وحدة الإحياءدراسات وأبحاثتراث

الصراع على التراث.. أيّ معنى، وأيّ مآلات؟

 كان هناك اختلافٌ كثيرٌ في الفكر العربي الحديث على المفرد أو المصطلح الملائم للتعبير عن الماضي الديني والثقافي للمسلمين والإسلام. ذلك أنّ أصل المفردَين في القرآن؛ أي الميراث والتراث، كلاهما يشير إلى الموروث المادي الذي يتركه المتوفَّى لأولاده[1]. ولذا فإنّ الإصلاحيين والنهضويين، في مصارعتهم لفتح باب الاجتهاد المسدود، اختاروا مصطلح “التقليد” (وليس التراث) للتعبير عن الماضي الديني والثقافي الذي يريدون تجاوُزَهُ إنما لصالح أمرين متلازمين: وضع الاجتهاد والتجديد في وجه “التقليد”، وتأسيس التجديد على مرجعيةٍ مزدوجة، تزعم الاستناد إلى الأصول العربية والإسلامية الأولى مصدراً من جهة، وتستخدم المنهج والطرائق الأوروبية الحديثة  إحالةً وتأويلاً من جهةٍ ثانية[2].

وقد حدثت النُقلةُ إلى مصطلح التُراث في النقاشات التي دارت بين المستشرقين واللغويين العرب الجدد في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين. فقد كان المستشرقون معنيين عنايةً كبيرةً بالميراث العربي المخطوط، والذي لا ينطبق عليه مصطلح “التقليد” الذي ترجموه بـ(Tradition) كما ترجموا الحديث النبويَّ بالمصطلح نفسِه.

 وقد رأى مرغليوث، ووافقه على ذلك، بطرس البستاني، وأحمد شوقي، وأحمد فارس الشدياق، وإبراهيم اليازجي أنّ الموروث المعنوي والثقافي والمادي والحضاري للأُمم ومنها الأمة العربية والإسلامية ينطبق عليه أكثر مصطلح (Heritage) الإنجليزي، وأفضل ترجمةٍ له هي ميراث أو تراث أو موروث[3]. وظلَّ الاستعمال مترجرجاً إذ ما استُعمل إلاّ للتعبير عن الآثار القديمة في العمران أو المدوَّنات المكتوبة التي ما تزال مخطوطة، حتى استقرّ في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. وقد صار وقتَها يعني الموروث الأدبي والثقافي والحضاري المكتوب، دون النصّ الديني.

وعندما اشتدّ الصراع على الموروث في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، جرى وضْع الموروث الديني كلّه في أُفُق التراث. وقد اتفق المتصارعون لأسبابٍ مختلفةٍ بالطبع على النقلة الأخيرة هذه؛ أي أنّ التراث يعني الموروث الكتابي الأدبي والثقافي والديني والشعبي، والحضاري المادي منه، والمعنوي والرمزي[4].

الواقع أنّ تطور مصطلح “التراث” في ظهوره ودلالاته، على مدى حوالي القرن من الزمان، إنما يعبّر في الحقيقة عن مُجريات وتطورات الصراع على السلطة في المجتمع والثقافة والدين والدولة لدى العرب والمسلمين في القرن العشرين. ولستُ من أنصار الحَرْفية أو الحروفية الماركسية التي تعتبر الثقافة والدين تغطيات شفافة أو كثيفة لصراع الطبقات؛ لأنّ للدين والثقافة المكتوبة والرمزية سلطاتٍ حقيقية، تفوق أحياناً سلطة الإرغام السياسي المشروع. ولذا فسأتتبع ظهور الصراع وتطوراته حتى قيام الثورات العربية؛ مستخدماً دائماً عمليتين أو مؤشِّرين: تطور مصطلح التراث واستعمالاته، وتوظيف التراث العربي المخطوط في التدليل على النهضوية الليبرالية أو إسلام الكتاب والسنة وتطبيق الشريعة.

لقد رأيتُ في بحثٍ لي بالمؤتمر الذي أقامه مركز دراسات الوحدة العربية بتونس عن “الدين والدولة في الوطن العربي[5]” أنّ التفكير الإسلاميَّ بالدولة خلال قرنٍ ونصفٍ مرَّ بأربع مراحل، وهو اليومَ في خضمّ المرحلة الخامسة. والذي أراه في هذا التقديم لموضوع التراث المكتوب المخطوط والمطبوع، أنّ العلاقة به باعتباره يتضمن الموروث كله بما في ذلك الدينيَّ منه، مرَّت كذلك بأربع مراحل، ويقع التراث العربي-الإسلامي المكتوب والرمزي اليوم في غمار ومخاض المرحلة الخامسة أيضاً.

 بيد أنّ الذي أزعُمُهُ  أنّ “الصراع على التراث” بمعنى المشاركة في الصراع على المجتمع والدولة والثقافة ما بدأ حقاً إلاّ في المرحلة الثالثة من مراحل التعامُل معه. ولذا فسأُوجزُ المرحلتين الأُوليين من التفكير بالتراث باعتباره تفكيراً في العلائق بالمجتمع والدولة، لأفصّل بعض الشيء في المرحلتين الثالثة والرابعة، ثم لأُحاول الدخول أو استشراف مآلات المرحلة الخامسة التي تقع أمتنا في غمارها، بسبب محاولات تياراتٍ معينةٍ للاستئثار والتغول على الأمة ودينها وتراثها.

 في المرحلة الأولى من مراحل التفكير بالتراث العربي المخطوط الديني والتاريخي، وسلطته أو قوته وحجيته، يقع الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي (1883م)[6] الذي مضى مع بعثةٍ من الحكومة المصرية إلى باريس حيث قضى خمس سنوات (1826-1831م)، واكتشف بثقافته الأزهرية التقليدية المخطوطات العربية لدى أستاذه المستشرق الفرنسي “سلفستر دي ساسي” (1758-1838م)، الذي سار مع النهضويين الأوروبيين في إنسانويات عصر النهضة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وحاول شأن المستشرقين الأوروبيين الآخرين اكتشاف روح الأمة العربية والإسلامية عبر تراثها المخطوط، مثلما اكتشفت أوروبا ذاتها في الموروثين اليوناني والروماني[7].

وقد أخذ الطهطاوي الأمر ببساطة، فاستخدم المخطوطات التي أكسبه “دي ساسي” الوعْيَ بها في كتاباته كلّها، في السياق ذاته، أو السياقات المشابهة التي استخدم فيها ما رآه في باريس، أو ما قرأهُ في دستور فرنسا، أو تنظيماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فكما نشر النهضويون والإنسانويون الأوروبيون وعياً وحدوياً وتنويرياً اعتبروا أنه يستند إلى التاريخ والفكر والمؤسسات اليونانية والرومانية، والتي اصطنعوا أساليب ومناهج لنشر موروثها المخطوط، فكذلك فهم الطهطاوي ومعاصروه أنه يمكن القيام بالعملية ذاتها، تجاه التراث العربي[8]، وبمساعدة المستشرقين والتعلُّم منهم.

وللعرب والمسلمين ميزة على الأوروبيين؛ فالأوروبيون عندما يُقبلون على الميراث اليوناني والروماني، إنما يتهربون وينفصلون عن الموروث المسيحي الذي تصارعوا معه خلال قرون، وحقّقوا استقلالاً اعتبروه تاماً عنه بالثورة الفرنسية. أما الطهطاوي ومُعاصروهُ فما رأوا داعياً للانفصال عن موروثهم الديني، بل اعتبروه بين مستحثات النهوض. فلا مشكلة في الموروث الديني أو معه، وإنما المشكلُ في إدارة الدولة. وقد خاض العثمانيون، وخاض محمد علي بمصر، ثم خاض التونسيون محاولاتٍ ومشروعاتٍ إصلاحية فينبغي دعمهم فيها. وقد أدغم الطهطاوي وزملاؤه مثل علي مبارك وحسين المرصفي الموروث الإسلامي في نصوصهم التربوية للغرض ذاته[9]. بينما استظهر خير الدين التونسي في مقدمته على “أقوم المسالك” وجود تفكير فقهي أو ديني مستنير في مسألة “المصالح” يمكن استخدامه في عمليات النهوض وإنشاء المؤسسات[10].

وبدأت المرحلة الثانية بجمال الدين الأفغاني (1839-1897)، ومحمد عبده (1849-1905). وعنوان هذه المرحلة: النهوضُ من طريق الإصلاح الديني والإصلاح السياسي. وقد ركّز جمال الدين على المعنوي والرمزي في الموروث والغائر أو كما يقول المغاربة: القارّ؛ بينما اهتمّ محمد عبده بالنص الديني، وإعادة القراءة والتفسير، وبالتراث المخطوط والنشر والتحقيق والتوظيف. وقد استخدم الأمرين: القراءة الأُخرى، ونشر مخطوطات معيَّنة، لمصارعة التقليد، وللتشجيع على اعتناق النهضوي والإصلاحي والجديد. ولو تأملْنا كتاباته ونشراته التراثية لتبيَّنَ لنا المشروعُ ذو الجانبين: مصارعة التقليد، والتأسيس للنهوض.

 فقد كتب عبده خططاً إصلاحيةً للمحاكم الشرعية، وللأوقاف، والأزهر. وأنشأ جمعيات خيرية ذات أبعاد تنموية وتعليمية، بنت المدارس، وبنت الجامعة الأهلية المصرية. وكتب في تفسير القرآن لثلاثة أغراض: الدعوة لفكرة السُنَن والشروط في نهوض الأُمم وانحطاطها، والدعوة لمصارعة التقليد، والخروج من إسار اللغويات والكلاميات التي أساءت لروح القرآن ودعوته. أمّا المخطوطات؛ فإنّ ما نشره محمد عبده منها أو شجَّع على نشره، يدلُّ على إدراكه العميق لإنسانويات ونهضويات أوروبا في القرن التاسع عشر.

 فقد شجَّع على إعادة نشر الموافقات للشاطبي (790ﻫ)، الذي وجده منشوراً بمطبعة الدولة بتونس عام 1884. وكان قصده من وراء ذلك ضرب التقليد من طريق فكرة مقاصد الشريعة، وضروريات المصالح الخمس لبني البشر. وأقبل على التعليق على نهج البلاغة وإعادة نشره، ونشر المخصَّص لابن سيده وهو معجمٌ كبيرٌ لأسماء الأشياء. وكتب “رسالة التوحيد” سعياً لتطوير علم كلامٍ جديد. وشجّع أحمد شوقي، وأحمد تيمور، وقاسم أمين، وعبد العزيز جاويش، وآخرين على المشاركة في مؤتمرات المستشرقين ببحوثٍ تُراثية ولغوية وتاريخية[11]. ونحن نعرف الدور الإنسانوي والنهضوي للفيلولوجيا والتاريخانية في ذلك الزمان. وكما ظهر في جيل محمد عبده وتلامذته هذا الاستخدام أو التوظيف للتراث، في مجالات المعنوي والرمزي والفقهي والفيلولوجي من أجل إعادة الاكتشاف، والتجديد والتنوير والنهوض، ظهرت أمائرُ التجاذُب على الدولة وطبيعتها انطلاقاً من الموروث التاريخي والنصّي. فقد تجادل عبده مع فرح أنطون بشأن طبيعة الدولة في الإسلام. وكان فرح أنطون، اللبناني الأصل والمصري الإقامة، قد رأى استناداً إلى فهم “أرنست رينان” لتجربة ابن رشد وكتاباته، أنّ أمر الاجتماع حتى في عالم الإسلام لا يصلح إلاّ بفصل الدين عن الدولة. وجادله عبده بأنه لا حاجة لذلك في عالم الإسلام؛ لأنه ما كان هناك صراعٌ في التجربة التاريخية الإسلامية بين الدين والدولة، بخلاف ما آل إليه الأمر في أوروبا الوسيطة بين الكنيسة والدولة، وبين الكنيسة والعلم[12].

 والواقع أنّ عدم ظهور النزاع بين الدين والدولة في عالم الإسلام، ما كان سببه فقط الطبيعة المدنية لنظام الحكم فيه؛ بل وأيضاً لأنّ النُخَب الدينية، رغم مستجدات القرن التاسع عشر، ما ظهرت لديها مطامح في السلطة.

  بيد أنّ المرحلة الثالثة بدأت بانفجار في مجال علاقة الدين بالدولة على خلفية الموروث التاريخي والنصي والرمزي. فقد فصل مصطفى كمال بتركيا الخلافة عن السلطنة عام 1922، ثم ألغى الخلافة عام 1924. فقامت ضجةٌ كبرى في الشعر والنثر والخطابة والتأليف استمرت لأكثر من عقد. ويبقى الأبرز كتابان؛ مقالات رشيد رضا التي نشرها بمجلة المنار بعد فصل الخلافة عن السلطنة عام 1922، وجمعها بعد ذلك في كتاب بعنوان: “الخلافة أو الإمامة العظمى”، وكتاب علي عبد الرازق؛ “الإسلام وأُصول الحكم” (1925). أما محمد رشيد رضا فيقول بالدولة الدينية في الإسلام مخالفاً بذلك توجُّهاته على مدى عشرين عاماً. وأما علي عبد الرازق فيقول بمدنية الدولة، ويمضي أبعد من محمد عبده عندما يذهب إلى أنّ دعوة النبي كانت دعوةً دينيةً، ولا تتضمن أية أبعادٍ سياسية[13]. أما الخلط الذي جرى فيما بعد فيعود لاستتباع الخلفاء والسلاطين للدين ورجالاته لتقوية شرعيتهم. وقد ردَّ عليه كثيرون حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، لكنّ الردود كانت كلّها عقائدية؛ إذ كان عبد الرازق هو آخِرُ من استخدم التاريخ والنصوص والأدبيات والفقه وعلم الكلام في مناقشة قضية الخلافة.

ما علاقةُ قضية الصراع على الدولة بالتُراث والموروث الثقافي والديني، المخطوط وغير المخطوط؟ ليست لها علاقةٌ مباشرة. لكنّ موجةً غلاّبةً انطلقت لتُثبت أنّ الإسلام يمتلك مذهباً سياسياً أو منهجاً في الحكم. وقد ذهب لذلك عشراتٌ من المثقفين المدنيين بطرائق واعية أو  غير واعية، مثل كُتُب العقّاد في العبقريات، وكتب طه حسين الإسلامية، وكتب محمد حسين هيكل في “النبي وصاحبيه”. ويختلف هؤلاء في مقارباتهم عن علي عبد الرازق في قولهم إنّ الإسلام يملك نظاماً للحكم، لكنه نظامٌ مدنيٌّ وديمقراطي ومتنوّر وعادل.

في حين انصرفت نُخَبٌ دينيةٌ ومتدينةٌ إلى إقامة أحزابٍ وحركاتٍ لصَون الهوية وتربية الأجيال الجديدة بمعزلٍ عن التغريب، فكانت حركات الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، والجمعية الشرعية وأنصار السنة بمصر، والشبيبة الإسلامية ببلاد الشام. وأصرَّ حزب التحرير الإسلامي الناشئ بفلسطين والأردن على استعادة الخلافة. وبذلك صار الصراع على الدولة صراعاً أيضاً على امتلاك الموروث الديني والثقافي، وهو  صراعٌ مختلفٌ عن الصراع بين التجديديين والتقليديين.

فقد كان الإحيائيون الجدد مهتمين بالهوية بطرائق مختلفة عن طرائق التقليديين. وكانوا يرون أنّ أولئك أساليبهم بالية، وأنهم لا يتذوقون حلاوة الدين التي يوشك الغرب أن يُفسدها على المسلمين. ونوازع الهوية نوازع عقدية ورمزية. ولذا فقد بدأوا بالتفكير بالاستيلاء على الماضي كله وإلحاقه بالدين وتقديسه لاستخدامه في السطوة والسيطرة. وهكذا ما عاد السؤال هو سؤال النهضويين؛ أي كيف نتقدم؟ بل صار: كيف نصون هويتنا؟![14].

 ولكي لا نُطيلَ كثيراً أودُّ أن أضع محطّات أساسية لثقافة الانفصال الجديدة هذه، والتي شرعنت لمسألة النظام الإسلامي الكامل، والمنفصل والمتفوق على كل ما عداه. المحطات ثلاث: محطة التصارع على طبيعة السلطة في النصف الأول من العشرينات. ومحطة ظهور كتابَي عبد القادر عودة: “التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي” (1947)، وكتابه الآخر: “الإسلام وأوضاعنا السياسية” (1949). والمحطة الثالثة هي محطة ظهور كتاب سيد قطب: “معالم في الطريق” (1964)[15].

  إنّ الطريف أنه في الوقت الذي كانت فيه ثقافةُ الانفصال والقطيعة والتأصيل هذه تستعلي؛ فإنّ مصر شهدت ازدهاراً للنشر التراثي، وشهدت نهوضاً في قراءات التراث قراءاتٍ نهضوية، وشهدت مشروعات ثقافية كبرى. كما شهدت مصر أيضاً مدرسةً كبرى في الفقه الدستوري والقانوني أفادت منها سائر الدول  العربية.

وبهذا المعنى فإنّ أهل النشر والتحقيق الأكاديمي بالجامعة المصرية ودار الكتب (القسم الأدبي، وقسم التراث) فمعهد المخطوطات بالجامعة العربية، ومجمع  اللغة العربية بدمشق، إضافةً لحيدر أباد الدكن، هم الذين حقّقوا هذا التواصُل بين المرحلتين الثانية والثالثة ذواتي النزوع النهضوي والتنويري في تأمل التراث ونشره، بينما انصرف الإسلاميون إلى استخراج العقائديات من الكتاب والسنة، وإلى كتب النُذُر والنشوريات بعد الحرب الثانية، وإلى مكافحة ثقافة التغريب وإلى اشتراع الأنظمة الشاملة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

لقد اهتمّ الصحويون الإسلاميون بالموروث النصي الديني، وأرادوا امتلاكه لمصارعة المؤسسات الدينية التقليدية، والسواد في المجتمع والدولة؛ بينما أقبل الفيلولوجيون  وذوو التوجهات الثقافية المعتدلة على التراث المخطوط ينشرونه نشراتٍ علميةً، ويدرسونه في نطاق العصر والزمان. وهكذا فقد كانت المرحلة الثالثة هذه في أحد وجوهها صراعاً على الموروث وليس على التراث. فما كان من همّ الصحويين الإسلاميين نشر المخطوطات، بل كان همُّهم الاستيلاء على الرمزي وعلى حياة الناس الأخلاقية والمعيشية. كما كان همُّهم بناء النموذج الإسلامي الجديد. بينما كان الأساتذة الأكاديميون الكبار منصرفين إلى نشر المخطوطات ودراستها اعتزازاً بالاحتراف لهذه الناحية، واعتقاداً منهم أنّ هذا التراث المخطوط هو عماد الحضارة، والأساس في كتابة تاريخ ثقافيٍّ لهذه الأمة[16].

 ولا يعني ذلك أنّ كلاً من الطرفين لم يكن واعياً بما يفعله الآخر. والدليلُ على ذلك أنه بدخول المرحلة الرابعة، والتي انصرف خلالها إسلاميو النظام الكامل إلى مصارعة أنظمة الاستبداد، انصرفت الأجيال الجديدة من المثقفين والمهجوسة بالتراث باعتباره مستنَدَ سطوة الإسلاميين الأول، ورأس المال الذي يحدّد جدول الأعمال الثقافي والديني والسياسي؛ إلى إنجاز المشروعات الضخمة في محاولاتٍ لتحريرنا من التراث والإسلام والقرآن، أو تحرير القرآن منا! وكان السلفيون والتقليديون من بين ذوي الثقافة الدينية، هم الذين استمروا بالعناية بنشر هذه المخطوطة الدينية أو تلك، أما الإسلاميون الآخرون، وعلى رأسهم المسيَّسون منهم، فقد تغيرت أجنداتهم تماماً، وصاروا مهتمين بتطوير النظام الذي يصلون بواسطته للسلطة.

وبالإضافة إلى أطروحة الاقتصاد الإسلامي، هُناك أُطروحات مواجهة العلمانية والتغريب والغزو  الثقافي، ومواجهة الفساد، وإنتاج الملفات القومية والإسلامية. لقد كان الجميع منشغلين بالإسلام، لكنّ المهجوسين بالتراث جاء انشغالهم لكبح جماح الإسلاميين، أمّا المهجوسون بالإسلام، فقد انطلقوا باستقامةٍ باتجاه استلام السلطة، تفويضاً أو فتحاً. وقد خشيَ ذلك الحاكمون وحذَّروا منه. وما صدّق المثقفون إمكان حدوثه وإن كتبوا ضدَّه[17].

  وهكذا، وفي المرحلة الرابعة، لا يمكن الحديث عن الصراع على التراث إلاّ تجوُّزاً. فقد كان اليساريون والليبراليون يدرسون التراثيات دراسةً تفكيكية. أمّا الإسلاميون فما كانوا معنيين بغير الاستيلاء الثقافي والسياسي بصدامٍ أو بدوم صدام مع السلطات إنْ أمكن. وقد تركوا النصوص التاريخية، والانفتاح على اليساريين والليبراليين، واثقين بقوة رمزية العقائدي وسطوته وحصريته، وسخط الجمهور و”قرفه” من الأوضاع السائدة. لقد صار “التراث” هو الدين نفسه، وأيّ مجادلةٍ فيه، صارت مجادلةً في حجية الدين، وحجية الكتاب والسنة.

أيُّ معنى للتراث اليوم؟ وأيُّ معنى للصراع عليه؟ وما هي مآلاتُ الصراع؟ نحن اليومَ في خضمّ المرحلة الخامسة من مراحل التعامُل مع التراث من مواقع التنازُع  والسطوة والامتلاك. وبواسطة هذا الامتلاك يمكن امتلاك الدولة والمجتمع. فباسم النظام الكامل والإسلام هو الحلّ وتطبيق الشريعة، تحاول مجموعات الإسلام السياسي، كسْبَ هذه الجولة من جولات الصراع. والصراع ليس على الموروث الفكري والثقافي والتقليدي.. الخ. بل هو على الدين نفسه، كما هو على الدولة ذاتها. فقد تمدَّد المقدَّس في الوعي والممارسة وتجمَّد. والإسلاميون يُخرجون رمزياً وفعلياً الشريعة من حضن المجتمع، ويضعونها في أيديهم، ويعدون الناس باستعادة دينهم المخطوف (من جانبهم هم) إذا وصلوا للسلطة.

  لقد قلتُ في كتابي” الصراع على الإسلام” عام 2005 إنه صراعٌ على الموروث، وعلى روح الدين وسلطته، وبين ثلاث فئات: الأميركيين، والأنظمة العربية والإسلامية والمؤسسات الدينية التابعة لها- والجهاديين والإسلاميين المتربصين[18]. والمشهد جديدٌ اليوم، لكنّ المجتمعات التي أَنتجت هذه الثورات الشابة والمدنية لن تقبل استئثاراً مستجداً بالشأن العام، كما لن تقبل الاستئثار بدينها أو  التسلُّط باسمه.

لقد بدأ التراث الديني والثقافي مُحايداً في عمليات المُثاقفة وصُنْع الجديد السياسي والاجتماعي. ثم جرى استحثاث رجال الدين أو  العلم الإسلامي على دعم السلطة في مشروعاتها الإصلاحية، وقد حصل ذلك حتى باستعمال الموروث المخطوط. وفي المرحلة الثالثة ظهر الصراع على التراث بين مشروعين للدولة، يريد أحدهما دولةً إسلاميةً عقائدية، ويريد الآخَرُ دولةً مدنيةً ديمقراطية.

 والطريف أنّ الليبرالي هو  الذي استخدم الموروث المخطوط وعمل عليه تحقيقاً ونشراً وتوظيفاً. أما الإسلامي فقد اهتمّ بالعقائديات، والرمزيات، والإنتاج الجديد في مجالات النظام الكامل. وفي المرحلة الرابعة، مرحلة تثبيت مقولات النظام الكامل وتطبيق الشريعة والإسلام هو الحلّ، ما عاد هناك مجالٌ واهتمامٌ بغير مصارعة الأنظمة باسم الإسلام للوصول للسلطة. ومن سوء الحظّ أنّ الأساتذة الأكاديميين كانوا آنذاك منهمكين في تطوير مشروعات لتحريرنا من الإسلام، أو تحرير الإسلام منا وإنْ تحت عناوين قراءة التراث قراءاتٍ نقديةً و تفكيكية.

إنّ الذي يجري اليومَ في ظل الإسلام السياسي، هو تجاوُزٌ للتراث الديني والثقافي، وتجاوُزٌ للتاريخ، وتجاوُزٌ للسكينة والوحدة الدينية والشعورية. ولذا يكون من الضروري حماية الدين من التسيُّس في زمن الثورات وسائر أزمنة التغيير. وهذه مهمةٌ فوَّتها شيوخ المثقفين بحجة الخوف من الدين، لكنّ آخرين لم يخافوا وهم يحاولون السيطرة على الناس باسم الموروث الديني. فيكون علينا اليوم وغداً القيام بالمُتاح وغير المُتاح حتى لا يؤول الأمر بالمجتمعات والنُخَب إلى كراهية الدين والتراث بسبب القهر  والمعاناة نتيجة الاستئثار بالنصّ والمقدَّس، والاستبداد الديني، وهو أسوأ أنواع الاستبداد.

أمامنا فرصةٌ بسبب الحراك الجاري لإنجاز أمرين اثنين في مجال التراث: نشر المخطوط منه أو إعادة نشره لاستحداث وعيٍ مُختلفٍ به يتيح التواصُل والتمكين من القراءة أو إعادة القراءة، والانغماس في تحصيل مفاهيم منفتحة ومتعددة للتاريخ الثقافي والفكري من طريق الدراسة المتقصية والمستقصية، التي تُزيل  الحُجُبَ من حول السلطة  التي تريد تقديس الموروث لتتقدَّسَ به وتَخْلُد: ﴿وما كان الله ليُضيعَ إيمانكم، إنّ الله بالناس لرءوفٌ رحيمْ﴾ (البقرة: 142).

الهوامش


[1]. القرآن الكريم: سورة الفجر: 19، وسورة مريم: 6. وقارن بلسان العرب (ورث). وانظر أكرم ضياء العمري: التراث والمعاصرة، سلسلة كتاب الأمة (1986)، ص26-27، ومحمد عابد الجابري، التراث والحداثة. مركز دراسات الوحدة العربية (1991)، ص21-23، وعلي أومليل، في التراث والتجاوُز، بيروت والمغرب: المركز الثقافي العربي، 1985.

[2]. قارن بجميل صليبا: المعجم الفلسفي، (بيروت، 1971)، م2، ص571، ومعجم العلوم الاجتماعية (مجموعة أساتذة)، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص139-140.

[3]. قارن بأكرم ضياء العمري، التراث والمعاصرة، مرجع سابق، ص29، وفهمي جدعان: نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أُخرى، عمان: دار الشروق، 1985، ص16، وأحمد محمد سالم: إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر، مصر: رؤية للنشر، 2010، ص34-36.

[4] . قارن على سبيل المثال، صلاح قنصوه، فلسفة العلوم الاجتماعية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1987، ص234، وبرهان غليون، اغتيال العقل، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986، ص150، ومحمد أركون: الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1987، ص10، ومحمود أمين العالم: الوعي والوعي الزائف، القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1989، ص68.

[5]. رضوان السيد، الدين والدولة في زمن الثورات، المنظور النهضوي ومطالبه، بمجلة المستقبل العربي، العدد 406، ديسمبر 2012، ص23-38.

[6]. تعرض الطهطاوي للمسألة في ثلاثةٍ من كتبه على الخصوص، تخليص الإبريز في تلخيص باريز (1834)، ومناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية (1847)، والمرشد الأمين للبنات والبنين (1872).

[7]. يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، نقله عن الألمانية عمر لطفي العالم، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2001، ص205-209، وزكاري لوكمان، تاريخ الاستشراق وسياساته، ترجمة شريف يونس، القاهرة: دار الشروق، 2007، 130-135.

 Suzanne L. Marchand: German Orientalism in the Age of Empire. Religion, Race and Scholarship, Cambridge University Press. 2009. PP. 15-25, 356-366.

[8]. قارن برضوان السيد: “النشر التراثي العربي: الأصول والاتجاهات والدلالات الثقافية؛ في التسامح، م 27، 2009، ص373-392؛ ورضوان السيد: “الأيديولوجي والمعرفي في تحقيقات التراث العربي وقراءاته”؛ في (تحرير عبد الإله بلقزيز)، المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص139-144، وشتيفان ليدر: “الاستشراق ونشر التراث العربي: الاتجاهات النهضوية والسياقات الفكرية والثقافية”؛ بمجلة التسامح العمانية، م 27، 2009، ص393-406.

[9]. لاحظتُ أنّ  الطهطاوي نقل في عددٍ من كتبه فصولاً كاملةً عن كتبٍ تراثيةٍ مثل” تحفة الترك” للطرسوسي، “وعيون الأثري في المغازي والسير” لابن عبد البر، و”تاريخ ابن خلدون. وكذلك فعل علي مبارك مع الخطط للمقريزي. واستعمل المرصفي تاج العروس، ومؤلفات لغوية واصطلاحية أُخرى. وقارن بمقالتي: “التراث العربي وتراث الآخر، التاريخ والوعي والنتائج”؛ في: مستقبل التراث. تحرير فيصل الحفيان. معهد المخطوطات العربية، 2011، ص43-61؛ وبخاصةٍ ص 54-55.

[10]. قارن بمقدمة المنصف الشنوفي على خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تونس: الدار التونسية، 1972، ص49-53. وانظر رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، مراجعات ومتابعات، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997، ص243-246.

[11]. تبدو جهود عبده النهضوية والنشرية في الجزء الثالث من الأعمال الكاملة التي نشرها محمد عمارة في ستة أجزاء (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (1972-1974)، والجزء الثالث بعنوان: الإصلاح الفكري والتربوي.

[12]. قارن بفهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العصر الحديث، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981، ص118-122. وانظر نصوص محمد عبده المنشورة في مجموعة: الإسلام مع العلم والمدنية، دمشق: دار المدى، 2002. وانظر أيضاً عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ص48-52.

[13]. علي عبد الرازق، ومحمد الطاهر بن عاشور، ومحمد الخضر حسين: جوار وردود حول الإسلام وأصول الحكم، تقديم رضوان السيد، بيروت: جداول للطباعة والنشر والتوزيع، 2011، ووجيه كوثراني: الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبّان الثورة الكمالية في تركيا، بيروت: دار الطليعة، 1996. وفهمي جدعان: “نظريات الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر” في: الأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي. ندوة من تحرير غسان سلامة، مركز دراسات الوحدة، 1989، م1، 107-138. وانظر رضوان السيد وعبد الإله بلقزيز، أزمة الفكر السياسي العربي، دمشق: دار الفكر، 2001.

[14]. قارن برضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997، ص157-223، ورضوان السيد في: أزمة الفكر السياسي العربي (مع عبد الإله بلقزيز)، م، س، ص14-22.

[15]. قارن عن ذلك برضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، م، س، ص157-200.

[16]. أنظر عن المشروعين الأكاديمي والتأصيلي العقائدي تجاه التراث؛ رضوان السيد: “الأيديولوجي والمعرفي في تحقيقات التراث العربي وقراءاته”؛ في بلقزيز (محرر)، المعرفي والأيديولوجي.. م، س، ص141-144، ومقالتي؛ “النشر التراثي العربي” بمجلة التسامح العُمانية، عدد 27 (2009)، م، س، ص383-392. وانظر عن أطروحة التاريخ الثقافي العربي؛ رضوان السيد: “الأيديولوجي والمعرفي”، م، س، ص145-148، ورضوان السيد، “التراث العربي وتراث الآخر…”. في: مستقبل التراث (تحرير فيصل الحفيان)، م، س، ص57-60.

[17]. انظر عن قراءات التراث العربي من جانب المثقفين اليساريين، رضوان السيد، “المعرفي والأيديولوجي في تحقيقات التراث العربي وقراءاته”؛ في: المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص151-167، وأحمد محمد سالم: إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر، دراسة نقدية مقارنة بين حسن حنفي وعابد الجابري، م، س، 146-208، ونايلة أبي نادر، التراث والمنهج بين أركون والجابري، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، 2008، ص470-508.

[18]. رضوان السيد، الصراع على الإسلام، الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، بيروت: دار الكتاب العربي، 2005، ص12-15، 218-234.

د. رضوان السيد

 أستاذ الدراسات الإسلاميةـالجامعة اللبنانية  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق