مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

محرم وفاء بالعهد بعد الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن في شهر الله: محرم، يدبر الحجاج إلى ديارهم، بعد مضي موسم الحج، وانقضاء المناسك، وأداء الحجيج ما فرض الله تعالى عليهم من الشعائر، وفق ما أخذوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه مسلم[1]، من حديث جابر رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»؛ فأحرموا، وطافوا طواف القدوم، وسعوا بين الصفا والمروة، وارتووا، ووقفوا بعرفة، وباتوا بمزدلفة، ورموا جمرة العقبة، وأهدوا وتحللوا، وطافوا طواف الإفاضة، ورموا الجمرات، وطافوا طواف الوداع، وزاروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد، وسلموا عليه، وصلوا في مسجده، فالصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، كما في حديث: أبي هريرة رضي الله عنه، فيما أخرجه الشيخان[2]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام».

إن بلوغ أماني الحجاج بزيارتهم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك أدائهم مناسك الحج، كما بينها نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يرفثوا، ولم يفسقوا، فعسى الله تعالى أن يبلغ أمانيهم، فيتقبل الله تعالى منهم، فيرجعوا إلى ديارهم بحج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور، لما أخرجه الشيخان[3]، من حديث: أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»، ومن تسنى له غفران السيئات، فجزاءه الجنات، كما في: الصحيحين[4]، من حديث: أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».

ولتحقق هذا المبتغى، ونيل أسمى المراد، بدخول الجنان برحمته سبحانه وتعالى، فلابد من وفاء الحاج بما عاهد الله تعالى عليه، لما استلم وصافح وقبل الحجر الأسود؛ ذلك أنه يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح الركن، فقد بايع الله ورسوله[5]، ويجدد البيعة، التي مضت في الأزل، ويلتزم الوفاء بالعهد الذي قطعه لما أشهد على نفسه بوحدانية رب العباد، حين كان في صلب آدم، فقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «الركن – يعني الحجر – يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه مصافحة الرجل أخاه، يشهد لمن استلمه بالبر والوفاء، والذي نفس ابن عباس بيده، ما حاذى به عبد مسلم يسأل الله تعالى خيرا إلا أعطاه إياه»[6]، ولذلك فإن من الإيمان الوفاء بالعهد، فإن ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾[7]، ومما عاهد الإنسان على نفسه:

الوفاء بالميثاق الذي أخذ الحاج على نفسه، وأشهد عليها بعبادة لله تعالى، ولله تعالى بالربوبية، لما استخرج الله من ظهر آدم وذريته، كما قال الله تعالى: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾[8]؛ فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو: مؤمن[9].

والإقرار لله تعالى بالربوبية، والإذعان له سبحانه بالوحدانية، والإشهاد على الأنفس بالعبودية، يقتضي تقوى الله، وذلك باجتناب معاصيه سبحانه، وتجديد التوبة والأوبة إليه جل وعلا، والقيام بحقوقه عز وجل، أرأيتم أن الوفاء بما فرض الله تعالى من الواجبات، واجتناب المنهيات، يجازيه الله تعالى بالجنات، كما قال تعالى: ﴿وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم﴾[10]، وقال سبحانه: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}[11]، ومن نكث بما عاهد الله تعالى عليه، فإنما ينكث على نفسه، قال تعالى: ﴿فمن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾[12].

وإن مما عاهد الله عليه الحاج: الإخلاص، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والمسارعة إلى الخير، كل هذه السلوكيات لها وقع على المجتمع، وأثر على نفوس من ينوي الحج، ويتشوق إلى رؤية بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه المختار عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فشوق الذهاب إلى ذاك المقام، لا يضاهيه شوق الإياب إلى الديار، فالحاج يهوى لو طال به المقام في بيت الله الحرم ببكة، ومجاورة قبر النبي العدنان بطيبة، وقد قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في قصيدته الرائية:

قف بالركاب فهذا الربع والدار***لاحت علينا من الأحباب أنوار

بشراك بشراك قد لاحت قبابهم***فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار

إلى أن قال:

هذا الشفيع الذي ترجى شفاعته***للمذنبين إذا ما اسودت النار

بادر وسلم على أنوار روضته***قبل الممات ولا تشغلك أعذار

يا خيرة الرسل يا أعلى الورى شرفا***قد أثقلتني آثام وأوزار

فكن شفيعي لما قدمت من زلل***ومن خطايا فإن الرب غفار[13]

والمغفرة محققة بإذن الله إذا ما تحققت تلك العهود، كيف لا وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للحاج، ولمن استغفر له، كما أخرج الحاكم[14]، وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج».

إن خير ما أختم به -نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى- قول العلامة ابن رجب: “إن علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة ذنب بعد التوبة، أقبح من سبعين قبلها، النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحور بعد الكور”[15].

**********************

هوامش المقال:

[1]) صحيح مسلم 2 /943، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم «لتأخذوا مناسككم»، رقم الحديث: 1297.

[2]) صحيح البخاري 2 /60؛ كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم الحديث: 1190، صحيح مسلم 2/ 1012، كتاب: الحج، باب: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، رقم الحديث: 1394، واللفظ لمسلم.

[3]) صحيح البخاري 2 /133؛ كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور، رقم الحديث: 1521، صحيح مسلم 2 /984، كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، رقم الحديث: 1350، واللفظ للبخاري.

[4]) صحيح البخاري 3 /2؛ أبواب: العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها، رقم الحديث: 1773، صحيح مسلم 2 /983، كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، ويوم عرفة، رقم الحديث: 1349.

[5] ) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص: 153.

[6]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4 /300؛ كتاب: المناسك، باب: الركن من الجنة، رقم الحديث: 9095.

[7]) سورة الأحزاب، الآية: 23.

[8]) سورة الأعراف، الآية: 172.

[9]) إكمال المعلم بفوائد مسلم 8/ 337.

[10]) سورة البقرة، الآية: 40.

[11]) سورة الفتح، الآية: 10.

[12]) سورة الفتح، الآية: 10.

[13] ) القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية ص: 184-185.

[14] ) المستدرك على الصحيحين 1 /609، رقم الحديث: 1612.

[15] ) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص: 156-157.

**********************

جريدة المراجع

إكمال المعلم بفوائد مسلم لعياض بن موسى بن عياض اليحصبى، تحقيق: يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة، المنصورة-مصر، الطبعة الثالثة: 1426/ 2005.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لمحمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.

القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية للبشير علي حمد الترابي، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1418/ 1997.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لعبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي، تحقيق: عامر بن علي ياسين، دار ابن خزيمة، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1428 /2007.

المستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى: 1411 /1990.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، (د-ت).

المصنف لعبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني، دار التأصيل، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1436 /2015.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق