مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

دعوة العلماء الأجلاء إلى تزكية النفوس وتطهيرها من آفات القلوب.. (3)

        من المعلوم أن تعلم العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قد خصّ عباده بجملة من المزايا التي أكرمهم بها وفضلهم عن باقي الكائنات الحية، ومن هذه المزايا، ميزة العلم والتعلم والفكر والتفكر، والإفادة والاستفادة، والتمكين والتمكن، والاستعداد الفكري والنفسي لتلقي العلوم قراءة وكتابة، وخصهم كذلك بالقوة العقلية والذاكرة الواعية الحافظة، والحواس الظاهرة والباطنة مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [سورة الإسراء، الآية: 70]، وقوله جلت قدرته: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة النحل، الآية: 78]. وقوله جل وعز: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) [سورة طه، الآية: 114]، وقوله جلت قدرته في بيان مقام العلماء وشدة حرصهم على معرفة الله والتفكر في بدائع صنعه وقدرته وقوته: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [سورة فاطر، الآية: 28]، وقوله جلت قدرته: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة، الآية: 164]، وقوله سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” [سورة النحل، الآية: 79]، وقوله جل علاه: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [سورة الذاريات، الآية: 21].

        فلا غروا أن تعلم العلم أضحى من المسلمات ومن الضروريات التي لابد منها من أجل الفهم الصحيح لمقاصد الشرع الإسلامي، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)[1]، والمراد بالعلم هنا هو ذلك العلم الذي يرشد الإنسان إلى طريق دين الإسلام، فكل مسلم لا بد أن يطلب العلم حتى يعرف ماله وما عليه من التكاليف والأحكام الثابتة في شرع الله عز وجل، ظاهراً وباطناً. وفي أهمية ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب رضي بما يصنع، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)[2]. وعن ابن شهابٍ، قال: (قال حميد بن عبد الرحمن: سمعتُ معاوية رضي الله عنه خطيباً، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَن يُرِدِ الله به خيراً يفقِّهْه في الدِّين، وإنما أنا قاسمٌ والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمةً على أمر الله، لا يضرُّهم مَن خالفهم حتى يأتي أمر الله)[3]. وعن الحسن رضي الله عنه قال: (العلم علمان: علم في القلب، فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حُجَّةُ الله على ابن آدم) [4].

       وقد اختلف العلماء في المقصود بهذا العلم المفروض، فقال المناوي: (قد ‏تباينت الأقوال وتناقضت الآراء في هذا المفروض في نحو عشرين قولاً، وكل فرقة تقيم ‏الأدلة على علمها، وكل لكلٍ معارض، وبعض لبعض مناقض، وأجود ما قيل قول ‏القاضي عياض: ما لا مندوحة عن تعلمه كمعرفة الصانع الله عز وجل ونبوة رسله، وكيفية ‏الصلاة ونحوها، فإنّ تعلمه فرض عين)[5]. وقال الغزالي في الإحياء: (المراد به العلم بالله، وصفته التي تنشأ عنه المعارف القلبية، وذلك لا يحصل من علم الكلام، بل يكاد يكون حجابا مانعا منه وإنما يتوصل له بالمجاهدة فجاهد تشاهد)[6].

       لقد شملت هذه الأقوال رغم اختلافها الحديث عن أهمية تعلم العلم وجعلته على ضربين علم ظاهر وعلم باطن، فكان لزاما على الإنسان أن يتعلم من العلوم بقدر ما هو محتاج إليه في دينه ودنياه، ومن بين تلك العلوم التي حثّ الإسلام عليها ورغب فيها علم التزكية الروحية، أي العلم بأحوال القلوب والعلم بمعرفة الله والإنابة إليه.

      والجدير بالإشارة إلى أنّ العلماء قد تحدثوا عن هذا العلم كثيراً في مجموعة من مؤلفاتهم إلى جانب علم الظاهر وهو علم الشريعة ومعرفة أحكامها الذي يعتبر مكملا له، ومنهم ابن تيمية في معرض حديثه عن هذين العلمين وبيان خصائصهما وأهميتهما بقوله: (كل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر..)[7] مضيفاً: (بأن الأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده)[8]، ويذكر الإمام عماد الدين الأموي: (إن العلم الباطني هو علم جليل شريف نفيس وهو أجل العلوم وأشرفها وهو الزّبدة الممخوضة من الشريعة)[9]، ومن جانبه يقول الإمام ابن عطاء الله السكندري: (فاعلم أن الفرائض التي اقتضاها الحق من عباده على قسمين: ظاهرة وباطنة، فالظاهرة مثل: الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وبر الوالدين، أما الباطنة، كالعلم بالله والحب له، والتوكل عليه والثقة بوعده والخوف منه والرجاء فيه)[10].

      انطلاقا من هذه الأقوال يتبين بجلاء أن الفرائض الشرعية التي فرضها الله تعالى على عباده، منها ما هو ظاهري، ومنها ما هو باطني، فكلا العلمين متكاملين في بنيتهما النسقيّة، لأن صحة العمل متوقفة أساسا عليهما، ومن تم لزم الأخذ بهما معاً دون إهمال أحدهما، وقد بين الإمام محمد بن عيسى زروق المالكي في عدة المريد الصادق: (لا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعلم أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذا لا حقيقة للعلم إلا بالعمل، ولا عمل إلا بصدق توجه، ولا هما إلا بإيمان، إذا لا يصحان دونه، فهو بمنزلة الروح، وهما بمنزلة الجسد، لا ظهور له إلا فيهما، ولا كمال لهما إلا به (٢)، وهو مقام الإحسان المعبر عنه: بأن تعبد الله كأنك تراه)، إذ لا فائدة لذلك إلا صدق التوجه إلى الله تعالى، فلزم الجميع لتلازمهما في الحكم كتلازم الأرواح للأجساد)[11]، ومنه قوله الإمام مالك: (من تفقه ولم يتصوف فقد تزندق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق)[12] وقد شرح الامام زروق هذه القولة بقوله: (تزندق الأول: لأنّه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والإحكام، وتفسق الثاني لخلو عمله عن صدق التوجه الحاجز عن معصية الله تعالى، وعن الإخلاص المشترط في العمل لله وتحقق الثالث، لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق)[13].

   وبناء على هذا الشرح اللطيف الذي بين المراد من قولة الإمام مالك يتبين بجلاء أنّ علم التصوف هو العلم بروح الشريعة وحقائقها وهو ثمرة من ثمرات التكاليف الشرعية وهو بذلك يجسد التوجه الباطني الذي يولد شعوراً ذوقياً متكاملا في القوب ويجعلها مطمئنة،  وقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن الحسن: العلم علمان: فعلم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم)[14].

       أما ما ذكره العلماء في ضرورة تزكية النفوس وتطهيرها من العلل القلبية المهلكة من كبر وحسد وبغض ورياء…فكثير ومن أهم ما قيل في هذا المضمار ما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي بقوله:) وأما علم القلب ومعرفة أمراضه مثل الحسد والعجب والرياء ونحوهما فقال الغزالي: أنها فرض عين)[15] وقصدهم بعلم الباطن اي إخلاص النية وسلامة الباطن من علل القلوب، وهو عمل نص عليه الكتاب والسنة وحث على طهارة الظاهر من المعاصي والباطن من أمراض القلوب، مصداقا لقوله تعالى: (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) [سورة الأنعام: الآية: 120].

      ويقول الإمام ابن عابدين صاحب الحشية أن علم الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرض عين ومثلها غيرهما من آفات النفوس كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع ونحوهما مما هو مبين في ربع المهلكات من الأحياء، قال فيه ولا ينفك عنها بشر أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجاً إليه، وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها واسبابها وعلاماتها وعلاجها فإنه  من لا يعرف الشر يقع فيه)[16] ويذكر فخر الدين الرازي في حديثه عن رياض النفس وتهذيب الأخلاق قوله: (فإن منفعتها في سعادة الدارين)[17].

————————-

  1. جمع الجوامع المعروف بـ الجامع الكبير، لجلال الدين السيوطي، القسم الأول: الأقوال (حرف الطاء) تحقيق: مختار إبراهيم الهائج، عبد الحميد محمد ندا، حسن عيسى عبد الظاهر الناشر: الأزهر الشريف، القاهرة – جمهورية مصر العربية، الطبعة: الثانية، 1426هـ – 2005م. ج: 5، ص: 525. مسند الشهاب، القضاعي المصري، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة: الثانية، 1407 ه- 1986م. طلب العلم فريضة على كل مسلم، ج: 1، ص: 135.
  1. مسند الإمام أحمد بن حنبل، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001م. ج: 36، ص: 46، رقم الحديث: 21714.
  1. صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ج: 1، ص: 25 رقم الحديث: 71. ومسلم في الزكاة (2439). صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)، ج: 3، ص: 524، رقم الحديث: 1923.
  2. سنن الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، الناشر: دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 2000م، المقدمة، باب: التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله، ج: 1، ص: 373.
  3. فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي القاهري، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة: الأولى، 1356هـ. ج: 4، ص: 267. التَّنويرُ شرح الجامع الصغير، لمحمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني، تحقيق: د. محمَّد إسحاق محمَّد إبراهيم، الناشر: مكتبة دار السلام، الرياض، الطبعة: الأولى، 1432 هـ – 2011م. ج: 7، ص: 131.
  4. إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، الناشر: دار المعرفة – بيروت، (ط/ت)، الباب الثاني في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما، بيان العلم الذي هو فرض كفاية، ج: 1، ص: 23.
  5. مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله وساعده: ابنه محمد، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – المدينة المنورة – السعودية، عام النشر: 1425هـ – 2004م. قاعدة في المعجزات والكرامات، ج: 11، ص: 381.
  1. نفس المصدر، ج: 11، ص: 381.
  2. حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب، لعماد الدين الاموي، بهامش كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب، لمحمد بن علي المكي، الناشر مطبعة مصر اليمانية، السنة 1310ه. ص: 259.
  3. لطائف المنن للعارف بالله ابن عطاء الله السكندرى، تحقيق عبد الحليم محمود، الناشر: دار المعارف السنة: 2006، ص: 75.
  4. عدة المريد الصادق، للشيخ زروق، تحقيق: الصادق بن عبد الرحمن الغرياني، الناشر: دار ابن حزم الطبعة: الأولى، 1427 هـ – 2006 م، فصل في تحرير الطريقة، وما بنيت عليه من شريعة وحقيقة. ص: 49.
  1. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي بن سلطان محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري، الناشر: دار الفكر، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1422هـ – 2002م. كتاب العلم، ج: 1، ص: 335.
  2. عدة المريد الصادق، فصل في طريق الخدمة والهمة وحفظ الحرمة، ص: 195.
  3. سنن الدارمي، باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله، ج: 1، ص: 108.
  4. الأشباه والنظائر في فروع الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر، وبهامشه كتاب المواهب السنية على شرح الفوائد البهية نظم القواعد الفقهية الناشر دار الفكرـ (ط/ت). ص: 239.
  5. رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، لخاتمة المحققين محمد أمين الشهير بابن عابدين دراسة وتحقيق الشيخ عادل أحمد المجور والشيخ علي محمد معوض قدم له الأستاذ محمد بكر إسماعيل، الناشر، دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الطبعة الأولى، 1415هـ/ 1994م.

  17. المحصول في علم الأصول، لفخر الدين الرازي، دارسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني، الناشر مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1417هـ – 1997م، ج: 5، ص: 116.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق