مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

مسائل العقيدة في فقه الإمام مالك

 

أولا:اتجاه مالك الاعتقادي:

عرف عن الإمام مالك اشتغاله بالرد على أهل الأهواء من الفرق المنحرفة- إلى جانب اشتغاله بالفقه- منطلقا من اعتقادات أهل السنة والجماعة،ولذلك لما سئل من أهل السنة؟

 قال:الذين ليس لهم لقب يعرفون به،لاجهمي،ولارافضي،ولاقدري[1] .

ولقد أداه اهتمامه بموضوع العقائد الصحيحة في الإسلام إلى تأليف رسالة،هي رسالته إلى ابن وهب في القدر والرد على القدرية،وهو من خيار الكتب في هذا الباب الدالة على سعة علمه بهذا الشأن، قال ابن وهب:سمعت مالكا يقول:إن المرجئة أخطأوا،وقالوا قولا عظيما[2].

وقال أيضا:توبة القدري ترك ما عليه[3] .

ويقوم اتجاه مالك الإعتقادي على مقومات ثلاثة[4]:

الأول:التصديق والإقرار بما جاء به القرآن،وما ما ثبت من صحيح السنة والآثار،والتسليم بالمتشابه من غير تأويل،مع التنزيه عن الظاهر،قال الوليد بن مسلم:سألت مالكا عن هذه الأحاديث،فقال :اقرأوها كما جاءت،فقيل له:إن ابن عجلان يحدث بها،فقال :لم يكن من الفقهاء.[5]

الثاني:الرد على الشبه الكلامية بالأدلة الشرعية قرآنا وسنة،والابتعاد عن المراء والجدال

الثالث:التأكيد على وحدة الفكر الإسلامي في مواجهة نصوص الإسلام الإعتقادية لأهل الأهواء،فالجدل في الدين يذهب بنور العلم من القلب ويقسيه[6]،وقلة الآثار تؤدي إلى ظهور الأهواء،يقول مالك- رحمه الله- 🙁 ما قلت الآثار في قوم إلا ظهر فيهم الأهواء،ولاقلت العلماءإلا ظهر في الناس الجفاء)[7]

ثانيا: آراء الإمام مالك في مسائل العقيدة:

 أثر عن الإمام مالك أقوال كثيرة في مجال العقيدة، منها:

1- قوله في الإيمان: قال القاضي عياض: قال غير واحد: سمعت مالكا يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض، قال ابن القاسم: كان مالك يقول: الإيمان يزيد، وتوقف عن النقصان، وقال: ذكر الله زيادته في غير موضع، فدع الكلام في نقصانه، وكف عنه[8].

2- قوله في الإستواء،قال سفيان بن عيينة:سأل رجل مالكا عن قوله تعالى:(الرحمن على العرش استوى)[9]  كيف استوى؟

فسكت مالك مليا حتى علاه الرُّحَضاء[10]،وما رأينا مالكا وجد من شيء وجده من مقالته،وجعل الناس ينظرون ما يأمر به،ثم سري عنه،فقال :

 الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة،والإيمان به واجب،وإني أظنك ضالا،أخرجوه

فناداه الرجل:يا أبا عبدالله،والله الذي لاإلاه إلا هو ،لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة والكوفة والعراق،فلم أجد أحدا وفق لما وفقت له[11].

3- قوله في القرآن: قال ابن أبي أويس: قال مالك: القرآن كلام الله،وكلام الله من الله، وليس من الله شيء مخلوق[12].

4- قوله في رؤية الله تعالى:قال القاضي عياض – رحمه الله تعالى-:قال ابن نافع وأشهب:قلت يا أبا عبدالله ( وجوه يومئد ناضرة إلى ربها ناظرة)[13] ينظرون إلى الله؟

قال نعم: بأعينهم هاتين.

فقلت له فإن قوما يقولون :لاينظرون إلى الله،إن ناضرة بمعنى منتظرة إلى الثواب.

قال :كذبوا،بل ينظرون إلى الله،أما سمعت قول موسى – عليه السلام- ( رب أرني أنظر إليك)[14] ،أفترى موسى سأل ربه محالا؟فقال الله: لن تراني في الدنيا، لأنها دار فناء، ولاينظر ما يبقى بما يفنى، فإذا صاروا إلى دار البقاء، نظروا بما يبقى إلى ما يبقى وقال الله ( كلا إنهم عن ربهم يومئد لمحجوبون[15])[16] .

5- وفي مجال التقديس والتنزيه قال ابن العربي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى(هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)[17].

قال ابن القاسم: قال مالك: لايحد ولايشبه.

ثالثا:موقف الإمام مالك من الفرق الكلامية.

قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول: من قرأ( يد الله ) وأشار بيده،وقرأ (عين الله) وأشار إلى ذلك العضو منه، يقطع تغليظا عليه في تقديس الله وتنزيهه عما أشبه إليه[18]، وشبهه بنفسه، فتعدم نفسه وجارحته التي شبهها بالله [19].

قال ابن القصار وغيره: مذهب مالك وجوب النظر وامتناع التقليد في أصول الديانات،[20]

وقال القرافي : أنكر مالك رواية أحاديث أهل البدع من التجسيم وغيره[21]،

ولذلك قال للسائل عن الكيفية في الاستواء:والسؤال عنه بدعة،ومراده أنه  لم تجر العادة في سيرة السلف بالسؤال عن هذه الأمور المثيرة للأهواء الفاسدة،فهو بدعة.[22]

وقد حكى القرافي أنه رأى لأبي حنيفة رضي الله عنه جوابا بالكلام كتب إليه مالك : إنك تتحدث في أصول الدين، وإن السلف لم يكونوا يتحدثون فيه، فأجاب بأن السلف – رضي الله عنهم- لم تكن البدع ظهرت في زمانهم، فكان تحريك الجواب عنها داعية لإظهارها، فهو سعي في منكر عظيم، فلذلك ترك، قال: وفي زماننا ظهرت البدع فلو سكتنا كنا مقرين للبدع، فافترق الحال.[23].

ونشير إلى  أن أبا الحسن الأشعري تكلم عن هذه القضايا، ولكن بأسلوب علماء الكلام، وآراؤه فيها هي آراء الإمام مالك – والتي هي أراء علماءالسلف – وأدلته فيها تشبه الأدلة التي استند إليها الإمام مالك، فهو يقول في باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة ( قال الله تعالى :[ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة] يعني رائية… ولايجوز أن يكون عنى نظر الانتظار، لأن النظر إذا ذكر مع الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه… ومما يدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار قول موسى  -عليه السلام – [رب أرني أنظر إليك]ولا يجوز أن يكون موسى عليه السلام الذي ألبسه الله تعالى جلباب التبيين وعصمه بما عصم به المرسلين، فيسأل ربه ما يستحيل عليه، وإذا لم يجز على موسى فقد علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا وأن الرؤية جائزة على ربنا عز وجل)[24]. ومثل هذا كثير في القضايا العقدية التي تكلم عنها أبو الحسن الأشعري رحمه الله.

والخلاصة أن الإمام مالك تكلم في أمور العقيدة، ولكن على طريقة السلف رحمه الله، وإن كان يستحسن ابتداءًً عدم الخوض فيها، قال مالك – رحمه الله-:( الكلام في الدين كله أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهون القدر، ورأي جهم، وكل ما أشبهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحب إلي السكوت عن هذه الأشياء، لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل.)[25].

الهوامش:


[1]– ترتيب المدارك ج 2 ص44.

[2]– ترتيب المدارك ج1 ص84.

[3]النوادر والزيادات ج14ص 540.

[4]الموطآت :نذير حماد ص 276.

[5]– ترتيب المدارك ج2ص44.

[6]– سير أعلام النبلاء:الذهبي ج8ص 95.

[7]-تزيين الممالك بمناقب سيدنا الإمام مالك :السيوطي ص37.

[8] ترتيب المدارك ج2 وقال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة ( الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح،يزيد بزيادة الأعمال،وينقص بنقصها،فيكون فيها النقص وبها الزيادة ) الرسالة ص20.

[9]– سورة طه الآية 5.

[10] الرحضاء هو عرق يغسل الجلد لكثرته،وكثيرا ما يستعمل في عرق الحمى والمرض انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج2ص208.

[11]– التمهيد ج7ص 138.- تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك السيوطي ص19.- النوادر والزيادات ج14ص – فتح الباري ج13ص406.

[12]– ترتيب المدارك ج1ص82. وقال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة ( القرآن كلام الله ،ليس بمخلوق فيبيد،ولاصفة لمخلوق فينفذ) الرسالة ص18.

[13]-سورة القيامة الآية 22.

[14]– سورة الأعراف الآية 113.

[15]– سورة المطففين الآية 15.

[16]– ترتيب المدارك ج2 ص 42.- البيان والتحصيل ج18ص478.

[17]– سورة الحديد الآية 3.

[18]– قال ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات ( ولاينبغي لأحد أن يصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه،ولا يشبهه كذلك بشيء،وليقل :له يدان كما وصف به نفسه،وله وجه كما وصف به نفسه،تقف عند ما في الكتاب ،لأن الله سبحانه لامثل له،ولاشبيه له،ولانظير له.) النوادر والزيادات ج14ص 553.

[19]– قال ابن العربي وهذه غاية في التوحيد  أحكام القرآن:ابن العربي ج4 ص 1740.

[20]– الذخيرة: القرافي ج13ص 231.

[21]– الذخيرة: القرافي ج 13 ص234.

[22]– الذخيرة ج 13 ص243.

[23]– الذخيرة ج13ص243.

[24]– الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري ص13/15[7]

[25]– ترتيب المدارك ج3ص171. – جامع بيان العلم ابن عبدالبر ج2ص.116.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق