مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

ليلة القدر هل هي متنقلة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً

أما بعد:   

      فإن من فضل الله تعالى على عباده، بأن جعل لهم في العام أياما وليالي يكون فضلها كبير، وتكون الأعمال فيها معظمة، ومن هذه الليالي ليلة القدر التي وصفها الله تعالى بأنها مباركة فقال: ﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة([1])، وهي خير من ألف شهر ﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر([2])، ولعظمها وفضلها أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى قيام الساعة، وهي سورة القدر، وجمهور العلماء على أنها في العشر الأواخر من رمضان حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان يجتهد ما  لا يجتهد في غيرها من الأيام، بالعبادة، والذكر، والدعاء، والاعتكاف، متحريا ليلة القدر، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان؛ رجاء أن يدركوا هذه الليلة، فعن عائشة رضي الله عنها :”كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله” ([3])،ثم أنه صلى الله عليه وسلم كان على وشك أن يبين وقتها لولا النزاع الواقع بين رجلين، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة”([4]) ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي، فأنسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر”([5]) ،فهل هذه الليلة ليلة متنقلة أم ثابتة؟  وما الحكمة من إخفائها؟

أولا: هل ليلة القدر متنقلة أم ثابتة؟

وردت أقوال كثيرة لأهل العلم في تعيين ليلة القدر، أوصلها الحافظ ابن حجر إلى أكثر من أربعين قولا قال: ” وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا، وتحصل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولا كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة”([6]) ،  وأحد هذه الأقوال وأقربها: أنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، ولا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام،  وذلك جمعا بين الأحاديث التي وردت في تحديدها في ليالي مختلفة من شهر رمضان عامة، ومن العشر الأواخر خاصة؛ لأنه لا سبيل إلى الجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنها متنقلة ، ومن هذه الأحاديث:

أنها كانت ليلة إحدى وعشرين؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين، رجع إلى مسكنه ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ،فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة ،ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر ، وابتغوها في كل وتر ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، فاستهلت السماء في تلك الليلة، فأمطرت، فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء ([7]).

أنها كانت ليلة ثلاث وعشرين؛ كما في حديث عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله، فانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه” ([8]).

أنها كانت ليلة سابع وعشرين كما في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي  قيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: “من قام السنة أصاب ليلة القدر – فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان – يحلف ما يستثني – ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها”([9]).

وهذا قول مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم،قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان([10]).

وهو القول الظاهر والمختار كما قال النووي : “وهذا هو الظاهر المختار، لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك .. ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها”([11])، والراجح كما قال ابن حجر في فتح الباري: «والأرجح أنها في وتر من العشر الآخر وأنها تنتقل»[12].

وقد جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»[13].

ثانيا : الحكمة من إخفاء تعيين وقت ليلة القدر المباركة:

   لا شك أن في إخفاء وقت ليلة القدر المباركة عن الأمة حكمة من الله تعالى حتى  لا تقتصر عبادة المسلمين على يوم بعينه، ويتركوا بقية الأيام العشر الأواخر، فأحبَّ الله تعالى أن يجتهد المسلمون ويتضرعون إليه تعالى، ويكثرون من العبادة والدعاء والعمل الصالح خلال هذه العشر الأواخر، وقد أشار  العلماء إلى ذلك؛ قال الحافظ ابن حجر: «قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليه»([14]).

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في طلبها في العشر الأواخر من رمضان، مصداقا  لحديث عائشة رضي الله عنها: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله” ([15]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال أخلص إلى الآتي:

1-تعد ليلة القدر من أعظم الليالي وأفضلها، أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم الدين.

2-جمهور العلماء على أنها في العشر الأواخر من رمضان.

3-وردت أقوال كثيرة في تعينها، أوصلها الحافظ ابن حجر إلى أكثر من أربعين قولا.

3-إحدى هذه الأقوال وأقربها أنها ليلة متنقلة، وذلك جمعا بين الأحاديث التي وردت في تحديدها في ليالي مختلفة من شهر رمضان والعشر الأواخر خاصة؛ حيث ورد ثبوتها في ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة سبع وعشرين… الخ .

4-هذا القول هو قول مالك، وأحمد، والثوري، وغيرهم، وهو القول الظاهر والمختار كما قال النووي والراجح كما قال ابن حجر في الفتح.

5-الحكمة من إخفاء هذه الليلة دون تعيين حتى لا تقتصر عبادة المسلمين على يوم بعينه، فأحب الله تعالى أن يجتهد المسلمون في العبادة، ويكثرون منها، وقد أشار العلماء إلى ذلك.

والحمد لله رب العالمين.

********************

هوامش المقال: 

([1]) سورة الدخان، من الآية: (3).

([2]) سورة القدر، الآية: (3).

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /64)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان، برقم: (2024)، ومسلم في صحيحه (1/ 526) برقم: (1174) واللفظ للبخاري.

([4])أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 64) كتاب: فضل ليلة القدر، باب: رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، برقم: (2023).

([5]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 522) ، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها، برقم: (1166). 

([6])  فتح الباري (4/ 333) .

([7])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /63)،  في كتاب: فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر  برقم: (2018). 

([8]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /524) كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم:  (1168).

([9]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/344) ، كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم: (762). 

([10]) شرح أبي داود للعيني (5 /291) .

([11]) المجموع  شرح المهذب (6 /489).

[12]–  فتح الباري (4 /266).

[13]–  تقدم تخريجه.

([14]) فتح الباري (4 /339).

([15]) تقدم تخريجه.

*******************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

شرح سنن أبي داود لأبي محمد محمود بن أح مد بن موسى بدر الدين العيني. تحقيق: أبي المنذر خالد بن إبراهيم المصري. مكتبة الرشد الرياض.  ط1 / 1420هـ- 1999مـ .

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.  رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: ذ. محمد فؤاد عبد الباقي. دار السلام الرياض. ط1/ 1421هـ- 2000مـ

المجموع  شرح المهذب للشيرازي. لأبي زكريا محيي الدين النووي . حققه وعلق عليه: محمد نجيب  المطيعي. مكتبة الإرشاد جدة. (د.ت).

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق