مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (1)

ذ. عبد الرحيم السوني.

باحث بمركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك.

 

لما كان كتاب الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم هو دستور المسلمين في كل مناحي حياتهم الدينية والدنيوية، الظاهرية والباطنية، الفردية والجماعية…، ولما كانت أمور هذه الحياة لا تستقيم إلا إذا استمد الإنسان المسلم القيم والمبادئ والعلوم الموجهة لحياته من القرآن الكريم بالدرجة الأولى والسيرة النبوية بالدرجة الثانية، فإن هذه العلوم لا تكون علوما نافعة إلا إذا استمدت أسسها ومناهجها وغاياتها ومقاصدها  والقيم الداعية إليها من القرآن الكريم، باعتباره كتابا إلهيا سماويا صالحا لكل زمان ومكان ومحيطا بكل الظروف والمستجدات.

ويعتبر علم تفسير القرآن الكريم من العلوم الرئيسية التي تقرب مقاصد الله تعالى لعباده، وتجعلها عبارة عن مشروع حياة حية وواقعية؛ لذا فقد اجتهد المسلمون قديما وحديثا من أجل تحقيق هذا القصد، فكان كل واحد منهم يفسر القرآن بما يراه مناسبا بحسب تخصصه واهتمامه، فنتج عن ذلك وجود أنواع كثيرة من التفسير، كالتفسير اللغوي أو البياني، والتفسير الفقهي، والتفسير العلمي، والتفسير الإشاري الذي هو موضوعنا في هذه المناسبة، وغيرها من أنواع التفسير الأخرى.

وكلما كان هذا التفسير أو ذاك صادرا عن إنسان مسلم كابد وجرب وتحقق مما يقول، كان تفسيره عبارة عن خطاب حي و نافذ في قلوب المستقبلين له، وخير مثال على ذلك التفاسير الصوفية التي كتبت بقلوب أصحابها الذين خبروا آيات الله تعالى وتحققوا بها وتخلقوا بالأخلاق الداعية إليها، وهي أخلاق إسلامية أصيلة مستمدة من روح القرآن الكريم ولذلك فهي صالحة لإصلاح حياة المسلم عقديا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا وقيميا….

مع هذه القيمة التأولية والعملية لفهم آيات الله تعالى التي امتاز بها التفسير الصوفي لا يمكن ـ وبأي حال من الأحوال- الجزم بأن هذا التفسير هو عين مراد الله تعالى، كما لا يمكن الجزم بأن التفسير اللغوي أو غيره هو المقصود أيضا، وهي مسألة وضحها الأستاذ حسن عباس زكي في مستهل تعليقه على كتاب “لطائف الإشارات” حيث قال: «(أما بعد) فإن القرآن كلام الله، وكلام الله صفته النفسية والصفة تدل دلالة واضحة على الموصوف، وكما أن الموصوف وهو الحق سبحانه وتعالى لا تدرك حقيقته فكذلك صفته… لهذا وقفنا أمام كلام الله القديم إنما يفسره المفسرون بلغتنا العربية المحدثة بناء على مدركات عقولهم البشرية، واللغة العربية من صنع المخلوق المحدود عن كلام الله وصفته التي لا تحدها الحدود. وإذا كان أساطين اللغة والأدب يرون أن اللغة على كثرة مترادفاتها، وضخامة معاجمها، وغزارة ما تحتويه من ألفاظ، واحتشاد تراثها بالمجازات والكتابات عاجزة عن التعبير عن مشاعر الإنسان وأحاسيس البشر، فإنها ـ والقياس غير جائز ـ لَعَنْ تحديد المراد من كلام الله وقرآنه أعيى وأعجز. ومن هنا كان القرآن حمالا لوجوه عدة من المعاني، وكان أمرا طبيعيا ما يتجدد فيه كل يوم من فهوم، وستظل تلك المعاني تتجدد إلى ما شاء الله، وسيبقى القرآن معها كما هو لا تبلى جدته ولا يكشف عن حقيقة مراده  (إلى أن قال:) فلا نقول كما يقول البعض إن التفسير الظاهري وحده هو المقصود كما لا يرى أهل التحقيق أن تفسيرهم وحده هو المراد لأن القول بالتفسير وحسب تحديد (لكلام الله) غير المحدود، وإخضاع القرآن للغة التي مقياسها العقل المحدود، والوقوف في تفسير كلام الله عند العقل المحدود عقال عن الانطلاق فيما وراء الغيوب، وإغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها لأنها لا تخضع لمقاييسه وإنما تخضع لشيء آخر فوقه وتدرك بلطيفة أخرى سواه»[1].

كما ألف الشيخ محمد متولي الشعراوي تفسيرا كبيرا، استهله بكلام يؤكد نفس الأمر، بل إنه ذهب فيه أبعد من ذلك حيث قال: «خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرا للقرآن .. وإنما هي هبات صفائية .. تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات.. ولو أن القرآن من الممكن أن يفسر.. لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره.. لأنه عليه نزل وبه انفعل وله بلغ وبه علم وعمل.. وله ظهرت معجزاته. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. اكتفى أن يبين للناس على قدر حاجتهم من العبادة لله سبحانه وتعالى.. التي أنزلها في القرآن كمنهج لحياة البشر على الأرض.. أما الأسرار المكتنزة في القرآن حول الوجود، فقد اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما علم منها.. لأنها بمقياس العقل في هذا الوقت لم تكن العقول تستطيع أن تتقبلها وكان طرح هذه الموضوعات سيثير جدلا يفسد قضية الدين ويجعل الناس ينصرفون عن فهم منهج الله في العبادة إلى جدل حول قضايا لن يصلوا فيها إلى شيء»، وهذا يعني أن القرآن متسع لكثير من الفهوم والتفاسير، بشرط أن تكون هذه التفاسير منضبطة بضوابط الشرع الإسلامي وقواعد التفسير العامة.

 

 


[1] ـ لطائف الإشارات للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، تحقيق د. إبراهيم بسيوني، ط الأولى، 1969، دار الكتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، ج1، ص: 17ـ18.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق