مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» وقفات تدبرية عند سورة التكوير «الحلقة الرابعة والعشرون»

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأودع فيه من البيان والأخبار والعلوم ما لو كان البحر مدادا لها لنفذ البحر قبل نفاذها. والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أيده الله تعالى بالقرآن الكريم الحجة البالغة، والمعجزة الخالدة إلى قيام الساعة، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى بهديه إلى يوم الدين.

أسلوبُ القرآن الكريم أعلى أساليب العربية وأسماها، تحققت فيه غاية البلاغة وذروة البيان، وهو أجلُّ ما يمكن أن يُبحَثَ فيه عن أسرار الجمال اللغوي، فعجائبه لا تنقضي، ومنابعه لا تنضُبُ، وليس من حسن نظم وبراعة سبك إلا وللكتاب الكريم منها الحظ الأوفى والمقام الأعلى [1].  والمسلم مأمور بأن يتدبر آيات الله الكريمة، وأن يُعمِلَ عقلَه وفكره ووجدانه في فقه معانيها، وفهم مدلولاتها حتى تطمئن جوارحه، وتستقر خواطره إلى أن القرآن تنزيل رب العالمين حجة على العقل الإنساني وعلى أهل الأرض قاطبة من بني البشر أجمعين. [2]

وفي هذه الحلقة سنقف عند سورة التكوير التي تعد من السور القرآنية التي تشتمل على آيات الإعجاز العلمي وتصوير مشاهد يوم القيامة، ولما تشتمل عليه من الأسرار البلاغية والبيانية والإشارات الكونية.

تشتمل سورة التكوير على عرض لقطات من أحداث يوم القيامة التي تكون عندها إماتة الأحياء وإفناء الخلائق، مع تغيير في نظام السماوات والأرض.

وتشتمل أيضا على عرض لقطات من أحداث يوم الدين، يوم بعث الأموات للحساب وفصل القضاء في محكمة العدل الربانية[3]، وسورة التكوير في وحدة موضوعها تنقسم إلى درسين فيه مقطعان:

مقطع يشتمل على ذكر لقطات من أحداث يوم القيامة، وهي القيامة التي تكون عندها إماتة جميع الأحياء، مع تغيير في نظام السماوات والأرض، وهو الآيات: « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَت وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَت وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت».[التكوير: الآيات: 1-6]

ومقطع يشتمل على ذكر لقطات من أحداث يوم قيامة الأموات إلى الحياة الأخرى، المعدة في خطة التكوين للحساب وفصل القضاء في المحكمة الربانية العظمى، ولتنفيذ الجزاء، وهو قوله تعالى: « وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَت بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَت وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَت وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ».[التكوير: الآيات: 7-14] [4]

وقبل معرفة ما تحويه آيات السورة من إعجاز وبلاغة وبيان لا بد من الحديث عن الدلالة اللغوية لاسم السورة.

الدلالة اللغوية لاسم السورة:

أما الدلالة اللغوية لاسم السورة فقد اشتق من الآية الأولى فيها وهي قوله تعالى: « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت»[التكوير:1]، ويرجع اسم السورة إلى الجذر كور: الكافُ والواوُ والرَّاءُ أَصلٌ صَحيح يدلّ على دَوْرٍ وَتَجَمُّعٍ، مِن ذلك الكَوْرُ: الدَّوْرُ. يُقَالُ كَارَ يَكُورُ، إِذَا دَارَ. وَكَوْرُ الْعِمَامَةِ: دَوْرُهَا. وَالْكُورَةُ: الصُّقْعُ، لأنَّه يَدُورُ على مَا فيه مِنْ قُرًى، وَيُقَالُ طَعَنَهُ فَكَوَّرَهُ، إذا أَلْقَاهُ مُجْتَمِعًا، ومنه قوله تعالى: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» [التكوير: 1] كأَنَّها جُمِعَتْ جَمْعًا، وقولُه تعالى: «يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ» [الزمر: 5] أَي: يُدِيرُ هَذَا على ذَاكَ، وَيُدِيرُ ذَاكَ على هَذَا.[5]

ويعضد ذلك قول الأصفهاني كَوْرُ الشيءِ: إدارته وضمّ بعضه إلى بعض، كَكَوْرِ العمامةِ[6]، وتَكْوِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: أَن يُلْحَق أَحدُهما بالْآخر، وقيل: تَكْوِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَغْشِيَة كُلّ وَاحِد منهما صَاحِبه، وقيل: إِدخال كُلّ وَاحد منهما فِي صَاحِبِه، والمعاني مُتَقارِبَة.[7]

والآية الأولى التي اشتق منها اسم السورة نجد تقدم الشمس على الفعل ليفيد ذلك التقديمُ على المسند الفعلي تَقَوِّيَ الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل رداً على إنكار منكريه فلذلك قيل : «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» ولم يقل : إذا كُوِّرت الشمس[8]، ولما كان المهول مطلق تكويرها الدال على عظمة مكورها، بني للمفعول على طريقة كلام القادرين قوله: «كورت»[9]

وعن الدلالة السياقية قالوا في تفسير تكوير الشمس هو جمع ضوئها، ولفه كما تلف العمامة على الرأس، وقال الأخفش وأبو عبيدة: تُلَفُّ فَتُمْحَى، وفي هذا الشأن يقول الميداني هذا حدث سيكون في الشمس قبيل قيام الساعة لإنهاء نظام الحياة الدنيا، وإماتة الأحياء، جاء التعبير عنه بتكوير الشمس.[10]

الدرس الأول في السورة: المقطع الأول.

وهذا المقطع يشتمل على ذكر لقطات من أحداث يوم القيامة، وهي القيامة التي تكون عندها إماتة جميع الأحياء، مع تغيير في نظام السماوات والأرض، وفيها يقول تعالى: « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَت وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت».[التكوير: الآيات: 1-6]

وتضمنت هذه الآيات الست الإخبار بوقوع أحداث ست كبرى مستقبلية ستقع قبيل قيام الساعة التي يكون بها إنهاء ظروف الحياة الدنيا، وكل النظام الكوني المرتبط بها. وقد جاء بيان هذه الأحداث المستقبلية مقترنا بكلمة «إذا» التي هي اسم شرط لما يستقبل من الزمن، يتطلب شرطا وجوابا له. ومعلوم أن من شأن الشرط أن يعقد ارتباطا بين جملتين خبريتين، أولاهما جملة الشرط، وهذه الجملة الشرطية تتطلب جملة أخرى هي جواب الشرط، وتدخل كلمة «إذا» الشرطية في الغالب على ما هو متحقق الوقوع مستقبلا عند المتكلم.[11]

أسلوب سورة التكوير في عرض المشاهد الأخروية المتعلقة بيوم القيامة:

وتمثلت في أحداث جمة أولاها:

الحدث الأول: تكوير الشمس دل عليه قول الله عز وجل:« إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت»[التكوير: 1].

فقوله «إذا» ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجوابها في الاثني عشر موضعا التي وقعت فيها قوله: «عَلِمَتْ نَفْسٌ»، وهي متعلقة بجوابها، و«الشمس» نائب فاعل بفعل مقدر، يفسره ما بعده، وإلى هذا جنح الزمخشري، ومنع أن يرتفع بالابتداء؛ لأن «إذا» تتقاضى الفعل لما فيها من معنى الشرط، ولكن ما منعه الزمخشري من وقوع المبتدأ بعدها أجازه الكوفيون، والأخفش من البصريين، وجملة كورت مفسرة لا محل لها.[12] فــ«كُوِّرَت» أي لفت بأيسر أمر من غير كلفة ما أصلا، فأدخلت في العرش كما قاله ابن عباس رضي الله عنه فذهب ما كان ينبسط من نورها، من كورت العمامة إذا لففتها فكان بعضها على بعض وانطمس بعضها ببعض، والثوب إذا جمعته فرفعته، فالتكوير كناية عن رفعها أو إلقائها في جهنم زيادة في عذاب أهلها ولا سيما عبدتها، أو ألقيت عن فلكها، من طعنه فكوره أي ألقاه مجتمعا، والتركيب للإدارة والجمع والرفع للشمس، فعل دل عليه «كُوِّرت» لأن «إذا» تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط.[13]

الافتتاح بـ «إذا» افتتاح متشوق لأن إذا ظرف يستدعي متعلقا، ولأنه أيضا شرط يؤذن بذكر جواب بعده، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعندما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكن، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة إذا [14]، والقيمة البيانية لهذا المطلع الشَّرطي التي من أجلها – والله أعلم – آثر القرآن افتتاح هذه السور بها، هي أن الأسلوب الشرطي يمتاز بربطه بين أجزاء الكلام ربطاً ملاحَظاً فيه ترتب السبب على السبب، فإذا ذكِرت أداة الشرط وأردفت بفعل الشرط تشوقت النفس إلى ذكر ما سيكون، فإذا ذكِر الجواب بعد هذه الإثارة وهذا التشويق تمكن أيما تمكن.

والذي يزيد من هذه القيمة البيانية لأسلوب الشرط في القرآن الكريم أمران:

الأول: أن القرآن في غالب الفواتح من هذا النوع لا يكتفي بفعل شرط واحد – كما هو الحال في غيره – بل يقرن به أشباهاً ونظائر يطول تأمل السامع فيها وتضاعف من تشوقه إلى الجواب كلما انتقل من جزء إلى جزء، فيأتيه الجواب بعد تلهف وطول ترقب.

الثاني: أن أجزاء الأسلوب الشرطي في القرآن ليست من جنس ما يستعمله الناس من أمور عادية قد لا يهتم بها إنسان، أو ليس للوقوف عنده على مدلولاتها كبير معنى – أو ربما تنبأ – سَلفاً – بما سيكون عليه الحال فلا يفيد منها فائدة جديدة، وليس الحال كذلك في القرآن، بل فيه – فوق دقة النظم وجمال التركيب- غرابة وجزالة.[15]

وباستطاعة المتدبر أن يأخذ من فكرة تكوير الشمس أن جرمها عند إجراء هذا الحدث فيها، لا يكون قد فني كما يفنى الوقود بالاشتعال إذا توقف عن النار الإمداد به، بل تكون الشمس عندئذ في جرمها صالحة للإمداد بالوقود اللازم لبقاء ضيائها، وإمداد ألسنتها اللاهبة، فالحدث الذي يجريه الله في الشمس هو محو ضيائها بطريقة حكيمة تخضع لأنظمته في كونه، دون إعدام ما هو باق من مادتها.[16]

الحدث الثاني: انكدار النجوم:

وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها [17]، فلما كان التأثير في الأعظم دالا على التأثير فيما دونه بطريق الأولى، أتبع ذلك قوله معمما بعد التخصيص [18]، دل عليه قول الله عز وجل: « وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ » والانكدار هو الإسراع المتوسط في العدو[19]، يقال لغة: انْكَدَرَ يَعْدُو: أَسرع بَعْضَ الإِسراع، وفي الصِّحاح: أَسرع وانْقَضّ. وانكَدَر عليهم القومُ إِذا جاؤوا أَرسالًا حَتَّى يَنْصَبُّوا عَلَيْهِم. وانْكَدَرَتِ النجومُ: تَناثَرَتْ. وفي التَّنْزيل: «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ».[20] وانكدرت بمعنى انقضَّت وتساقطت، فلا يبقى يومئذ نجم إلا سقط على الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنه: النجوم قناديل معلَّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض، بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات مَن في السماوات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم، وقيل انكدارها: انطماس نورها، ويُروى: أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم، ليراها مَن عبدها، كما قال: « «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » [الأنبياء: 98][21]، وقد يكون الانكدار من الكُدْرة، وهي اللون الضارب إلى السواد والغُبرة، والمختلط بالأكدار التي تُذْهِبُ صفاءه، وقد يكون هذا قبل انطماسها، وجاء في سورة المرسلات بيان أن النجوم ستنطمس يوم القيامة، أي: يذهب نورها، فقال الله عز وجل فيها: « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» أي أذهب الله نورها[22] وهي عطف على ما تقدم، مماثلة لها في الإعراب، ولكن النجوم هنا فاعل بفعل يفسره قوله: « انكدرت»[23] وقد جاء فعل الانكدار على صيغة المبني للمعلوم، على عكس فعل التكوير.

ومن هذه المعاني ندرك أن النجوم في أحداث يوم القيامة، تمر في مراحل حتى تنطمس انطماسا كليا، وتنفلت من نظام جاذبياتها، وتخرج عن مداراتها وطرق سيرها، وتسرع كالطائر المنقض، وتتناثر في الجهات على خلاف مواقعها ومسيراتها التي كانت لها في نظام ظروف الحياة الدنيا.[24]

الحدث الثالث: تسيير الجبال.

فلما بدأ بأعلام السماء لأنها أشهر وأعم تخويفا وإرهابا، وذكر منها اثنين هما أشهر ما فيها وأعمها نفعا، أتبعها أعلام الأرض فقال مكررا للظرف لمزيد الاعتناء بالتهويل [25]، دل عليه قول الله عز وجل: «وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت»[التكوير:3] والمراد من تسيير الجبال إزاحتها عن مواقعها كما تسير السفن في البحار، وهذا يستلزم تغييرا كبيرا في تماسك الأرض مع الجبال، ليتهيأ لها أن تسير عن مواقعها منزلقة في الأرض من أعماقها إلى شواهقها، وقد يكون المراد تسييرها إلى باطن الأرض وتغويرها[26]، أو تفجيرها ونسفها وإذهابها وانتقالها من أماكنها بارتجاج الأرض وزلزالها[27]، وهذه من المراحل الأخيرة في إفناء الجبال وقت قيام الساعة، فإفناء الجبال التي شبهها الله بالأوتاد « وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا» [النبأ: 7] لتثبيتها الأرض وحفظها أن تميد وتضطرب له أحوال متعددة يوم القيامة، عبَّر البيان القرآني عنها في عدة مواضع منه بما يشي أن إفناءها وقت قيام الساعة يمر بمراحل مختلفة أجملها الفخر الرازي في مراحل ست تصير بعدها إلى عدم، فقال عنها: « اعْلَمْ أنَّ اللَّه تَعالَى ذَكر في مَواضعَ منْ كِتابهِ أَحوالَ هَذهِ الجِبالِ على وجُوهٍ مُختلِفَةٍ، ويمكنُ الجَمعُ بَينَها على الوجهِ الَّذي نَقولهُ: وهوَ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوالِها الانْدِكَاكُ وهو قَوْلهُ: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» [الحاقَّة: 14].

والحالَةُ الثّانِيَةُ لها: أن تَصِير كالعِهنِ المَنْفوشِ، وذَكرَ اللَّهُ تَعالَى ذَلكَ في قَولِه: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» [الْقَارِعَةِ: 4- 5] وقَوله: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ»[المعارج: 8- 9] .

والحالة الثّالثَة: أَنْ تَصيرَ كالهَباءِ وذلك أَنْ تَتَقَطَّعَ وتَتَبَدَّدَ بعدَ أَنْ كانَتْ كالعِهنِ وهو قَولُه: «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» [الواقعة: 4- 6] .

والحالة الرَّابعَة: أَنْ تُنْسَفَ لأنَّها مع الأَحْوالِ المُتَقَدِّمةِ قارَّةٌ في مَواضعها والأرض تحتها غيرُ بارزَةٍ فتُنسَفُ عنها بِإرْسالِ الرِّياحِ عليها وهو المُرادُ منْ قَولِهِ: «فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» [طه: 105] .

والحَالَةُ الخامسَة: أَنَّ الرِّياحَ تَرْفَعُها عن وَجْهِ الأَرْض فَتُطَيِّرُها شُعاعًا في الهَواءِ كَأَنَّها غُبارٌ فمَنْ نَظَرَ إليها مِنْ بُعْدٍ حَسِبَها لِتَكَاثُفِها أجساما جامدة وهي في الحَقِيقَة مَارَّة إلَّا أَنَّ مُرُورَها بِسبَب مُرُورِ الرياح بها [صيرها] مُنْدَكّة مُتَفتِّتة، وهي قوله: «تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» [النحل: 88] ثمَّ بَيَّنَ أنّ تلك الحركة حَصَلَت بِقَهْرِه وتسخيره، فقال: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» [الطور: 10] «وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» [الْكَهْفِ: 47] .

الحَالَة السَّادسَة: أَنْ تَصِيرَ سَرابًا، بمعنى لا شيء، فمَن نَظرَ إلى مَواضِعها لَمْ يَجدْ فيها شَيْئًا، كما أَنَّ مَنْ يَرَى السَّراب مِنْ بُعْدٍ إذا جَاءَ المَوْضعَ الّذي كان يراهُ فيه لَمْ يَجِدْهُ شيئا وَاللَّه أَعْلم».[28]. وقيل: أَوَّلُ ما تَتغيَّرُ الجِبالُ تَصيرُ رَمْلًا مَهِيلًا.[29]

ويلاحظ أن هذا التنوع في التعبير القرآني عن إهلاك الجبال ولينها بعد الشدة وتفرقها بعد الاجتماع، صاحبه تَنوع في المُشبّه الذي شبهت به الجبال [ العهن المنفوش، والكثيب المهيل، والهباء المنبث، والقاع الصفصف، ومرور السحاب والسراب] وكل ذلك لإظهار عظيم قدرة الله تعالى؛ في تغيير هذه الجبال العظيمة وتبديلها على مراحل متعددة، مع تلاؤم كل مُشبّه به مع جو السورة التي ورد فيها، وتسيير الجبال في سورة التكوير مقرون بالحركة، وهو مناسب لسياقه الذي يتسم بالحركة في تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وحشر الوحوش، وفوضى حركة العشار بعد انصراف راعيها.

هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود، والثورة الشاملة لكل موجود، الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية، والوحوش النافرة والأنعام الأليفة، ونفوس البشر، وأوضاع الأمور، وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده، الكون المنسق الجميل، الموزون الحركة، المضبوط النسبة، المتين الصنعة، المبني بأيد وإحكام، أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه، وتتناثر أجزاؤه، وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها، وينتهي إلى أجله المقدر، حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائيا في هذا الكون المعهود. [30]

ــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] بلاغة القرآن الكريم، دراسة في أسرار العدول في استعمال صيغ الفعل، د. ظافر بن غرمان العمري، ص: 4 ، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى: 1429هـ- 2008م.

[2] الإعجاز العلمي في القرآن ، د. سيد الجميلي، ص:9، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الثانية: 1992.

[3] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني،  1/397.

[4] نفسه، 1/398.

[5] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، 5/146، دار الفكر، 1399هـ – 1979م.

[6] المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، ص: 729، دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، الطبعة: الأولى – 1412 هـ.

[7] لسان العرب، ابن منظور ، 5/156، دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ.

[8] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 30/141، دار سحنون للنشر والتوزيع – تونس- 1997م.

[9] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 8/336.

[10] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/400.

[11]نفسه، 1/399.

[12] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 8/233.

[13] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/336.

[14] التحرير والتنوير، 30/140.

[15] خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، 1/208-209، مكتبة وهبة، الطبعة: الأولى، 1413 هـ – 1992م.

[16] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/400-401.

[17] التحرير والتنوير، 30/141.

[18] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور،8 /336.

[19] نفسه، 8/336.

[20] لسان العرب، 5/135.

[21] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة الحسني، تحقيق: عمر أحمد الراوي، مراجعة وتدقيق: عبد السلام العمراني الخالد العرائشي، 8/246، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الثالثة: 2010.

[22] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/302-303.

[23] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/233.

[24] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/403.

[25] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/336.

[26] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/403.

[27] التحرير والتنوير، 30/142.

[28] مفاتيح الغيب أو  التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، 31/13-14،  دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ.

[29] الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، 18/285، دار الكتب المصرية القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م.

[30] في ظلال القرآن، سيد قطب، المجلد: 6، الجزء:30/3837، دار الشروق، الطبعة الشرعية الأولى: 1972، الطبعة الشرعية الثانية والثلاثون: 1423هـ/2003م.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق