مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: “الإسلام والمرأة في رأي الإمام محمد عبده” للدكتور “محمد عمارة”

مونية الطراز

كتاب “الإسلام والمرأة في رأي الإمام محمد عبده” للدكتور محمد عمارة، واحد من الكتب القيمة التي حظيت بانتشار واسع وإقبال كبير، بلغ عدد طبعاته سبعا، واختير ليكون حلقة من سلسلة “في التنوير الإسلامي” الصادرة عن نهضة مصر للطباعة والنشر.
وهذه النسخة التي نطالعها اليوم هي أول طبعة للدار بهذا العنوان، أصدرتها سنة 2007م، تحت رقم 79، في حجم صغير وصفحات لا يتجاوز عددها 127 صفحة.
يحتوي الكتاب على مقدمة خاصة ومقدمة منقولة عن الطبعة الثالثة، سُبقتا بإهداء وأُعقبتا بتمهيد لموضوعات الكتاب ومباحثه التي جعلها المؤلف تحت عناوين مستقلة تشكل في مجموعها وحدة يدل عليها عنوان الغلاف.
أما التمهيد، فقد كان مناسبة للمؤلف عبّر فيها عن رأيه في الإمام محمد عبده الذي اعتبره عَلما فذا ومصلحا متميزا، قدّم خدمة كبيرة للفكر الإسلامي، فكان أثره عظيما على أهل العلم والفكر، مثلما عمّ فضله الأمة جمعاء، فالإمام – حسب عمارة – اهتم بمختلف قضايا الأمة ومشاكلها، إلا أنه جعل في مقدمة انشغالاته قضية الأسرة التي كان يعتبرها لبنة مهمة لا بد من تثبيتها ودعمها لتقوية بناء الأمة، وقضية المرأة باعتبارها مصدر قوة هذه اللبنة وأساس البناء المجتمعي.
ونظرا لهذه الأهمية، أولى الدكتور محمد عمارة اهتماما مثيلا بقضايا الأسرة عند محمد عبده، فأفرد هذا البحث لتجلية مواقف الإمام تجاه قضية المرأة، حيث انتقى مسائلها من فكره، وجمعها في موضوعات متناسقة، ثم عرضها على القارئ من غير تحليل ولا نقد ولا نقاش، مكتفيا ببسط ما جمع من آراء الإمام خاما غير مزيد، إلا ببعض التوضيحات وبترتيبه الحسن الذي يقتضيه المقام، ويستدعيه بيان مجهود الإمام في توضيح رؤية الإسلام للأسرة، وتصوره الحقيقي لطبيعة العلاقة بين الجنسين فيها، وموقع المرأة ضمنها.
وعلى سبيل الافتتاح اختار الكاتب الحديث مباشرة عن علاقة الرجل بالمرأة كما يراها الإمام، ومن خلال حديثه، عالج قضية المساواة بين الجنسين، فكشف النقاب عما شاب المسألة من لبس وما لفّها من غموض، وبيّن أن المساواة يجب أن تُفهم وفق طبائع الجنسين المختلفة، إذ الرجل والمرأة سواسية في التكليف وسواء في الحساب، ولا مجال لادعاء التنقيص من أحدهما، هكذا عالج الكاتب الإشكال من منطلق التصحيح صَوْنا للتآلف المطلوب بين الجنسين، فكان وهو يعرض هذه الآراء كمن يحيل على جوهر المشكل ومصدر الكدر في العلاقة، ولم يكن يُحدّث من تلقاء نفسه، وإنما كان يتكلم بآراء محمد عبده في المسألة، وينطق بالإشادة بما توصل إليه من خلاصات غاية في الحكمة، ويحيل على ما قدّم من نظر في الآيات غاية في العمق والدقة، وهكذا نقل أفكارا نيرة مما بُث في كتب الإمام، وفهوما  تشهد بسبقه في التجديد وعلو كعبه في الاجتهاد، وتجعل من فهمه نبراسا يُذهب العتمة التي ضيعت معالم السمو في العلاقة بين الرجل والمرأة.
ومن قضية المساواة انتقل الكاتب إلى قضية أخرى ميّزت نظر الإمام، فكان له فيها رأي سديد وقول مفيد وكلام جامع، خصّه لموضوع الطلاق، وجعله تحت عنوان ” الطلاق بين الإطلاق والتقييد”.
في مدخله إلى بسط رؤية الإمام كشف الكاتب عن حكمة الإسلام في التعاطي مع قضية الطلاق، وبيّن موقفه الحقيقي من فضّ الرباط الذي يجمع الزوجين، وذلك من خلال ما أورده من اجتهاداته في تفسير الآيات ذات الصلة بالموضوع، كما أنه نبّه -وهو يعرض تلك الآراء- إلى أن همّ عبده كان منصبا على آفة الطلاق لما لها من ضرر على تماسك المجتمع وقوّته، كما أن جهده كان يشي –حسب الكاتب دائما- بقوّة الطرح الذي يرجع فضله إلى موقعه المطلع، باعتباره باحثا اجتماعيا متخصصا، جعل من بين انشغالاته البحث عن مخرج لمصيبة الطلاق من خلال اجتهاد إسلامي يحفظ حياة العائلات من الضياع، ويضع حدا للاستهتار الذي لحق بميثاق الزواج، ويرفع الظلم الذي أوقعه انتشار الطلاق في العائلات حتى كاد يودي بحياة الأمة جميعا. فرأي الإمام -حسب الكاتب- أن الطلاق مقيّد في النص بوجوب التحكيم، ذلك أن القرآن الكريم جعل من تدخل “الحكمين” و”القاضي” – الذي يمثل ولي الأمر والدولة- صمّام أمان للأسرة وأمن للمجتمع من شأنه أن يزيح ذلك الشبح المخيف الذي يُهدّد البناء بالانتقاض.
بعد هذه التوضيحات انتقل الكاتب بسلاسة وانسياب إلى موضوع آخر عنوانه ” تعدد الزوجات” فأشاد في مطلعه بموقف الإمام من هذه القضية وأكّد على أن فتواه بشأن تعدد الزوجات ليس لها نظير في موضوعها، ففي اجتهاده –يقول الكاتب- قطع بأن الشريعة الإسلامية علّقت إباحة التعدد على شرط التحقق من العدل بينهن، كما أن في تعليله قطع بأن هذا العدل غير ميسور التحقق، مما يعني وجوب بطلان هذه العادة.
هذا وإن رأي الإمام لا يقف حسب عمارة عند هذا الحد، وإنما يذهب إلى القول بجواز الحجر على الأزواج لاجتناب التعدد ما لم تكن هناك ضرورة تثبت لدى القاضي.
من جهة أخرى قدّم الدكتور محمد عمارة نصوص الأستاذ الإمام عن رأي الإسلام في: “العلاقات الزوجية والمساواة بين الرجال والنساء”، فبيّن أقواله في فوائد المصاهرة، وفسّر كيف تكون سببا حقيقيا لارتباط العائلات، توجب على كل من العائلتين للأخرى مثل ما توجب القرابة النَّسَبية على كل من أعضاء العائلة للآخر، وفي ذلك ما فيه من تقويةٍ للحمة وشدٍّ للبنيان.
وفي علاقة بالموضوع، تحدّث الكاتب عما جاء في أثر الإمام عن حاجة الإنسان إلى الزواج فأكّد على أنه سبيل لحفظ النوع الإنساني، وطريق لتحقيق المصاهرة كما أوضحها.
وتحت عنوان “المساواة بين الرجال والنساء” قدّم الكاتب تفسير الإمام لقوله تعالى:﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (البقرة 228) فبيّن أن هذه الآية تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال، لأن الحقوق بينهما متبادلة وكفاءتهما محققة، وأما قوله تعالى:﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾، فذلك يعني أن على المرأة واجبات، وعلى الرجال واجبات أكثر، ذلك أن هذه الدرجة –في نظر الإمام- تعني الرياسة فحسب والقيام على المصالح، فلا تقوم مصلحة المجتمعين إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إلى رأيه في الخلاف.
وتحت عنوان “القوامة تقسيم للعمل” أوضح الإمام أن القوامة في قوله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء 34) هي قوامة يراد منها الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة، ذلك أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد، فأي تفاضل يعقل بينهما إن لم تكن الدرجة تعني ما جاء في البيان. هذه وجهة نظر الإمام، نقلها الكاتب من آثار محمد عبده، ونقل معها تحذيره للرجال الذين يحاولون -بظلم النساء- أن يكونوا سادة في بيوتهم من خطورة ما يصنعون، وأنهم بما يفعلون إنما يلدون عبيدا لغيرهم.
وفي مبحث سمّاه “ميثاق الفطرة بين الزوجين” عرض الكاتب رأي محمد عبده في تفسير قوله تعالى:﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء 19-21)، هذه الآيات تحمل معان عميقة نقلها الكاتب من بيان الإمام، فكشف عن عمق نظره لسمو العلاقة التي تلبي نداء الفطرة الإنسانية بين الزوجين، وقدّم نُبذا رائقة من أقوال الإمام تنبئ عن وجاهة في فهم الخطاب القرآني، ووعي بمقاصده، وتبصر بحكمته ومراده، وتعكس استيعابه لمنهج القرآن الكريم في إصلاح وضعية المرأة وحفظ كرامتها، فلا أظهر لهذا الوعي المتبصر من شرحه لقوله تعالى ﴿ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ﴾.
بعد هذه النقول والإفادات قدّم الكاتب أقوال الإمام فيما يراه رأي الإسلام في “تقييد حق الطلاق”، ففسر آية التحكيم بين الزوجين الواردة في قوله تعالى:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ (النساء 35)، وهنا أوضح أن التحكيم واجب من واجبات الدولة والمجتمع، حيث يحوز “القاضي” و”الحكمان” سلطات كفلها النص لهما، بمقتضاها يوجهان العلاقة بين الزوجين، ويقضيان بموجبها عند سوء العشرة.
 وإلى جانب حكمة التحكيم، أوضح الكاتب حُكم يمين الإيلاء، وإرجاع الزوج مطلقته كما نقلها من الأستاذ الإمام، ففصّل القول في ذلك وأجاد، ثم توقّف عند أقواله في ضرورة السمو بالعلاقة وما جاء ضمنها من نهي عن الإضرار بالنساء.
وفي الختام قدّم الكاتب نصوص الإمام التي تجمع رأي الإسلام في تعدد الزوجات، وضمّت هذه النصوص فتوى الإمام في المسألة، وهو كلام سبق القول به في مبحث مضى كان يُغنيه الإحالة عليه عن التكرار والإعادة.
هذا ولم تكن خاتمة الكتاب من توقيع المؤلف، ولم تشتمل على ما جرت عليه عوائد المؤلفين، ذلك أن عمارة اختار بذكائه المعهود ما يناسب الختم دون أن يوجّه قلمه بما تجود به كالعادة قريحته، فعرض شرح الإمام لجزء من الآية 237 من سورة البقرة، وهو نص متميّز بما فيه من إشارات قوية لضرورة فهم القرآن الكريم الفهم الصحيح، ولما فيه من عبارات مكتنزة بنبرات الأسى والاستنهاض، تعبّر عما كان يخالج الإمام من مشاعر الاستنكار لما أصاب مسلمي عصره من نكوص وبعد عن روح القرآن وتعاليمه السمحة الكفيلة بتمثين الروابط الزوجية والأسرية وحفظ نظام الأمم.
وتجدر الإشارة إلى أن الكاتب التزم بأمانة النقل كما تعهّد بذلك في المقدمة، إلا أنه كان يحيل على كتابه الذي أسماه “الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده”، ولم يكن يشير إلى كتب الإمام مباشرة، فذلك لو تحقّق لكان فيه خير زائد وفائدة أكبر، فمحمد عبده ليس كغيره من الكتّاب والمؤلفين، ذلك أنه علم برز في معارف متخصصة ونبغ في علوم مختلفة، ولا شك أن لنصوصه سياقات إذا علمت زادت الرأي بيانا والقول حجة، فهو المفسّر ورجل السياسة وعالم الاجتماع والأديب والفقيه، لا يمكن عزل أقواله عن مظانها، وبخاصة إذا كان القارئ باحثا يهمّه التحقيق.
هذا وإن الكتاب وإن خلا من تدخلات الكاتب وتحليلاته، إلا أنه غني بما جمع فيه من نصوص قيّمة للإمام، رتّبت في مباحث ذُلّلت للباحثين، فلم تبق اجتهاداته النيرة منثورة في بطون كتبه ومقالاته، بل أصبحت مشاعا للناس سائغة للطالبين، مضيئة سبل الرشد لمن نشد الهدى والنور المبين، وقَصَدَ التماس مكانة المرأة الحقيقية بين العالمين.
الكتاب جدير بالمطالعة قدّمه العلامة الفقيه محمد عمارة عن شيخه في مدرسة التنوير الإمام محمد عبده رائد النهضة في العصر الحديث وملهم من جاء بعده من المفكرين والمفسرين.

 

نشر بتاريخ 19/03/2012

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق