مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

صون جوارح الإنسان في شهر رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الأخيار المجتبين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.

وبعد؛ فإن الجوارح من النعم العظيمة التي وهبها الله لنا في هذه الحياة الدنيا، ولا يحس بعظم هذه النعم إلا من حُرمها وفقدها؛ ولهذا أوجب الله تعالى علينا حمدها وشكرها، قال تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) ([1]) ، وأنه مهما أحصينا نعم الله عز وجل فلن نحيط بها عدا ولا حصرا، ولن نوفيها حقها ومستحقها، قال تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ([2])، وقد أمرنا سبحانه وتعالى بالمحافظة على هذه الجوارح، وأن الإنسان لا محالة سيسأل عنها قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) ([3])، وأن هذه الجوارح سينطقها الله تعالى فتشهد على الإنسان يوم القيامة، وتحاججه، قال تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) ([4]).

والمقصود بالجوارح الأعضاء السبعة للإنسان وهي: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل؛ ولا شك أن شهر رمضان فرصة جليلة لترويض هذه الجوارح على الخير، ونهيها عن الحرام؛ ذلك لأنه موسم عظيم من مواسم الإقبال على الله عز وجل (أياما معدودات) ([5])، ومناسبة لتجديد صلة العبد بربه الكريم، ومغنم لمن رام الفوز، ونجاة لمن سعى في رضا الغفور الرحمن، يجدد فيه المسلم علاقته بربه، ويصلح فيه أخطاءه، ويحفظ فيه جوارحه كلها، ويجاهد فيه نفسه؛ لأن الصيام ليس فقط هو الإمساك عن شهوة الطعام والشراب والجماع؛ وإنما هو أعظم من ذلك كما قال ابن القيم: “صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكلما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمراته، فتصيره بمنزلة من لم يصم”([6]).

ولأهمية هذا الموضوع أحببت أن أفرده بهذا المقال، أبين فيه كيف يصون المسلم جوارحه في شهر رمضان، ويصونها عن الآثام، فأقول وبالله التوفيق:

صون العين من النظر إلى الحرام في رمضان:

العين نعمة من النعم السابغة التي منَّ الله تعالى بها علينا بفضله وكرمه، بها نبصر الأشياء، ونميز بينها، فلولاها لتعسرت الحياة، وتكدرت الأوقات، قال تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) ([7])؛ ولهذا ينبغي للمسلم الحرص على صونها وحفظها في كل أيامه، وفي رمضان خاصة؛ لأن المحافظة عليها أمر رباني قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) ([8])؛ ولأن إطلاقه يعد نوعا من الزنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر …” ([9])؛ فعلى المسلم أن يشغل عينيه في قراءة القرآن الكريم وقراءة كتب العلماء في هذا الشهر الكريم ليثاب بالأجر العظيم.

صون الأذن عن سماع الحرام في رمضان:

الأذن أيضا من النعم العظيمة التي منَّ الله بها علينا، ووجب شكرها، قال تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) ([10])، وشكرها استعمالها فيما يرضي الله سبحانه وتعالى؛ خصوصا في شهر رمضان المعظم، فلا نسمع بها الحرام من غيبة، ونميمة، وكذب وبهتان، وتجسس على أعراض الناس، والاستماع للأغاني الماجنة … الخ؛ لأن ذلك كله حرام يخدش في كمال صيام المسلم، وقد جاء الوعيد الشديد في ذلك ، وأنه سيسأل الإنسان عن سمعه قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا) ([11])، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الأنك”([12]).

فلنستعمل إذن أسماعنا وآذاننا في هذا الشهر الفضيل في سماع: آيات الذكر الحكيم وأحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والاستماع لدروس العلماء الربانيين… الخ.

صون اللسان عن الغيبة والنميمة والزور في رمضان:

اللسان أيضا من النعم العظيمة منَّ الله بها علينا ووجب شكرها غاية الشكر، قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) ([13])، وشكرها في هذا الشهر الفضيل حفظها من قول الزور، والغيبة، والنميمة، والكذب قال تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا) ([14])، فليس بصائم من أمسك عن كل مفطر في نهار رمضان؛ ولكنه أرسل لسانه في أعراض الناس ينتهكها، ويزور عليهم بها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” ([15]).

صون البطن عن أكل أموال الناس بالباطل في رمضان:

إن التورع عن أكل أموال الناس بالباطل في رمضان وفي غير رمضان أمر وواجب ومطلوب لكل مسلم قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) ([16])، فليس بصائم من أمسك في نهار رمضان عن الأكل والشرب والجماع؛ ولكنه لا يتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، وحوزها بالمكر والخديعة.

صون الفرج من الوقوع في الحرام في رمضان:

إذا كان إتيان الزوجة الحلال نهار رمضان من المحرمات المعلومات؛ فإن إتيان غير الزوجات في رمضان وغير رمضان من أكبر المحرمات، وأشد الذنوب التي تستوجب سخط الله عز وجل؛ إلا من تاب من بعد ظلمه وأصلح قال تعالى : (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) ([17])، ولهذا فقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم لمن يحفظ فرجه من إتيان الحرام الجنة فقال: “من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة”([18]) ، ولذلك على المسلم أن يحفظ فرجه في شهر الصيام من الوقوع في الفاحشة، ويعود نفسه على كبح جماح شهوته ونزوته.

صون اليد من ظلم الناس والرجل من السعي إلى الحرام في رمضان:

لا شك أن جارحة اليد والرجل من أسبغ النعم علينا، فلولاها لاستحالة الحياة علينا، ولذلك ذكر الله تعالى في معرض سخريته من أصنام المشركين الصماء الجوفاء، التي لا أرجل لها ولا أيد فقال: (ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها) ([19])، إن اليد والرجل عنوان على القوة والبطش، والتمكين، فعلى المسلم في شهر رمضان استعمال هاتين الجارحتين في مرضات الله تعالى: من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وإعانة للضعفاء والمساكين في حمل أغراضهم وحمايتهم، والسعي على الأرامل والأيتام … الخ، ولا يستعملهما في البطش، والعدوان، والمنكر.. ؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب كل ما من شأنه أن يخدش الصيام، “أو يذهب بأجره من شجار، وسباب، وقتال .. فقال: “وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب؛ فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم”([20]) .

الخاتمة:

إن شهر الصيام فرصة عظيمة لحفظ جوارحنا من الذنوب والآثام، وحفظها هو حفظ لصيامنا، وحفظ لأجره وثوابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش”([21])، وقال ابن القيم: “والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب، والفحش، وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعا صالحا، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأمن فيها من الزور ،والكذب، والفجور، والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام”([22]).

وأخلص من خلال ما تقدم إلى أن:

1-الجوارح نعمة من النعم العظيمة التي من الله بها علينا، وجب شكرها، وشكرها استعمالها في مرضاة الله سبحانه وتعالى.

2-أن هذه الجوارح المقصود بها سبعة أعضاء: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل.

3-شهر رمضان فرصة لترويض هذه الجوارح على الخير وكفها عن الشر.

4-صون العين في رمضان يكون بحفظها من النظر المحرم إلى العورات، واستعمالها بالمقابل في قراءة القرآن، ومطالعة كتب العلماء.

5-صون الأذن في رمضان يكون بصرفها عن سماع الخنا والفجور، والغيبة، والنميمة، والكذب، والتجسس على أعراض الناس واستعمالها بالمقابل في سماع القرآن والحديث، وفوائد العلماء.

6-صون اللسان في رمضان يكون بكبحه عن قول الزور، والكذب، والغيبة، والنميمة، واستعماله بالمقابل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقراءة كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

7-صون البطن في رمضان يكون بالتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، وأكل الحرام والسحت.

8-صون الفرج في رمضان يكون بحفظه من الوقوع في الحرام والفواحش.

9-صون اليد والرجل في رمضان يكون بمنعهما من ظلم الناس، والتعدي عليهم بأنواع العدوان، واستعمالهما في مرضاة المولى عز وجل من أمر بالخير والمعروف، ونهي عن الشر والمنكر، وحماية المستضعفين والذوذ عنهم …الخ.

والحمد لله رب العالمين.

*******************

هوامش المقال:

([1]) سورة النحل (78).

([2]) سورة النحل (18).

([3]) سورة الإسراء (36).

([4]) سورة النور (24).

([5]) سورة البقرة (184).

([6]) الوابل الصيب (26-27).

([7]) سورة الأنعام (50).

([8]) سورة النور (30).

([9]) أخرجه مسلم (ص: 1226)، كتاب: القدر، باب: قدر على ابن آدم حظه من الزنا برقم: (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([10]) سورة النحل (78).

([11]) سورة الإسراء (36).

([12]) أخرجه أحمد في المسند (4 /90)، برقم:( 2213)، والترمذي في سننه(ص: 407) كتاب: اللباس، باب: ما جاء في المصورين برقم: (1751)، والدارمي في سننه (3/ 1779)، برقم: (2750)كلهم من طريق إلى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ للدارمي وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”..

([13]) سورة الروم (22).

([14]) سورة الحجرات (12).

([15]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 458)، كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور برقم: (1903)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([16]) سورة البقرة (188).

([17]) سورة الإسراء (32).

([18]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 1611)، كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان، برقم: (6474) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

([19]) سورة الأعراف (195).

([20]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 459)، كتاب: الصوم، باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم برقم: (1904)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([21]) أخرجه أحمد في مسنده (14/ 445) برقم: (8856) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([22]) الوابل الصيب (ص: 26).

*****************

لائحة المصادر والمراجع:

السنن لأبي محمد عبد الرحمن بن بهرام الدارمي. تحقيق: حسين سليم أسد الداراني. دار المغني. السعودية ط1/ 1421هـ – 2000مـ.

السنن. لمحمد بن عيسى الترمذي، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، (د.ت).

صحيح البخاري. لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير، دمشق، ط1 /1423هـ- 2002مـ.

صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج. تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي. دار طيبة. ط1 /1427هـ- 2006مـ.

 المسند. لأحمد بن حنبل (ج4)، (ج 14)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، عادل مرشد مؤسسة الرسالة ط1/ 1417هـ- 1997مـ.

الوابل الصيب من الكلام الطيب. لابن القيم الجوزية. تحقيق: سيد إبراهيم. دار الحديث (د. ت).

راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق