دقائقها وفروعها، وذكر أن هذا من باب التتميم لا الترقي متعقبا للزمخشري – رحمهما الله تعالى -، وقال: «قال صاحبا “الإيجاز” و”الانتصاف”: الرحمن أبلغ؛ لأنه كالعلم إذ كان لا يوصف به غير الله، فكأنه الموصوف. وهو أقدم؛ إذ الأصل في نعم الله أن تكون عظيمة، فالبداية بما يدل على عظمها أولى. هذا أحسن الأقوال وأقرب إلى مراد المصنف؛ يعني أن هذا الأسلوب ليس من باب الترقي، بل هو من باب التتميم: وهو تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغة؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر ما دل على جلائل النعم وعظائمها، أراد المبالغة والاستيعاب، فتمم بما دل على دقائقها وروادفها؛ ليدل به على أنه مولى النعم كلها: ظواهرها وبواطنها، جلائلها ودقائقها، وهو المراد بقوله هنا: “أردفه الرحيم، كالتتمة والرديف”، وفي “الفاتحة” قوله: “من كونه منعماً بالنعم كلها: الظاهرة والباطنة والجلائل والدقائق”، ولو قصد الترقي لفاتت المبالغة المذكورة وذهب به معنى التعميم المطلوب في ألفاظ “الفاتحة” كما سبق. وذلك أن الترقي يحصل فيما إذا قلت: فلان يعلم التصريف والنحو، والتتميم لا يحصل إلا من قولك: يعلم معاني كلام الله المجيد والتصريف؛ إذ من شرط التتميم الأخذ بما هو الأعلى في الشيء، ثم ما هو أحط منه ليستوعب جميع ما يدخل تحت ذلك الشيء؛ لأنهم لا يعدلون عن الأصل والقياس إلا لتوخي نكتة، والجواب إذن من باب الأسلوب الحكيم، والله أعلم.

والذي عليه ظاهر كلام الإمام: أنه من باب التكميل وهو أن يؤتى بكلام في فن، فيرى أنه ناقص فيه فيكمل بآخر، فإنه تعالى لما قال: “الرحمن” تُوُهِّم أن جلائل النعم منه، وأن الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها، فكمل بالرحيم. وينصره ما روينا عن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع”، وزاد: “حتى يسأله الملح”(1/715-716)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق