مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

الأجرة على التحديث: تعريفها وحكمها

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم: 

      لقد حث الله تعالى عباده على تعلم العلم ومدح أهله، ويعد علم الحديث من أجل هذه العلوم وأشرفها عند الله تعالى، فبه يعرف المراد من كلام الله تعالى، وبه يطلع على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم للتأسي به، ويكفي أهل الحديث وحملته شرفا دخولهم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ” نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه”[1]

ولمكانة هذا العلم فقد حرص السلف الصالح من الصحابة والتابعين على تعلمه وتبليغه للناس دون مقابل؛ إلا أن هناك طائفة أخرى من العلماء من أجاز أخذ الأجرة على تبليغه؛ لأجل ذلك جاء هذا المقال ليسلط الضوء على هذا الموضوع من خلال تعريف الأجرة على التحديث أولا، ثم بيان حكمها عند العلماء  وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق: 

أولا: تعريف الأجرة على التحديث:

والأجرة على التحديث هي: أخذ المال من المتعلمين مقابل تبليغ وتعليم الحديث لهم، وقد كان بعض  العلماء من السلف يأخذ ذلك بسبب اشتغالهم بالتحديث، الذي صرفهم عن اكتساب المعايش، ومن هؤلاء: أبو نعيم الفضل بن دكين (218هـ) الذي كان يأخذ الأجرة على التحديث، بسبب فقره، قال: “يلومونني على الأخذ، وفي بيتي ثلاثة عشر نفسا، وما في بيتي رغيف”[2]  ، وعلي بن عبد العزيز البغوي الذي كان يطلب الأجر على التحديث[3] ،وغيرهما ، خلافا لسنة الصحابة  والتابعين الذين كانوا يروون الحديث للناس بدون مقابل يبتغون بذلك الأجر عند الله تعالى، حتى شاع قولهم: “علم مجانا كما علمت مجانا “[4]  . 

وقد أدى هذا الصنيع إلى اختلاف العلماء في الحكم حول هذه المسألة ، وهذا ما سنعرفه في النقطة الموالية :

ثانيا:حكم الأجرة على التحديث:

تعرض علماء الحديث في كتب مصطلح الحديث إلى حكم  أخذ الأجرة على التحديث، وأشاروا إلى أقوال العلماء في هذا  الموضوع ؛ ويمكن  تقسيم ذلك  إلى مذهبين وهما:

المذهب الأول: الرفض وعدم قبول  ذلك : وإليه ذهب الإمام  إسحاق بن إبراهيم المعروف                 بـابن راهويه (238هـ)، والإمام أحمد بن حنبل (241هـ)، والإمام أبو حاتم الرازي (277هـ) وغيرهم، فلا تقبل رواية من يأخذ الأجرة على التحديث عندهم؛ لأن ذلك يخرم بمروءته .

قال إسحاق بن راهويه حين سئل عن المحدث يحدث بالأجر : “لا يكتب عنه”، وكذلك قال أبو حاتم الرازي، وقال أحمد بن حنبل حين سئل عن من يبيع الحديث: هل يكتب عنه ؟فقال: “لا ولا كرامة “[5].

قال الخطيب البغدادي: “إنما منعوا من ذلك تنزيها للراوي عن سوء الظن به؛ لأن بعض من كان يأخذ الأجر على الرواية عثر على تزيده وادعائه ما لم يسمع لأجل ما كان يعطى… “[6].

المذهب الثاني: الجواز ؛ وممن رخص بذلك وكان يأخذ العوض عن التحديث : الإمام أبو نعيم الفضل ابن دكين (218هـ)، وعفان بن مسلم (219هـ)، وعلي بن عبد العزيز البغوي (252هـ)،… وغيرهم[7]؛ قال  ابن الصلاح : “لأن ذلك شبيه بأخذ  الأجرة على تعليم القرآن وغيره”[8]، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله “[9].

وعند النظر في هذين المذهبين فلا تعارض بينهما ؛ ذلك أن المانعين لهذا الأمر نجد أنهم في مواطن أخرى سمحوا لبعضهم بأخذ الأجرة على التحديث لثقتهم. وعليه فإن  المنع إنما بسبب أن أخذ العوض  يمكن أن  يجر  طالبه إلى الإكثار من الرواية المفضية إلى الكذب، والجواز محمول على من هو ثقة ثبت له عذر في أخذ العوض كأن يكون فقيراً  مثلا، وقد أشار إلى هذا الأمر  الإمام السخاوي رحمه الله وهو خير ما نختم به هذا الكلام. قال : ” قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله – يعني الإمام أحمد – يقول : شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما ، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد، أو كبير أحد، مثل ما قاما به : عفان، وأبو نعيم. يعني بقيامهما عدم الإجابة في المحنة، وبكلام الناس من أجل أنهما كانا يأخذان على التحديث. ووصف أحمد مع هذا عفان بالمتثبت. وقيل له : من تابع عفان على كذا ؟ فقال : وعفان يحتاج إلى أن يتابعه أحد، وأبا نعيم الحجة الثبت، وقال مرة أنه يزاحم به ابن عيينة، وهو على قلة روايته أثبت من وكيع، إلى غير ذلك من الروايات عنه، بل وعن أبي حاتم في توثيقه وإجلاله، فيمكن الجمع بين هذا، وإطلاقهما كما مضى أولاً، عدم الكتابة بأن ذلك في حق من لم يبلغ هذه المرتبة في الثقة والتثبت، والأخذ مختلف في الموضعين” [10] .

الخاتمة:

من خلال ما تقدم خلصت إلى الآتي:

1-أن الأجرة على التحديث هي: أخذ المال من المتعلمين مقابل تبليغ وتعليم الحديث لهم.

2-أن هناك من العلماء  من كان يأخذ  الأجرة مقابل تعليم الحديث وتبليغه خلافا لما كان عليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم .

3-تعرض علماء الحديث في كتب مصطلح الحديث إلى حكم  أخذ الأجرة على التحديث، وأشاروا إلى أقوال العلماء في هذا  الموضوع وهي تنقسم إلى: مذهبين: الأول: الرفض، والثاني: الجواز ، وقد أشرت إلى ذكر بعض هؤلاء في المقال.

4-أن لا تعارض بين المذهبين؛ لأن  المنع إنما بسبب أن أخذ العوض  يمكن أن يجر  طالبه إلى الإكثار من الرواية المفضية إلى الكذب، والجواز محمول على من هو ثقة ثبت له عذر في أخذ العوض كأن يكون فقيراً  مثلا.

****************

هوامش المقال:

[1]–  رواه جمع من الصحابة وهو من الأحاديث المتواترة، وهذا لفظ الترمذي في سننه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه سنن الترمذي (4/ 393)، أبواب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع،  برقم: (2656).

[2]  – سير أعلام النبلاء (10/ 152)، وانظر فتح المغيث (2 /259).

[3]  – أورد ذلك الخطيب ما يفيد ذلك بسنده عن النسائي حين سئل عن عبد العزيز قال: قبح الله علي بن عبد العزيز ثلاثا فقيل له: يا أبا عبد الرحمن أتروي عنه؟ قال: لا أكان كذابا؟ فقال: لا؛ ولكن قوما اجتمعوا ليقرؤوا عليه شيئا وبروه بما سهل وكان فيهم إنسان غريب فقير لم يكن في جملة من بره فأبي أن يقرأ عليهم وهو حاضر حتى يخرج أو يدفع كما دفعوا ” اهـ .الكفاية في علم الرواية (ص: 156) ، وانظر أيضا فتح المغيث (2 /259)

[4]  –  روي ذلك عن أبي العالية كما في الكفاية في علم الرواية (ص: 153 و 154).

[5]  –  ذكر هذه الأقوال الخطيب البغدادي في  الكفاية (ص: 153 – 154).

[6]  –  ذكر هذه الأقوال الخطيب البغدادي في  الكفاية (ص: 154 ).

[7]  –  ذكر هذه الأقوال الخطيب البغدادي في  الكفاية (ص: 155-156).

[8]  –  مقدمة ابن الصلاح (ص: 305).

[9]  –  أخرجه البخاري ي صحيحه (4/ 43) كتاب: الطب، باب: الشروط في الرقية بقطيع من الغنم، برقم: (5737).

[10] – فتح المغيث (2/ 256-257).

***************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ.

الجامع الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي. تحقيق: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي – بيروت ط 1998.

سير أعلام النبلاء. (ج 10) لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي . أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرنؤوط- حقق هذا الجزء : محمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1 / 1402هـ- 1982مـ

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث. لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي. دراسة وتحقيق: د عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرحمن الخضير- د. محمد بن عبد الله بن فهيد آل فهيد. مكتبة دار المنهاج الرياض. ط1/ 1426 هـ.

الكفاية في علم الرواية. لأبي بكر  أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. دار المعارف العثمانية (د. ت).

مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح. د عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. دار المعارف القاهرة 1411هـ- 1990مـ

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق