وحدة الإحياءدراسات محكمة

الفلسفات البيئية وسؤال القيم: جدلية الإنسان والطبيعة

سبق أن خلصنا في دراسة سابقة إلى أن العامل الإنساني اعتبر حاسما في ما آلت إليه البيئة الطبيعية من تدهور، إذ لم تعد تلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة قائمة على أساس التوازن والاحترام، انطلاقا من وحدة الأصل الكوني، فنتج عن ذلك تدهور للمحيط الطبيعي والمنظومات البيئية ومستقرات ومستودعات الكائنات الحية، فكانت النتيجة هي تدمير الوسط الحي والبيئات الطبيعية من جهة، وتدمير الكثير من الأسس الثقافية الإنسانية التي كانت تحفظ توازن الإنسان وصحته الجسدية والنفسية على اعتبار أن كائنا ترابيا مثل الإنسان لا يمكنه أن يحقق انسجامه الكوني إلا في حسن التعامل مع الأرض بكل أبعادها الفيزيائية والكيميائية والعضوية والحيوية.

 وتبين من خلال أبحاثنا حول أصول الأزمة البيئية أن من أهم أسباب الأزمة البيئية سيادة التفكير الآلي الأداتي الذي اعتبر الطبيعة خزانا لا ينضب من أجل إشباع الرغبات والنزوات؛ وسأحاول في هذه الدراسة أن أقترب من مجموعة مفاهيم ورؤى تبلورت لكي تفهم وتحاول الإجابة على الإشكالية البيئية المعاصرة، قبل المرور إلى اقتراح حلول ذات طابع فلسفي أخلاقي في الأساس، على أمل أن تتحول إلى برامج عملية تحد من تفاقم الأزمة البيئية؛ يتعلق الأمر برصد إبستيمولوجي، مسنود بتجربتنا الميدانية والعملية في مجال البيئة والتنوع البيولوجي.

من أجل فهم التطور الفلسفي الذي حصل في مجال “العلوم البيئية” وجب الإطلاع ولو بتركيز شديد على أهم تيارات الفلسفة البيئية خصوصا في العالم الأنجلوساكسوني الذي يعتبر رائدا في هذا الميدان عكس المدرسة الفرنسية التي لم تول اهتماما للموضوع إلا في العقود الأخيرة، أما المجتمعات العربية والإسلامية، فمفاهيمها حول البيئة لازالت في معظم جوانبها تتسم بالسطحية والاختزال، أما الحديث فيها عن “فلسفة بيئية” فهذه مسألة لازالت في اعتقادي بعيدة المنال.

وقصدنا من هذا العمل أيضا الإسهام في تقريب القراء العرب من هذا الحقل الفلسفي المرتبط بعلاقة الإنسان بمحيطه البيئي بما يشكل بداية الطريق في أفق الانخراط الفلسفي/الأخلاقي في قضايا البيئة وعلاقة الإنسان بالطبيعة.

مر معنا في الدراسة السابقة حول أصول الأزمة البيئية، أنه على الرغم من حداثة العلوم البيئية، فإنها هي الأخرى لم تسلم من التأثير السيئ للآلية والأداتية؛ لذلك وصف العالم النرويجي آرني نايس العلوم البيئية المعاصرة بالإيكولوجيا السطحية أو الضحلة، تمييزا لها عن علم البيئة الذي نظّر له وأعطاه اسم “الإيكولوجيا العميقة”. وسيرا على نفس منطق الآلية، تنظر “الإيكولوجيا الضحلة” للإنسان ككائن معزول عن محيطه. وقد بات التمييز بين الإيكولوجيا الضحلة والإيكولوجيا العميقة، يلقى الآن قبولاً واسعاً كاصطلاح يفيد جداً في الإشارة إلى الانقسام الكبير ضمن الفكر البيئي المعاصر.

وقد سبق أن أشرت في سياق بحثي سابق إلى أهمية الفكر المركب، المستند إلى التجربة الفكرية التاريخية وتعدد الاختصاص المعرفي، في حسن فهم المنظومات البيئية ومن تم حسن اقتراح الحلول العملية من أجل حفظها وتدبيرها.

لقد نظرت “الإيكولوجيا الضحلة” للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، من زاوية أن الإنسان أصل كل القيم الصُّلبية، عكس الطبيعة التي تبوأ قيمة أداتية استعمالية؛ ويمكن القول، من هذا المنطلق، أن الإيكولوجيا السطحية تتبنى “المركزية البشرية” (Anthropocentrisme)، التي تعتبر عند منظري الأخلاق والقيم البيئية، السبب العميق للمشكلة البيئية التي تواجهها الإنسانية اليوم.

ويمكن وصف الفلسفات البيئية المنبثقة حديثا بأنها تتبنى النظرة الكلانية (holistique) إلى العالم، وهي تعتبر الكل أشد تعقيدا وتركيبا من مجموع الأجزاء، وقد تدعى أيضاً بالنظرة الإيكولوجية إلى العالم، باستعمال مصطلح “إيكولوجي” بمعنى الإيكولوجيا العميقة، وهو ما يتفق نسبيا مع آراء “إدكار موران” حول الفكر المركب.

إن الإيكولوجيا الضحلة “المتمركزة حول الإنسان”، تنظر إلى البشر باعتبارهم فوق الطبيعة أو خارجها، وبوصفهم مصدر كل قيمة، ولا تعزو إلى الطبيعة إلا قيمة أداتية أو نفعية.

 أما الإيكولوجيا العميقة، فلا تفصل البشر عن البيئة الطبيعية، كما لا تفصل عنها أي شيء آخر إطلاقاً؛ إنها لا ترى العالم كمجموعة من الأشياء المعزولة، وإنما كشبكة من الظواهر المترابطة والمتفاعلة فيما بينها جوهرياً، ذلك أن الإيكولوجيا العميقة تعترف بالقيمة الجوهرية لكل الكائنات الحية، وتنظر إلى البشر كمجرَّد خيط متميِّز واحد في نسيج الحياة.[1]

إذا كان صحيحا أن السبب العميق للمشكلة البيئية يكمن في “المركزية البشرية”، فإن الحلول تكمن في التخلي عن هذه المركزية وتبني مواقف جديدة حيال الطبيعة؛ أي على الإنسان أن يغير علاقة الهيمنة التي تربطه بالطبيعة ليتبنى طريقة سليمة في التعامل معها؛ ضمن هذا الأفق، تغدو المشكلة البيئية، التي يعتبرها البعض مجرد مشكل تقني أو اقتصادي، مشكلة أخلاقية، وإن الإلزام بتغيير مقاصد الأفعال ومراجعة القيم، وتبني أنماط عيش لصالح الطبيعة والإنسان، يكتسي بالضرورة بعدا أخلاقيا.

إن الأخلاق البيئية هي بمثابة مجهود نظري يسعى إلى بناء وتبرير مقاييس يتم بموجبها منع الإنسان من الاستغلال المفرط للطبيعة بهدف إشباع رغبات الأفراد والمجتمعات، ومن أجل إرساء علاقات من نوع جديد مع الطبيعة.

والسؤال المركزي هنا، هو كيف يمكن تصور طبيعة هذه العلاقة الجديدة مع الطبيعة فلسفيا وعمليا؟ وما هي المقاييس التي على الإنسان احترامها في علاقته مع المحيط البيئي؟

منذ ظهور الدراسة الرائدة لآلدو ليوبولد: أخلاق الأرض، توالت الدراسات حول الفلسفة البيئية، منتجة العديد من الإجابات عن الأسئلة البيئية الكبرى، وقد اتفقت كلها على أن أصل المشكلة البيئية يكمن في “المركزية البشرية“، مقترحة علاقات منسجمة بين الإنسان والطبيعة.

يمكن، في هذا الصدد، الحديث عن نوعين من الأخلاق البيئية تبلورت في سياق نقد المركزية البشرية؛ يتعلق الأمر بأخلاقية “المركزية البيولوجية” (Bio-centrique éthique)، وأخلاقية “المركزية البيئية” (éthique éco-centrique)؛ وإذا كان بعض الكتاب يرون ضرورة اعتبار “المركزية البشرية” نوعا من الأخلاقية، فإن الفيلسوف “إنغويين فندي” يعتبر في هذا الأمر تناقضا، لأن المركزية البشرية تعني ضمنيا تجاهل حقوق الطبيعة، لذلك لا ينبغي إدراجها ضمن تيارات الأخلاق البيئية، وإنما اعتبارها تصورا للإنسان والكون ورؤية للعالم أفضت إلى المشكلة البيئية المعاصرة[2].

لقد بنيت الأخلاق البيئية إذا، على أساس رفض كل اتجاهات المركزية البشرية، والعلائق غير العادلة بين الإنسان والطبيعة. بعبارة أخرى، ترفض الأخلاق البيئية التمييز بين البشر وغيرهم من الكائنات من حيث القيمة؛ إنها لا تعترف للإنسان وحده بقيمة صُلبية (valeur intrinsèque)؛ بالنسبة لهذه الأخلاق فكل الكائنات الحية (اتجاه المركزية البيولوجية) أو كل الكائنات بما فيها الإنسان (اتجاه المركزية البيئية) تمتلك قيمة صُلبية[3] لكن كيف يمكننا فهم اقتراح من هذا النوع؟

ينشأ الاعتراف بالقيمة الصُّلْبية للطبيعة الحية كلِّها عن الإدراك الإيكولوجي العميق بأن الطبيعة والذات شيء واحد؛ ولا يخفى أن هذا الاعتراف هو لبّ الإدراك الروحي نفسه أيضاً، إذ عندما يُفهَم مفهوم الروح البشرية بوصفه نسق الوعي الذي يشعر فيه الفرد بارتباطه بالكون ككل، يصبح جلياً أن الإدراك الإيكولوجي إدراك روحي في جوهره الأعمق، وبأن الأخلاق الإيكولوجية الجديدة تضرب بجذورها عميقاً في الروحانية[4].

ونظراً للتماثل الجوهري بين الإدراك الإيكولوجي العميق والإدراك الروحي، لا يدهشنا أن الرؤية الجديدة البازغة للواقع تتساوق مع “الفلسفة الخالدة” للتراث الروحي والفلسفي الشرقي، ومع روحانية المتصوِّفة المسيحيين، ومع الفلسفة والكوسمولوجيا المبطِّنتين لمنقولات سكان أمريكا الأصليين[5].

لقد وضع كانط أسس علاقة متينة بين الأخلاقية والقيمة الصّلبية حينما بلور أمره المطلق الذي ينطوي على مبدأ أخلاقي عام: “تصرف على نحو تعامل فيه الإنسانية في شخصك وفي الغير دائما كغاية، ولا تعامل أحدا البتة كما لو كان مجرد وسيلة”.

إن التأكيد على القيمة الصّلبية للطبيعة، بالنسبة للأخلاقيات البيئية، يعتبر قاعدة جوهرية؛ ورغم التقائها حول هذا المبدأ، فإن الأخلاقيات البيئية تختلف عن بعضها البعض حول تصور جوهر هذا المبدأ[6].

أخلاقية المركزية البيولوجية

ما الذي يبوأ الطبيعة قيمة صُلبية؟ بالنسبة لرواد أخلاقية “المركزية البيولوجية”، من الطبيعي أن الحياة تشكل جوهر القيمة الصّلبية للكائنات غير البشرية، ذلك أن الحياة توجد في كل مكان فوق الأرض، وتتمتع بقيمة، إن لم تكن هي قيمة في ذاتها؛ لأجل ذلك ينظر إلى أي مساس بحياة الكائنات كعمل شرير.

عندما يكتسب الإنسان الوعي بالهوية العميقة لكل الكائنات، وقتها سيعرف كيف يحترم ويحافظ على الطبيعة. من بين الكتاب الذين يناصرون أخلاقية “المركزية البيولوجية” نجد “ألبير شويتزير”[7]، و”بول تايلور” الذي يحتل مكانة بارزة بفضل أخلاق احترام الطبيعة التي نظّر لها. حسب تايلور، فلن تحترم الطبيعة إذا استمر الإنسان في النظر إليها كمجرد وسيلة، يقول تايلور: “لا يمكننا احترام الكائنات الحية، الأفراد، والأنواع، والأمم الحية، إلا إذا سلمنا بكونها ذات قيمة صُلبية[8]. يوضح تايلور، من خلال هذا النص، أن القيمة الصّلبية ليست مظاهر تفضي إلى ملاحظات واختبارات ذات طبيعة علمية، مثل لون أو شكل الكائنات الحية، بل مفهوما ذا طبيعة فلسفية يفضي تبنيه إلى نوع من الالتزام إزاء الطبيعة والحياة.

ما هي الدوافع التي تجعل البعض يؤمن بهذا المبدأ، رغم صعوبة إدراك أنه خارج القيمة الأداتية للطبيعة يمكن أن تكون لها قيمة صُلبية؟ يجيب تايلور على هذا السؤال مستعملا ما يسميه “نسق المعتقدات” والنموذج الإرشادي الذي يشكل مفهوم المركزية البيولوجية؛ لكن الحديث هنا عن “نسق معتقدات”، معناه الاعتراف بأن هذا التصور لا يدعي ارتقاءه إلى مستوى النظرية العلمية، لكن مع ذلك يدافع تايلور عن عقلانية هذا المفهوم باعتباره نسقا من الأفكار المنسجمة.

تتشكل أخلاقية “المركزية البيولوجية” من أربعة أسس: أولا، أنه في كوكب الأرض، تنتمي البشرية بيولوجيا إلى المجتمع الحيوي كسائر الكائنات الحية؛ لأن الإنسان يتساوى مع الكائنات الأخرى في حاجتها إلى الأرض؛ وعلى الرغم من أن المصالح الإنسانية تختلف عن مصالح الحيوان ومصالح النبات، غير أن البشر مثلهم مثل الحيوان والنبات في حاجة إلى موارد الطبيعة من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة.

 الأساس الثاني هو أن فكرة المساواة البيولوجية قد بلورتها بتفصيل العلوم الإيكولوجية المعاصرة، مضيفة معطى آخر يتمثل في أن مجموع الأنساق البيئية فوق الأرض تمثل شبكة من العناصر المتداخلة فيما بينها، وتجسد مفاهيم السلسلة الغذائية، والنسق البيو-كيميائي هذا التداخل بشكل واضح؛ نموذج نسق الأركان كم هي معقدة ومترابطة ومتفاعلة العناصر المكونة للوسط الحي؛ العنصر الثالث في أخلاق المركزية البيولوجية يتمثل في فكرة أن كل كائن حي هو “مركز-حياة-غائي (téléologique)، ويقصد تايلور بهذا المفهوم أن كل كائن حي، يحقق بشكل طبيعي غاية تتمثل في النمو وحفظ الحياة والنسل، وبحرصه على تحقيق هذه الغاية، يحقق الكائن الحي مصالحه الخاصة، وبذلك يتميز عن الكائنات غير الحية. فمن البديهي الحديث عن مصلحة خاصة بالشجر والحيوان؛ فعندما نقطع شجرة، فإننا نضع حدا لنموها وحياتها، ونحدث بها ضررا لا يمكن جبره؛ لكن عندما نقوم بحمايتها ونعتني بها لكي تنمو، نحقق لها بذلك مصلحة، ذلك أنه لكل كائن حي مصلحة خاصة يسعى لتحقيقها. إن الاعتقاد في المساواة، وتداخل العناصر البيئية ومقاصد الكائنات، تبدو في انسجام مع مفاهيم علوم الحياة، مما يجعل تصور “المركزية البيولوجية” قابلا ليشكل أساسا عقلانيا وأخلاقيا لاحترام الطبيعة[9].

إن المعرفة البيولوجية بالعلائق التي تربط الكائنات الحية فيما بينها تمكننا، حسب تايلور، من معرفة أن كل كائن حي يشكل وحدة مستقلة باعتباره مركز-حياة-غائي، وهو يقاوم باستمرار لكي يعيش ولكي يحقق مصالحه بطريقته.

بوضع اليد على هذا المظهر الفرداني، يحاول تايلور أن يقنع بأنه في علاقتنا بالطبيعة، ينبغي أن ننظر إلى الأفراد في الطبيعة، كوحدة “مستقلة” لكي نحدد ما هو صالح وما هو سيئ؛ دون أن يعني ذلك عدم الإدراك الكلي للتفاعلات المركبة بين الأفراد داخل الأمم البيئية؛ الاعتقاد الرابع في المركزية البيولوجية هو استنتاج منطقي للاعتقادين الأول والثاني، وموضوعه رفض فكرة تفوق الإنسان على الكائنات الحية الأخرى؛ فإذا كانت كل الكائنات الحية متساوية وتربطها علاقات بينية، فليس هناك من مبرر للاعتقاد بأنه، ضمن هذه الكائنات، يوجد كائن بوضع خاص وله كل الحقوق على الكائنات الأخرى دون أن تكون له واجبات إزائها. وتمتد جذور هذه المركزية البشرية، حسب تايلور وغيره من الفلاسفة، إلى التقاليد المهيمنة في الحضارة الغربية: الإنسية الإغريقية، والثنائية الديكارتية، والمعتقد اليهودي-المسيحي المتعلق بالسلسلة الكبرى للكائنات.

 ذلك أن العقل الإغريقي، والروح الديكارتية، وسلسلة الكائنات لا يمكنها إلا أن تبرر أفضلية الإنسان على باقي الكائنات.

عندما نعترف بالمساواة بين الكائنات سنعتبر أن لها أيضا قيمة صُلبية، لأنه لا يوجد نوع بيولوجي أرقى أو أدني من الكائنات الأخرى[10]، وإن التأكيد على أن البشر ملزمون باحترام الكائنات الحية الأخرى على أساس المساواة في القيمة الصّلبية، معناه إعلان مبدأ أخلاقي عام.

لكن، ما شأن التدخلات البشرية في الطبيعة، كالتغذي على الحيوان والنبات وقطع الأشجار، فالكائنات الحية تستعمل بعضها بعضاً، باستغلال الطبيعة، وإزاحة العديد من الأنواع الحيوانية، لا يفعل الإنسان أكثر من الاستجابة لقانون الخلق؛ لدرجة اعتبر فيها البعض، أنه ضمن هذا الأفق، لا تبدو أي ضرورة لتأسيس أخلاق بيئية[11].

إن قانون صراع الأنواع من أجل البقاء يبرز ضعفا في نظرية أخلاق “المركزية البيولوجية”، وهو الفردانية (individualisme)، فيتمثل الفعل الصحيح، في نظر تايلور، في مراعاة المصلحة الخاصة للكائن الحي؛ وهو شرط يصعب الالتزام به، لأن الإنسان لا يستطيع في جل أفعاله، أن يحافظ على حياة الكائنات؛ لا يمكننا أن نصل بالماء إلى درجة الغليان دون أن ندمر الكائنات الدقيقة التي توجد فيه، ولكي يعيش الإنسان يحتاج إلى التضحية بكثير من أنواع الحيوان، بحيث لا تصل المساواتية الحيوية إلى حد الحظر أو التحريم المطلق، كما يفعل أنصار حقوق الحيوان مثلاً، بل ترتبط التدخلات البشرية في الطبيعة بتحقيق الحاجات الحيوية الضرورية وفق القوانين الإيكولوجية التي تحفظ تنوع الحياة.

 ويتم ذلك بأن يراعي النشاط البشري مبادئ استدامة المنظومات البيئية مع كل ما يتطلبه ذلك من تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية، تقود إلى أسلوب حياة مستدام يختلف جذرياً عن أسلوب الحياة المعاصر؛ وهذا ما يدركه تايلور تماما، لأجل ذلك وضع قوانين بالنسبة للحالات التي يؤدي فيها احترام كائن حي إلى عدم احترام كائن آخر؛ يتعلق الأمر بقوانين الدفاع عن النفس، والتناسبية، وأخف الأضرار، والعدالة التوزيعية، والعدالة التعويضية، بمعنى تعويض ما نقص وما فقد وما دمر من كائنات حية، وذلك بتهيئة الظروف الملائمة للحفاظ على الأنواع والتنوع البيولوجي (Biodiversité)، لكن لا يخفى أننا بتصرفنا كذلك، فإننا نحترم أمم الأنواع وليس أفراد النوع[12].

إن للمركزية البيولوجية، كما بلورها تايلور، فضل في إثارة الانتباه إلى مخاطر “المركزية البشرية” ودورها في تدمير الأوساط الطبيعية، وذلك من خلال تأسيس القيمة الصّلبية للكائنات الحية، والاستناد إلى المعارف الإيكولوجية، ووضع أسس فعل ملموس بشكل نسقي؛ لكنها ليست بمنأى عن النقد، لأنه إذا كان العلم والتجربة يمكنان من القول أن كل كائن هو مركز-حياة-غائي، فإنهما ينبآن أن احترام الحياة ليس قانونا كونيا/طبيعيا؛ إذ تتغذى الحيتان الكبيرة على الحيتان الصغيرة، كما تمثل كائنات حيوانية غذاء لكائنات أخرى.

إن أخلاق “المركزية البيولوجية” المؤسسة على ضرورة احترام الأفراد، تركت فراغا نظريا حينما لم تشترط أن يوسع مجال احترام الحياة إلى أبعاد أرحب، أي بعد “الأمم البيئية”؛ ذلك أن التأكيد على الطابع الجماعي/ الأمّي، معناه الالتزام برعاية، ليس التجمعات الحية فحسب، بل مجموع معطيات الطبيعة التي لا يمكن لأي كائن أن يبقى على قيد الحياة بدونها؛ والحال أن هذا القانون الأخلاقي المنتقل من “الحياة” إلى “الأرض” تقترحه أخلاق المركزية البيئية (centrique- éco éthique).

أخلاق المركزية البيئية

كان أول من دعا إلى أخلاق “مركزية البيئة” هو عالم الغابات الأمريكي آلدو ليوبولد، صاحب أطروحة أخلاق الأرض، إذ ينسب ليوبولد مسؤولية فشل تدبير الموارد الطبيعية واستغلال الأرض إلى تصور فاسد للبيئة.

يقرر ليوبولد وجود علاقة وثيقة بين احترام الطبيعة والاعتراف بقيمتها الصُّلبية، إذ يبدو له “غير مقبول أن تتبلور علاقة أخلاقية مع الطبيعة بدون محبة واحترام وتقدير للأرض وقيمتها، ويقصد بالقيمة شيئا أكبر بكثير من القيمة الاقتصادية، أي القيمة بالمعنى الفلسفي[13].

إن العلاقة بين الإنسان وباقي الأنواع الحية بشكل عام، ومع الأرض بشكل خاص، في نظر ليوبولد، هي علاقة عضوية شبيهة بالعلاقة التي تربط أعضاء جسم حي؛ ويقصد بالأرض النسق البيئي الشامل بكل كائناته الحية، بحيث تغدو الأرض، بهذا المعنى، بمثابة جسم واحد. وقد انبثقت عن هذا التصور نتيجتان مرتبطتان؛ الأولى هي أن كل نوع وكل تجمع حي يعيش في نسق بيئي معين يعتبر جزءا لا يتجزأ من الوسط الطبيعي، وغيابه سيؤدي إلى خلل يصيب هذا الأخير؛ هذا يعني أنه مادام هناك ارتباط بين الأنواع ضمن النسق البيئي، فليس من حق أي نوع تدمير نوع آخر.

إن تصور الأرض كـ”أمة”، هو ما جعل ليوبولد يدعو إلى حماية الحيوانات المفترسة التي تعتبر “ضارة”، لأنها ليست كذلك مادامت تساهم في توازن البيئة، ويدعو ليوبولد إلى احترام القاعدة التي تقول: “أن الشيء يعتبر صحيحا حينما يسعى إلى الحفاظ على سلامة واستقرار وجمال الوسط الحي، ويعتبر سيئا إذا سعى إلى عكس ذلك[14].

يؤكد ليوبولد على القيمة الأخلاقية للفعل البشري، عندما يتحدث عن قانون طبيعي، وعن حق في الحياة بالنسبة للكائنات الحية وغير الحية، وهذا مفارق لأخلاقية “المركزية البيولوجية”، بزعامة تايلور، ذلك أن أخلاق الأرض تتسم بالشمول والكُلّانية، لأنها تفرض احترام الأرض باعتبارها كُلّا يشمل الحي وغير الحي، وشلال الطاقة الذي يسري في باطن الأرض، وفي النبات والحيوان، وبذلك تبدو أخلاق البيئة عند ليوبولد، أكثر انسجاما مع المعرفة البيولوجية.

إن هذه الأخلاقية لا تشترط احترام أفراد النوع، مثل المركزية البيولوجية، باعتباره أمرا غير قابل للتطبيق، لكنها، رغم ذلك لم تسلم من النقد حتى فيما يتعلق باحترام المجتمع الحي. يرى منتقدو أخلاق الأرض أن اشتراط حفظ الكل باعتباره هدفا، ينطوي على مغامرة، لأنه من الممكن التضحية بالفرد لصالح الجماعة؛ ذلك أن التضحية بفرد قد تكتسي بعدا أخلاقيا إذا ساهمت في حفظ النوع، كما أن نظاما سياسيا يتبنى هذه الأخلاقية قد يلجأ إلى التضحية بفرد أو أقلية من أجل الجماعة أو لصالح الأجيال القادمة، ولأنه تم رصد هذا الخطر في هذه الأخلاقية، حذر بعض الكتاب مما أسموه “الفاشية البيئية”[15].

ووعيا بهذا الاحتمال الذي قد تنطوي عليه المركزية البيئية المتمثلة هنا في “أخلاق الأرض” من الناحية العملية، يطرح السؤال حول كيفية احترام المجموعة البيولوجية دون المساس بحقوق الأفراد؟ أو كيفية تجاوز مأزق اعتبار الأمة كغاية دون شرط احترام الفرد؟ إنه المأزق الذي حاولت الإيكولوجيا العميقة، والفلسفة البيئية التي بلورها العالم النرويجي آرني نايس تجنب الوقوع فيه.

الإيكولوجيا العميقة

في مقال تاريخي خصص لبيان الفرق بين الإيكولوجيا العميقة والإيكولوجيا السطحية أو الضحلة، أثار نايس الانتباه إلى أن مبادئ واتجاهات الإيكولوجيا العميقة ليست مفاهيم مستخلصة من استنتاجات أو تطابقات [16]؛ بل ذات منطلقات حدسية؛ بتحليل مقالة نايس نفهم أن هذا الحدس يتعلق بتمثل للواقع الطبيعي مقتضاه أن طبيعة الكائنات، بما فيها الإنسان، تتحدد بالعلاقات التبادلية، وهي تتغير بتغير هذه العلاقات.

يسوق نايس رأي الفيلسوف البيئي الأسترالي “فارفيك فوكس”، الذي أبرز الطابع الميتافيزيقي لهذا النوع من التمثل، موضحا بخصوص الحدس، أن ليس هناك رسم حدود أنطولوجي في عالم الكائنات، وأن ليس في الكون أشخاص أو أشياء توجد بشكل مستقل، وليس هناك فصل بين عالم البشر والعوالم الأخرى. في حقيقة الأمر، فإن كل الوقائع تتحدد من خلال العلاقات المتبادلة، وما دمنا نرى وجود الحدود فلن يتحقق لدينا وعي بيئي عميق[17].

 لقد بدا وكأن تطورا نوعيا على وشك الحدوث في الدراسات البيئية فرضته مواقف “المركزية البشرية” التي أدت إلى إقصاء المسألة البيئية من حقل التفكير الفلسفي، وهذا ما يرصده كاليكوت في محاولته وضع “الفلسفة البيئية في سياقها التاريخي؛ إذ يقول: “في العام 1973 ومع نشر ثلاث مقالات رائدة، أعلنت الأخلاق البيئية عن ظهورها الأول على مسرح الفلسفة المحترفة المحافظة والرصينة. ففي ربيع ذلك العام نشر الفيلسوف الأسترالي الشاب بيتر سينغر مقالة “تحرير الحيوان” في مجلة (The New York Review of Books)، وفي صيف ذلك العام ظهرت مقالة “الضحل والعميق، حركة الإيكولوجيا بعيدة المدى: خلاصة للفيلسوف النرويجي المميز ومتسلق الجبال آرني نايس في المجلة الفلسفية الدولية (Inquiry).

وفي الخريف، خاطب فيلسوف أسترالي شاب آخر هو ريتشارد سيلفان، زملائه في المؤتمر العالمي الخامس عشر للفلسفة في فارنا في بلغاريا متسائلا: هل ثمة حاجة إلى أخلاق جديدة، أخلاق بيئية؟ في العام 1973، عندما وجه سيلفان دعوته في مؤتمر الفلسفة العالمي، لم تكن التقاليد الفكرية الغربية تتوفر على أخلاق بيئية وافية وغير متمركزة بشريا، مع أن أخلاقا من هذا القبيل قد تنبأ بها ألدو ليوبولد، صاحب أخلاق الأرض، في أواسط القرن العشرين. ولذلك فقد استحث سيلفان الفلاسفة المعاصرين كي يلبسوا معطف ليوبولد ويجعلوا شغلهم الشاغل تقديم مثل هذه الأخلاق[18].

يضيف كاليكوت: “وعلى مدى السنوات العديدة التالية، ظهر المزيد من المقالات في هذا الحقل الجديد المثير من البحث في مجلات اختصاصية من قبيل Ethics وJournal of Philosophy؛ ثم في العام 1979، أسس يوجين هارغروف مجلة فصلية جديدة هي الأخلاق البيئية؛ وفي أواسط العقد التالي كان قد ظهر عدد من الدراسات بحجم كتاب. وبذلك انبثق إلى الوجود حقل جديد كليا في الفلسفة[19].”

فمن خلال الفهم الذي تقدمه لأصول الأزمة البيئية، تدعو الإيكولوجيا العميقة إلى نبذ النظرة الحديثة إلى العالم المهيمنة حالياً مع ما يرافقها من “مركزية بشرية”، تجعل الإنسان الحقيقة المحورية في الكون، ويتم تمثل الطبيعة وكائناتها كآخر أدنى من الحياة البشرية.

إن أبرز ما أثار الاهتمام في مجال الفلسفة البيئية الوليدة هو مفهوم الإيكولوجيا العميقة، التي تصف نفسها بـ”العمق”، لأنها تطرح أسئلة أعمق عن مكانة الحياة الإنسانية. وتقوم الإيكولوجيا العميقة على مبدأين أساسيين اثنين: أحدهما: هو تبصُّر علمي في ترابط منظومات الحياة كافة على الأرض، إلى جانب فكرة أن المركزية البشرية طريقة غير موفَّقة في رؤية الأشياء. ويقول الإيكولوجيون العميقون بأن موقفًا مبنيا على “مركزية إيكولوجية”، هو موقفٌ أكثر انسجامًا مع حقيقة طبيعة الحياة على الأرض. إنهم، بدلاً من اعتبار البشر كشيء فريد تمامًا في الكون، يرون البشر كخيوط لا تتجزأ من نسيج الحياة.

تؤكد الإيكولوجيا العميقة بأنه لابد من حدوث ثورة في النموذج الإرشادي المهيمن، إذا ما أريد إنقاذ الأرض من الفساد البيئي الحاصل. وتبعا لذلك فإن هذه الرؤية ترى أنه لابد أن نعمل على تكييف أنفسنا للحفاظ على الطبيعة المهددة بالفناء بدلا من تكييف الأرض لتناسب احتياجاتنا؛ وقد تسبب إصرار أنصار هذا الاتجاه على إحداث تغير بنائي وثقافي في إثارة مخاوف كل من قطاع الأعمال والساسة وأولئك الناس الذين كانوا يرغبون في حلول جزئية للمشاكل البيئية؛ وقد مثل هذا التوجه حركة الرفض ضد سياسات وممارسات الشركات والحكومات المتعلقة بالبيئة في الدول المتقدمة.

ونتيجة لذلك يركز أنصار “المركزية البيئية” على تغيير المطالب تجاه الأرض، ويدعون إلى تبني فهم مختلف للتنمية المستدامة، مؤكدين على مفهوم الاستدامة الإحيائية، كشرط أولي لأي تنمية، بدلا من التركيز على التأثير الإنساني على استراتيجيات التنمية، ومن ثم ينظر للتنمية المستدامة كوسيلة لتحسين نوعية الحياة الإنسانية مع العيش ضمن حدود القدرة الاحتمالية للأنساق الحيوية للأرض.

تعود جذور الإيكولوجية العميقة، كما رأينا، إلى الفيلسوف النرويجي آرني نايس، الذي ركز على نقد حركة الاستدامة “المتمركزة بشريا”، التي يصفها بالإيكولوجيا الضحلة، التي اهتمت أساسا بالتلوث واستنزاف الموارد؛ وتؤكد هذه الفلسفة على اعتبار البشر جزءا مكملا للنسق البيئي الذي يعتبر أعلى وأكبر من أي من أجزائه ومن ضمنهم البشر، ومن ثم تضفي قيمة أكبر على الكائنات الحية والأنساق والتفاعلات البيئية في الطبيعة.

ويعتبر مبدأ نايس المعروف بـ”المساواة في المجال الحيوي“، الذي يرى أن لكل الكائنات الحية الحق نفسه في الحياة والازدهار، هو المبدأ الأساس للإيكولوجيا العميقة؛ ويتكون هذا المبدأ الذي يعتبر “قلب هذا التوجه” من عناصر أساسية تتمثل في أن سلامة واستمرار الحياة البشرية وغير البشرية على الأرض تمثل قيمة بحد ذاتها، مستقلة عن نفع العالم غير البشري للاستهلاك البشري؛ وأن تنوع أشكال الحياة يسهمان في تحقيق هذه القيم، ولهما قيمة في حد ذاتهما أيضا؛ كما لا يحق للبشر إحداث نقص في هذا التنوع إلا من خلال تلبية الحاجات الحيوية الأساسية.

إن الاستغلال البشري الحالي للطبيعة مفرط جدا ويزداد الوضع سوءا؛ ويجب أن تتغير تلك السياسات لأنها تؤثر في البنى الأساسية الاقتصادية والتقنية والإيديولوجية؛ ولابد أن يكون التغيير الإيديولوجي الرئيس من النوع الذي يثمن نوعية الحياة أكثر من مسايرته لنمط العيش الاستهلاكي المعاصر؛ وعلى أولئك المؤيدين للمبادئ السابقة التزام مباشر بمحاولة إنجاز التغييرات اللازمة عبر سياسات وبرامج مناسبة[20].

وتبعا لذلك، يتبنى أنصار هذا التوجه وجهة نظر مختلفة جدا فيما يتعلق بالعلاقة بين الناس والطبيعة؛ حيث يرون أن هدف الاستدامة هو حماية الأنساق البيئية الطبيعية ليس من أجل خير وسعادة البشر فقط، كما هو الحال في النموذج المتمركز حول البشر، ولكن للتأكيد أيضا على أن للطبيعة حقوقا حيوية مشابهة، لا تحتاج إلى تبرير بمعايير منفعتها للبشر[21] لا يجوز انتهاكها، مثلما أن هناك حقوقا إنسانية لا يمكن التنازل عنها مهما كانت المبررات. إن المشكلة بالنسبة “للمتمركزين حول البيئة” هي أن تلك الحقوق الحيوية ليست محترمة في الوقت الحاضر، بل إنها عرضة للانتهاك المستمر.

 لذلك دعا زيمرمان “إلى إلغاء وجهة النظر “المتمركزة حول البشر” التي تعتبر الإنسانية ذاتها مصدر كل القيم وتنظر إلى الطبيعة حصرا على أنها موارد خام للاستغلال الإنساني” [22]؛ وتبعا لذلك فإن “التمركز حول البشر” قد أستبدل بالتمركز حول “المساواة البيئية الحيوية” التي تعني مساواة بين سائر الكائنات الحية، والتي تعترف بالحقوق غير الإنسانية أو الحيوية.

انطلاقا من هذا الأساس النظري الفلسفي، تتم الدعوة إلى إعادة تأهيل البيئة بشكل مستديم يستمر، في نقده للتنمية الاقتصادية والتقدم؛ حيث يرى أنصار هذا الفكر أن المجتمع الإنساني، في سعيه اللامتناهي وراء المادية، يسير في الاتجاه الخطأ مع تحول وسائل تحقيق الغايات فيه إلى غايات في حد ذاتها؛ لذلك دعوا إلى تغيير جذري يأخذ في الاعتبار إعادة تعريف “الثروة” على أنها “سعادة وخير” عوضا عن أن تكون مجرد الحصول على السلع المادية.

 لكي تتحقق مثل تلك “السعادة” للبشر ولغير البشر فإن أنصار “الإيكولوجية العميقة”، يؤكدون على الحاجة لتغيير النظرة إزاء الأرض، فهم يرون أن استراتيجية العيش المقترحة تتمثل في أسلوب الحياة “البسيط”، المستند على قدر أكبر من الاعتماد الذاتي من أجل خلق نظام اقتصادي واجتماعي أقل تدميرا للطبيعة.

يرى أنصار الإيكولوجيا العميقة أن التعبير الأبرز عن المركزية البشرية على المستوى المعرفي، تجلّى في الدعوة التي أطلقها ديكارت إلى إيجاد فلسفة عملية تتيح سيادة الإنسان على عالم الطبيعة.

وبديلاً عن ذلك تطرح “مركزية إيكولوجية” (Eco-centrisme)، تقوم على الترابط والاعتماد المتبادل بين عناصر المنظومات البيئية، وتُحِلّ الانسجام والتناغم بين الإنسان والطبيعة، محل أفكار وقيم الهيمنة والتسلط.

إن هذا التمثل للواقع الطبيعي يناقض جذريا التمثل الذي ساد عالم الأفكار والعلوم منذ العصر الحديث إلى اليوم؛ فحسب رؤية العالم التي تتبناها الإيكولوجيا العميقة، فكل الكائنات وكل الأشياء تشكل كلا لا يتجزأ، بحيث أن كل الحقائق مترابطة فيما بينها وتؤثر بعضها على الأخرى، ولا يمكن اعتبار الإنسان كجزء مستقل عن باقي الكائنات وعن الظروف الطبيعية؛ لقد أحلت الإيكولوجيا العميقة مفهوم شبكة العلاقات محل الكائن-داخل-البيئة. ضمن هذا الأفق، يرى الإنسان طبيعته تتحدد بمجموعة علاقات ليس إلا؛ وهو لا يمثل، كأي كائن آخر، أكثر من عقدة داخل نسيج معقد من الحقائق.

مفاد هذا التصور الذي يميز الإيكولوجيا العميقة، أنه إذا كان الإنسان، من وجهة نظر أنطولوجية، عنصرا ضمن أمة كسائر الكائنات، فإن التصور التقليدي يخطأ عندما يجعل الإنسان مهيمنا على باقي الكائنات، ومقياسا لكل شيء، والغاية الأسمى. بعبارة أخرى، فلكل الكائنات قيمة صُلبية وتتساوى فيما بينها، ويدرك “آرني نايس” أن هذه “المساواة البيولوجية” تمثل حدسا على مستوى الحقوق فحسب، إذ أن بقاء الكائن في الواقع لا يمكنه أن يشترط عدم التضحية بكائن آخر[23].

يمكن القول “أن المركزية الإيكولوجية” بنيت على مبدأين رئيسيين هما المساواتية الحيوية وتحقيق الذات؛ وتعني المساواتية الحيوية أن “كل الأشياء في النطاق الحيوي لها الحق المتساوي في العيش والازدهار وبلوغ أشكالها الفردية الخاصة من التفتح[24]. ويراد بهذا نقد مفهوم سيطرة الإنسان على ذروة سلم التراتبية، بل ورفض لوجود هذه التراتبية استناداً إلى الاعتماد المتبادل بين أعضاء المنظومات الحيوية، والذي من خلاله يسهم كل عضو في بقاء الأعضاء الآخرين على نحو تكافلي وتكاملي، وهذا يقتضي أن كل عضو يمتلك قيمته الأصلية الصُّلبية النابعة من هذا الإسهام وليس من خلال نفعه للبشر بشكل حصري.

من جهة أخرى، تستند المساواتية الحيوية إلى نظرة “الإيكولوجيا العميقة” إلى الحياة ككل، أي “كسيرورة متكاملة”[25]، نشأت في سياق السيرورات الطبيعية الأخرى؛ فعلى الرغم من التنوع والتعقيد الذي نلاحظه لدى الكائنات الحية، إلا أن “الحياة واحدة من حيث الماهيةً[26]؛ ومن هنا أيضاً تأتي القيمة الصّلبية المتساوية لكافة أشكال الحياة؛ وينبغي أن نوضح أن مصطلح الحياة يستعمل هنا بمعنى أوسع من مجرد الدلالة على أفراد الكائنات الحية ليشمل الأنواع الحية والمنظومات البيئية التي تشكل مستقرها ومستودعها.

أما المكوِّن الثاني للإيكولوجيا العميقة فهو ما يسميه “آرني نايس” حاجة الإنسان إلى التحقُّق الذاتي؛ فبدلاً من التماهي مع أنانيَّاتنا، ينبغي علينا أن نتعلَّم التماهي مع الشجر والحيوان والنبات، ومع النطاق الإيكولوجي ككل. وهذا ينطوي على تغيير جذريٍّ فعلاً في الوعي، لكنْ من شأنه أن يجعل سلوكنا أكثر انسجامًا مع ما يخبرنا العلم بأنه ضروري من أجل حُسْن حال الحياة على الأرض؛ أي أننا ينبغي أن نمتنع عن فعل أشياء معينة تضرُّ بالأرض، “لأن المركزية البشرية” هي النظرة التي تضع الجنس البشري في مركز الكون، والاتجاه الذي يعزو أهمية خاصة للكائنات البشرية والاهتمامات البشرية في المخطط العام للأشياء؛ وقد نجم عن هذا المنظور ميل الإنسان إلى التعامل مع البيئة ومكوناتها المادية والحية، أي مع الطبيعة عموماً، بوصفها وجدت لأجل منفعته وخدمته؟

من الواضح أن الهدف الرئيسي من هذا المفهوم يتمثل في إعادة ربط الإنسان بالطبيعة، وأول خطوة في هذا الربط تتم عبر اقتراح مفهوم الذات الإيكولوجية، التي تمضي إلى أبعد من الذات الغربية الحديثة المعرَّفة كـ(أنا) معزولة مستقلة تجهد في المقام الأول في سبيل الإشباع وتضع نفسها في مواجهة الطبيعة”[27]؛ هنا بيت القصيد.

إن تحقيق الذات الإيكولوجية ليس هدفاً نسعى إليه أو موضعاً معيَّناً نقترب منه، بل سيرورة مستمرة من النضج والنمو الروحي تتطلب التوحد[28] مع الآخر، البشري وغير البشري؛ فعندما نكتشف أن الآخر مكوِّن من مكونات ذاتنا، فهذا يعني أننا لا نستطيع الانفصال عنه أو تدميره إذا أردنا تحقيق ذواتنا؛ بمعنى آخر، إن الذات تنطوي على أبعاد/ممكنات متنوعة (البعد البيولوجي والطبيعي والاجتماعي والثقافي..) تتفتح في السياق التطوري والتاريخي؛ وتحقيق الذات ما هو إلا هذا التفتح المستمر.

إن هذا التوسيع لمفهوم الذات، أو هذه النظرة التي ترى وحدة الطبيعة والذات، هي مصدر أخلاقيات جديدة بيئية تكون نواة أسلوب الحياة الإيكولوجي ومفتاحاً للوعي البيئي، إذ “تنشأ العناية بالطبيعة تلقائياً عندما تتسع الذات، وتتعمق بحيث نشعر أن حماية الطبيعة هي حماية لأنفسنا؛ فنحن لا نحتاج إلى توصيات أخلاقية كي نتنفس، لذلك، عندما تشمل ذاتك، بالمعنى الموسع، كائناً آخر فلن تحتاج إلى مواعظ أخلاقية كي تقوم بالعناية به. إنك تعتني بذاتك دون شعور بالضغط الأخلاقي لفعل ذلك. هكذا، عندما يكون الواقع هو ذلك الذي تختبره الذات الإيكولوجية سيتبع سلوكنا بشكل عفوي وجميل معايير أخلاق بيئية دقيقة[29].

إن مستوى عيشنا يرتبط، في جزء منه، بالمتعة والإشباع الذي يتحقق بفضل أشكال الحياة المحيطة بالإنسان، وإن تجاهل هذا الارتباط وتبني علاقة هيمنة على الطبيعة معناه فصل الإنسان عن نفسه[30]؛ وإن الإيمان بوحدة الكائنات، والمساواة الإيكولوجية لا يكتسي قيمة نظرية فحسب، بل إن الإيكولوجيا العميقة لها بعد توجيهي وتحث الإنسان على الفعل.

ترفض الإيكولوجيا العميقة، إذن، متسلحة بمبدأ المساواة المرتبط جدليا بمفهوم تحقيق الذات، المركزية البشرية المتولدة عن النظرة الأداتية للعالم، وتلزم باحترام الحق في الحياة، والانفتاح على كل أشكال الحياة؛ ذلك أن حصر هذا الحق على البشر وحدهم لا يضر بالبيئة وحدها بل بالإنسان نفسه.

واضح من خلال آراء نايس أن القطيعة مع “المركزية البشرية” وصلت إلى حد اعتبار الإنسان كائنا لا يمتاز في شيء عن باقي الكائنات، وكونه “عقدة داخل نسيج معقد من الحقائق”، يعني الوعي بتعقد الأنساق الطبيعية والتفاعل المركب لعناصرها، وهذا ما تتفق فيه الإيكولوجيا العميقة مع أخلاق المركزية البيئية، لكن يعني أيضا نزع أي صفة مميزة للإنسان عن باقي الكائنات.

 يبسط نايس أطروحات ومناهج عمل الإيكولوجيا العميقة وفق أرضية مكونة من مجموعة مفاهيم/مفاتيح، تتمثل في أن ازدهار الحياة البشرية وغير البشرية هو ذو قيمة صُلبية، كما أن قيمة الكائنات غير البشرية، مستقلة عن النفعية التي يمكن للإنسان أن يلبي بها رغباته الضيقة؛ وأن غنى وتنوع أشكال الحياة، هما قيمتان في حد ذاتهما، تساهمان في ازدهار الحياة البشرية وغير البشرية على الأرض.

ليس للبشر الحق في تحجيم هذا الغنى وهذا التنوع إلا في حالة إشباع احتياجات حيوية. من جهة أخرى، فإن التدخل البشري المعاصر في الطبيعة مفرط، والوضعية في تدهور مستمر، وأن ازدهار الحياة البشرية والثقافات أمر يمكنه التحقق مع تقلص عدد البشر فوق الأرض؛ ذلك أن ازدهار الكائنات غير البشرية يشترط هذا الانخفاض، وهذا يعني ضمنيا الدعوة إلى الحد من النسل، كما أن تحسين ظروف العيش يستلزم تغيير السياسات التي تخص البنيات الأساسية: الاقتصادية، والتكنولوجية، والثقافية.

تثير قضية تخفيض عدد البشر في الأرض، كشرط لازدهار الكائنات الحية في الأرض جدلا منطقيا. إذ رغم العمق الذي اتسمت به مفاهيم الإيكولوجيا العميقة، وانسجامها الكبير مع الأبحاث البيولوجية والبيئية، وحرصها على التناول الشامل لعناصر المنظومات البيئية، إلا أن شرط تخفيض عدد البشر ليس اقتراحا عمليا، ويحتاج في نظري إلى مراجعة نقدية.

والحاصل أن التغيير الفكري الذي أتت به الإيكولوجيا العميقة يتجلى أساسا في تقييم مستوى العيش بدل البحث عن مستوى عيش باذخ؛ والدعوة إلى وجود وعي عميق بالفرق بين ما هو كثير وما هو كبير؛ وفي الأخير، فإن الذين قرروا تبني هذه المفاهيم/المفاتيح ملزمون بالبحث مباشرة أو بشكل غير مباشر عن إحداث التغييرات اللازمة؛ يتعلق الأمر بالمرور من النظرية إلى التطبيق.

يبدو برنامج العمل هذا، من زاوية نظر الفعل، ذا طبيعة ثورية، لأنه لا يشترط على الإنسان تغيير أسلوب حياته وعاداته الاستهلاكية فحسب، بل على المجتمع أن يعيد تشكيل مؤسساته السياسية والاقتصادية والتكنولوجية؛ لكن ماذا تقترح الإيكولوجيا العميقة كوعي بيئي يمكن من تحقيق هذا البرنامج الطموح؟

إن إجابة نايس تدل على التقاء عميق بين الإيكولوجيا العميقة والتقاليد الفكرية الشرقية والغربية، مع التأكيد على عنصر تحقيق الذات باعتباره تعريفا للذات الفردية إزاء الذات الكونية؛ ذلك أن تحقيق الذات في أقصى درجات الإطلاق، هو بمثابة تجربة فكرية للوحدة داخل التنوع. إننا باعتبارنا كائنات في العالم، نعيش وسط الأشياء لكن بوعي عميق بأنه من واجبنا تمديد الذات/الأنا لتشمل باقي الأشياء[31].

ويصر أنصار الإيكولوجيا العميقة على أن هذا التعريف للذات، لا ينبغي أن يفهم كحالة صوفية أو تأملية؛ بل هو مسار تعتبر فيه مصلحة الكائنات الأخرى مصلحة للإنسان نفسه، دون أن يتخلى هذا الأخير عن وعيه بالاختلاف عن باقي الكائنات؛ إنه مسار وجودي يبدأ إنجازه في العائلة ليصل إلى المواطنين في نفس البلد، ثم إلى البشر جميعا وصولا إلى الحيوان، وأخيرا الكون منظورا إليه من زاوية مختلفة عن رؤية العالم المعاصرة.

ضمن هذا الأفق، تتفرد أخلاقية الإيكولوجيا العميقة عن باقي الفلسفات البيئية، وتغدو فن عيش للحكماء؛ فبفضل تعريف الذات ومن خلال تحققها، يستطيع الإنسان أن يحترم ويحب أخاه الإنسان كما الطبيعة، وكذلك اختيار نمط في العيش بسيط وممتع.

إن تحقيق الذات يمكن أن يوصل إلى ما اعتبره الأخلاقيون دائما بمثابة المثال الذي ينبغي أن يسعى إليه الإنسان؛ الانسجام بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة، والبيئة الطبيعية، وكل أشياء الكون من جهة أخرى.

لكن سواء كان المنطلق مركزية بيولوجية أم مركزية بيئية، فذلك مجهود كبير لبلورة وتحقيق علاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة، من خلالها يمكننا علاج المشكلة البيئية بشكل جذري. وإذ تنتقد الأخلاقية التقليدية والنظرة إلى العالم السائدة، التي لا تبالي بمصير الطبيعة والكائنات غير البشرية وتبطن، تبعا لذلك، إيمانا بهيمنة الإنسان على باقي الكائنات، فإن أخلاقيات البيئة العميقة تعيد تجديد القيم، والتصورات الدينية، والتقاليد الفكرية والثقافية التي اعتبرت الانسجام بين الكائنات عنصرا وجوديا[32].

لعل ما يميز الإيكولوجيا العميقة هو كشفها للبعد الفلسفي الذي تنطوي عليه الأزمة البيئية؛ وهي إذ تفعل ذلك عبر سيرورة التساؤل العميق وصولاً إلى الأساسيات، فإنها تذكرنا بالنهج السقراطي في توليد الحقيقة. كما أنها حين تدعو البشر إلى العيش مع أخذ الأرض بالحسبان، أي من خلال إقامة علاقة متوازنة مع الأرض واعتبارها عاملاً مقرراً ومحدداً في جميع نشاطاتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الصعيد النظري والعملي، إنما تضفي على الفلسفة ذلك المعنى الذي ربما بهت قليلاً، أعني الفلسفة كضرب من الحكمة؛ حكمة التفكير وحكمة التدبير.

إن خطابا ثوريا كهذا لا يمكن أن لا يثير اعتراضات وانتقادات، ذلك أن خصوم الأخلاقية البيئية يقولون إن مثالية هذه الأخلاقية، وطبيعتها الصوفية، وإيديولوجيتها “غير العقلانية” يمكن أن تقود إلى موقف ضد-الإنسانية[33].

لقد ذهب بعض الكتاب إلى إبراز عدم حاجتنا إلى الأخلاق البيئية، لأن الأهداف التي سعت إليها يمكن أن تضطلع بها الأخلاقية البيئية التقليدية حسب رأيهم[34].

يعتقد معارضو الأخلاق البيئية أن مساواة “المركزية البيولوجية”، والقيمة الصّلبية للكائنات غير البشرية[35]، وحقوق الأحجار، والحيوان، والأنساق البيئية، والأجيال اللاحقة، مثلها مثل مفاهيم التعريف والعقد الطبيعي، ليست بالضرورة دالة ولا تقف على أرضية صلبة.

ضمن هذا السياق، يتساءل “لوك فيري”: هل يوجد “وضع فلسفي” للكائن الحي”، متمنيا “إيكولوجيا ديموقراطية”، ورافضا المركزية البشرية على الطريقة الديكارتية مثلما يرفض “الأصولية الإيكولوجية”. ويعتقد فيري أنه لا ينبغي أن تؤسس الإيكولوجيا على حقوق الطبيعة المدعاة، بل على واجب الإنسان تجاه الطبيعة ويقترح، تبعا لذلك، “وضعا فلسفيا للكائن الحي”؟

إن السؤال المركزي الذي يطرح هنا هو: هل بالإمكان تطوير هذا المشروع الفلسفي دون السقوط في التيه الميتافيزيقي الذي حذر منه لوك فيري نفسه؟ ماذا سيكون عليه الوضع الفلسفي للكائن الحي؟ أين يبدأ الحي؟ في الفيروس أم الأرضة (termite) أم المتناعلة (paramécie)؟ هل نستثني الإنسان من هذا الكائن الحي؟ هل ندرج ضمنه النبات؟ إذا كان الأمر بالإيجاب هل نضيف المعدن الذي هو حامل النبات؟ ألا يتحول الأمر بذلك من “وضع للكائن الحي” إلى “وضع للأرض”؟ من هذه الزاوية سيمد لوك فيري يده إلى ميشيل سير، وسيتقاطع لا محالة مع أطروحة ليوبولد حول أخلاق الأرض[36].

لكن ما قيمة وضع فلسفي للكائن الحي إذا لم يتوج بوضع قانوني؟ وهل نحن هنا إزاء أخلاق (morale) أم إيتيقا (éthique) بالتمييز الذي يقيمه بول ريكور بين المفهومين[37]؛ ذلك أن “الإتيقا” أرقى وأسبق من احترام “الأخلاق”، ذلك أن “الأخلاق” ذات طابع “مصطنع”؛ لأنها بناء اجتماعي في سياق مجتمع محدد، وهي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، وبين هذا الأخير والخارج؛ بيد أن الطبيعة لا تحتل أي مكان في تعريف “الأخلاق”.

إن الأخلاق تنظم السلوك البشري داخل المجتمع وتبلغ مداها حينما يتم استبطانها داخليا من طرف الأفراد، وهي خطوة في اتجاه “الإتيقا” باعتبارها التزام فردي عميق يتجاوز مجرد الالتزام بما تعاقد عليه المجتمع. في هذا المستوى يندرج” الأمر الكانطي” الذي يبقى، مع ذلك، أقرب إلى مجال “الأخلاق” أكثر منه إلى مجال” الإتيقا”؛ وربما هذا ما جعل هانس يوناس، كما رأينا في الدراسة السابقة، يعتبر الأمر الكانطي قاصرا عن تلبية شرط حماية الأرض والمحيط الحيوي من الفساد البشري.

إن فلسفة الأخلاق، حسب ريكور، تروم في نهاية المطاف تحقيق النظام والأمن بينما الإتيقا هي مجموع “مبادئ الحياة”. وبخلاف “الأخلاق”، فإن “الإتيقا” تحمل بداخلها تصورا لعلاقة الإنسان بالطبيعة ابتداءً من العلاقة بالجسد الذي هو جزء من الطبيعة. ويفترض في “الإتيقا” أن تتمثل الحياة والعيش كمفهوم “فيزيائي” لا كمفهوم اجتماعي، وهو ما ينسجم مع مطالب الفلسفات البيئية التي تنتمي بهذا المعنى إلى الإتيقا أكثر من انتمائها إلى الأخلاق.

وسواء قبلنا هذه الانتقادات أم لا، فلا يمكننا أن ننكر أن كون البيئة تشكل اليوم تحديا كبيرا للبشرية-تحد حصل بسبب تمثل خاطئ للبيئة، وسلطة تدمير كبيرة تعزى للتقنية العلمية- وتبعا لكل هذه العوامل أضحت علاقة الإنسان بالبيئة علاقة سيئة؛ لذلك فإن البحث عن طرق جديدة لعلاقة الإنسان بالطبيعة، وبنائها عقلانيا يعتبر رهانا كبيرا للإنسان المعاصر؛ هذا هو مقتضى الأخلاقية البيئية.

الإيكولوجيا النسوية

يندرج ضمن حركة الإيكولوجيا العميقة، فلسفة بيئية أخرى، هي الفلسفة الإيكولوجية النسوية، التي تعبر عن تنمية مستدامة “متمركزة حول الأنثى”، وعلى الرغم من أن مصطلح “النسوية الإيكولوجية” يشير إلى مفهوم واسع تنضوي تحته مواقف نسوية عديدة ومختلفة وأحيانا متنافسة، لكنها تشترك في افتراضها بأن النساء أقرب إلى الطبيعة من الرجال بفضل طبيعتهن الأساسية والتزامها باستكشاف العلاقة بين النساء والطبيعة وبتطوير فلسفات نسوية بيئية تستند إلى تلك العلاقة[38].

وفي هذا السياق، ترى “كارين وارن “أن ما يجمع تلك المواقف النسوية الإيكولوجية، على اختلاف توجهاتها، هو الأسلوب الذي بموجبه عمل منطق “هيمنة الذكور” تاريخيا لإدامة وتبرير الهيمنة المزدوجة على الطبيعة والنساء، ضمن إطار مفهومي جائر في المجتمع الصناعي الحديث[39].

إن تأنيث الطبيعة وتطبيع النساء، كما يقول أنصار هذا الاتجاه، كانا تاريخيا جزءا من استغلال الطبيعة، ومن ثم يجب اعتبار قضايا التدهور البيئي والاستغلال المفرط لموارد الأرض قضايا نسوية، لأن فهمها، بنظرهم، يسهم في فهم الظلم الواقع على النساء؛ لقد زعمت النسوية البيئية أن “التمركز حول الإنسان”  ليس وحده المتسبب في المشكلة البيئية، بل يضاف إليه “التمركز حول جنس الذكر”.

فمن خلال إظهار الارتباطات المفهومية بين الهيمنة المزدوجة على النساء والطبيعة، تحاول النسوية الإيكولوجية، أن تشرح لماذا وكيف ينبغي عليها، بما أنها حركة لإنهاء الاستغلال والهيمنة الجنسية، أن تتوسع لتدخل ضمن اهتماماتها إنهاء الاستغلال التمييزي ضد الطبيعة وفقا لحجج أهمها أن النسوية حركة لإنهاء التمييز الجنسي، وأن التمييز الجنسي مرتبط مفهوميا بالتمييز ضد الطبيعة، لذلك تغدو النسوية الإيكولوجية حركة لإنهاء التمييز ضد الطبيعة[40].

وتؤكد الحركة الإيكولوجية النسوية على أن كل أشكال الاضطهاد مرتبطة معا، ومن ثم يجب أن يكون هناك معالجة شمولية لبنى الاضطهاد، بمعنى أخر ترى “النسوية الإيكولوجية” أن هناك رابط قد تطور بين هيمنة الرجال على الطبيعة وهيمنة الرجال على النساء، حيث أن دور السيد-العبد الذي يطبع علاقة الإنسان بالطبيعة يتكرر في علاقة الرجل بالمرأة، مما يتطلب دراسة اضطهاد “بنى القوة الأبوية” لكل من العالم الطبيعي والنساء معا، وبدون ذلك لا يمكن إيجاد حل لأي منهما، لأنه على النساء أن يدركن أنه لا يمكن تحريرهن، ولا حل الأزمة البيئية في مجتمع تظل علاقات النموذج الإرشادي فيه مبنية على الهيمنة، ولذا لابد من توحيد مطالب الحركة النسوية مع مطالب الحركة البيئية من أجل إعادة صياغة جذرية للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الأساسية والقيم المحددة للمجتمع الصناعي الحديث[41].

تزعم الحركة الإيكولوجية النسوية أن البناءات الأبوية تبرر هيمنتها من خلال ثنائيات من قبيل السماء/الأرض، العقل/الجسد، الذكر/الأنثى، الإنسان/الحيوان، الثقافة/الطبيعة، الروحي/المادي، الأبيض/غير الأبيض، وأن أنساق الاضطهاد القائمة تستمر في استعراض قواها المؤذية من خلال تعزيز افتراضات تلك التقسيمات، بل وحتى إضفاء القدسية عليها من خلال البناءات الدينية والعلمية.

وتفترض النسوية الإيكولوجية أنه طالما بقي أي من تلك الثنائيات يمثل مكونا أساسيا للبناء الاجتماعي، فسوف تستمر كلها كمنطلقات لتبرير الأبوية؛ ولذا يجب القضاء على كل أشكال الثنائيات وإلا ستبقى الإنسانية منقسمة على نفسها؛ ذلك أن ما يميز النسوية الإيكولوجية هو إصرارها على اعتبار الطبيعة غير البشرية والتطبيع (مثلا الهيمنة غير المبررة على الطبيعة) قضايا نسوية؛ فالفلسفة الإيكولوجية النسوية تمد نطاق النقد النسوي المألوف لإيديولوجيات الهيمنة الاجتماعية ليشمل الطبيعة[42].

إن أحد أهداف الحركة الإيكولوجية النسوية يتمثل في القضاء على نظرة إلى العالم “متمركزة حول جنس الذكر”، وهي نظرة مسؤولة، بشكل كبير، عن السلوك الاستغلالي، سواء كان موجها نحو النساء أو الطبقات الدنيا أو الحيوانات أو البيئة الطبيعية، وإزالة كل أشكال التمييز الجنسي الجائرة وخلق عالم لا يوّلد الاختلاف فيه هيمنة وتكون الأخلاق البيئية فيه هي “أخلاق إيكولوجية نسوية”، وهذا يعني أن تحرير الطبيعة واستدامتها، حسب هذا الاتجاه، مرتبط مفهوميا بإنهاء الأبوية.

 ويذهب البعض إلى حد اعتبار أن الجوهر الروحي للرؤية الإيكولوجية العميقة يجد تعبيراً مثالياً عنه في “الروحانية النسوية” التي ينادى بها في حركة النساء؛ فالروحانية النسوية متأصِّلة في تجربة وحدة كل الأشكال الحية وفي الإيقاعات الدورية لولادتها وموتها؛ فهي بذلك إيكولوجية عميقة وقريبة من الروحانية الأمريكية الأصلية والطاوية وغيرهما من المنقولات المشدِّدة على الحياة والموجَّهة نحو الأرض[43].

وقد شهدت حركة النسوية الإيكولوجية تطورات كبيرة، خصوصا بعدما بدأت في مجابهة ظاهرة العولمة وتقييم الموقف المحوري للنساء في اقتصاد العالم؛ ويظهر ذلك بوضوح من خلال أعمال الكاتبة الهندية “فاندانا شيفا”، التي تعتبر واحدة من أبرز نقاد التنمية في عصر العولمة؛ حيث تؤكد على أن الصيغ المهيمنة في التنمية هي استمرار لمشروع الهيمنة على الآخر (الطبيعة، النساء، والشعوب الأصلية، والطبقات الفقيرة)، وتنظر للتنمية باعتبارها تحولا في النزعة الاستعمارية من استعمار كلاسيكي اعتمد الإخضاع العسكري، والاحتلال المباشر، والبيروقراطية، إلى تنمية استعمارية جديدة تحقق أهدافها بكفاءة أعلى من خلال النخب العميلة والتقنيات المتطورة.

وتفترض هذه التنمية الاستعمارية الجديدة مسبقا، وفقا لشيفا (Shiva)، اختزال النساء والطبيعة كمواد استعمالية تؤثر فيها القوى التقنية والاقتصادية، ولا يقتصر هذا الاختزال على مجال الأفكار والقيم، بل يتجاوزه إلى ممارسات مادية بهدف كبح رد فعل النساء وسلب قدراتهن؛ وتربط شيفا بين “موت المبدأ الأنثوي” و”التنمية المشوهة ” في العالم الثالث حيث ترى أن: “التنمية المشوهة تؤثر سلبيا في هذه المساواة في التنوع، وتفرض بقوة الصورة المبنية إيديولوجيا للرجل الغربي التقني كمعيار منتظم لقياس قيمة الطبقات والثقافات والأنواع (الجنس)؛ مما جعل التنوع، فضلا عن الوحدة والانسجام فيه، أمرا غير ممكن ضمن إطار التنمية المشوهة، التي أصبحت مرادفة لتخلف النساء (تزايد الهيمنة الجنسية)، واستنفاد موارد الطبيعة[44].

الإيكولوجيا السياسية

يشبه كل من رفائيل وكاترين لارير[45] موقف الضرورة الطبيعية الذي يربط البشر بالطبيعة بموقف الأبوين من المولود الجديد، وهو ما يجسد في نظرهما موقف هانس يوناس، صاحب كتاب “مبدأ المسؤولية”، الذي يعرف المسؤولية كالتزام أحادي الاتجاه تجاه المستقبل، مثلما يجسد موقف كاليكوت، أحد تلاميذ آلدوليوبولد، الذي يعرف القيمة الصُّلبية الملازمة للطبيعة كقيمة منسوبة إليها في ذاتها بمعزل عن المنفعة التي يمكن أن تنتج عنها؛ وهو ما يجسده بحق مثال الأبوين مع المولود الجديد الذي يستقبل بالحب والرعاية بشكل منفصل عن النفع الذي يمكن لأبويه أن يجنياه منه..

لكن يصعب التوفيق عمليا بين القيمة الصُّلبية للطبيعة التي هي هدف في حد ذاتها بمنطق “المركزية البيولوجية”، وبين مفهوم هانس يوناس للمسؤولية، بمعنى أنه لا توجد مسؤولية إلا إزاء ما يرتبط بنا.

إن التصور “البيومركزي” للقيمة الصُّلبية للكائنات الحية يؤدي إلى “أخلاقيات الاحترام” بما يعني “عدم التدخل” (non intervention)، وهو مفهوم مغاير لأخلاقيات المسؤولية؛ وهذا ما يطرح بقوة إشكال التمييز بين “الأخلاق و”الإتيقا وفق تصور بول ريكور الذي عرجنا عليه من قبل.

هل يعني هذا استحالة الخروج من المأزق؟ ليس بالضرورة؛ إن المجتمعات المعاصرة بصدد تبني قرارات مستعجلة و”أكثر تعقيدا” من أجل حماية الطبيعة، لذلك وجب تبني “مفاهيم وسطية” تبنى عليها “أفعال” واضحة للجميع مع احترام تنوع الأخلاقيات البيئية واختلاف الأديان وأنماط العيش. ويرى بعض الباحثين أن هذا الرهان ينبغي أن تضطلع به الإيكولوجيا السياسية (écologie politique)؛ لأن الأخلاق البيئية المستندة إلى أفكار ميتافيزيقية و”جمالية” و”دينية” لا تستطيع القيام بذلك ما دام مواطنو “المجتمعات الحرة” لا يجمعون على تبني مفاهيمها[46].

إن الإيكولوجيا السياسية هي هنا بمثابة “مكمل ضروري” لتعدد الأخلاقيات البيئية، لكنها تكتسب انطلاقا من بعدها العملي وقدرتها على “التجميع” صفة “فلسفة” مستقلة عن الفلسفات البيئية الأخرى..

ليست الإيكولوجيا السياسية معنية بـ”المصالحة” بين تيارات الفلسفة البيئية المختلفة وتحديد أي منها أقرب إلى “الحقيقة”، لكنها تتموقع “فوقها” لتبلور مفاهيم بيئية مستساغة من طرف المواطنين على اختلاف “فلسفاتهم” البيئية. من هذا المنطلق تبدو الإيكولوجيا السياسية و”الإتيقا البيئية” كمفهومين متمايزين لكن متكاملين، على اعتبار أن العدل هي الفضيلة الجوهرية لكل المؤسسات السياسية منذ أفلاطون. بهذا المعنى تروم فلسفة العدل إلى إقامة المؤسسات الكفيلة بتحقيقه وتنظيم علاقات اجتماعية عادلة؛ ويبدو مشروعا أن ننتظر من “نظرية تدبيرية” للشأن السياسي أن تقدم “آراء” في هذا الصدد.

إن “الاختيارات البيئية” للمجتمعات لا يمكنها أن تخرج عن سياق العدل نفسه، ففي المجتمع الديمقراطي المعاصر يحدد “العدل” مجموع الحريات التي تخول لأفراد المجتمع وتنظم العلاقات فيما بينهم. في هذا الإطار تبدو الهواجس البيئية شديدة الارتباط بالمفهوم السياسي للعدل.

ومهما تباعدت الاتجاهات الفكرية، فهناك إجماع في أوساط منظري الفلسفة السياسية أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية من مرتكزات الاجتماع البشري. ولم تكن الهموم البيئية تحظى بالأولوية خلال القرنين 18 و19م نظرا لغياب التهديدات البيئية التي تعاني منها مجتمعات اليوم. لقد أصبح لزاما اليوم تدبير الثروات الطبيعية مع احترام “السلامة البيئية” باعتبارها “مطلبا” يندرج ضمن مفهوم العدل مثلما الشأن بالنسبة للتوزيع العادل للثروات[47].

إن تداعيات حماية الطبيعة أو تدميرها وما يترتب على ذلك من إيجابيات أو سلبيات ينبغي أن “تقتسم بشكل عادل” بين مجموع المواطنين؛ وإذا كان “الهدف المثال” في الفلسفة السياسية هو “إقامة العدل”، فإن “الهدف المثال” بالنسبة للفلسفة البيئية تحديد “الحقوق والواجبات”، في علاقة المواطن بالوسط البيئي من حيث التمثل والحماية والاستشراف.

وانطلاقا من هذه المقاصد يمكن تعريف “الإيكولوجيا السياسية” باعتبارها “منظومة قيم” تنطوي بالضرورة على ثلاثة مجالات للتطبيق؛ العدل داخل الدولة، والعدل بين الدول، والعدل بين الأجيال، هنا ندرك أهمية أعمال الفيلسوف الألماني هانس يوناس.

يعرف العدل داخل الدولة “بالتوزيع العادل للتكلفة”، والإيجابيات والمخاطر البيئية بين الأجيال المعاصرة المتعايشة فوق مجال ما والخاضعة لنفس المؤسسات السياسية. وتنحو الدراسات العلمية النادرة في هذا الاتجاه إلى الربط بين مستوى الدخل المادي للأفراد وتوفر الحماية البيئية، لدرجة أن العواقب البيئية بالنسبة للفئات الأشد فقرا قد تصل إلى تهديد حقيقي للصحة. من هنا تبدو “الإيكولوجيا السياسية” معنية بالتكلفة الناتجة عن حماية هذه الفئات الاجتماعية ومحيطها البيئي.

أما العدل ما بين الدول، فمقتضاه الالتزام المشترك بين الدول لمعالجة الآثار السلبية “للتلوث” البيئي وحماية المنظومة البيئية العالمية. وأخيرا العدل مابين الأجيال ومقتضاه العمل على “تدبير” الثروات الطبيعية والأنساق البيئية بنفس مستقبلي يفكر في الأجيال اللاحقة (قارن برهان يوناس). إن هذه الأبعاد الثلاثية ينبغي أن تشكل أساس “الإيكولوجيا السياسية”، وهي أبعاد متداخلة سيكون من المفيد تأطيرها ضمن علائق جامعة لتشكل نسقا متكاملا.

إن الإيكولوجيا السياسية تطرح أسئلة دقيقة وجوهرية حول “العيش المشترك” في المجتمع لكنها تترك الباب مشرعا لإشكاليات بيئية أخرى تنتمي إلى حقل “الإطيقا البيئية” وليس الإيكولوجيا السياسية.

إن الإتيقا البيئية رغم بعدها الفلسفي وعمقها النظري لم تستطع معالجة إشكالية “الآثار التدميرية” للسياسات البيئية، لكن هذا لا ينفي أن الإتيقا البيئية يمكن أن توسع آفاقها في اتجاه التقاطع مع الإيكولوجيا السياسية. في هذه الحالة سيجد منظرو “الفلسفات البيئية” أنفسهم أمام خيارين: إما تبني مفاهيم وسطية مقبولة من طرف أكبر عدد من الناس وهذا يستلزم “التخلي” عن الأسس الميتافيزيقية والجمالية والدينية التي “تفرق” الناس، أو على العكس التشبث بأسسها النظرية، ووقتها لن تستطيع فرض آرائها على من ينظر إلى الطبيعة بطريقة أخرى.

وبالاستناد إلى الفصل الذي أقامه جون راولز بين “الصائب” و”الجيد” في كتابه A Theory of Justice، الذي مفاده أن الناس في الغالب لا يختلفون في تقييم “الصائب” بقدر ما يختلفون في تحديد “الجيد”، وهذا راجع لاختلاف المنطلقات الفلسفية والدينية والنظرة الوجودية للكون؛ فإن الاحتكام إلى “الصائب” بدل “الجيد” يشكل أساس الإيكولوجيا السياسية[48].

إن حماية الطبيعة ينبغي أن تشكل هاجسا جماعيا يصب في اتجاه المفهوم الشامل للعدالة الاجتماعية. ومن أجل تقسيم الأدوار بين السياسي والأخلاقي وجب في حالة “الخلاف” المساواة بين الناس وفق مفاهيم العدالة الاجتماعية المنتمية بالطبع لمجال التدبير السياسي. والقول أن “الصائب” في هذه الحالة أسبق من “الجيد” لا يعني إلغاء هذا الأخير، بل على العكس يمكن “للجيد” أن يقوم بدور مكمل من أجل تحقيق “سياسي” لمقتضيات الحفاظ على الأنساق البيئية..

هل يمكن أن نفكر اليوم بشكل متواز في وحدة العالم الفيزيائية وفي وحدته السياسية دون أن نضحي بإحدى الوحدتين؟ لا نملك جوابا نهائيا لهذا السؤال.

الهوامش

[1] .Henryk Skolimowski. 1992., Living Philosophy: Eco-Philosophy as a Tree of Life (Arkana).

[2] .Nguyen Vinh-De. Qu’est ce que l’éthique de l’environnement, Horizons philosophiques, Vol 9, n°1, 1998 (p87-107) p 93.

[3]. يوضح إنغويين فندي معاني القيمة الصّلبية والقيمة الأداتية؛ إذ يعتبر كائنا ما منطويا على قيمة أداتية إذا كان يستعمل كوسيلة؛ القلم الذي أستعمل والبيت الذي أقطن فيه، والنادل الذي يخدم في المطعم لهم قيمة أداتية ومنفعة محددة. ما يميز هذا النوع من القيم أنها مرتبطة بمشاريع بشرية؛ وإذا ما غير الإنسان مشروعا ما، فإن القيمة الأداتية تتغير هي الأخرى؛ إذا عزف الإنسان عن الكتابة فإن الحاجة إلى القلم تنتفي، لأن القلم في حد ذاته لا قيمة له. عندما نبوأ شيئا ما قيمة أداتية، فإن ذلك يسمح لنا بنوع من الاستغلال المفرط، وربما ممارسة العنف إزاءه؛ ففي النظام العبودي، يعتبر العبد مجرد وسيلة، وهو لا يمتلك قيمة في أعين سيده غير قيمته النفعية. بالإضافة إلى القيمة الأداتية، يمكن لشيء ما أن يكتسي قيمة صُلبية، وهي قيمة يكتسبها الشيء لذاته، كالتحف الفنية، والحب، والصداقة. إن القيمة التي يراها الفاعل في الشيء قيمة جوانية؛ فحب شيء ما هو حبه لذاته وليس لمنفعة تنتظر منه؛ إذ لا يمكن أن يحترم الشيء لذاته إلا إذا اكتسب قيمة صُلبية؛ إننا نحترم حياة الأطفال ليس لنفعيتهم، ولكن لاكتسابهم قيمة جوانية. إن السبب وراء عدم صلاحية أخلاق الأنموذج القديم للتعامل مع هذه المسائل هو أنها، مثلها في ذلك مثل الإيكولوجيا الضحلة، بشرية المركزية. بذا تكون المهمة الأهم الواقعة على عاتق مدرسة جديدة للأخلاق هو تطوير نظرية للقيم نظرية تمنح أشكال الحياة غير البشرية قيمة صُلْبية (valeur intrinsèque).

[4].Nguyen Vinh-De. Op.cit.,

[5] . Henryk Skolimowski. 1992. Op.Cit.

[6] . Holmes Rolston, III, Value in Nature and the Nature of Value » in Robin Attfield and Andrew Belsey (éds.). Philosophy and Natural Environment; Cambridge, Cambridge University Press, 1994, p. 13-30.

[7] . Voir Albert Schweitzer, la civilisation de l’éthique, traduction française de Madeleine Horst, Alsatia Colmar, 1976 ; la Paix par le respect de la vie, traduction française de M. Horst, Ed. de la Nuée-Bleue, 1979.

[8]. The Ethics of Respect of Nature, in Eugene C. Hargrove (éd.), the Animal Rights/ Environmental Ethics Debate, Albany: State University of New York Press, 1992, p. 99.

[9]. Paul Taylor, Op.cit, p.109

[10]. تايلور، م، س، ص118.

[11]. Nguyen Vinh-de. Op.cit.

[12]. Voir Joseph R. Des Jardins, éthique de l’environnement. Une introduction à la philosophie environnementale, traduit de l’américain par Nguyen Vinh-De et Louis Samson, Sainte-Foy (Québec): Presses de l’Université de Québec, 1995, p 182-183. Cité par Nguyen. Op.cit.

[13]. Aldo Leopold, Op.cit, p VIII.

[14]. Ibid, p 224-225.

[15]. Nguyen Vinh-De. Op.cit.

[16]. Arne Naess, The Shallow and the Deep, Long-range, Ecology Movement. A Summary, Inquiry, 16, N°1, Printemps 1973, p. 98.

[17]. Arne Naess: «Deep Ecology: a new philosophy of the time? in The Ecologist, Vol. 14, n° 4-5, 1984, p 196.

[18] . بايرد كاليكوت، مقدمة الفلسفة البيئية، ج1، عالم المعرفة،عدد 332، 2006.

[19] . المرجع نفسه.

[20]. Zimmerman, 2006, p. 271-270

[21].Arne Naess, 1986. Op.cit.

[22].  Zimmerman, 1987,Op.cit, p22.

[23]. Nguyen Vinh-De., Op.cit.

[24]. Devall, Bill, and Sessions, George, Deep Ecology, Gibbs Smith Publisher, Salt Lake City, 1985, p. 70.

[25]. Naess, Arne, Ecology, Community and Lifestyle, Translated by David Rothenberg, Cambridge University Press, Cambridge, 1989, 165.

[26] . المرجع نفسه، ص 166

[27] Devall, Bill, and Sessions, George, 1985., Deep Ecology, Gibbs Smith Publisher, Salt Lake City, p. 66-7.

[28]. Naess, op. cit., p. 10-11.

[29]. Capra, The Web of Life, op. cit., p.12.

[30]. Arne Naess, Op.cit, p 96.

[31]. Arne Naess: «Deep Ecology and Ultimate Premises». The Ecologist, vol. 18, n° 4-5, 1988, p 130.

[32].Nguyen. Op.cit.

[33]. Voir Luc Ferry, le nouvel ordre écologique. Paris, Grasset, 1992. Et Dominique Bourg. Les Scénarios de l’écologie, Paris, Hachette, 1996. Une interprétation profonde contraire à celle de ces deux auteurs peut être trouvée dans: Catherine Larrère et Raphaël Larrère, Du bon usage de la Nature, Paris, Aubier, 1997.

[34]. Jean Passmore , Man’s responsibility for Nature, London: Duckworth, 1974.

[35]. Janna Thompson, A Refutation of Environmental Ethics” in Environmental Ethic, été 1990, Vol 12, n°2, p 147-159.

[36]. François Ivernel. 1993. Environnement et Ecologie: l’Impossible synthèse. A propos du Nouvel Ordre écologique de Luc Ferry. Le Banquet, n°2(1).

[37]. Paul Ricœur, 1985. Le juste, éditions Esprit.

[38] .Warren, 1987: 13-15 ; Zimmerman 1987, p.40.

[39]. Zimmerman 1987, p,.32

[40]. Ibid. p103..

[41]. Ruether 1975, p 204.

[42]. Warren 1997, Ecofeminism: Women, Culture, Nature, p 4.

[43]. Capra. The web of Life. Op.cit.

[44]. Shiva, Staying Alive: Women, Ecology and Survival in India, 1988, p 83.

[45]. Larrère Catherine et Raphaël, 1997. Du bon usage de la nature, Pour une philosophie de l’environnement, Collection Alto, Aubier, Paris,p. 355.

[46]. François Blais et Marcel Filion. 2001., De l’éthique environnementale à l’écologie politique. Apories et limites de l’éthique environnementale.. Philosophiques Vol: 28, N°2, p 255-280.

[47]. François Blais et Marcel Filion. Op.cit.

[48]. Ibid.

Science
الوسوم

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق