مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي «الترابط بين آيات الوصية وبداية سورة النساء» الحلقة الثانية والعشرون

 من الإعجاز البياني في إحكام النظم القرآني أن آيات الوصية بالميراث ترتبط بمطلع السورة الكريمة التي افتتحت بالأمر بتقوى الله عز وجل وهو رأس الأمر كله «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»[النساء:1] وتذكير الناس بأنهم خلقوا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء،وتكرار الأمر بالتقوى مرتبطا بما على الناس من مسؤوليات اتجاه الأرحام، وختمت الآية بما يتناسب مع مساءلة الناس بتقوى الله والأرحام مع ما سيأتي من أحكام وتشريعات في السورة بقوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»[1].

فآية المطلع جاء الخطاب فيها بــ «يَا أَيُّهَا النَّاس» ليشمل جميع أمة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان، فضمير الخطاب في قوله «خلقكم» عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن، أي لئلا يختص بالمؤمنين، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفار العرب وهم الذين تلقوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأن الخطاب جاء بلغتهم، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم، فلما كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر، نودي جميع الناس، فدعاهم الله إلى التذكر بأن أصلهم واحد، إذ قال «اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد، فالمقصود من«التقوى» في«اتَّقُوا رَبَّكُمُ» اتقاء غضبه، ومراعاة حقوقه، وذلك حق توحيده والاعتراف له بصفات الكمال، وتنزيه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات،وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية، فكانت بمنزلة الديباجة، وأما «التقوى» في قوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ» فالمقصد الأهم منها: تقوى المؤمن بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال، ثم جاء باسم الموصول«الَّذِي خَلَقَكُمْ»الإيمان إلى وجه بناء الخير، لأن الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتقى، ووصل«خلقكم» بصلة «مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقه بالاعتبار، وفي الآية تمهيد لما سيبين في هذه السورة من الأحكام المرتبة على النسب والقرابة.[2]

وقد كان الربط بين تقوى الله عز وجل مرة أخرى والوصية بالأرحام في قوله تعالى:«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» للتأكيد على أن الأرحام عند الله عز وجل بمكان عظيم، وقد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام [3] وقد دل التكرار البياني المعجز لتقوى الله عز وجل، والأمر الثاني بتقوى الله للمسلمين خاصة، لأن مراعاة حقوق الأرحام مما وصى به الله ورسوله المؤمنين بخلاف الأمر الأول فهو عام لجميع البشر، مؤمنهم وكافرهم، وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة، وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي الإتيان باسم الموصول، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب، ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصلة دون سبق إجمال، فقيل: الذي خلقكم من نفس واحدة وبث منها رجالا كثيرا ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة. [4]

كما تتجلى روعة البيان القرآني في آيات الوصية؛ في اختيار الكلمات مع أنه يمكن في العرف العادي التعبير ببدائل متنوعة لهذه الكلمات؛ لكن الاختيار القرآني للكلمات له دلالته المتعاضدة لبيان المراد، فقد عبر النظم الكريم بــ: «يوصيكم» بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال: «يوصيكم» بالاسم الظاهر، أي: «الله» ولم يقل: نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء [5]

وأول ما يلفت النظر أن هذه الصيغة الكريمة«يوصيكم الله» لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في شأن توصية الآباء بالأبناء، بينما جاءت توصية الأبناء بالآباء ثلاث مرات كما يأتي:«وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون»[العنكبوت:8] «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير»[لقمان:14] «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين»[الأحقاف:15] ولا شك أن في هذا لفتا للأبناء بمزيد من الاهتمام ببر آبائهم وأمهاتهم ولفظ«يوصيكم الله» فمن أول الأمر يبين سبحانه أن هذا التشريع صادر منه عز وجل، فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم والأقرباء وأقاربهم، والنظام كله مرده إلى الله سبحانه فما على المسلمين إلا التسليم والامتثال والتنفيذ بمنتهى الدقة والعدل والحذر، كما أن التعبير بــ اسم الجلالة يلقي ظلالا من المهابة والجلال [6]

والتعبير بلفظ«يوصيكم» له ملحظ لغوي رصين، فالوصية كما يقول الراغب الأصفهاني: «تقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية: متصلة النبات»[7] فما أدق التعبير هنا بـ «يوصيكم» حيث ناسب هذا اللفظ الممزوج بالوعظ والإرشاد «ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله: «يوصيكم» لأن الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدة صلاحه، ولذلك سمي ما يعهد به الإنسان فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت وصية»[8] وهكذا فإن التعبير بــ «يوصيكم» أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب حصوله بسرعة، وهذا الشأن بالوصية من قديم؛ فإنها لأهميتها يحرص المؤمنون على تنفيذها بأقصى سرعة [9]

والخطاب في قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ»[النساء:11] للمؤمنين، وإيثار الآية الكريمة حرف الجر«في»لما فيه من معنى الوعاء، أليس الوالدان بمثابة الوعاء للأولاد؟ كأن الوصية هنا مظروفة  في شأن الأولاد لشدة تعلقها بهم كاتصال المظروف بالظرف، ومجرورها محذوف، قام المضاف إليه مقامه، لظهور أن ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصية، فتعين تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء، وتقديره: في إرث أولادكم، والمقام يدل على المقدر على حد حرمت عليكم أمهاتكم، فجعل الوصية مظروفة في هذا الشأن لشدة تعلقها به واحتوائه عليها.[10]

ومن عدله سبحانه قال:«يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» ولم يقل:«بأولادكم»؛ «لأنه أراد العدل فيهم والتحذير من الجور عليهم وجاء باللفظ عاما غير مقصور على الميراث أو غيره»[11]

وقال عز وجل«في أولادكم»ولم يقل «في أبنائكم»، لأن لفظ الولادة هو الذي يليق بمسألة الميراث ففي تخصيص هذا اللفظ فقه وتنبيه، أما الفقه فإن الأبناء من الرضاعة لا يرثون لأنهم ليسوا بأولاد، وكذلك الإبن المتبني لأن الولد لا يكون إلا من صلب أو بطن، غير أن لفظ الأولاد يقع على الذكور والإناث حقيقة فلذلك عدل عنه إلى لفظ الأبناء في آية التحريم وأما في آية المواريث فجاء بلفظ الأولاد تنبِيها على المعنى الذي يتعلق به حكم الميراث وهو التولد.[12]

ومن دقة النظم البياني المعجز أنه آثر التعبير عن حظ النساء في الإرث بقوله عز وجل:«فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» ولم يقل«أكثر من اثنين»؛ ومعنى فوق اثنين أكثر من اثنين، ومن معاني«فوق» الزيادة في العدد، وأصل ذلك مجاز، ثم شاع حتى صار كالحقيقة[13]

وعلى مستوى الجمل والأساليب فقد اشتملت الآيات الكريمة على لطائف بديعة، ومن ذلك: قوله تعالى:«يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» وما بعدها وقعت تفصيلا وبيانا على طريق الاستئناف البياني لأحكام المواريث المجملة في قوله تعالى:«لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا»[النساء:7]

حيث ذكر عز وجل في الآية استحقاق الرجال والنساء الميراث من غير تقييد، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث، وشفاء العليل بإيضاح أمرها، مستأنفاً في جواب «من» كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته، والتحذير من الضلال في آخرها، «يوصيكم الله» أي بما له من العظمة الكاملة والحكمة البالغة، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال: «في أولادكم» أي إذا مات مورثهم.[14]

كما تم تقديم الخبر على المبتدأ في قوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ» للاهتمام بشأنه، وللتنبيه من أول الأمر على أن الذَّكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى [15] إلا أنه تعالى بدأ بالذَّكر كما ضوعف حظه؛ لأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث، وهو السبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به.[16]

كما أن تصدير الكلام بالذَّكر في قوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ» لما فيه من مراعاة لشعور المخاطبين، وتلطفا بهم، وكان يمكن أن يقال:«للأنثى نصف حق الذكر أو للأنثيين مثل حظ الذكر» لكنه آثر«هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهم من حظ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظها في أول ما يقرع الأسماع قد علم أن قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات، [17] فحظ الذكر عبر عنه بــ «مثل» فكأنه فرع عن النص الواضح في«حظ الأنثيين».

وبعد أن بين عز وجل الأصل في إرث الأولاد في قوله تعالى: «للذكر مثل حظ الأنثيين» أعقبه تقسيم الفروع عن الأصول فقال تعالى: «فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» وذلك من الجمع ثم التفريق مع حسن التقسيم، فالجمع في قوله تعالى:«يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ»والتفريق في قوله تعالى«لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ» ثم تلاه بعد حسن التقسيم بين ما فرق وأضيف لكل ما يلائمه من أحكام في قوله تعالى: « فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ»والفرق خلاف الجمع، فرقه يفرقه فرقا وفرقه، وقيل: فرق للصلاح فرقا، وفرق للإفساد تفريقا [18] وقال المدني:«التفريق في اللغة ضد الجمع لا الاجتماع كما وهم ابن حجة، وضد الاجتماع إنما هو الافتراق لا التفريق» وفي اصطلاح البديعيين هو «إيقاع تباين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره» [19] وقال السكاكي: « وهو أن تقصد على شيئين من نوع فتوقع بينهما تباينا» [20] كما قال ابن أبي الأصبع المصري في باب التفريق والجمع؛ هو أن يفرق المتكلم بين كلامين مرتبطين متلاحمين بكلام يتلو به الأول من كلامه يوهم السامع أنه غير مرتبط ليفيد بذلك معنى لا يفيده الكلام لو جاء على مقتضى وضع النظم وترتيبه، ثم يعود فيجمع ما تفرق من الكلام بما كان يجب أن يقدم لتأهيله، لنفع الأول وملاءمته له، وارتباطه به  وكونه في الظاهر لا يصلح أن يجاوره غيره»[21] كقوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ»[الأنعام: -41-42-43] كما تحدث الخفاجي عن صحة التقسيم وقال:«أن تكون الأقسام المذكورة لم يخلَّ بشئ منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها تحت بعض»[22]  كما تحدث قدامة عن صحة التقسيم، قال:«وصحة التقسيم أن توضع معان يُحتاج إلى تبيين أحوالها فإذا شرحت أتى بتلك المعاني من غير عدول عنها، ولا زيادة عليها ولا نقصان منها»[23] ومعلوم أن الأحكام إذا عرضت بأسلوب الجمع ثم التفريق مع حسن التقسيم، تكشف المعاني للمتلقي، وتشد انتباهه لتأملها، فتصل به إلى التطبيق لوضوحها وجلائها، وهذا الأسلوب وجه من وجوه ترابط النظم في البيان القرآني [24]

ولا يقتصر الترابط في البيان القرآني على الجمل في الآية الكريمة، بل يمتد إلى ارتباط كل مقطع من الآية الكريمة بمطلعها الذي هو أصل الوصية في قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» والدلالة على ذلك، أن قوله تعالى« فَإِن كُنَّ نِسَاء» معطوف بالفاء على قوله:«يُوصِيكُمُ اللّهُ »التي تفيد الترتيب مع التعقيب، فعقب النظم الكريم بعد التفصيل في حق الأولاد مجتمعين، التفصيل في حق البنات إن انفردن بالإرث ولم يكن معهن ذكر، والعطف يصير الجمل كحكم الجملة الواحدة في المعنى[25]

كما يمتد الترابط البياني في قوله تعالى:«فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ»[النساء:11] إلى وحدات الجملتين الداخلية، في كونهما جملتين شرطيتين مقترنين بالفاء في الجواب، وقد أشار الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله إلى ما يحققه الشرط من الترابط بين الجمل إذ إنه يحقق ذلك من مجموع الجملتين، لا في كل واحدة منهما على الانفراد، وبَيّن فساد المعنى فيما لو جعلا شرطين فقال:« واعلمْ أنَّ سبيلَ الجُملتين في هذا، وجعْلَهما بمجموعهما بمنزلةِ الجملةِ الواحدةِ، سبيل الجزءينِ تُعْقَدُ منهما الجملة، ثم يُجْعَل المجموعَ خبراً أو صفةً أو حالاً، كقولك: «زيد قام غلامه»و «يزيد أبوه كريم» و «مررت برجل أبوه كريم» و «جاءني زيدٌ يَعدو به فرسه»، فكما يكون الخبر والصفة والحالُ لا محالةَ في مجموعِ الجزأين لا في أحَدهما، كذلك يكون الشرْطُ في مجموعِ الجملتين لا في إحداهما، وإذا علمت ذلك في الشرطِ، فاحْتذِه في العطفِ، فإِنكَ تجدُه مثلَه سواء» [26]

ينتقل النظم الكريم إلى حكم آخر، وهو التفصيل في قسمة الأبوين، إذ إنه سبحانه لما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال: «ولأبويه» أي الميت، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل: «لكل واحد منهما» أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين «السدس مما ترك» ثم بين شرط ذلك فقال: «إن كان له» أي الميت «ولد» أي ذكر، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي بعد الفروض حق عصوبة.[27]

وتتجلى البلاغة القرآنية في الترابط البياني بين المفردات اللغوية في التعبير عن قسمة الأبوين، في قوله تعالى:«لأبويه» إجمال استدعى تشويق السامع لمعرفة القسمة في حق الأبوين، ثم فصل الإجمال بقوله تعالى: «لكل واحد منهما السدس» وفي ذلك تأكيد للمعنى في ذهن السامع؛ لأن «إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك فإذا ألقي كذلك تمكن فيها فضل تمكن وكان شعورها به أتم»[28]

ثم إن قوله تعالى: « لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ» بدل من«لأَبَوَيْهِ» وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس، لكان ظاهره اشتراكهما فيه، ولو قيل:ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها، فإن قلت: فهلا قيل:ولكل واحد من أبويه السدس: وأي فائدة في ذكر الأبوين أوّلا، ثم في الإبدال منهما؟ قلت:لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير.[29]

وقد كان تعبير النظم القرآني في غاية الإيجاز والترابط عن الحالات المختلفة في بيان حصة الأبوين، إذ كان بثلاث جمل شرطية، أفادت الترتيب مع التعقيب، والترتيب المعجز فيها؛ أنها تدرجت في ترتيب حالات الميراث من الأكثر إلى الأقل، فالحالة الأولى: « إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ » وهو الحال الأكثر في الوجود أن يكون للميت ولد، وجواب الشرط محذوف دل عليه السياق تقديره «فلأبويه السدس» وقد دخلت «الواو» على الجملة البادئة لأحكام الأبوين« وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ» لتدل على حكم آخر من أحكام الإرث، وهو إرث الأبوين إن شاركهما الأولاد، ومع ذلك فإن المعنى متصل بما قبله ضمنيا، فقوله تعالى:«إن كان له ولد» يشير إلى الاتصال والترابط بين الحكمين، ثم عطف الحال الثانية بالفاء؛ ليدل على الحال الأقل في الوجود«فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ» وليس له إخوة، وانفرد أبواه بالإرث، والجواب:« فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ» وقد دخلت الفاء على جواب الشرط؛ لتفيد معنى الانتقال إلى الشيء المهم والتركيز عليه، وهو حق الأم، ثم عطف الحال الثالثة بالفاء أيضا: « فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ» وهذه الحال لا تقل عن الحال الثانية كثيرا في الوجود؛ لكن النظم الكريم قرن بها الفاء؛ ليرتب الأحوال في تقسيم الإرث بين الأبوين والأولاد، واقترن الجواب في الحال الثالثة أيضا بالفاء في قوله تعالى:«فَلأُمِّهِ السُّدُسُ» تركيزا على حصة الأم، وفي التركيز على حصة الأم في النظم الكريم دلالة على اهتمام الشرع بحق المرأة في الإرث أُمَّا أو زوجة أو أختا. [30]

ويضاف إلى المعاني السابقة أن في هذا الختام البديع ردا للعجز على  الصدر [31] فا الله عز وجل لما قال في مطلع الآية الأولى: «يُوصِيكُمُ اللّهُ»[النساء:11] أراد أن يختم الأحكام بمثل ما بدئت بقوله:«وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ»[النساء:12]  ليرتبط أول الكلام بآخره، وآخره بأوله، فيتأكد المعنى ويتقرر في ذهن السامع، فأوله« يُوصِيكُمُ اللّهُ » الذي له الأمر وبيده من قبل ومن بعد، وآخره تأكيد على أنه«وصية من الله » فليس لكم إلا نفاذ وصيته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] بلاغة الوصية في سورة النساء دراسة أسلوبية، عائشة حسين مصطفى بارودي، مجلة العلوم العربية والإنسانية، جامعة القصيم، المجلد الإلكتروني «1»العدد«4» أبريل 2023، ص:1516.

[2] تفسير التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، 4/215 .

[3]نفسه 4/217.

[4] نفسه4/216.

[5] البحر المديد، أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي،

المحقق: أحمد عبد الله القرشي رسلان،الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة،الطبعة: 1419 هـ 1/471.

[6] آيات الميراث في القرآن الكريم دراسة بيانية، أحمد الرقب، ص: 29-30

[7] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، دار النشر / دار القلم ـ دمشق 2/519.

[8] التحرير والتنوير 4/256 .

[9] آيات الميراث في القرآن الكريم دراسة بيانية، أحمد الرقب، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، المجلد الخامس، العدد 3، 143هــ، 2009م، ص: 30.

[10] التحرير والتنوير، 4/257.

[11] الفرائض وشرح آيات الوصية، السهيلي1/28.

[12]نفسه،1/34.

[13] التحرير والتنوير4/258.

[14] نظم الدرر، برهان الدين البقاعي5/203.

[15] التحرير والتنوير 4/257

[16] تفسير الكشاف، جار الله الزمخشري، 1/480.

[17] التحرير والتنوير 4/257.

[18] لسان العرب 10/299.

[19] أنوار الربيع في أنواع البديع، صدر الدين المدني، الشهير بابن معصوم1/323.

[20] مفتاح العلوم، يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي، دار الكتب العلمية بيروت، ص:425.

[21] بديع القرآن، ابن أبي الأصبع المصري،2/313 .

[22] سر الفصاحة، ابن سنان الخفاجي، ص:235 .

[23] جواهر الألفاظ، قدامة بن جعفر،تحقيق، محمد محيي الدين عبد الحميد،  ص:6.

[24] بلاغة الوصية في سورة النساء دراسة أسلوبية، عائشة حسين مصطفى بارودي،  مجلة العلوم العربية والإنسانية، جامعة القصيم، المجلد الإلكتروني،1 العدد4 ، شوال 1444هـ /أبريل2023م، ص:1524.

[25]نفسه، ص:1525.

[26] دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ت: محمود محمد شاكر أبو فهر، الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة – دار المدني بجدة، الطبعة:الثالثة 1413هـ – 1992م، ص:246.

[27] نظم الدرر 5/205.

[28] الإيضاح في علوم البلاغة، جلال الدين القزويني، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل بيروت، ص: 196.

[29] الكشاف 1/482.

 [30] بلاغة الوصية في سورة النساء دراسة أسلوبية، عائشة حسين مصطفى بارودي،  مجلة العلوم العربية والإنسانية، جامعة القصيم، المجلد الإلكتروني،1 العدد4 ، شوال 1444هــ /أبريل2023م، ص:1526-1527.

[31] التحرير والتنوير 4/267.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق