مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

أحسن الحديث (2): التكافل من خلال سيرة وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم

حث النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم على التكافل والتضامن الإنساني بين أفراد المجتمع، وجعله الرباط المحكم الذي يحفظه من التفكك، وهو القدوة والمثل الأعلى في الدعوة إلى ذلك، ليعيش الجميع في كرامة وأمان وسلام، وينعم المجتمع بالاستقرار بعيدا عن الحقد الطبقي، والصراعات بين الأغنياء والفقراء.

ولأهمية هذا الموضوع  في حياة الناس،  ارتأيت أن أكتب هذا المقال حوله، فأقول وبالله التوفيق:

إن الشريعة المحمدية أرست مجموعة من وجوه ووسائل التكافل المجتمعي منها: وسائل مفروضة وإلزامية للتكافل، وأخرى تطوعية.

 فمن الوسائل المفروضة التي شرعها الإسلام لتحقيق التكافل:

الزكاة :                                                   

إن فريضة  الزكاة هي الدعامة الأولى لبناء التكافل المعيشي بين المسلمين، وقد فرضها الله وأمر أن تؤخذ من مال الأغنياء وتعطى للفقراء، حتى لا يبقى المال محتكرا ومتداولا بين الفئة الغنية؛ فيتحقق التوازن بين الفئتين، يقول الله عز وجل: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم)[1]، كما أن الزكاة تشع روح التكافل بين الناس، وتحقق التضامن بينهم، فالغني يعطي، والفقير يأخذ، فتتقارب الجوارح وتتواصل القلوب، وتطمئن النفوس، فيتحقق الأمن الاجتماعي للفئات المعوزة بموجب شرعي، قال تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) [2].

 قال ابن عباس رضي الله عنهما، حدثني أبو سفيان رضي الله عنه، فذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف[3].

ومن الوسائل التطوعية التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيق التكافل بين أفراد المجتمع:

*إطعام الطعام:

حث النبي صلى الله  عليه وسلم على إطعام الطعام لما له من أهمية اجتماعية لقيام حياة الناس، لأن الإنسان إذا تعرض إلى الجوع، أو نقص في الغذاء تنهار قواه  وتصيبه الأمراض والأوبئة، فلا يستطيع القيام بواجباته الدينية والدنيوية، فضلا عن الإحساس بالظلم، وهو يرى غيره من الميسورين  يملؤون بطونهم بكميات كبيرة مما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة،  فيؤدي هذا إلى انتشار الحقد والغل والكراهة  والبغضاء في المجتمع. ومن الأحاديث الدالة على أهمية الإطعام في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: “اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام”[4]. وجعله من خير الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: “تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”[5].

*الهدية والهبة:

وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تبادل الهدايا ذاكرا دورها في تقوية النسيج الاجتماعي، وإشاعة روح الألفة والمودة بين أفراد المجتمع، قال صلى الله عليه وسلم : ” تهادوا تحابوا”[6].

*الوقف:

حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوقف وجعله من أفضل الأعمال بقوله: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”[7].

*الوصية:

وهي أن يوصي الشخص عند موته بنسبة من ماله لشخص معين، أو جهة معينة، أو جماعة من الناس ..، وهي وجه من وجوه التكافل الاجتماعي، قال الله تعالى : (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف) [8]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم”[9].

*القرض الحسن:

اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم، القرض الحسن الذي يقدمه الإنسان لأخيه الإنسان ليقضي به حاجته وقت الشدة من أعظم أبواب الخير والقربات، لما فيه من المعروف والرحمة بالناس،  وتفريج كرباتهم، ونشر التعاون والتكافل والتعاضد بينهم، فهو من الأمور التي لا يجوز أن يراعي فيها الفاعل غير وجه الله الكريم، فلا يجوز أن يتخذه وسيلة من وسائل الكسب، أو أسلوبا من أساليب الاستغلال، لذلك منع الشرع على المقرض أن يتوخى من وراء قرضه أي منفعة دنيوية إلا منفعة المقترض والتكافل معه، فقال عليه الصلاة والسلام: “كل قرض صدقة”[10]، بل إن ثواب القرض أكبر من ثواب الصدقة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر” فقلت: يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: “لأن السائل يسأل وعنده، والمسقترض لا يقترض إلا من حاجة”[11].

وقال صلى الله عليه وسلم: “من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة”[12] ليتأكد مدى حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على تحقيق التكافل الاجتماعي والإنساني بين المسلمين؛ غنيهم وفقيرهم.

*العطاء الدائم:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة في مجال التكافل، فقد ضمن للمسلم الفقير من خلال توجيهاته ووصاياه الكريمة موارد دخل متنوعة، يقول صلى الله عليه وسلم:”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: وعَّد منها الصدقة الجارية”[13].كما وسع صلى الله عليه وسلم في باب الصدقة، فقال: “كل معروف صدقة”، والمعروف هو كل خير أو عمل طيب يقدمه الإنسان للآخرين وهذا مقدور عليه لكل إنسان،  وإن كانت الصدقة في الأصل بالمال، فأي قدر منه يمكن للإنسان التصدق به مقبول عند اللَّه حتى نصف التمرة كما قال عليه الصلاة والسلام: “اتقوا النار ولو بشق تمرة”[14]، فإن لم يجد الإنسان المال ليتصدق به، فهناك أنواع أخرى من المعروف يقدمها للناس بيَّن بعضها صلى الله عليه وسلم في قوله: “على كل مسلم صدقة”، فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: “يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق” قالوا: فإن لم يجد؟ قال: “يعين ذا الحاجة الملهوف” قالوا: فإن لم يجد؟ قال: “فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة[15].

وهكذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينوِّع  في باب الإنفاق في سبيل الله، بالصداقات، وجميع أنواع الخير،  ليكون كل فرد  من المجتمع مشارك في عملية التكافل والتضامن، فتسود المحبة والمودة بين الناس.

 جريدة المصادر والمراجع:

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج،لمحمد بن علي بن آدم بن موسى الإتيوبي ، دار ابن الجوزي، ط، سنة: 1426 ـ 1436 هـ.

سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي،  تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر. ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف،  مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر، ط2، 1395 هـ ـ 1975 م.

صحيح البخاري  لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي  تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط1، 1422هـ.

المعجم الأوسط،لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق : طارق بن عوض الله بن محمد ‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين ـ القاهرة، 1415.

المعجم الصغير لسليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق : محمد شكور محمود الحاج أمرير، دار عمار ـ بيروت، عمان، ط1، 1405 ـ 1985

الموطأ لمالك بن أنس، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان، ط1 1425هـ ـ2004م.

[1]  التوبة: 104

[2]  الإسراء: 26

[3]   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة،  باب: وجوب الزكاة،(2/104).

[4]   أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الأطعمة، باب ما جاء في فضل إطعام الطعام، رقم: (1855).

[5]   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان،  باب: إطعام الطعام من الإسلام، رقم: (12)(1/12)

[6]   أخرجه الإمام مالك  في الموطأ،   باب: ما جاء في المهاجرة، رقم: (3368) (5/1134)

[7]   أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الوصية  باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم: (1631)(3/1255).

[8]   البقرة: 179.

[9]   البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(28/387)

[10]   أخرجه الطبراني في المعجم الصغيرـ باب من اسمه أحمد رقم(402).

[11]   أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: (6719).

[12]   أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في الستر على المسلم، رقم: (1930).

[13]   أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الوصية  باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم: (1631)(3/1255).

[14]   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة،  باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، رقم: (1417)(2/109).

[15]   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة،  باب: على كل مسلم صدقة، فمن لم يجد فليعمل بالمعروف، رقم: (1445) (2/115).

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق