مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينأعلام

قصة (أَيِّمِ العَرَب): أُمِّ المؤمنين أُمِّ سَلَمَةَ، رضي الله عنها.

 “لَمْ تَبْقَ هِنْدُ المَخْزُومِيَّة أُمّاً لِسَلَمَةَ وَحْدَهُ؛ وَإِنَّمَا غَدَتْ أُمّاً لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ”

 أُمُّ سَلَمَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا أُمُّ سَلَمَة؟!.

أَمَّا أَبُوهَا فَسَيِّدٌ مِنْ سادات “مَخْزُومٍ” المَرْمُوقِين، وَجَوَادٌ مِنْ أَجْوَادِ العَرَبِ المَعْدُودِين، حتى إنه كان يُقَالُ له: “زَادُ الرَّاكِب”([1])؛ لأن الرُّكْبَانَ كانت لا تَتَزَوَّدُ إذا قَصَدَتْ مَنَازِلَهُ أو سَارَتْ في صُحْبَتِه.

وأمَّا زَوْجُهَا؛ فعبد الله بنُ عَبْدِ الأَسَدِ أَحَدُ العَشَرَةِ السَّابِقِينَ إلى الإسلام؛ إِذْ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَهُ إلاَّ أبو بكر الصِّدِّيق، وَنَفَرٌ قليلٌ لا يَبْلُغُ أصابع اليَدَيْن عَدَداً.

وأمَّا اسْمُهَا فَهِنْدُ، لكنَّها كُنِّيَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ غَلَبَتْ عليها الكُنْيَةُ.

أَسْلَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مع زوجها؛ فكانت هي الأُخْرَى مِنَ السَّابقات إلى الإسلام أيضاً.

وما إِنْ شاع نَبَأُ إسلام أُمِّ سَلَمَةَ وَزَوْجِهَا حتَّى هاجَتْ قُرَيْشٌ وَمَاجَتْ وَجَعَلَتْ تَصُبُّ عليهما مِنْ نَكَالِهَا([2]) ما يُزَلْزِلُ الصُّمَّ الصِّلاَبَ([3])، فَلَمْ يَضْعُفَا وَلَمْ يَهِنَا وَلَمْ يَتَرَدَّدَا.

وَلَمَّا اشْتَدَّ عليهما الأَذَى، وَأَذِنَ الرَّسُولُ، صلوات الله عليه لأصحابه بالهجرة إلى “الحَبَشَةِ” كانا في طليعة المُهَاجِرِينَ.

مَضَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وزوجُها إلى دِيَارِ الغُرْبَةِ، وَخَلَّفَتْ وراءها في مكة بيتَها البَاذِخَ([4]) وَعِزَّهَا الشَّامِخَ، وَنَسَبَهَا العَرِيقَ، مُحْتَسِبَةً([5]) ذلك كُلَّهُ عند الله، مُسْتَقِلَّةً له في جَنْبِ مَرْضَاتِه.

وعلى الرَّغْمِ مِمَّا لَقِيَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَصَحْبُهَا من حماية النَّجَاشِي([6]) نَضَّرَ الله في الجنة وجهه، فقد كان الشَّوْقُ إلى مكَّةَ مَهْبِطِ الوَحْيِ، والحنينُ إلى رسُول الله، صلى الله عليه وسلم، مَصْدَرِ الهُدَى يَفْرِي كَبِدَهَا وَكَبِدَ زَوْجِهَا فَرْياً.

ثُمَّ تَتَابَعَتِ الأخبار على المهاجرِين إلى أرض “الحبشة” بأنَّ المسلمِين في مكة قد كَثُرَ عددُهم، وأنَّ إسلامَ حمزة بن عبد المُطَّلِب، وَعُمَرَ بن الخطَّاب قَدْ شَدَّ مِنْ أَزْرِهِم([7])، وَكَفَّ شيئاً مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ عنهم، فَعَزَمَ فريقٌ منهم على العَوْدَةِ إلى مَكَّةَ، يَحْدُوهُمُ([8]) الشَّوْقُ وَيَدْعُوهُمُ الحنين…

فكانت أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا في طليعة العَائِدِين.

لَكِنْ سُرْعَانَ ما اكْتَشَفَ العائدُون أَنَّ ما نُمِيَ([9]) إليهم من أخبارٍ كان مُبالَغاً فيه، وَأَنَّ الوَثْبَةَ التي وَثَبَهَا المُسْلِمُونَ بَعْدَ إسلام حمزة وعُمَر، قَدْ قُوبِلَتْ من قُرَيْشٍ بِهَجْمَةٍ أكبر.

فَافْتَنَّ المُشركون في تعذيب المسلمين وَتَرْوِيعِهِمْ، وَأَذَاقُوهُمْ مِنْ بَأْسِهِمْ ما لا عَهْدَ لَهُمْ به مِنْ قَبْلُ.

عند ذلك أَذِنَ الرَّسُول، صلوات الله عليه، لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فَعَزَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا على أَنْ يَكُونَا أَوَّلَ المُهَاجِرِينَ فِرَاراً بِدِينِهِمَا، وَتَخَلُّصاً من أَذَى قُرَيْش.

لَكِنَّ هِجْرَةَ أُمِّ سَلَمَةَ وَزَوْجِهَا لم تكن سهلةً مُيَسَّرَةً كما خُيِّلَ لهُما، وَإِنَّمَا كانتْ شَاقَّةً مُرَّةً خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا مأْساةً تَهُونُ دُونَهَا كُلُّ مَأْسَاةٍ.

فَلْنَتْرُكِ الكلاَم لِأُمِّ سَلَمَةَ لِتَرْوِيَ لنا قِصَّةَ مَأْسَاتِهَا…فَشُعُورُهَا بها أَشَدُّ وَأَعْمَقُ، وتصويرُها لها أَدَقُّ وَأَبْلَغ.

قالت أُمُّ سَلَمَةَ: لَمَّا عَزَمَ أبو سَلَمَة على الخُرُوجِ إلى المدينة أَعَدَّ لي بَعِيراً، ثُمَّ حَمَلَنِي عليه، وجَعل طِفْلَنَا سَلَمَةَ في حجْرِي، ومضى يَقُودُ بنا البَعِيرَ وهو لا يَلْوِي([10]) على شيء.

وَقَبْلَ أَنْ نَفْصِلَ([11]) عن مكة؛ رَآنَا رجالٌ مِنْ قَوْمِي بني “مَخْزُوم”؛ فَتَصَدَّوا لنا وقالوا لأبي سَلَمَة:

إِنْ كُنْتَ قد غَلَبْتَنَا على نَفْسِكَ، فما بالُ امْرَأَتِكَ هذه؟!…وَهِيَ بِنْتُنَا، فَعَلاَمَ نَتْرُكُكَ تَأْخُذُهَا مِنَّا وَتَسِيرُ بها في البلاد؟!. ثُمَّ وَثَبُوا عليه، وانْتَزَعُونِي منه انْتِزَاعاً.

وما إن رَآهُمْ قومُ زَوْجِي بَنُو “عبد الأَسَد” يأخُذُونني أنا وطِفْلِي، حتَّى غَضِبُوا أَشَدَّ الغَضَبِ؛ وقالوا: لا والله لا نَتْرُكُ الوَلَدَ عند صَاحِبَتِكُمْ بَعْدَ أَنِ انْتَزعْتُمُوهَا من صاحبنا انْتِزَاعاً، فَهُوَ ابْنُنَا ونحن أَوْلَى به.

ثُمَّ طَفِقُوا يَتَجَاذَبُونَ طِفْلِي سَلَمَةَ بينهُم على مَشْهَدٍ مِنِّي حتَّى خَلَعُوا يَدَهُ وأخذُوه، وفي لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نفسي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وَحِيدَةً فريدةً:

فَزَوْجِي اتَّجَهَ إلى المدينة فِرَاراً بِدِينِهِ وَنَفْسِه…وَوَلَدِي اخْتَطَفَهُ بنو “عبد الأَسَد” مِنْ بين يَدَيَّ مُحَطَّماً مَهِيضاً([12])

أَمَّا أنا فَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيَّ قَوْمِي بَنُو “مَخْزُوم”، وَجَعَلُونِي عندهم، فَفُرِّقَ بيْني وبين زوجي، وبين ابْنِي في ساعةٍ.

وَمُنْذُ ذلك اليوم جَعَلْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَداةٍ إلى الأَبْطَحِ، فَأَجْلِسُ في المكان الَّذِي شَهِدَ مَأْسَاتِي، وَأَسْتَعِيدُ صُورَةَ اللَّحظات التي حِيلَ فيها بيْنِي وبين وَلَدِي وَزَوْجِي، وَأَظَلُّ أَبْكِي حتَّى يُخَيِّمَ عَلَيَّ اللَّيْلُ.

وَبَقِيتُ على ذلك سَنَةً أو قريباً من سنةٍ إلى أَنْ مَرَّ بي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي فَرَقَّ لِحَالِي وَرَحِمَنِي، وقال لِبَنِي قَوْمِي: أَلاَ تُطْلِقُونَ هذه المِسْكِينَةَ!! فَرَّقْتُمْ بينها وبين زوجها وبين وَلَدِهَا.

وما زَالَ بهم يَسْتَلِينُ قُلُوبَهُمْ وَيَسْتَدِرُّ عَطْفَهُمْ حَتَّى قالوا لي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ. ولكن كيف لي أَنْ أَلْحَقَ بزوجي في المدينة وأَتْرُكَ وَلَدِي وَفِلْذَةَ([13]) كَبِدِي في مكة عند بَنِي “عبد الأَسَد”!

كيف يُمْكِنُ أَنْ تَهْدَأَ لي لَوْعَةٌ أو تَرْقَأَ لِعَيْنِي عَبْرَةٌ([14]) وأنا في دَارِ الهِجْرَة وَوَلَدِي الصَّغير في مكة لا أَعْرِفُ عنه شيئاً!

وَرَأَى بعضُ الناس ما أُعَالِجُ([15]) مِنْ أحزاني وَأَشْجَانِي فَرَقَّتْ قُلوبُهم لِحَالِي، وَكَلَّمُوا بني “عَبْدِ الأَسَدِ” في شَأْنِي([16]) واسْتَعْطَفُوهُمْ عَلَيَّ…فَرَدُّوا لي وَلَدِي سَلَمَةَ.

لَمْ أَشَأْ أَنْ أَتَرَيَّثَ في مكة حتَّى أَجِدَ مَنْ أُسَافِرُ مَعَه؛ فَقَدْ كنتُ أخْشَى أَنْ يَحْدُثَ ما ليس بالحُسْبان فَيَعُوقَنِي عَنِ اللَّحاق بزوجي عائقٌ…

لذلك بَادَرْتُ فَأَعْدَدْتُ بَعِيرِي، وَوَضَعْتُ وَلَدِي في حجْرِي، وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً نحو المدينة أُرِيدُ زوجي، وما مَعِيَ أَحَدٌ من خَلْقِ الله.

وما إن بَلَغْتُ “التَّنْعِيمَ”([17]) حتَّى لَقِيتُ عُثْمانَ بن طلحة([18]) فقال: إلى أَيْنَ يا بِنْتَ “زَادِ الرَّاكِبِ”؟

فَقُلْتُ: أُريد زَوْجِي في المدينة.

قال: أَوَمَا مَعَكِ أَحَدٌ؟

قُلْتُ: لا والله إِلاَّ اللهُ ثُمَّ بُنَيَّ هَذَا.

قال: واللهِ لاَ أَتْرُكُكِ أَبَداً حَتَّى تَبْلُغِي المدينة.

ثُمَّ أَخَذَ بِخِطَامِ([19]) بَعِيرِي، وانْطَلَقَ يَهْوِي بي…فَوَاللهِ ما صَحِبْتُ رَجُلاً من العَرَبِ قَطُّ أَكْرَمَ منه ولا أَشْرَفَ، كان إِذَا بَلَغَ مَنْزِلاً من المنازل يُنِيخُ بَعِيرِي، ثُمَّ يَسْتَأْخِرُ عَنِّي، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ عَنْ ظَهْرِهِ واسْتَوَيْتُ على الأرض دَنَا إليه وَحَطَّ عنهُ رَحْلَهُ، واقْتَادَهُ إلى شجرةٍ وَقَيَّدَهُ فيها.

ثُمَّ يَتَنَحَّى عَنِّي إلى شجرةٍ أُخْرَى فَيَضْطَجِعُ في ظِلِّهَا.

فَإِذَا حَانَ الرَّوَاحُ قام إلى بَعِيرِي فَأَعَدَّهُ، وَقَدَّمَهُ إليَّ، ثُمَّ يَسْتَأْخِرُ عَنِّي ويقول: ارْكَبِي…فَإِذَا رَكِبْتُ، واسْتَوَيْتُ على البعير، أتى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ وَقَادَهُ.

وما زال يَصْنَعُ بي مِثْلَ ذلك كُلَّ يوم حتَّى بَلَغْنَا المدينة، فلمَّا نَظَرَ إلى قَرْيَةٍ “بِقُبَاءَ”([20]) لِبَنِي عَمْرو بْنِ عَوْفٍ قال: زَوْجُكِ في هذه القرية، فادْخُلِيهَا على بَرَكَةِ الله، ثُمَّ انْصَرَفَ راجعاً إلى مكة.

اجْتَمَعَ الشَّمْلُ الشَّتِيتُ([21]) بَعْدَ طُولِ افْتِرَاقٍ، وَقَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ سَلَمَةَ بِزَوْجِهَا، وَسَعِدَ أَبُو سَلَمَةَ بصاحِبَتِهِ([22]) وَوَلَدِه…ثُمَّ طَفِقَتِ الأحداث تَمْضِي سِرَاعاً كَلَمْحِ البصر.

فهذه “بَدْرٌ” يَشْهَدُهَا أبو سَلَمَةَ وَيَعُودُ منها مَعَ المسلمين، وقد انتصرُوا نَصْراً مُؤَزَّراً([23]).

وهذه “أُحُد”، يَخُوضُ غِمَارَهَا بَعْدَ “بَدْرٍ”، وَيُبْلِي فيها أحسن البَلاَءِ وَأَكْرَمَهُ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا وقد جُرِحَ جُرْحاً بليغاً، فما زال يُعَالِجُهُ حَتَّى بَدَا له أَنَّهُ قَدِ انْدَمَلَ([24])، لَكِنَّ الجُرْحَ كان قَدْ رُمَّ على فَسَادٍ([25]) فما لَبِثَ أَنِ انْتَكَأَ([26]) وَأَلْزَمَ أَبَا سَلَمَةَ الفِرَاشَ.

وفيما كان أبو سَلَمَةَ يُعَالِجُ مِنْ جُرْحِهِ قال لِزَوْجِهِ: يا أُمَّ سَلَمَةَ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (لا تُصِيبُ أَحَداً مُصِيبةٌ، فَيَسْتَرْجِعُ([27]) عند ذلك ويقول:

اللَّهُمَّ عِنْدَكَ مُصِيبَتِي هذه…اللَّهُمَ أَخْلِفْنِي خَيْراً منها، إِلاَّ أعْطَاهُ الله عزَّ وجل…).

ظَلَّ أبو سَلَمَةَ على فِرَاشِ مَرَضِهِ أَيَّاماً…وفي ذات صباحٍ جاءهُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لِيَعُودَهُ، فَلَمْ يَكَدْ يَنْتَهِي مِنْ زيارته وَيُجَاوِزُ بَابَ داره، حتَّى فَارَقَ أبو سَلَمَةَ الحياة.

فَأَغْمَضَ النَّبِيُّ، عليه الصلاة والسلام، بِيَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ عَيْنَيْ صَاحِبِهِ، وَرَفَعَ طَرْفَهُ إلى السَّمَاء وقال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ درجتَهُ في المُقَرَّبِينَ…وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ([28]) في الغَابِرِين. واغْفِرْ لنا وله يا رَبَّ العالمين…وَأَفْسِحْ له في قَبْرِهِ، ونَوِّرْ له فيه).

أَمَّا أُمُّ سَلَمَةَ فَتَذَكَّرَتْ ما رواه لها أبو سَلَمَةَ عَنْ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: اللَّهُمَّ عِنْدَكَ أَحْتَسِبُ مُصِيبَتِي هذه…

لَكِنَّهَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهَا أن تقول: اللَّهُمَّ أَخْلِفْنِي([29]) فيها خيراً منها؛ لأنها كانت تَتَساءَل: وَمَنْ عَسَاهُ أَنْ يكون خيراً مِنْ أبي سَلَمَة.

لَكِنَّهَا ما لَبِثَتْ أَنْ أَتَمَّتِ الدُّعاء…حَزِنَ المسلمون لِمُصَابِ أُمِّ سَلَمَةَ كما لَمْ يَحْزَنُوا لِمُصَابِ أَحَدٍ مِنْ قَبْلُ…وَأَطْلَقُوا عليها  اسم: “أَيِّمُ العَرَب”([30])…إِذْ لم يكن لها في المدينة أَحَدٌ مِنْ ذَوِيها غَيْرَ صِبْيَةٍ صِغَارٍ كَزُغْبِ القَطَا([31]).

شَعَرَ المُهَاجِرُونَ والأنصار معاً بِحَقِّ أُمِّ سَلَمَةَ عليهم، فما كادت تنتهي مِنْ حِدَادِهَا على أبي سَلَمَةَ حتى تَقَدَّمَ منها أبو بكر الصِّدِّيق يَخْطُبُهَا لِنَفْسِه؛ فَأَبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِطَلَبِهِ…

ثُمَّ تَقَدَّمَ منها عُمَرُ بن الخطاب؛ فَرَدَّتْهُ كما رَدَّتْ صاحبه…

ثُمَّ تَقَدَّمَ منها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت له:

يا رسول الله، إِنَّ فِيَّ خِلاَلاً([32]) ثلاثاً:

فَأَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الغَيْرَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئاً يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبَنِي الله به.

وأنا امرأةٌ قد دَخَلْتُ في السِّنِّ([33]).

وأنا امرأةٌ ذاتُ عِيَال.

فقال عليه الصلاة والسلام: (أمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غَيْرَتِكِ فإنِّي أَدْعُو الله عزَّ وجل أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكِ.

وَأَمَّا ما ذَكَرْتِ من السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الذي أَصَابَكِ…وأمَّا ما ذَكَرْتِ مِن العِيَال، فإنَّما عِيَالُكِ عِيَالِي).

ثُمَّ تَزَوَّجَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مِنْ أُمِّ سَلَمَة؛ فاسْتَجَابَ الله دُعَاءَهَا، وَأَخْلَفَهَا خَيْراً من أَبِي سَلَمَة.

ومنذ ذلك اليوم لم تَبْقَ هِنْدُ المَخْزُومِيَّةُ أُمّاً لِسَلَمَةَ وَحْدَهُ؛ وإنَّما غَدَتْ أُمّاً لجميع المؤمنين.

نَضَّرَ الله وَجْهَ أُمِّ سَلَمَةَ في الجنَّة، ورضي عنها وأرضاها([34]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

  • شرفٌ كبير، وَحَظٌّ عظيم لكل امرأة أصبحت ضِمْنَ “أمهات المؤمنين”، والسِّرُّ في إضافتهن للمؤمنين، لا لكل مَنْ يدَّعي الإسلام.
  • “الكَرَمُ” مِنَ الخِصَالِ المحمودة عند العرب قَبْلَ الإسلام، وَبَعْدَهُ، ولا حصْر لعدد أَجْوَادِ العَرَبِ. وَكَمْ في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ودواوين الإسلام من الثَّنَاءِ العطر على الكَرَمِ والكُرَمَاء.
  • خَصَّ الله تعالى السابقين إلى الإسلام؛ من المهاجرين والأنصار، والذين اتَّبعوهم بإحسان، بالرِّضى والرِّضوان، والفوز بالنَّعيم في الجِنَان.
  • الإسلام نعمة عظمى، لا يُقَدِّرُهَا حَقَّ قَدْرِهَا إلاَّ مَنْ ذاق حلاوة الإيمان، وتحمَّل في ذلك أنواع الأذى وأصناف الابتلاء، وقد جَرَتْ سنة الله في خلقه بذلك: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين)([35]).
  • مَنْ أعطى ما في يده، أو تركه لوجه الله، عَوَّضَهُ الله خيراً منه، وزادهُ محبَّتَه ورضوانه.
  • مَحَبَّةُ الوطن من الدِّينِ والمروءة والأخلاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم، مخاطِباً بلدَه “مكة” بَعْدَ أَنْ أُرْغِمَ على الخروج منها: “وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”([36]) ولذلك تَلَقَّى البشارة من ربِّه عزَّ وجل بالفرح والسُّرور بعد لَوْعَةِ الغُرْبَةِ، والشَّوْقِ وَالحَنِينِ إلى العَوْدَة: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد)([37]).
  • مَأْسَاةُ (أَوْ مَآسِي) أُمّ المؤمنين، أُمّ سَلَمَةَ، رضي الله عنها، يجب أَنْ تَتَّخِذَهَا كُلُّ امرأة أَعْظَمَ دَرْسٍ، وَأَصْدَقَ موعظة في الصَّبْرِ، والتَّضْحِية، والأمل في الله، عزَّ وجل، في جَمْعِ الشَّمْلِ مِنْ جديد، وَنَظْمِ ما انْتَثَرَ مِنَ العِقْدِ الأُسَرِي.
  • القلوب القاسية لا تَرْحَمُ من اسْتَرْحَمَهَا، ولا تَلِينُ لِمَنْ اسْتَلْيَنَهَا؛ فهي كما قال الله عزَّ وجل: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوَ اَشَدُّ قَسْوَة)([38]).
  • فضيلة الإصلاح بين الناس مَنْقَبَةٌ عظيمة، وَمَحْمَدَةٌ كبيرة؛ لقوله تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمُ إِلاَّ مَنَ اَمَرَ بِصَدَقَةٍ اَوْ مَعْرُوفٍ اَوِ اِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاس وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْراً عَظِيما)([39]).
  • صِدْقُ المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ يَتَجَلَّى في الحياة الزَّوْجِيَّةِ السَّعِيدَةِ المَبْنِيَّةِ على التَّوَافُقِ والتَّقدير والاحترام؛ لقوله تعالى: (وَمِنَ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنَ اَنْفُسِكُمُ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة)([40]).
  •  الحَيَاءُ، والعِفَّةُ، والاحترام، والتَّقْوَى من أعظم أخلاق الإسلام. (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون)([41]).
  • الفَطِنُ الكَيِّسُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلى الله عزَّ وجل في السَّرَّاء والضَّرَّاء، ولا سيما في الشَّدَائد العِظَام، والكُرَبِ الجِسَام.
  • أُمُّ سَلَمَةَ، رضي الله عنها، خَيْرُ مِثَالٍ للمرأة الصالحة الصابرة المُحْتَسِبَةِ مِنْ أُمَّهات المؤمنين، رضي الله عنهنَّ أجمعين، مَنْ شَمِلَهُنَّ بيت النُّبُوَّةِ، وَعَمَّهُنَّ وَحْيُ الله المُنَزَّل: (النَّبِيءُ أَوْلَى بالْمُومِنِينَ مِنَ اَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)([42]). صدق الله العظيم.

 والحمد لله رب العالمين

—————————————————————————————-

([1]) هو: أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسمه حذيفة، يُعْرَفُ بِزَاد الرَّاكِب، وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم. وَقُتِلَ يوم بدر كافرا. ينظر: معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم: 4/ 2162، الاستيعاب في معرفة الأصحاب؛ لابن عبد البر: 4/ 1920، أسد الغابة؛ لابن الأثير: 4/ 682.

([2]) النَّكَال: الأذى الشديد الذي يجعل المصاب به عبرة لغيره. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر؛ لابن الأثير: (نكل).

([3]) الصُّمَّ الصِّلاَبَ: الصخور القاسية.

([4]) البَاذِخُ: العالي الرَّفيع. ويُجْمَعُ على بُذَّخ، وَبَوَاذِخ. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لسان العرب؛ لابن منظور، تاج العروس؛ للزَّبِيدِي، المصباح المنير؛ للفيومي: (بذخ).

([5]) محتسبة: طالبة الجزاء من الله.

([6]) هو: أصحمة النجاشي: ملك الحبشة، أسلم في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ومات قبل فتح مكة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكبَّر عليه أربعًا. ينظر: معرفة الصحابة؛ لابن منده: 1/ 200، معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم: 1/ 354، أسد الغابة؛ لابن الأثير: 1/ 119.

([7]) شَدَّ أَزْرَهُم: قوَّاهم.

([8]) يَحْدُوهُم الشَّوْقُ: يَسُوقُهُم الشَّوْقُ.

([9]) نمى: مُتَعَدٍّ. يقال: نَمَيْتُ الحديث: رَفَعْتُهُ وأَبْلَغْتُه. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: (نما).

([10]) لا يَلْوِي على شيء: لا يَقِفُ عند شيء ولا ينتظر.

([11]) قَبْلَ أن نَفْصِلَ عن مكة: قَبْلَ أن نَخْرُجَ منها.

([12]) مَهِيضاً: مُمَزَّقاً مُكَسَّراً. والْهَيْضُ: الكَسْرُ بَعْدَ الجَبْر. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: (هيض).

([13]) فلذة كبدي: قطعة كبدي.

([14]) تَرْقَأَ لعيني عبرة: تجف لعيني دمعة.

([15]) أُعالج: أُعَانِي.

([16]) في شأني: في أمْرِي.

([17]) التَّنْعِيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة، وقيل: على أربعة…ينظر: معجم البلدان؛ لياقوت الحموي: 2/ 49.

([18]) عثمان بن طلحة: كان حاجب بيت الله في الجاهلية، أسلم مع خالد بن الوليد، وشهد فتح مكة، فدفع إليه الرسول، صلى الله عليه وسلم، مفتاح الكعبة، نزل المدينة، ثم انتقل إلى مكة فسكنها حتى مات بها في أول خلافة معاوية سنة اثنتين وأربعين، وقيل: إنه قتل يوم أجنادين. ينظر: الاستيعاب: 3/ 1034.

([19]) الخِطَام: حَبْلٌ يُجْعَلُ في عُنُقِ البعير ليقتاد به. يقال: خَطَمْتُ البَعير إِذَا كَوَيْتَه خَطّاً مِنَ الْأَنْفِ إِلَى أَحَدِ خدَّيه، وتُسمى تِلْكَ السِّمَةُ الْخِطَامَ. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، تاج العروس: (خطم).

([20]) قُبَاء: قريةٌ في ضواحي المدينة تَبْعُدُ عنها ميلين، وفيها مسجد قُباء؛ أوَّل مسجد أُسِّسَ على التَّقْوَى.

([21]) الشَّتِيتُ: المُفَرَّق.

([22]) أي: زوجته.

([23]) مُؤَزَّراً: قويّاً مُبِيناً.

([24]) انْدَمَلَ: تماثل للشفاء.

([25]) رُمَّ الجرح على فساد: يعني صلح في الظاهر؛ وهو فاسدٌ في الحقيقة.

([26]) انْتَكَأَ: انْفَتَحَ.

([27]) يَسْتَرْجِعُ: يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

([28]) اخْلُفه في عَقِبِهِ: كُنْ عِوَضاً عنه لأولاده وأهله.

([29]) أَخْلِفْنِي فيها خيراً منها: عَوِّضْنِي عنها ما هو خيرٌ منها.

([30]) الأيِّمُ: المرأة التي فَقَدَتْ زوجها.

([31]) كَزُغْبِ القَطَا: كَفِرَاخِ القطا التي لم ينبت ريشها، والقطا: نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، مفرده قَطَاة.

([32]) خِلاَلاً: صِفَاتٍ.

([33]) دَخَلْتُ في السِّنِّ: جاوَزْتُ سِنَّ الزَّوَاج.

([34]) القصة من كتاب: “صور من حياة الصَّحابيات”؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 109- 123.

([35]) سورة: العنكبوت، الآيتان: 1- 2.

([36]) رواه أحمد في مسنده، رقم: (18718) 31/ 14، وابن ماجه في سننه، كتاب المناسك، باب فضل مكة، رقم: (3108) 2/ 1037، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في فضل مكة، رقم: (3925) 6/ 207، وصحَّحه الألباني في: مشكاة المصابيح، رقم: (2725) 2/ 832.

([37]) سورة: القصص، من آية: 85.

([38]) سورة: البقرة، من آية: 74.

([39]) سورة: النساء، آية: 114.

([40]) سورة: الروم، من آية: 21.

([41]) سورة: المُطَفِّفِين، من آية: 26.

([42]) سورة: الأحزاب، من آية: 6.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق