وحدة الإحياءدراسات عامة

النسق التأويلي والمقاصدي في نظرية الاستنطاق القرآني

القرآن الكريم قول ثقيل ومعدن كل فضيلة وينبوع كل حكمة وكلية المعارف وعمدة الأحكام، وهذا يستلزم مداومة النظر على مدى كل الأزمنة في لغته المفسرة لوجود العالم والإنسان بحثا عن معانيه ومقاصده النظرية والعملية بالتذكر والتدبر وتجديد الآليات المنهجية لاستنطاق سوره وآياته. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 22)، وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص: 28) والوصول لاستنطاقه يتم عبر نسقية تكامل قواعد تأويل القرآن وتوجيه مقاصده في حياة الإنسان الدينية والدنيوية، من حيث هو دين يصنع الإنسان المستخلف لله تعالى في الأرض، ويرشده إلى ما فيه رقيه وزكاته وسعادته، ومن حيث هو علم ونور وهداية ورحمة وموعظة وبيان ورحمة وخشوع وخشية وسنن في العالم مطردة، يقول رشيد رضا: “كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو ونكث المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافة الإسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها..”[1]، ولا يعني هذا أن الاشتغال بتلك العلوم أمر زائد على التفقه في مقصود الوحي، وإنما ألا تكون حجابا عليه وشاغلا للمتعامل معه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول.

فالقراءة الاستنطاقية تقصد التفقه في المقصود القرآني توسلا بمناهج العلوم الشرعية والإنسانية والكونية مع ملاحظة قانون التجديد والتغيير والتطور في الواقع الإنساني الذي يتطلب مراجعة تلك المناهج ومدى فاعليتها في استخلاص المصالح الحقيقية لا الموهومة. وذلك بعدم الخضوع للشروط التاريخية التي فرضت تعاملا معينا مع الوحي، فشروط المؤول والمفسر التي ذكرت في عصور احتراق العلم الإسلامي لا ينبغي أن تكون هي الموجهة بالقصد الأول للعقل المسلم في عصر التفكير بالنهضة والانبعاث والإصلاح وإرجاع الأمة إلى منهج الوحي.

وتتخذ المقاربة لنظرية الاستنطاق وارتكازها على نسقية قاعدتي التأويل والتقصيد المحاور الثلاثة الآتية مدخلا للتحليل والتبيان:

المحور الأول: مفهوم نظرية الاستنطاق وخصائص القراءة الاستنطاقية.

المحور الثاني: نسقية التأويل في النظرية الاستنطاقية.

المحور الثالث: نسقية التقصيد في النظرية الاستنطاقية.

 خاتمة.

المحور الأول: مفهوم نظرية الاستنطاق وخصائص القراءة الاستنطاقية

إن لمفهوم النظرية إطلاقات عديدة تتميز بحسب استعمالها في سياقات مختلفة واضحة المعالم والمقاصد، وإطلاقه في نظرية الاستنطاق يعتمد على كونها تصورا منهجيا منظما ومتناسقا تابعا في صورته لمفاهيم ومصطلحات معينة في أحد مجالات العلم، وعلى أنها نسق تجريدي يجمع الأفكار الجزئية والكلية في وحدة من خلال التعدد ويضعها في بناء نظري يظهر تفاعلية المفاهيم والمصطلحات المستعملة في دراسة مجال علمي خاص. ولذا فإن نظرية الاستنطاق قراءة نسقية تشكل نظاما معرفيا يتميز بثلاثة خصائص:

أ. التكاملية بين فقه النص الشرعي وفقه الواقع.

ب. الكلية في تحديد المقاصد الشرعية الأصلية والتبعية.

ج. الوحدة التناسبية الترتيلية داخل النص الشرعي وفي علاقته مع الكون.

وتجمع نظرية الاستنطاق بهذه الخصائص القواعد العلمية والضوابط المنهجية المستعملة في استنطاق الوحي الإلهي قصد التوصل إلى استمداد معانيه ومقاصده والوعي بتمثلها في الواقع الإنساني، جمعا بنائيا ومنهاجيا، فالبنائي يقوم على مراعاة فقه النص والواقع بناء على الوحدة التناسبية الترتيلية داخل النص الشرعي وعلاقته بالكون. والمنهاجي يقوم على مراعاة الكلية في تحديد المقاصد العامة والخاصة والجزئية والعينية والكفائية.. وهو ما يمكن من تحديد الرؤية القرآنية الكونية الناظمة لتحقيق مصالح المكلفين في الدنيا والآخرة.

فتدخل نظرية استنطاق الوحي في سياق الوعي بمناهج القراءة التدبرية التي لا تفصل بين المنهج والعلم في تلقي الوحي، باعتبار العلم ينظم المنهج والمنهج ينتجه. فالقراءة تعني الفهم والتدبر والتثوير وموضوعها الوحي الإلهي، ولذا كانت قراءة الوحي تقوم على أن المعرفة الإنسانية ليس مصدرها العقل، أو التجربة الحسية أو العملية أو الحدس، وإنما مصدرها الوحي الذي لا يستقل عن تلك المصادر لكن يوجهها عبر تحديد مصالح كلية تندرج آليات تلك المصادر في تشغيلها وتكييفها. فالمعرفة اعتمادا على المصادر الأخرى دون مصدر الوحي لا ترقى لتحديد الوجود الإنساني ولا توصل في أسمى غاياتها من دراسة المعنى إلا فصله عن الوعي والتمثل وفصل المعرفة عن اليقين، وقراءة الوحي دون المصادر الأخرى لا تسعف باستنطاقه على وجه كلي تبرز فيه المعرفة مرتبطة باليقين والتمثل والوعي.

إن منهج القراءة الاستنطاقية بناء على نظرية المعرفة المؤسسة على التفاعلية بين الوحي القرآني وكافة المصادر الأخرى يتجاوز تقليد مناهج اتجاهات التأويل في الفكر الإسلامي القديم والحديث، كما يقف أمام النقل الانهزامي للمناهج في الحضارة الغربية، وبذا يؤسس مقولاته ومصطلحاته من تفاعلية القرآن والكون دون إغفال للإمكانات التجريبية في دراسات النصوص دينية كانت أو أدبية أو طبيعية… والتفاعلية هنا لا تعني تساوي القرآن الكريم مع المصادر الأخرى في مصدرية المعرفة، ولكنها تبرز مرجعية تسمح بقراءة فهمية للوحي تستعمل مجموعة من المناهج المتكاملة القادرة على اكتشاف لما يسميه طه جابر العلواني، بالرؤية الكونية للقرآن الكريم باعتبارها “رؤية لا يصل إليها من لا يدرك إطلاقية القرآن، وأنه لا صلة بينه وبين النسبية والاحتمالية بحال وما ينبغي أن يسقط عليه شيء منهما. والقرآن بإطلاقيته قد استوعب الكون المطلق وحركته بشكل موضوعي فما ترك جانبا من جوانب الخلق الإلهي لم يتناوله ولم يعطه التفسير المناسب من عالم العهد حتى عالم الجنة والنار. كما استوعب الإنسان المطلق من حيث إنسانيته فإطلاق الإنسان منصرف إلى الحقيقة الإنسانية لا إلى الأفراد الذين تتجسد تلك الحقيقة فيهم بشكل نسبي”[2]، فالقراءة الاستنطاقية تبصر في الكون وتثوير تنزيلي للقرآن الكريم[3]، وبناء للوعي من خلاله يقوم على أن “للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد مضى والتنزل باق إلى يوم القيامة”[4]. ولا يتوصل للتثوير التنزيلي إلا بالفهم الدقيق المرتكز على خصائص القراءة الاستنطاقية الآتية:

الأولى: بسط الموازنة في الفهم بين الظاهر والباطن؛ فالظاهر ما تبادر إلى الأفهام من الألفاظ، ويدخل تحته “كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها”[5]، وأما الباطن فما افتقر إلى نظر، وهو المقصود الذي أنزل القرآن لأجله، ويدخل تحته “كل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار بالربوبية”[6]. “فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه”[7]. يقول الزركشي: “العلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله، فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة، ولابد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر، فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب، فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لابد منها للفهم، وما لابد فيها من استماع كثير؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلابد من معرفتها أو معرفة أكثرها، إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن وظاهره، على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له كما لا نهاية للمتكلم به، فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا”[8]. فالقراءة الاستنطاقية تدرك لذة القرآن العظيم بالعلم والفهم والتدبر والتقوى، أخذا بالتوسط والاعتدال في فقه قواعد الظاهر التي هي طريق العلم بالمعنى، وفي قواعد الباطن التي هي طريق الاستدلال من مدلول اللفظ على نظير المعنى، وهذا التوسط قانون للتأويل في معرفة التوحيد والتذكير والأحكام وفي معرفة الرب والنفس والكون[9].

الثانية: تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال؛ لقد كان نزول القرآن الكريم على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا وترتيلا، أمارة ودلالة لاستنباط علم المناسبة في ارتباط السور والآي بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني، وعرف البقاعي هذا العلم بأنه “علم تعرف منه علل الترتيب وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب”[10]، وبسبب اختلاف المساقات تتعدد أنواع الارتباط والتعلق ومنها أن يكون الرابط عاما أو خاصا، عقليا أو حسيا أو خياليا، تلازما ذهنيا كالسبب والمسبب والعلة والمعلول والنظيرين والضدين، تلازما خارجيا كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر. قال االشاطبي: “إن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان، فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون، آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف. فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد فعليه بالتعبد به. وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب النزول فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر”[11]، ويؤكد الشاطبي أن معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن بوجهين:

“أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال. وينشأ عن هذا الوجه.

الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع”[12]، فهذان الوجهان يبرزان أهمية أسباب النزول باعتباره سياقا خارجيا يكشف معاني نظم النص الشرعي، وأن قاعدة العموم التي تفيد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لم تقلل من فاعلية خصوصية السبب في الفهم، وهذا ما يكشف أن القراءة الاستنطاقية تتداخل فيها ثلاثة أبعاد سياقية:

  • سياق البعد النظمي القائم على دراسة الألفاظ إفرادا وتركيبا منطوقا ومفهوما وعبارة وإشارة واقتضاء ونصا…
  • سياق البعد المقاصدي القائم على التعليل والبحث في الغايات المصلحية التي جاء الشرع ليحققها للمكلفين بالأصالة أم بالتبع بالكلية أم بالجزئية…
  • سياق البعد الحضاري القائم على دراسة السياق المقامي المحدد في تشابكات المحيط العام بالنظم المقالي وما يكتنفه من قرائن وعلامات دالة على المرجعية المعرفية التي يحقق النظم رؤيتها لله تعالى والإنسان والكون.

الثالثة: تفهم السنن الخلقية وقوانين الاجتماع البشري؛ يشكل الوحي عالما من المعاني اللامتناهية، تقترن فيه الموجودات الفكرية والمادية بعلاقات تعليلية تنفي عنها العبثية والعدمية نفيا قاطعا، يثبت أن الوجود الكوني والخلائقي محكوم بسنن وقوانين موضوعة للنظر والتأمل من الإنسان يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ (آل عمران: 190-191)، فالتفكر في الخلق يكشف الأنظمة السننية التي تميز الظواهر الكونية عن بعضها البعض، ويلاحظ مناسبة الوجود الإنساني في ظل هذه السنن المطردة ومدى التسخير المهيأ فيه له، ثم متابعة سنن الوجود الإنساني في ذاته ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ[13](الذاريات: 21)، ليستنبط قواعد الاجتماع البشري والأطر التي تحكم ائتلافه وترقيه وتطوره وضعفه وانهزامه بحسب السياقات الاجتماعية في التاريخ الإنساني وما يرتبط بها من تحولات سياسية واقتصادية ومعرفية تتكامل لتأسيس القوة والسلطة الدافعين نحو التدافع بين المصالح. وفي مجمل هذا التكامل بين الوحي والكون تقوم القراءة الاستنطاقية لتجلو قوانين التعامل في الاجتماع البشري والتسخير الكوني.

إن الأمة والناس والإنسان مفاهيم محورية في الوحي تتضمن إخبارا عن الدعوة للاجتهاد في اكتشاف القوانين الاجتماعية الخادمة والمنظمة لعلو الإنسان وسعادته في إطعامه من جوع وأمنه من خوف، ولذا لا تنفصل القراءة الاستنطاقية في توخي معاني النظم القرآني عن اكتشاف سنن الله تعالى في خلقه وتقديره وإرادته عن تفهم جدلية الكون والواقع مع الوحي. لقد تنبه لبعض هذا ابن خلدون في مقدمته ومن جاء بعده ممن درسوا علوم الإنسان في اجتماعياته ونفسانياته واقتصادياته وسياسياته وجغرافياته…

فالنظرية الاستنطاقية بهذه الخصائص قراءة تفاعلية وتكاملية ببن مناهج البحث في النص القرآني والظواهر الكونية مع التأكيد على أن النص القرآني نص لغوي له تميزه القدسي باعتباره معطى رباني يتعالى عن تأثير العوامل الثقافية وغيرها في نزوله على النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا كان انفتاحه على كل الأزمنة والأمكنة بمنطق قوة المعنى لا بمنطق سلطة المعنى، بقصد نقلها من مضار تدسية النفس الإنسانية إلى منافع تزكيتها وإحسان عملها بوساطة البيان القائم على مراعاة دراسات سنن الفهم للوحي والكون.

 واعتمادا على هذا تكون القراءة الاستنطاقية تشكل فعلا نسقيا تأويليا ومقاصديا مغايرا في أسسه المنهجية والمعرفية لما يسمى التفسير التجزيئي والموضوعي. الأول باعتباره عكوفا على المعاني الفروعية في القرآن دون ملاحظة بناءه الكلي الدافع إلى اكتشاف المقاصد الكلية البانية وقواعد الآفاق الكونية، والثاني جعل القرآن الكريم تابعا لتحولات المنجز الإنساني التاريخي وذلك بجعل الواقع والتجربة البشرية هما المبدأ وبعده تأتي استشارة القرآن لتأسيس نظرية قرآنية في مجال من مجالات ذلك المنجز، دون ملاحظة مبدئية النص الشرعي في صناعة التجربة البشرية وتفاعليته مع الواقع[14].

المحور الثاني: نسقية التأويل في النظرية الاستنطاقية

تفيد نسقية التأويل بنائيته في كونه قانونا محددا في ضوابطه وشروطه وحدوده ومجالاته محكوما بمرجعية القراءة الاستنطاقية الشمولية التي تجتمع فيها نظريات تأويل متكاملة لغوية وفقهية وكلامية وفلسفية وتصوفية وكونية.. فالبحث في نسقية التأويل بحث في قضايا معرفية مختلفة ذات أبعاد حضارية ملتصقة بعالم الحياة الاجتماعية، تتفاعل مناهجها لبيان مقاصد القرآن الكريم وكشف معانيه المحكمة وإظهار خفيات ما أودعه منزله سبحانه من حكم ومصالح وقواعد للعقل والكون.

ونسقية التأويل في علاقتها بالاستمداد من الوحي تتبدى في كون التأويل آلية تدبرية وتأملية وفهمية لاستنطاق تفاعلية نص الوحي الإلهي ونص الكون على اعتبار أن النص عالم من المعانى المتضمنة في الملفوظ والمنظور، أو في الكلمات والأشياء. فاللغة القرآنية علامات وأمارات باعثة على كشف وجود الكون من خلال صناعة التحاور معها واستنطاقها، يقول ابن عطية: “وأشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله”[15]، ففي كلمة التأويل وكلمة التفسير “معنى الحركة، معنى الذهاب والعودة، كلمة التفسير في مغزاها الروحي منوطة بكشف السر وتنظيم الحركة والسعي المنظم ورسم الأفق وكسب الخبرة واتقاء الزلل، كذلك كلمة التأويل حافلة بفكرة السبق، وفكرة العلاقة بين الأول والآخر، بين الماضي والحاضر. كلتا الكلمتين تحرضان على السؤال. وكلتاهما تتصور الكلمة جدلا بين طريقين. لن تعرف في الذهاب ما تعرفه في الإياب، تلتقي كلمتا السفر والفسر التقاء واضحا. الجدل متضمن بالخصوص في كلمة التأويل، لا تندفع وراء شيء دون أن ترجع عنه، ولا ترجع عن شيء دون أن تذهب إليه”[16].

والتأويل كالتفسير آلية منهجية جامعة بين ضرورة مراعاة النقل الصحيح وإعمال العقل الصريح ومتجهة نحو النص الشرعي لتدبره وفتح المغلق من المراد بألفاظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم بها. فاللغة القرآنية لغة طبيعية تتميز بخصائص إفرادية وتركيبة ودلالية وتداولية تجعل التأويل مصاحبا لها لا يفارقها إلا في ما أحكم الشرع معناه وجعله قطعيا في مقصده. وخاصية انفتاح القرآن الكريم على التأويل هي الإطار المرجعي لتأسيس المعرفة في الحضارة الإسلامية وتعدد مجالاتها وتنوع مناهجها فكانت حضارة تأويل النص الشرعي القائمة على الوعي بالمنهج قبل المضمون، يقول طه عبد الرحمان: “لا نسلم أن التعامل مع النصوص أسدل حجابا بين المسلمين وبين توجههم إلى العلم الصحيح، كيف ذلك وفلسفة المعرفة درجت على اعتبار الوعي بالوسيلة أعمق وأرسخ من الوعي بالمضمون الذي يتوسل به إليه، فانشغال المسلمين بتدبر النصوص وبناء نظريات دلالية وتأويلية لاستخراج الأحكام منها دليل قاطع على وعيهم بدور المناهج والوسائل في تشكيل المضامين المعرفية وعلى وعيهم بوجوب تقديم النظر في الوسائل على النظر في المضامين”[17]. وهذا الوعي المنهجي هو أساس جعل دعوة النص الشرعي لفهمه وتعقله والاستجابة له علوما ناشئة ومعارف متناسلة.

وإذا كان التأويل ينظر إليه أنه عمل عقلي قائم على استنطاق الوحي وقراءة مكونات خطابه في كليته، فإنه عرف مناظرات وبحوث في اتخاذه أداة للتعامل مع الوحي فرضت الحديث عن مشروعيته الدينية واللغوية من حيث دراسة مفهومه وشروطه وقواعده ومجالاته وصلته بمنطق الشرع ومنطق اللغة. ولذا كان إيضاح نسقية التأويل في نظرية الاستنطاق القرآني يقتضي تناول مسائل من البحث في مشروعية التأويل يمكن حصرها في ثلاثة أمور:

أ. التأويل بين الحمد والذم.

ب. قانون التأويل.

ج. التأويل والاجتهاد.

الأمر الأول: التأويل بين الحمد والذم

لقد كان الأصل الذي انطلق منه علماء الإسلام لفهم التأويل ومشروعيته وتفسير النصوص المتشابهة وعلاقتها بالمحكمات واستخلاص دلالات الألفاظ في أصول الفقه هو قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)، وحديث ابن عباس “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”[18]، وهو الدعاء النبوي الشريف الجامع بين شمولية التفقه المستمدة من شمولية الدين وبين ضرورية تعلم التأويل المناسب لشمولية الدين.

 إن بحث تقويم التأويل بالمدح والذم نابع من ظروف تاريخية تدافع فيها المعرفي والسياسي لتسيطر تفرقة لا أصل لها شرعيا ومعرفيا بين التأويل والتفسير في المدونات التفسيرية، كان من نتائجها العمل بمصطلح التفسير وإهمال مصطلح التأويل الذي صار يرادف ابتغاء الفتنة بالخوض في المتشابه،على الرغم من أنه لفظ قرآني دقيق استعمل في سياقات مختلفة أكثر من استعمال لفظ التفسير[19] يفتح النظر نحو اعتباره آلية ضرورية لتدبر الوحي وفقه مراده.

ذكر ابن الجوزي أن استعمالات لفظ التأويل في القرآن الكريم وردت على خمسة أوجه: “أحدها، العاقبة ومنه قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ (الآية: 52)، يعني عاقبة ما وعد الله تعالى. وفي سورة يونس ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (الآية: 39). والثاني، اللون ومنه قوله تعالى في سورة يوسف ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [الآية: 37) يعني بألوانه. والثالث المنتهى ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (الآية: 7) يعني ابتغاء منتهى ملك محمد وأمته وذلك حين زعم اليهود حين نزل على النبي، صلى الله عليه وسلم، فواتح السور أنها من حساب الجمل وأن ملك أمته على قدر حساب ما أنزل عليه من الحروف. والرابع تعبير الرؤيا ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (الآية: 6) وفيها ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ (الآية: 45) وفيها ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (الآية: 101). والخامس التحقيق ومنه قول تعالى: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ[20] (الآية: 100). وبعد تقرير ابن تيمية أن لفظ التأويل “فيه اشتراك بين ما عناه في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن”[21]، حصره في معنيين: “أحدهما تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء تقريبا أو مترادفا، وهذا -والله أعلم- هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله، ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره القول في تأويل كذا وكذا واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير. والمعنى الثاني في لفظ السلف وهو الثالث في مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الشيء المخبر به”[22]. والفرق بين المعنيين أن الأول “يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير والشرح والإيضاح ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما ﴿الثاني) فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج سواء كانت ماضية أو مستقبلة، فإذا قيل طلعت الشمس فتأويل هذا نفس طلوعها”[23] وهذا ما يتيح التمييز بين الإحاطة بعلم القرآن وبين إتيان تأويله، انطلاقا من قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ الذي يبين “أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتيهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إثبات تأويله، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام. وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به. وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به، فمعرفة الخبر هي تفسير القرآن ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله”[24].

إن هذا الفرق بين المعرفة التفسيرية باعتبارها الصورة العلمية وبين المعرفة التأويلية باعتبارها الحقيقة الخارجية، رغم واقعيته لا يتحدد علميا إلا بقدر ما يفهمه الوحي بالأخبار أو ضرب الأمثال أو صياغة الأحكام أو بغير ذلك من قواعد البيان والتبيين. وفي هذا تبرز إشكالية التأويل في المعرفة الإسلامية، فالمعرفة التأويلية تفسير والمعرفة التفسيرية تأويل ما تم الانضباط بالمناهج القويمة المميزة للمعرفة التأويلية المحمودة عن المعرفة المذمومة. وجماع تلك المناهج مراعاة تكاملية المنطق الشرعي والمنطق اللغوي والمنطق العقلي وتفاعليتهم في كشف ما انغلق من المعنى بالرواية والدراية، فهذه التفاعلية ترفض تعدد المعنى الذي يؤدي إلى فقدان مقصد الوحدة والاجتماع على كلمة سواء، أي إلى التنازع وتفرق الكلمة وانشقاق الجماعة المصحوب بفرحة الفرق والمذاهب والسلطة بتأويلاتها، ومن هنا ذلك التوتر والتنافر اللذان تميز بهما تاريخ الجدالات السياسية والمناظرات العقائدية بين المسلمين. وقد كان غياب الرؤية التفاعلية بين الأنواع المنطقية السابقة من العوامل المعرفية قبل العوامل السياسية[25] التي أدت إلى وجود تأويلات كلامية وصوفية وباطنية وفلسفية اعتبرت مذمومة لمناقضتها مقاصد الشرع في تقرير سنة الاختلاف بما ينمي مقصد الوحدة.

وإذا كان خطأ تدبير الاختلاف في كشف ما انغلق بالرواية نشأ عن الجهل بقواعد معرفة الصحيح منها والضعيف، فإن خطأ تدبيره فيما يتم بالدراية أو الاستدلال وهو مجال إعمال التأويل، وقع من طريقين حددهما ابن تيمية بقوله:

“أحدهما؛ قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها. والثاني؛ قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به. فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان. والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين من قبلهم، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق. والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به. وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول”[26]. وقد مثل للذين أخطئوا في الدليل والمدلول بفرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم، وأما الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول فمثل لهم بكثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة لكن القرآن لا يدل عليها.

لقد أرخت التأويلات الباطلة سدولا قاتمة من الادعاء والافتراء والتقول على الله بغير علم على مصطلح التأويل مما جعله في تاريخ المسلمين لا يذكر إلا بالمضمون القدحي في غياب المضمون الإيجابي الذي يكشف تكليف العقل المسلم بالتدبر والتثوير والاجتهاد.

إن التأويل في القراءة الاستنطاقية استنباط عقلي مصحوب بأدلة وبراهين، فليس علما “بما هو معلوم سلفا ومسبقا بل هو العلم بما لم يعلمه الإنسان لأنه استنباط من المعلوم وانبجاس في صميم الأصل، انبجاس يسمح بتجدد الدلالة وإذ ذاك يقف الإنسان في نفسه على حقائق لم يسبق له أن وقف عليها ويشعر بضرورة تعريف الأشياء من جديد ويصير ذهنه إمكانا عقليا منفتحا”[27]، إنه علم قائم على قياس شمولي يعتمد الاستقراء والبرهان والاستدلال في الشريعة والكون لصناعة فكر وسطي جامع بين الإيمانية والعقلانية يطلب به علم أو غلبة ظن.

الأمر الثاني: قانون التأويل

لما كان التأويل فهما عميقا يؤتاه المجتهدون بمداومة النظر والتدبر في القرآن تفكرا فيه وتعقلا لهدايته لا ينبني على التوسم والتفرس والتذوق وإنما على نقل مصدق أو استدلال محقق، فقد سئل علي رضي الله عنه “هل خصكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء دون الناس؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه”[28]، فإنه اقتضي قانونا لضمان عدم الوقوع في الوهم والغلط في رد الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المؤول الناتجة عن الاحتمال بسبب الاشتراك أو بدوران دلالة اللفظ بين الحقيقة والمجاز أو غيرهما.

والمتتبع للدراسات الأصولية ابتداء من الشافعي إلى الشاطبي يجد اجتهادات عديدة في ضبط قانون التأويل للتمييز بين التأويلات الصحيحة والزائفة. مما يكشف أن البحث عن هذا القانون نهض إشكالا معرفيا في المعرفة الإسلامية نقدم له نموذجا عند الشافعي والغزالي وابن رشد والشاطبي.

فكانت رسالة الشافعي كلها بمثابة قانون للتأويل، اتخذ فيها منهجا وسطا في التوفيق بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث في التعامل مع النص الشرعي، يقول: “ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبت، ولا يمتنع من الاستماع مما خالفه لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة ويزداد به تثبيتا فيما اعتقد من الصواب”[29]، وبهذا يتبين أن العمل بالتأويل لا يتم إلا لمن حصل معرفة واسعة لا تتاح إلا لمن تمرس بمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأحاط بملابسات التشريع إلى جانب المعرفة اللغوية.

أما الغزالي فقد عرف التأويل بأنه “عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر”[30]، وخلص إلى وضع قانون للتأويل في سياق حديثه عن العلاقة بين المعقول والمنقول، يقول: “بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر، والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق، والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا والمنقول تابعا فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل المنقول أصلا والمعقول تابعا، وإلى من جعل كل واحد أصلا يسعى في التأليف والتوفيق بينهما”[31] والفرقة الناجية عند الغزالي من هؤلاء هي: “الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول والجاعلة كل واحد منهما أصلا مهما، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا، من كذب العقل فقد كذب الشرع إذ بالعقل عرف صدق الشرع ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي والصادق والكاذب وكيف يكذب العقل بالشرع وما ثبت الشرع إلا بالعقل وهؤلاء هم الفرقة الحقة”[32].

ويتمثل هذا القانون في ثلاث وصايا:

الوصية الأولى: أن لا يطمع المرء في الاطلاع على جميع الأمور الغيبية.

الوصية الثانية: أن لا يكذب برهان العقل أصلا فإن العقل لا يكذب إذ به عرفنا الشارع.

الوصية الثالثة: أن يكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات؛ لأن وجود الاحتمالات في كلام العرب وطرق التوسع فيها كثير فمتى ينحصر ذلك فالتوقف في التأويل أسلم، فإن الحكم على الغيبيات بالظن والتخمين خطر لأن أكثر ما قيل في التأويلات ظنون والتخمين والظن جهل.

إن مصدر الغلط في التأويل عند الغزالي هو التباس قضايا الوهم بقضايا العقل والكلمات المشهورة المحمودة بالضروريات والأوليات، وأبعد التأويلات عن الحقيقة وأغربها أن يجعل الكلام مجازا أو استعارة بغلبات الظنون من غير برهان قاطع.

أما ابن رشد فقال: “ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي”[33] ويتم إعمال هذا المعنى بناء على أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، “وإذا كان هذا هكذا فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بوجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به. فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هنالك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا. فإن كان موافقا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله”[34]، على طريقة أهل البرهان لا على طريقة أهل الفقه “فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني. ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن. وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول. بل إنا نقول ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أو يشهد”[35]

ويمكن تلخيص قانون التأويل عند ابن رشد في قضيتين:

الأولى؛ تقديم صناعة أهل البرهان في الوصول إلى الحقائق اليقينية في الشرع عن طريق القياس العلمي لأنهم أصحاب اليقين القادرين على فك رموز الكون وفهم أسرار الطبيعة ومقاصد الشارع.

الثانية؛ فهم قوانين العربية وسننها بما لا يخل بعادة لسان العرب في التجوز.

وأما الشاطبي فقد رأى أن التشابه لا يقع في الأصول أي: القواعد الكلية من معاني الشريعة وإنما يقع في الفروع الجزئية، وأن المتشابه الواقع في الشريعة حقيقي وإضافي وآخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام، فالأول ما لم يجعل لنا سبيل لفهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه وهو قليل، والثاني أنه لم يصر متشابها من حيث وضع الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن لناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى، والثالث التشابه فيه ليس بعائد على الأدلة وإنما هو عائد على مناط الأدلة. وبعد تقريره هذا حدد قانونا لتسليط التأويل على المتشابه بأن يراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة[36]:

الأول: أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ويكون اللفظ المؤول قابلا له.

الثاني: أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه، فالناظر بين أمرين، إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع. وإما أن لا يبطله ويعتمد القول به على وجه، فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك، وإن لم يصح فهو نقض الغرض، لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح.

الثالث: وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة، فرده إلى ما لا يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه وهو جمع بين النقيضين.

إن قانون التأويل من خلال هذه النظريات التأويلية يتلاقى في تحرير أدوات علمية تنطلق من كون المعنى موجود في الشرع وثابت فيه، وأن المؤول ينبغي كشفه لا إنتاجه من ذاته وهذا الكشف ينبغي الاحتياط فيه بـ[37]:

  • عدم الجهل بسنن العربية باعتبارها أدوات موصلة للمراد من الشرع.
  • عدم إغفال السياق التناسبي الداخلي ومراعاة المقام الخارجي الجامع للمتكلم والمخاطب ومقتضيات الاستخلاف الإنساني.
  • عدم إغفال البيان النبوي القولي والفعلي والتقريري.
  • عدم الجهل بمقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية.
  • عدم تحسين الظن بالعقل وتقديمه على الوحي.
  • عدم إغفال قواعد العلوم الشرعية والإنسانية في الفهم والترجيح بين المتعارضات في النص وفي الواقع الإنساني.

فمن شأن هذه القوانين والمقاييس أن تضبط القراءة الاستنطاقية للوحي وتحد من انسياقها مع الهوى والتلذذ والانصياع لأوهام الخيال والتخيلات وأن تكون مدخلا للتنظير للعمل التأويلي الاستنباطي والتنزيلي في استمداد الأحكام والتصورات والمعارف من الوحي وتكييفاتها مع المقاصد الكونية والإنسانية.

الأمر الثالث: التأويل والاجتهاد

إن علاقة التأويل بالاجتهاد تنطلق من القرآن الكريم المفتوح عليهما من خلال نظمه الجامع للمعاني الكلية المستوعبة لانتقالات العقل المسلم في التاريخ، فالتأويل والاجتهاد عملان لا ينفصلان من حيث إن ضوابط الاجتهاد هي التي تعطي للتأويل صفة المشروعية، كما أن التأويل هو الذي يمنح للاجتهاد صفة التجديد واكتشاف معاني جديدة مبثوثة في الشرع، فالاجتهاد بالتأويل والتأويل بالاجتهاد قاعدة علمية لاستنطاق القرآن الكريم تتناول أمرين:

الأول: التأويل بالاجتهاد في النص القرآني، وهو بذل الطاقة الاجتهادية في الاستنباط منه للتمكن من كافة دلالاته بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة المنزع، وذلك بالبحث عن دلالاته التطابقية والتضمنية والالتزامية ثم النظر في عوارض الألفاظ التي تجعل المراد خفيا كالعام والمشترك والمطلق والمقيد والمشكل والمجمل والحقيقة والمجاز والتقديم والتأخير…

وهذا التأويل النصي لا يكتفي بمنطق اللغة وحده بل لابد من مزاوجته بمراعاة منطق الشرع المقاصدي باعتباره ضوابط كلية لجلب المصالح ودفع المفاسد مضمومة إلى الأدلة اللغوية الجزئية، بحيث لا يستغنى بالجزئيات الدلالية عن الكليات المصلحية ولا بهذه عن تلك.

الثاني: التأويل بالاجتهاد فيما لا نص فيه : وهو قياس شمولي لا يقف فقط عند حدود القياس الفقهي الجزئي في ربط فرع بأصل بجامع العلة وإنما يتعداه إلى قياس كلي يعتمد الاستقراء لإثبات كليات لاستخراج مستجدات في الأحكام الشرعية والمعرفة الإسلامية، ولذا لا يقوم هذا التأويل إلا “على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى أصل”[38]، لأن التأويل دون أصل مآله الافتئات على حق الله في التشريع وإن كان جهدا عقليا يقصد البعد عن الهوى والتشهي.

فلا تحصل درجة الاجتهاد التأويلي في الفهم الدقيق للنصوص القطعية وترجيح الاحتمال في النصوص الظنية وإيجاد المناسب فيما لا نص فيه، إلا لمن اتصف بوصفين: “أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”[39].

إن التأويل الاجتهادي في نظرية الاستنطاق تدبر أمور معلومة للتأدي إلى مجهول مشروع ومعقول، وتلك الأمور المعلومة سواء كانت نصا شرعيا واحدا أم نصوصا متعددة فإن الجمع بينها وبين المستجدات التاريخية والتحولات الحضارية يكون باجتهاد قياسي شمولي بقاعدة تنقيح المناط وتخريج المناط وتحقيق المناط والنظر في مآلات الأفعال[40].

– تأويل تنقيح المناط وهو بذل الوسع في تحديد المعنى الجامع سواء سمي علة أو حكمة أو مصلحة أو مقصدا في النص الجزئي أو النص الكلي الذي اقترنت فيه معاني متعددة دالة تتزاحم في إمكانية الجمع بين مستجد وأصل، وهذه الإمكانية تتم بإلغاء الفارق بينهما والتأكد من تماثلهما أو من خلال التنقيح لتمييز المعنى المعتبر من الملغى.

– تأويل تخريج المناط وهو نوع من الاجتهاد القياسي الذي يرجع إلى استنباط المعاني القرآنية الصحيحة التي تناط بها أحكام شرعية ومعرفة إنسانية واسعة، فهو تأويل طلب وبحث عن معنى محدد للتعليل والاستدلال لتعدية تلك المعاني القرآنية للمستجدات الإنسانية.

– تأويل تحقيق المناط وهو ما يرجع إلى فقه واقع الإنسان ومعانيه وأشيائه ومحيطه، وهو عام وخاص:

 فالعام ما رجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص كتعيين نوع المثل في جزاء الصيد ونوع الرقبة في العتق في الكفارات فهو مرحلة تطبيقية من حيث إنه لما يكون البيان القرآني على نحو قاعدة عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأفرادا فإنه يلزم التأويل بتحقيق المناط لمعرفة الأجزاء المنضوية تحت تلك الكلية ثم تطبيق حكمها على أنواعها الجزئية.

والخاص يتعلق بالأشخاص بتحقيق المناط في أفرادهم لتنزيل المعنى المناسب، وذلك بالنظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحسب تكوينه النفسي.

وتأويل تحقيق المناط يختلف عن تأويل التنقيح والتخريج بكونه اجتهادا لا ينقطع حتى فناء الدنيا.

– النظر في مآلات الأفعال وذلك أن المستنطق لكتاب الله تعالى لا يستنبط من المعاني إلا بعد نظره فيما يؤول إليه الفعل بذلك المعنى، فقد يكون مشروعا لمصلحة تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن مآله على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشرع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة وتزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وعلى العلم بمآلات الأفعال تتأسس تأويلات الأخذ بقواعد استنطاقية لتفاعل القرآن مع الواقع نحو: قاعدة الذرائع وقاعدة الحيل وقاعدة الاستحسان وقاعدة المصالح المرسلة.

إن التأويل بين الحمد والذم و قانون التأويل وعلاقة التأويل بالاجتهاد أمور ثلاثة تكشف نسقية التأويل في النظرية الاستنطاقية الجامعة بين تثوير النص الشرعي وتعقل شرعي للواقع الإنساني، وتكاملية هذا التثوير والتعقل تقتضي البحث في نسقية التقصيد.

المحور الثالث: نسقية التقصيد في النظرية الاستنطاقية

يستخدم الشاطبي مصطلح التقصيد في سياق تحديد ثلاثة ضوابط للقول بالرأي في كلام الله تعالى[41]:

  • التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة.
  • أن النظر في القرآن يشبه النظر في القياس فيما لا نص فيه، وذلك لأن المحظور فيهما واحد وهو خوف التقول على الله، بل القول في القرآن أشد فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا بكلامه المنزل.
  • أن ما يقوله المتكلم على القرآن والناظر والمفسر، تقصيد منه للمتكلم والقرآن كلام الله، فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد، وإلا فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم. وإلا فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة. فعلى كل تقدير لابد في كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله وإلا كان باطلا ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم.

فالتقصيد تفعيل من قصد الشيء وقصد له وقصد إليه قصدا، والقصد اعتماد الشيء وأمه وإتيانه. والمراد باصطلاح التقصيد هنا البحث بطرق إثبات المقاصد الشرعية عن المقاصد الشرعية في كتاب الله تعالى. ومقاصد الكتاب لا تنحصر في أحكام أوامره ونواهيه بل تتضمن مقاصد كل معارفه التي جاءت مفسرة لعلاقة الإنسان بالله تعالى والكون والإنسان.

فالتقصيد تدبر للقرآن وتثوير لمعانيه المنطوقة والمفهومة، الواضحة والخفية لإثبات المصالح التي جاء بها لتحقيق أحسن نظام للعلاقة الثلاثية السابقة. و قد قسم العز المصالح والمفاسد إلى ضربين: “أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد بل لكونها المقصودة من شرعها كقطع السارق وقطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم وكذلك التعزيرات، كل هذا مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. وكذلك المفاسد ضربان: أحدهما حقيقي وهو الغموم والآلام، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد، وذلك كالسعي في تحصيل اللذات والمحرمات والشبهات المكروهات والترفهات بترك مشاق الواجبات والمندوبات، فإنها مصالح نهى عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد الحقيقية، وتسميتها مفاسد من مجاز تسمية السبب باسم المسبب”[42]. وبعيدا عن وصف المصالح والمفاسد بالحقيقة والمجاز، يربطهما الشاطبي بإقامة الدنيا للآخرة وذلك بكون “المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو في دفع مفاسدها العادية”[43]، فالمصالح عنده هي: “ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق”[44]. وتتشكل إقامة الحياة وإنجاز أمانة الاستخلاف مما لابد منه وهو الضروري المطلوب التحقيق بالقصد الأول ثم من مكملين له وهما الحاجي والتحسيني المطلوبان بالقصد الثاني. وبالاستقراء تم حصر الكليات الضرورية بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع في خمسة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، يقول الغزالي” فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكن نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة”[45]. والمحافظة على تفاعلية هذه الأصول الكلية الخمسة تعطي للبناء النسقي التقصيدي قوة عملية في استنطاق الوحي وتمكين الإنسان من تحقيق إمكاناته الاجتهادية في واجب الأزمان ومتقلبات الأحوال ومقتضيات العيش.

فالمصالح مجموع الكليات الضرورية والحاجية والتحسينية الملاحظة في جميع تنوعات الخطاب القرآني، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص منه كأحوال التشريع أو العقيدة أو الأخلاق. وكل ما يفوت حفظ تلك الكليات الضرورية والحاجية والتحسينية فهو مفسدة ودفعه مصلحة.

ونسقية التقصيد في نظرية الاستنطاق تتأسس على ثلاثة قواعد اجتهادية:

أ. فهم مصالح الوحي على كمالها بالتمييز فيها بين الأصلية والتبعية الحقيقية والإضافية القطعية والظنية والموهومة.

ب. التمكن العلمي من مراجعة ما قيل من التأويلات والتفسيرات حول آي القرآن الكريم ثم استنباط معاني متجددة وافية بمقتضيات التغيير في الواقع بناء على الفهم التقصيدي.

ج. التكييف التقصيدي لتنزيل المعاني الشرعية في مقتضيات تشكيل الواقع الإنساني.

فبهذه القواعد تتأكد علاقة التقصيد بالتأويل، بحيث إن المقصود الشرعي يتم ضبطه من حيثيتين:

الأولى: من حيث كون النص القرآني يتضمن أحكاما تنطوي على مقاصد شرعية تتم ملاحظتها عبر دلالات النص الواضحة والخفية بالنظر في عمومها وخصوصها ومطلقها ومقيدها وأمرها ونهيها وحقيقتها ومجازها.. التي عمل الأصوليون على تبيان مقاصدها واختلاف أحوالها ومقاماتها وسياقاتها.

الثانية: من حيث كون النص القرآني يتضمن مقاصد تنطوي معارف شرعية غايتها حفظ النظام الدنيوي الإنساني بما هيأ الباري تعالى لتقويم الطبيعة البشرية ولإمكان فهم سنن التدافع والتحاور وذلك على قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد.

فالحيثيتان مرتبطتان بقواعد لغوية وأصولية وشرعية وعقلية من شأنها مراعاة المقاصد الشرعية في استنطاق الشريعة بأكملها والتي “جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”، وهذا التحصيل والتفويت والتعطيل والترجيح والدفع آليات منهجية تقارب كليات مقاصدية في الوحي مطردة وعامة وثابتة غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها، مما يميز المعنى المصلحي المستنطق بخواص ثلاث تجعله في مرتبة العلم القطعي[46]:

– العموم والاطراد: فقد جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا وهو معنى كونها كلية وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص، فهو راجع إلى عموم.

– الثبوت من غير زوال: لا تجد فيها بعد كمالها نسخا ولا تخصيصا لعمومها ولا تقييدا لإطلاقها ولا رفعا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببا فهو سبب أبدا لا يرتفع وما كان شرطا فهو أبدا شرط، وما كان واجبا فهو واجب أبدا أو مندوبا فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك.

– كون ذلك المعنى المستنطق حاكما لا محكوما عليه بمعنى كونه مقيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به، فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه لا زائد على ذلك ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها.

والمعايير الضابطة لمراعاة تلك الكليات المصلحية:

– عرض كل مسألة استنطاقية على ميزان المقاصد الشرعية الكلية والخاصة والجزئية الأصلية والكلية العينية والكفائية، فإن صححت عليها فالمتوصل إليه محمود ومقبول وإن لم تصحح فالتحفظ من التقول على الله هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية.

– معرفة جهات الاستنطاق ثم كيفية توجيه المعنى فيها بحسب طرق معرفة التقصيد اللغوية والشرعية.

– لما كان الاستنطاق يحصل في جهات تتردد بين طرفين وضع في كل واحد منهما قصد للشارع في الإثبات في أحدهم والنفي في الآخر، فإنه يتوجب معرفة قواعد الترجيح انطلاقا من تحديد بعض صور التعارض كأن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية تحتها، أو في جهة جزئيتين كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة، أو في جهتين جزئيتين لا تدخل إحداهما تحت الأخرى ولا ترجعان إلى كلية واحدة، أو في جهتين كليتين من نوع واحد.

وإذا كان الأصوليون واللغويون والبلاغيون قد حددوا طرق معرفة المقاصد اللغوية الظاهرة والباطنة التي ينبغي أن يحمل عليها كلام الله تعالى، وهي التي تقصد من الألفاظ عند التخاطب ولا يتم التفهيم والفهم إلا بها، وذلك بألا تخرج عن سنن لسان العرب في الخطاب والتخاطب. فإن المقاصديين أيضا وضعوا طرقا لمعرفة المقاصد الشرعية يلزم العناية بها لتمييز ما هو مقصود للشرع مما ليس بمقصود له وما هو مقصود قطعي أو ظني، حقيقي أو وهمي، وتمثل هذه الطرق محور التقصيد في استنطاق القرآن المجيد، وممن بدأ هذا التحديد العز بن عبد السلام بقوله: “أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها مع أن الله، عز وجل، لا يجب عليه جلب مصالح الحسن ولا درء مفاسد القبيح، كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة، وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا، ولو عكس الأمر لم يكن قبيحا إذ لا حجر لأحد عليه”[47] وبهذا يبرز العز أشعريته ويحدد أن طرق إثبات المقاصد الشرعية:

– الشرع وأدلته؛

– الضرورات والتجارب بالنسبة للمصالح الدنيوية وأسبابها؛

– العقل.

 أما الشاطبي فتكلم عن جهات أربع[48]:

أ. مجرد الأمر والنهي الابتدائي والتصريحي.

ب. اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ولماذا نهى عن هذا الآخر.

ج. أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقصدا أصليا ومقصدا تبعيا.

د. السكوت عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضى له.

أما الطاهر بن عاشور فقد حددها في ثلاث[49]:

أ. الاستقراء وقد اعتبره أعظم طرق إثبات المقاصد الشرعية.

ب. الأدلة الواضحة والصريحة من النص القرآني الكريم.

ج. السنة المتواترة تواترا معنويا أو عمليا.

أما أحمد الريسوني فقد لاحظ في تحليله لنظرية المقاصد عن الشاطبي أنها لا تتوقف عند الجهات الأربع وإنما يمكن أن تحدد في خمس طرق[50]:

أ. فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي.

ب. الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية.

ج. المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية.

د. سكوت الشارع.

هـ. الاستقراء.

ولكي لا تبقى هذه الطرق ملتصقة بمعرفة مقاصد الشريعة داخل النص الشرعي وإنما ينبغي أن تنظر لتفاعله مع الواقع الإنساني وسبره بميزان الشرع، نقترح ثلاثة مناهج متداخلة ومتكاملة لمعرفة المقاصد الشرعية:

  • المنهج النصي.
  • المنهج الاستقرائي.
  • المنهج التجريبي الواقعي.

 وتفاعلية هذه المناهج من شأنها أن تبين تكاملا معرفيا في القراءة الاستنطاقية للوحي الإلهي تبرزه نسقية التأويل ونسقية التقصيد، من حيث إنها نسقية نتاج عقلي صريح قائم على الممكن والنسبي في استنطاق للقرآن المجيد لا يعارض منطقه، ولا يفرض مقولات العقل البشري عليه ولا يلغي منها المقولات المؤسسة على العلم والبرهان، عسى أن يجد فيها ما يفتح بابا شرعيا يلج منه ليستخلص معاني قرآنية فريدة تحقق مقصد الإنسان الأعلى من وجوده، يقول العز: “ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك”[51].

إن النسقية والتأويلية والتقصيدية تغلق في شروط تاريخية وظروف إنسانية وواقعية محددة انفتاح الشرع على معاني دقيقة ومقاصد كلية مناسبة. فتحت كل لفظ قٌرآني وآية قرآنية يوجد المعنى الحقيقي للإنسان في الزمان والمكان، وفي هذا ينقل الزركشي عن سهل بن عبد الله قوله “لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه، لأنه كلام الله وكلامه صفته، وكما أنه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله عليه وكلام الله غير مخلوق ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة”[52]، فالتدبر الاستنطاقي من مقاصده تعليمنا بأن الوحي مهيمن ومستوعب للزمان التاريخي الإنساني وأن الله تعالى لم يفرط فيه من شيء قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 39) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ (الإسراء: 89) وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ (لقمان: 26).

خاتمة

 إن نظرية الاستنطاق ليست تفسيرا تجزيئيا ولا تفسيرا موضوعيا وإنما هي قراءة تكاملية جامعة بين النسق التأويلي والنسق التقصيدي تسعى لإيجاد المسالك الحقيقية لإثبات ثلاثة ركائز معرفية في زمن هيمنة الحداثة الغربية.

الأولى: إن المعرفة التدبرية والتأملية للوحي ارتكازا على منطقه الشرعي والحجاجي هي الأصلح والأنفع للوجود الإنساني بدل المعرفة التي تتغي تأويله وتقصيده بمناهج تأويلية وتقصيدية منقولة وغير مأصولة ومخالفة لمنطقه.

فالنظرية الاستنطاقية تعتمد منهج التأويل والتقصيد الذي لا يتعارض مع ما حدد الوحي لنفسه من مقاصد الهدى والبيان والموعظة والرحمة.. وهذا ليس حائلا لانفتاح نص الوحي أمام كل المناهج المستمدة من حقول معرفية متنوعة كالهرمنيوطيقا الحديثة وأبعادها الفلسفية والأنتروبولوجيا بفروعها وعلوم اللسان بمدارسها ومناهج التلقي واختلاف أصولها المعرفية، لكن من دون اعتبار لأفضلية مضمونها التأويلي على نص الوحي، لأنها في النهاية منتج عقلي خاضع لفلسفة مشروطة بالسياق التاريخي والمعرفي، فلا يمكن عقلا ومنطقا أن تنزع القداسة من الوحي لتعطى إلى عقل نسبي.

الثانية: إن استنطاق الوحي بالتأويل والتقصيد هو بغاية معرفة عالم الإنسان وعالم المسخرات وفهم القوانين الداخلية والخارجية المنظمة لهما والمحددة للتعلقات الممكنة بينهما، وبهذا كانت قراءة متوازنة ومتوازية للوحي والكون. ومن هنا فإن نزع القداسة عن الوحي باعتباره نصا لغويا كسائر النصوص لإخضاعه لقواعد منهجية حديثة فقط، مبني على مغالطات تأويلية وتقصيدية تعتقد القداسة في المناهج التاريخية بقوة التمسك بها، واعتبارها عقلا كاملا قادرا على إسقاط قداسة النص الشرعي واستيعابه لتغيرات الإنسان في الزمان. ولذا فإن القراءة الاستنطاقية تراعي المجال التداولي للنص الشرعي المحكوم بمنطقه اللغوي الحجاجي وتحافظ على قداسته التي يثبتها لنفسه، وتنفتح على كل الآليات المنهجية القديمة والحديثة والمستقبلية التي من شأنها تثويره وتجديد معاني الحياة على هداه وجعل العالمين مستجيبين له.

الثالثة: إثبات أن الوعي الإنساني لا ينفصل عن المعنى المستنطق من الوحي، وأن المعرفة الإنسانية مهما تبدلت وتغيرت لا تخرج عن يقينيات الوحي. وهذا يعني أن القراءة التأويلية والتقصيدية وإن كانت مسؤولية الإنسان في أي زمان فإنها محكومة بالشرع ومنضبطة به، فسنن النص الشرعي متناسبة مع سنن التاريخ المتحركة تناسبا يحافظ على هوية الإنسان وتحصيله للمصالح الحقيقية البانية لمقومات الوجود الإنساني.

وبهذه الركائز المعرفية لن يبقى مسوغ عقلي لفرض منهجيات إنسانية خاضعة لمؤثرات الزمان والمكان أن تفرض رؤية قراءة جديدة تخالفه في مقاصده ثم تدعي أنها تقصد قراءة موضوعية تنزع عنه التعالي والتقديس والأسطورة وتبشر بقدوم قيم الحداثة الغربية بتلاوينها الإبستيمولوجية والإيديولوجية لتخضعه لسنن قراءاتها. ولذا تم الوقوف على تحديد نسقية التأويل والتقصيد وذلك جراء ما أقحم في مفهومي التأويل والتقصيد من مفاهيم وهمية وضعيفة تغلب إيديولوجيا الحداثة وما بعدها على العلم، وتحسب أنها تحسن صنعا، وذلك من قبل بعض المنتسبين إلى الإسلام من الذين استهوتهم النزعات العلمانية وعقلانية مناهج تحليل النصوص المؤطرة بالسياق التاريخي والمعرفي لأنساق مركزية الحداثة الغربية[53]، فزعموا أن لهم قراءة جديدة للوحي القرآني قائمة على تجديد للفكر المقاصدي. وما هو بتجديد لهذا الفكر وإنما فصل له عن مصدر استمداده الأصلي وهو القرآن المجيد، وهذا يقتضي وقفة علمية مستقبلية كاشفة لأبعاد نظرية الاستنطاق ومبينة لجانبها التطبيقي.

المصادر والمراجع

       القرآن الكريم

  • أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها لطه جابر العلواني، مكتبة الشروق الدولية ط1، (1427هـ/2006م).
  • “الاعتصام” لأبي إسحاق الشاطبي، دار المعرفة دون طبعة وتاريخ.
  • “إعلام الموقعين عن رب العالمين” لابن قيم الجوزية، قدم له وراجعه: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل. بيروت دون طبعة وتاريخ.
  • “البرهان في علوم القرآن” لبدر الدين الزركشي، دار الفكر تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، دار الفكر، ط.3، (1400هـ/1980م).
  • “التأويل والحقيقة قراءات تأويلية في الثقافة العربية” لعلي حرب، دار التنوير، بيروت، 1985م.
  • “التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية” لباقر الصدر، الدار العالمية، بيروت، لبنان، ط.1 (1409هـ/1989م).
  • “جامع بيان العلم وفضله” لأبي عمر يوسف بن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت دون طبعة وتاريخ.
  • “دقائق التفسير الجامع” لتفسير ابن تيمية، جمع وتقديم: محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، ط. 2 (1404هـ/1984م).
  • “الرسالة” للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الفكر، 1309هـ.
  • “مجموعة رسائل أبي حامد الغزالي” تنقيح وتصحيح: مكتب البحوث والدراسات دار الفكر، بيروت 2000م.
  • “المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز” لابن عطية، تحقيق: المجلس العلمي بفاس.
  • “المنار” تفسير: محمد رشيد رضا، دون طبعة وتاريخ.
  • “المستصفى في علم أصول الفقه” لأبي حامد الغزالي، المطبعة الأميرية، مصر، ط.1، 1392هـ.
  • “مسند الإمام أحمد وبهامشه كنز العمال” للمتقي الهندي، دون طبعة وتاريخ.
  • “مقدمة في أصول التفسير” لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور دار القرآن الكريم، الكويت ط.1 (1329هـ/1971م).
  • “مقاصد الشريعة” لمحمد الطاهر بن عاشور، المطبعة الفنية، تونس، 1366هـ.
  • “الموافقات” في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق: عبد الله دراز دار المعرفة بيروت دون طبعة وتاريخ.
  • “نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر” لأبي الفرج عبد الرحمان بن الجوزي، تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي مؤسسة الرسالة ط.1 (1404هـ/1984م).
  • “نظرية التأويل” لمصطفى ناصف، النادي الأدبي الثقافي، جدة المملكة العربية السعودية، ط.1 (1420هـ/2000م).
  • “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” لأحمد الريسوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط. 1 (1411هـ/1991م).
  • “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” لبرهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1 (1415هـ/1995م).
  • “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، قدم له وعلق عليه: ألبير نصري نادر، دار المشرق، ط.6، 1991م.
  • “في أصول الحوار” لطه عبد الرحمان، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، المغرب ط.1، 1987م.
  • “قانون التأويل” لأبي بكر بن العربي، دراسة وتحقيق: محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي، ط.2، 1990م.
  • “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” للعز بن عبد السلام، دار المعرفة، بيروت دون طبعة وتاريخ.

الهوامش

  1. المنار، 1/7.
  2. أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها، ص:111.
  3. قال ابن مسعود: “من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن” انظر البرهان، للزركشي، 2/154.
  4. نفسه: 2/161.
  5. الموافقات، 3/388.
  6. نفسه: 3/388.
  7. البرهان، 2/154.
  8. نفسه: 2/155.
  9. قال ابن العربي” وأما علم الباطن فقد ضلت فيه الأمم فأوغدوا في هذا الباب وأوعدوا حتى كفرت منهم طائفة لا يحكى قولها الآن لسخافته، وتسورت عليه أخرى، وادعى كل واحد منهم أن علمه في كتاب الله ليحرض عليه من يطلبه. وإنما عنى العلماء بقولهم: إن العلوم كلها في كتاب الله، ما كان علما لذاته، لا ما وقعت الدعوى فيه أنه علم وهو جهل، وذلك يرجع إلى العلوم الشرعية والحقائق العقلية، فإن جميعها مضمن في كتاب الله، والدليل عليه مبين، وكل جهالة وسخافة ادعتها طائفة فالرد عليها في كتاب الله موجود أيضا مبين. وتكلفت طائفة ما يستغنى عنه وهم جماعة من الصوفية أنحاء غريبة..” قانون التأويل ص: 196.
  10. نظم الدرر، 1/5.
  11. الموافقات، 3/413.
  12. نفسه: 3/347.
  13. سورة الذاريات الآية 21.” ولعظيم موقع معرفة النفس من معرفة الرب قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ (الحشر: 19) فإنك لا تغفل عن شيء من نفسك إلا وقد تركبت عليه غفلة بربك، لأن كل شيء منك دليل عليه، وطريق مهيع إليه، والبارئ سبحانه وتعالى يبصرك نفسه بنفسه بنفسك، قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾. وفي كل شيء له آية، في السماوات والأرض وما بينهن، وفي النفس، ونفسك أقرب إليك وأقعد بك. فهذا طريق وأصل في التفسير، وقانون من التأويل فخذ به، وركب عليه ما في ابن آدم من الآيات، وقد قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 52) قيل تستدل بكل شيء من المخلوقات على البارئ، فإذا عرفته استدللت به على كل شيء. وقوله في الآفاق، من تغير الأحوال وتبديل الدول واختلاف الليل والنهار والغيم والصحو وظهور الإسلام وخمول الكفر إلى غير ذلك من بحار التأويل ومهامه التفسير وتركب عليه ما يليق من التنظير” قانون التأويل ص: 171.
  14. يقول باقر الصدر: “إن حصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كله تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضا؛ أي أننا نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية، ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي من دون أن نكشف أوجه الارتباط بينهما. ومن دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار، ومن دون أن تحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة… وقد أدت حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي إلى ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية، إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع كما وقع في كثير من المسائل الكلامية” التفسير الموضوعي ص: 18. ويقول أيضا: “إن التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة لأن التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة. بينما نجد أن التفسير الموضوعي يطمح إلى أكثر من ذلك ويتطلع إلى ما هو أوسع من ذلك حيث يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، ويحاول أن يصل إلى مركب نظري قرآني. وهذا المركب النظري القرآني يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا هو ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، وعبر هذا الإطار يصل المفسر إلى نظرية قرآنية عن النبوة مثلا أو عن المذهب الاقتصادي أو عن سنن التاريخ أو عن السماوات والأرض وما إلى ذلك…” ص: 30.
  15. المحرر الوجيز، 1/3.
  16. نظرية التأويل، لمصطفى ناصف، ص: 173.
  17. في أصول الحوار، ص: 155.
  18. أخرجه الإمام أحمد، في مسنده، 1/266.
  19. ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ (الفرقان: 33).
  20. نزهة الأعين النواظر ص: 217.
  21. دقائق التفسير 1/129.
  22. نفسه، 1/131.
  23. نفسه.
  24. نفسه، 1/127.
  25. مقصود بها تضارب المصالح بين الجماعات حول السلطة السياسية وعدم تفعيل مقصد الشورى في تنظيم الاختلاف حول الحكم.
  26. أصول التفسير، ص:81-82.
  27. التأويل والحقيقة، علي حرب، ص: 9.
  28. إعلام الموقعين، 1/225.
  29. الرسالة، ص: 510.
  30. المستصفى، 1/387.
  31. مجموعة رسائل، الغزالي، ص: 580.
  32. نفسه، ص: 580.
  33. فصل المقال، ص: 35.
  34. نفسه، ص: 35.
  35. نفسه، ص: 36.
  36. الموافقات، 3/99-101.
  37. الاعتصام للشاطبي، 2/476.
  38. جامع البيان وفضله، لابن عبد البر، 2/57.
  39. الموافقات، 4/106.
  40. نفسه، 4/97.
  41. نفسه، 3/423-424.
  42. قواعد الأحكام، 1/12.
  43. الموافقات، 2/37.
  44. نفسه، 2/25.
  45. المستصفى،1/287.
  46. نفسه، 1/78.
  47. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/8.
  48. الموافقات 2/48.
  49. مقاصد الشريعة، ص: 19.
  50. نظرية المقاصد، ص: 271.
  51. قواعد الأحكام، 2/189.
  52. البرهان،1/9.
  53. والنموذج الأمثل لهؤلاء محمد أركون فيما يسميه نقد العقل الإسلامي.

Science
الوسوم

د. عبد الرحمن العضراوي

• أستاذ مقاصد الشريعة والفكر الإسلامي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال.
• رئيس مسلك الدراسات الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• رئيس مختبر مقاصد الوحي والحوار الحضاري، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال.
• عضو فاعل بعدة جمعيات مدنية ببني ملال.
• شارك في العديد من الندوات الفكرية والعلمية داخل المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق