مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

“المصادر الأولى للنقد والبلاغة “الدرس الخامس

نتحدث في هذا الدرس، إن شاء الله تعالى، عن أول ما ورد في نص الجاحظ وهو قوله:

« مَرَّ بِشْرُ بْنُ المُعْتَمِرِ بإبراهيمَ بنِ جَبَلَةَ بن مَخْرَمَةَ السَّكُونِيِّ الخطيبِ، وهو يُعَلِّمُ فتيانهم الخَطابة.. ».

أولا: من هو السكوني الخطيب؟

هذا لا نعرف له ترجمة. وإن كنا وقفنا على ترجمة محمد بن الفضل الخطيب السكوني، عند الصفدي (764هـ) في الوافي بالوفيات، حيث ذكر له أبياتا يعتذر فيها لحماد عجرد (ت:161هــ). فيكون الخطيب السكوني هذا محمد بن الفضل معاصرا لإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الذي ذكره الجاحظ.

وقولنا بأنه سَكوني يعني أنه كان كوفيا كِنْدِيًّا. وذلك أن السَّكون هذه كانت مكانا بالكوفة سمي باسم قبيلة كانت تسكن هذا المحل. وقد وردت في شعر المتنبي في قوله:

أَمُنْسِيَّ السَّكُونَ وَحَضْرَ مَوْتا /// وَوَالِدَتِي وَكِنْدَةَ وَالسَّبِيعَا

والسَّكُونُ، بفتح السين، كما هي مضبوطة في كتب شروح الحديث. ومع ذلك فقد رُوي عن أبي عُبيدةَ مَعْمَر بن المُثَنَّى أنه كان يقول في اسم القبيلة: السُّكون بالضم، والسَّكون بالفتح. وكان إذا ضمها حملها على وجهين:

الوجه الأول أن يكون جَمْعَ سكْن وهو اسم الرجل. والسَّكْنُ أهل الدار. فجُمِعَ الاسم، لأن كل طائفة منهم جُعِلَت فريقا، كما يقال لمن أبوهم عمرو العُمُورُ، ولمن أبوهم كعب الكِعاب.

الآخر أن يكون السُّكون مصدرَ سَكَنَ سُكُونا. وإن كان جَعَلَ الأولَ أقوى من الثاني.

 وإذا فتحت السين فهو فَعُولٌ مِنْ سَكَنَ. وقد نقل عنه هذا أبو العلاء المعري في “اللامع العزيزي” الذي شرح فيه ديوان المتنبي.

 فعلمنا، إذن، أن الرجل كان كِنْدِيًّا، ورجحنا أنه كان كوفيا أيضا.

 ذكرنا بيت المتنبي، ومن باب التدقيق، نقول: إن هذا البيت روي في شرح العكبري:

أمنسي الكِناس وحضر موتا… ووالدتي وكندة والسبيعا

والكِناس محل بالكوفة أيضا.

وذلك في مكان الرواية المشهورة، ولعلها الصحيحة:

 أَمُنسِيَّ السَّكُونَ وَحَضْرَ مَوْتا /// وَوَالِدَتِي وَكِنْدَةَ وَالسَّبِيعَا

 ثم قال: وهو يعلم فتيانهم الخطابة

هذه مسألة تحتاج منا إلى تعليق، لماذا؟

 لأنه قال: يعلم فتيانهم الخطابة، ونحن لا نعرف بأن العرب كانت تعلم الخطابة. وإن كنا نعرف مِن العرب مَن كان يتدرب على الخطابة. فنجدهم مثلا يتحدثون عن عمرو بن سعيد بن العاص. كانوا يقولون: إنه كان لا يتكلم إلا اعترته حُبْسَةٌ في منطقه، فلم يزل يتشادق، ويعالج إخراج الكلام حتى مَالَ شدقه. ومن أجل هذا دُعِيَ بالأشدق. وإياه يعني الشاعرُ الذي يقول:

تَشَدَّقَ حَتَّى مَالَ بِالقَولِ شِدْقُهُ /// وَكُلُّ خَطِيبٍ، لَا أَبَا لَكَ، أَشْدَقُ

ولم تكن للعرب، في الجاهلية، عناية كبيرة بالخطابة، لأنهم كانوا يقدمون الشاعر على الخطيب إلى أن جاء الإسلام. وهذا نتحدث فيه، فيما بعد، إن شاء الله تعالى، إذ عُلْقَةُ ذلك بأمرين: الدين والسياسة.

 وما حدث على عهد بشر من عنايتهم بتعليم الخطابة يذكرنا بما كان يصنعه السفسطائيون قديما في أثينا. إذ كانوا يعلمون الشبان طرق التغلب على خصومهم في ميدان السبق الكلامي، وكيف يغالطون خصومهم، وكيف يُلَبِّسُون عليهم الحقائق، حتى قيل: إن أول من وضع قواعد الخطابة ثلاثةٌ من السفسطائيين، هم: بروتاغوراس( 485 ـ 411 ق ـ م)، وجورجياس(485 ـ 380 ق ـ م)، وبرويكوس ( ت: 430 ق ـ م). وإنما جاء أرسطو بعدهم فجمع قواعد هذا العلم، وضم شوارده في كتاب «الخطابة»، فكان كتاب الخطابة أصلا لذلك العلم. وهو كتاب شديد الأثر في الثقافة العربية.

وأكثر من كان يقوم بالخطابة أئمة المعتزلة الذين احتاجوا إليها ليجتازوا مجالس المناظرات، وليتغلبوا على خصومهم من ذوي الجدل. فلذلك ذَكَّرَنَا هذا بالحاجة إلى مثله في أثينا قديما.

وقد نبغ في المعتزلة خطباءُ كُثْر، منهم: عمرو بن عُبَيْد، وبشر بن المعتمر، وثُمامة بن أشرس، وإبراهيم النظام، والجاحظ، وغيرهم.

المقصود بالفتيان في قوله: «وهو يعلم فتيانهم الخطابة»

معنى الفتى في العربية: الشاب الحَدَثُ. قال تعالى في سورة يوسف: “ودخل معه السجن فَتَيَان”. وقال سبحانه في الكهف: “إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا”.

وبهذا المعنى جاءت هنا.

 غير أنهم يسمون العبد والأَمَةَ فتى وفتاة، وإن كان كبيرين، أو شيخين. وذلك إما من باب المجاز المرسل، أي باعتبار ما كانوا عليه. وإما من باب أنهما لا يُوَقَّرَان توقيرَ الكبار لرِقِّيَتِهِمَا، وهذا يظهر لي أقربَ مِن حَمْلِهِ على المجاز.

 وقد ورد بهذا المعنى في القرآن الكريم في أكثر من موطن:

“وإذ قَالَ مُوسَى لِفتَاهُ”. الكهف.

“تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِين”. يوسف.

“وقال لفتيانه…”. يوسف.

” ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء…” النور. أي إمائكم.

 وقد يطلق اسم الفتى على السخي الكريم، من الفتوة. وفي شعر المتنبي:

أَرَى العِرَاقَ طوِيلَ اللَّيْلِ مُذْ نُعِيَتْ *** فَكَيْفَ لَيْلُ فَتَى الفِتْيَانِ فِي حَلَبِ؟

وهذا البيت في القصيدة التي أولها:

يَا أُخْتَ خَيْرِ أَخٍ يَا بِنْتَ خَيْرِ أَبِ /// كِنَايَةً بِهما عَنْ أَشْرَفِ النَّسَبِ

وهي في رثاء أخت سيف الدولة.

والذي في “العقد الفريد” في آخر هذا النص: الغِلْمة، في مكان الفتيان ، والغلمة جمع غلام. فهذه الرواية كالشرح للفظ الرواية الأولى.

 وقد جمعت العرب الفتى على فتيان، وعلى فُتُوٍّ، وعلى فِتْيَة، وعلى أَفْتَاء.

 والظاهر أن هذه الجموع منها ما هو أقدم من غيرها، فـ(فتيان) أقدم لأنها وردت في شعرٍ نُسِبَ لمالك بن فهم الأزدي(ت: 403 ق ـ هـ ). قال:

وَفِتْيَانُ أَنْجَادٍ كِرَامٌ غَطَارِفُ

 ثم وردت (فُتُوٌّ) في شعرٍ منسوبٍ إلى جَذِيمَةَ بنِ مالك بن فهم (ت: 365 هـ). قال:

فِي فُتُوٍّ أنا كَالِئُهُمْ

ووردت (فتية) في شعرٍ لِسُعْدى بنت الشمردل(ت: 86 ق ـ هـ).

ووردت (أفتاء) في معجم العين للخليل(100 ـ 170 هـ).

ولطالب العلم أن يرجع إلى المعجم التاريخي للغة العربية لمعرفة ذلك على وجه التفصيل.

 

 

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق