مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

“المصادر الأولى في النقد والبلاغة “الدرس السادس

قال الجاحظ: «وهو يعلم فتيانهم الخطابة… ».

نحتاج هنا أن نعرف معنى الخطابة يومئذ: في كتب الأدب، وفي كتب المنطق عند العرب. والرأي عندي أن أشير إلى مجموعة من الكتب أظن أنه يستحسن الرجوع إليها، قبل الحديث في هذا الموضوع.

وأول ما أنصح بقراءته: كتاب الخطابة لأرسطو بترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي. فهذا الكتاب مهم في فهم كل ما سيأتي من حديثٍ عن تعريف الخطابة، وعن أثر ذلك في البلاغة العربية. وقد قدم عبد الرحمن بدوي، رحمه الله تعالى، لهذا الكتاب بدراسة مفيدة جدا تحدث فيها عن تاريخ فن الخطابة عند اليونان، وعن مؤلفات أرسطو في فن الخطابة، وحدد التاريخ الذي ألف فيه أرسطو هذا الكتاب، وهو حوالي سنة: 330 أو 335 قبل الميلاد، أثناء إقامة أرسطو الثانية في أثينا. وصحح نسبة الكتاب كله لأرسطو، لأن هناك من قدَّر أن تكون المقالة الثالثة من هذا الكتاب ملحقا مستقلا أضيف إليه.

 وتظهر أهمية هذا الكتاب في كونه أصلا في فهم كثير مما قاله علماء العرب في الخطابة.  ولذلك كان علينا فهم كلام أرسطو على وجهه لنفهم ما فهمه العرب عن أرسطو في هذا الباب.

 لقد ظهرت أول ترجمة عربية لهذا الكتاب، فيما نعرف، في القرن الثاني الهجري، في زمان بشر بن المعتمر. وهي الترجمة التي حققها الدكتور عبد الرحمن بدوي سنة: 1949م. ووصفها بالسقيمة، لكونها انحرفت عن معاني النص وأساءت فهمه.

وقطع الدكتور بدوي بأن ابن سينا لم يعتمد على هذه الترجمة العربية القديمة في القسم الخاص من الخطابة من كتابه الشفاء. ورجح اعتماده على شرح الفارابي. وهو شرحه الكبير الذي لم يصلنا. ولو وصلنا لعرفنا كيف كان عِلْمُ الفارابي بالخطابة. خاصة أن هناك بعض الروايات تشير إلى أنه كان يعرف اليونانية. وكل ما وصلنا من الخطابة عن أبي نصر الفارابي تلخيص مختصر لبعض ما جاء في الكتاب الأول من خطابة أرسطو، وهو الذي حققه الدكتور محمد سليم سالم وعلق عليه.

فإذا رجعت إلى هذا الكتيب فسوف ترى غلبة المنطق على الفارابي. بمعنى أن الموضوعات الخطابية المحض تتضاءل أمام المناقشات المنطقية.

وأما حديث ابن سينا في كتاب الشفاء عن الخطابة ( ظهر هذا الكتاب في القاهرة سنة 1954م وأعيد نشره في إيران)، فهو أقرب إلى التشريع والتقنين منه إلى النقد والتحليل. إذ عنايته بالقاعدة والنظرية أكثر من عنايته بالأمثلة والنماذج الأدبية. فالخطابة والشعر في رأيه بابان من أبواب الجدل والمنطق، أو بعبارة أخرى هما فرعان من فروع الفلسفة.

وقد نقل عنه هذا المنهج حازم القرطاجني، رحمه الله تعالى، وتأثر به، مع أن حازما كان أقدر على أن يأتي بالأمثلة والنماذج، ولكنْ كأنه ظن بأن طريقة المناطقة، والفلاسفة، والحكماء هي هذه.

 ولابن سينا في الخطابة كتابان أحدهما مختصر، ألفه وهو في الحادية والعشرين من عمره، بناء على طلب أبي الحسن العروضي.

ثم هذا الذي ضمه الفن الثامن من فنون المنطق، والمشتمل على أربع مقالات تحت كل مقالة عدة فصول، وهو في غاية الأهمية.

وأوسع منه كتاب أبي الوليد بن رشد الحفيد الفقيه الفيلسوف: «تلخيص الخطابة». وهو الكتاب الذي نظر فيه حازم كثيرا، وإن كان أخفى ذلك، فلم يذكره. وقد حقق تحقيقا جيدا وشُرح. حققه وشرحه الدكتور محمد سليم سالم.

ولسنا نذكر هنا ترجمة إسحاق بن حنين «215-298 هــ » لأنها لا تثبت. فهي من الأمور التي شك فيها بعض الدارسين، ومنهم الدكتور عبد الرحمن بدوي. فلنا أن نقول: إنه لم يعن أحد بتدوين ما يتعلق بالخطابة في كتاب مستقل لتكون علما قائما بذاته إلى أن ظهرت الترجمة العربية القديمة، ثم  الترجمات التي أشرنا إليها. وإن صح أن إسحاق بن حنين ترجم الخطابة، فلنقل ذلك على احتراس شديد. وأما الذي لا احتراس فيه فهو ما تعلق بشرح الخطابة للفارابي، وما جاء به ابن سينا في كتاب الشفاء.  وفي الكتاب الثاني لب كتاب الخطابة لأرسطو مع تصرف غير ضار.

 ونحن نعتني كثيرا بالكتب التي كتبها الحكماء العرب في فن الخطابة، أكثر من اعتنائنا بما كتبوه في فن الشعر لأن فهمهم للخطابة كان أجود، وأثر ما كتبوه في الخطابة كان أوضح، خاصة مع عدم وجود نظرية عربية في الخطابة.

 وهذا مما بينه الدكتور طه حسين في بحثه الذي كتبه بالفرنسية، وترجمه عبد الحميد العبادي تحت عنوان: «تمهيد في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر». وقد طبع هذا البحث في مقدمة “نقد النثر”  المنسوب خطأ لقدامة بن جعفر، والذي هو في الحقيقة جزء من كتاب «البرهان » لابن وهب الكاتب. وعلى أية حال فإن ما كتبه طه حسين بالفرنسية قد جُمع وترجم مؤخرا وصدر في كتاب مستقل.

ومما ننصح به طالب العلم في هذا الباب، أي باب معرفة مفهوم الخطابة وقوانينها، كتاب محمد الخضر حسين: «الخطابة عند العرب» وكتاب الطاهر ابن عاشور: «أصول الإنشاء والخطابة». وقد نشرا في كتاب واحد، وكان الرجلان صديقين حميمين، وعلمهما باللغة والأدب والعلوم الشرعية ليس له نظير.

وقد كتب محمد الخضر حسين (ت: 1377هــ) كتابه هذا قبل وفاته بأكثر من ثلاثين سنة، وذلك سنة: 1346هــ/1928م. وفيه مسائل مهمة نحتاجها، خاصة عندما  بَسَّطَ مسائل التعريف، وبَيَّن معنى الخطابة عند المناطقة، وعند الأدباء، وتحدث عن أطوار الخطابة.

وأصل الكتاب محاضرة كان ألقاها الشيخ في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وهو قريب فيما تضمنه من علم مما كتبه ابن عاشور.

ومن الكتب التي ننصح بها، أيضا، الجزء الثاني من كتاب لويس شيخو: علم الأدب، فإنه وضعه في علم الخطابة. وهو، وإن كان قد لا يعرفه الناس اليوم، ( صدر سنة: 1926م)، في غاية الجودة. وتكمن أهميته في كونه وُضِع على طريقة تعليمية. توضع فيها الأسئلة قبل الأجوبة.

فتراه يضع أسئلة من نحو:

ـ ما هي الخطابة؟

ـ ما معنى قولك إن الخطابة صناعة؟

ـ لماذا قلت: إن الخطابة تتكلف الإقناع الممكن؟

ـ ما المقصود من قولك: في كل مقولة من المقولات؟

ـ ما هو موضوع الخطابة؟

ـ ما هي غاية الخطابة؟

ـ ما هو الإقناع؟

ـ كم نوعاً الإقناعُ؟

ـ ما شرف الخطابة؟

ـ ما هي فوائد الخطابة؟

ـ ما أصل الخطابة؟

ـ ما الطريقة لتحصيل الخطابة؟

ـ إلى كم تقسم قوانين الخطابة؟

وقد كان الرجل عالما كبيرا، لا شك في ذلك، وإن كانت له نزعة إلى أن ينسب إلى النصرانية أشياء كثيرة، على سبيل التكلف، فيجعل نصرانيا من القدماء مَنْ شك الناس في نصرانيته، أو لم يكن نصرانيا أصلا.

ومن تكلفه تقسيمه الخطابة إلى خطابة عربية إسلامية، وخطابة عربية نصرانية. والذي يهمنا هنا نفاسة ما كتبه عندما أجاب عن الأسئلة التي ذكرنا، دون الالتفات إلى ما سوى ذلك.

ويُضَمُّ إلى هذه الكتب الجيدة كتاب: «الخطابة: أصولها، تاريخها في أزهر عصورها عند العرب» لمحمد أبي زهرة. ففيه أشياء كثيرة تجد مثلها عند محمد الخضر حسين، وعند الطاهر ابن عاشور، رحم الله الجميع.

 ومما تجده في هذا الكتاب صحيفة بشر بن المعتمر. غير أنه أوردها دون أن يعلق عليها بشيء.

فهذه هي الكتب التي أحب أن يرجع إليها الدارس، ومن يريد أن يتتبع معنا هذه الدروس حتى يسهل علينا، بعد ذلك، أن نتحدث في التعريفات، وغيرها، وقد اطلع طالب العلم على أهم ما يسعفه في الفهم.

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق