مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

تأملات قرآنية (2): ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ..﴾

في سورة فاطر آية ما أعظمها من آية، يقول جل ذكره: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (فاطر:2)، وهي آية تدعو إلى نشر الطمأنية في النفوس، من خلال ربط العبد بخالقه لمعرفة غاية وجوده في هذه الحياة. حري بنا تدبرها وتذوق معانيها لتكون بلسما لما نعيشه؛ فالعالم اليوم مضطرب ومتخوف من مرض سار ينتشر بين الناس وضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، وأغلقت المطارات والبلدان، وتوقفت الأعمال، وأغلقت المساجد… وتطالعنا وسائل الإعلام عن إصابات وأرقام مهولة، وتعلن الإحصائيات عن الوفيات. فلا سبيل إلى التعامل في مثل هذه الأوبئة إلا بتدبر كتاب الله، وأن يعلم الإنسان أولا أن الله سبحانه هو أحكم الحاكمين، وأن كل أمر كان فهو بقدر الله سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.

يقول الحق سبحانه في سورة فاطر: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (فاطر، آية2). كلمة «يفتح» وما فيها من معاني العطاء والكرم الرباني، فهو سبحانه لم يقل يعطي فخزائن الله تفتح بعطائه لمن يشاء سبحانه، وقال سبحانه: «للناس»، فلم يخص أحدا دون أحد. هده الآية تتحدث عن معنى بليغ الذي ختم به الآية الأولى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

يقول ابن جزي (ت741هـ): «﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها﴾ الفتح عبارة عن العطاء والإمساك عبارة عن المنع، والإرسال الإطلاق بعد المنع والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خيري الدنيا والآخرة فمعنى الآية: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله، فإن قيل: لم أنث الضمير في قوله فَلا مُمْسِكَ لَها وذكّره في قوله: فَلا مُرْسِلَ لَهُ وكلاهما يعود على ما الشرطية، فالجواب: أنه لما فسر من الأولى بقوله من رحمة أنثه لتأنيث الرحمة، وترك الآخر على الأصل من التذكير مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ رفع غير على الصفة لخالق على الموضع، وخفضه صفة على الرفع، ورزق السماء المطر، ورزق الأرض النبات، والمعنى تذكير بنعم الله»([1]).

وقال ابن عجيبة(ت1224هـ): «ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات، وواردات، وإلهامات، وعلوم لدنية، وحِكَم ربانية، وتعرفات جمالية وجلالية، فلا ممسك لها، بل الله يفتح على مَن يشاء، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة، علامته: عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم، وصَحِبهم، وعظَّمهم، وخدمهم، فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه، وكل مَن نكبه عنهم، ولم يصحبهم، كما ذكر، فقد سُدّ الباب في وجهه عن معرفته العيانية»([2]).

الدروس المستفادة من هذه الآية العظيمة([3]): في الآية معاني كثيرة وفوائد تربوية فلا يتسع المقام لعرضها كلها:

ـ أن العطاء والمنع منه سبحانه، فلا يسوق الخير إلا الله ولا يصرف السوء إلا هو، فإن هذا يوجب التعلق بالله وحده والافتقار إليه وحده، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه، فهذه الآية بلسم لما ما تعيشه الأمة اليوم مع هذا الوباء الكوني (كوفيد19).

ـ أن من مظاهر هذه الرحمات التي أرسلها الله للإنسان أن منحه أشياء ومنع عنه أشياء، ففي المنع رحمة، كما أن في المنح رحمة، فيوم يمنع الله عن العبد شيئا سواء أدرك علة المنع أو لم يدركها إنما ذاك رحمة الله تعالى.

ـ هذه الرحمات الربانية التي أرسلها الحق جل وعز، تجدها في مشاعرك وفي الزمان الذي تعيش فيه والمكان الذي تتحرك فيه؛ فالنعم على تنوع أشكالها وأنواعها رحمة، لكنها تتحول إلى نقمة يوم يمسك الله عز وجل رحمته منها، المحن رحمة وتتحول إلى منح يوم يرسل الله فيها رحمته. وجدها سيدنا إبراهيم عليه السلام في نار، وجدها يوسف في الجب، كما وجدها في السجن، وجدها نبي الله يونس في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه الصلاة والسلام في اليم وهو  طفل ضعيف مجرد من كل قوة، كما وجدها في قصر فرعون وهو يتربص به. ووجدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الغار يوم قال لأبي بكر: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ (التوبة/40)، هذه الرحمات يتلمسها العبد المؤمن، والأمر مباشرة إلى الله وهو العزيز الحكيم.

ـ لذلك فنشر الطمأنية في النفوس، من خلال ربط العبد بخالقه لمعرفة غاية وجوده في هذه الحياة،  إنما يحرر العبد وجدانيا من كل أسباب الخوف.

وختاما أقول إن نشر الطمأنية والثقة والروح وحسن الظن بالله عز وجل في ساعة القلق منهج رباني. ودأب الصالحين فلابد لمن تصدر منبر العلم والدعوة أن يلتزمه لزرع روح المحبة والآمال في نفوس الخلائق. كما جاء في الحديث القدسي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: أنا عند ظن عبدي بي»([4]).

 يقول صاحب المنفرجة الإمام الغزالي:

الشدَّةُ أوْدَتْ بالمُهَجِ … يَا رَبِّ فَعَجِّلْ بالفَرَجِ

 والأنْفُسُ أضْحَت فِي حَرَجٍ … وبِيَدِكَ تَفْرِيجُ الْحَرَجِ

فنسأل الله رب العرش العظيم أن يرفع هذا البلاء عن المسلمين وعن أهل الأرض جميعا. رحماك رحماك رحماك يا كريم اللهم إنا نتوسل إليك باسمك الفتاح وباسمك الأعظم أن تكشف عنا هذا الوباء. آمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

 ([1]) التسهيل لعلوم التنزيل(2/171). الدكتور عبد الله الخالدي، نشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت

([2]) البحر المديد (4/515). أحمد عبد الله القرشي رسلان، نشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة( ط.1419 هـ)

([3]) لخصتها من خلال قراءة مجموعة من التفاسير.

([4])صحيح البخاري، .محمد زهير بن ناصر الناصر. الناشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي). كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿يريدون أن يبدلوا كلام الله﴾).

Science

د. الحسن الوزاني

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق