مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني سورة المسد أنموذجا «الحلقة الثالثة والعشرون»

فلما حصل لأبي لهبٍ وعيدٌ مقتبَس من كنيته جُعِلَ لامرأته وعيدٌ مقتبَسٌ لَفظُه مِن فعلِها وهو حَمْلُ الحطب في الدنيا، فأُنذِرَت بأنها تحملُ الحطبَ في جهنم ليوقَدَ به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سببا لعذاب أحب الناس عليها[1]، وفي هذا المنحى يقول عز وجل: « فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَّسَد »[المسد: 5]، فهذه الآية من تمام وصف امرأة أبي لهب، فكأنه وصفها بوصفين الأول قوله: «حمّالة الحطب»، والثاني قوله: «في جِيدِها حَبلٌ من مَسَد»؛ والجيد العنق، وجمعه أجياد، وموضع بمكة يقال له أجياد؛ سمي بذلك لعلوه. والجيد بفتح الياء طول العنق.[2]

وغلب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فَقَلَّ أن يذكر العنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عنقا موصوفا بالحسن[3]، وقد جمعهما امرئ القيس في قوله: [4]

وجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ /// إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ

قال السُّهَيْلي في الرَّوْض الأُنُف: وقولُه في جيدِها، ولم يقُل في عُنُقِها، والمعروف أن يُذْكر العُنُق إذا ذُكِر الغُلّ، أو الصّفْعُ كما قال تعالى: «إنّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا» [يس: 8]، ويُذْكَر الجِيدُ إذا ذُكر الحُلِيّ أو الحُسْن، فإنّما حَسُنَ ههنا ذِكْرُ الجِيدِ في حُكم البلاغة لأنّها امرأة والنّساء تُحَلّي أجيَادَهُنّ، وأُمّ جَمِيل لا حُلِيَّ لها في الآخِرَةِ إلّا الحَبل المَجْعُول في عُنُقها، فلمّا أُقيم لها ذلك مَقام الحُلِيّ ذُكِر الجِيد معه فَتَأَمّلْهُ فإنّه مَعْنًى لَطِيفٌ[5]، ألا ترى إلى قَول الأَعْشى:[6]

يَوْم أَبْدَتْ لَنَا قُتَيْلَةُ عَنْ جِيــ /// دٍ تليعٍ، تُزَيِّنُهُ الأَطْوَاقُ

ولم يَقُل عن عُنُقٍ.

وقول الآخر:

وَأَحْسَنُ مِنْ عَقْدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا

ولم يقل عُنُقها، ولو قَاله لكان غَثّا من الكَلام فَإنّما يَحْسنُ ذكرالجِيدِ حيث قُلْنا، ويَنْظرُ إلى هذا المعنى قَوْلهُ تعالى: «فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» [آل عِمْرَانَ: 21]؛ أي لا بُشْرى لهم إلّا ذَلكَ، وقَولُ الشّاعر [عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ] :[7]

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلِ /// تَحِيّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

أَي لَا تَحِيّةَ لهم، كذلك قَوله: «فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ»؛ أي ليس ثمّ جِيدٌ يُحَلّى، إنّما هو حَبْلُ المَسَدِ، وانظُرْ كيف قال وَامْرَأَتُهُ ولم يَقُلْ وَزَوْجُهُ؛ لِأَنّها ليست بِزَوْجِ له في الآخِرَة ولِأَنّ التّزوِيجَ حِلْيَةٌ شرعِيّة وهو مِنْ أمر الدّينِ يُجَرّدُهَا من هذِه الصّفّة كما جَرّدَ منها امْرأةَ نُوح وامْرأة لُوطٍ[8]، و «في جيدها» خبر مقدم، و«حبل» مبتدأ مؤخر، و«من مسد» نعت لحبل[9]، وعبارة «في جِيدِها حَبلٌ مِنْ مَسدٍ» تصلح كناية عن كون هذه المرأة بمثابة دابة محتقرة، يكفي لقيادتها حبل خشن من ليف، إذ هي حمقاء لا عقل لها ولا رشد عندها، ولا تعمل إلا وفق انفعالاتها ونزواتها الرَّعْناء بحدَّة وغضب وشر[10]، أما المسد فهو اللِّيفُ، وحبل اللِّيفِ حبل خشن، وهو لا يصلح قلادة للنساء، لكنه يستعمل حبلا مَهينا لجَرِّ الدواب المحتقرة كالحمير، أما الجياد وكرائم الإبل فيوضع في أعناقها حبال نفيسة[11]، وذكر الطبري للمسد ثمانية معان:

– هي حبال تكون بمكة.

– حبل من شجر، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به.

– العصا التي تكون في البكرة، ويقال المَسَد: قلادة من وَدَع.

– حبال من شجر تنبت في اليمن لها مسد، وكانت تفتل.

– حبل من نار في رقبتها.

– المسد: الليف.

– سلسلة من حديد، ذرعها سبعون ذراعا.

– المَسَد: الحديد الذي يكون في البَكرة[12].

وقال الراغب هو ليف يتخذ من جريد النخل، أي: من غصنه فيمسد، أي: يفتل، قال تعالى: «حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» [المسد:5]، وامرأة ممسودة: مطوية الخلق كالحبل الممسود.[13]

ويذهب الطبري إلى أن أولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو حبل جُمع من أنواع مختلفة، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا، ومما يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز:[14]

وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أيانِقِ /// صُهْبٍ عِتاقٍ ذاتِ مُخ زَاهِق

فجعل إمراره من شتى، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب، أمِرَّ من أشياء شتى، من ليف وحديد ولحاء، وجعل في عنقها طوقا كالقلادة من ودع؛ ومنه قول الأعشى:[15]

تُمْسِي فَيصْرفُ بَابُها مِنْ دُونِهَا /// غَلَقًا صَرِيفَ مَحَالَةِ الأمْسَادِ

يعني بالأمساد: جمع مَسَد، وهي الحبال[16]، ومن هنا يظهر سر التعبير بقوله: «من مسد» دون الاكتفاء بقوله: «حبل» فما جاء به القرآن يدل على لؤمها وخستها ونزول مستواها إلى مستوى دابة يكفي لجرها من جيدها حبل خشن من ليف، ما كانت تفعله من قطع سبيل الرسول والمؤمنين بحطب الشوك، ليعقرهم وهم سالكون في الليل، ومثل هذا العمل لا يفعله إلا السخفاء السفهاء ضعفاء العقول، وما كانت تفعله من التحريض على الرسول ودعوته بوسيلة النميمة، والنميمة من أقبح الوسائل التي يقوم بها شرار الخلق من الناس، إذ دوافعها الخسة والسفاهة واللؤم وخبث النفس، ولا سيما إذا كان ذلك ضد الحق والخير والهدى، ولمقاومة أخيار الناس وفضلائهم، فكيف بها وهي تفعله ضد رسول الله وضد دين الله الحق.[17]

الإعجاز الصوتي في السورة:

ويبرز هذا اللون في الأداء التعبيري للسورة وتناسقها ذكر ذلك سيد قطب في قوله: وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها، نقتطف في بيانه سطورا من كتاب « مشاهد القيامة في القرآن» نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها: « أبو لهب، سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب، ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد» تناسق في اللفظ، وتناسق في الصورة، فجهنم هنا نار ذات لهب، يصلاها أبو لهب! وامرأته تحمل الحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه (بمعناه الحقيقي أو المجازي)، والحطب مما يوقد به اللهب، وهي تحزم الحطب بحبل، فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد، ليتم الجزاء من جنس العمل، وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة: الحطب والحبل، والنار واللهب، يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب!.[18]

وتناسق من لون آخر، في جرس الكلمات، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد، اقرأ «تبت يدا أبي لهب وتب» تجد فيها عنف الحزم والشد! الشبيه بحزم الحطب وشده، والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه، والشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة.

وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي، مع حركة العمل الصوتية، بتناسق الصور في جزئياتها المتناسقة، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير، ويتسق مع جو السورة وسبب النزول، ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار، وفي سورة من أقصر سور القرآن.[19]

ومن اللافت للنظر في هذه الآية تحول إيقاع الفاصلة فيها؛ فقد بدأت السورة بتشكيل إيقاعي جرى على وفق نسق تتابعي منظم، وبإيقاع رباعي توالت فيه منظومة صوت الباء، في حين أن الفاصلة هنا خرجت عن تلك المنظومة الإيقاعية؛ إذ ختمت بصوت وحيد هو الدال، وتأتي الفاصلة في القرآن مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، يتعلق معناها بمعنى الآية كلها، تعلقا تاما، بحيث لو طرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم، فهي تؤدي في مكانها جزءا من معنى الآية، ينقص ويختل بنقصانها. [20]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 30/605.

[2] إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، الحسين بن أحمد بن خالويه، ص: 227، مطبعة دار الكتب المصرية (1360هـ -1941م).

[3] التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، 30/606.

[4] ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ص: 16، الطبعة الرابعة، دار المعارف.

[5] الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، 3/185. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م.

[6] ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، قدم له وشرحه وضبطه ووضع فهارسه: د. محمد أحمد قاسم، ص: 254، الطبعة الأولى: 1415هـ/1994م.

[7] شعر عَمْرو بن مَعْدي كَرِبَ الزُّبَيْدي، جمعه ونسقه: مطاع الطرابيشي، ص: 149، الطبعة الثانية:  1405 هـ/1985م.

[8] الروض الأنف، 3/185-186.

[9] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 8/442.

[10] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/390.

[11] نفسه، 1/389.

[12] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 24/680-681، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م.

[13] مفردات ألفاظ القرآن، الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني أبو القاسم، 2/376، دار النشر / دار القلم ـ دمشق.

[14] جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، 24/682.

[15] ديوان الأعشى الكبير، ص: 103.

[16] جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، 24/683.

[17] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/390.

[18] في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/4000.

[19] نفسه، 4/4001.

[20] من بلاغة القرآن، أحمد أحمد عبد الله البيلي البدوي، ص: 65، نهضه مصر -القاهرة، عام النشر: 2005.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق