مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

فوائد منوعة في شأن مصحف «عثمان» بالأندلس

الحمد لله كما ينبغي لجلاله، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله، وعلى كل من سار على ونهجه.

وبعد:

تزخر كتب التاريخ والتراجم بفوائد شتى في جميع العلوم، مما يجعل لعلم التاريخ أهمية بالغة في إفادة الدارس والمطالع له بفوائد عزيزة قد لا يجدها في مظانها. ولا يخفى على الدارس لعلم رسم القرآن أن المصاحف العثمانية التي أمر عثمان رضي الله عنه بانتساخها، وإن لم تحفظ أصولها إلى يومنا هذا، فقد حفظت لنا في كتب رسم القرآن، وفي المصاحف المنتسخة منها. وقد نسب مصحف من المصاحف العتيقة التي كانت بالأندلس إلى عثمان رضي الله عنه، وقد تكلم مؤرخ مراكش ابن عبد الملك في كتابه «الذيل والتكملة» عن هذا المصحف، وذكر فوائد كثيرة تتعلق به من حيث النسبة والوصف، والتعريف به، وما مدح به من أشعار إلى غير ذلك من المعلومات القيمة التي سيكتشفها القارئ لهذه الأسطر.

قال ابن عبد الملك المراكشي في ترجمة أبي المطرّف أحمد بن عبد الله بن محمد المخزومي:

«وفَصَلَ -يعني أبا المطرف- من رحلته مع الرشيد أبي محمد عبد الواحد ابن المأمون أبي العُلى إدريس ابن المنصور أبي يوسف يعقوب ابن الأمير أبي يعقوب يوسف ابن الأمير أبي محمد عبد المؤمن بن علي وقد خرج معه من سلا إلى حضرته مراكش، قال فيه يصف المصحف:

وبرز الإمام بين يديه الإمام(1)، وأمامه النور الذي يضيء به الوراء والأمام، حبل اعتصم به المعتصمون، وحجة انقطع بها قوم خصمون، وذخيرة الخلائف، وبقية العهد السالف، عاصر الصحابة، وعاشر جيلهم الطيب بطابة، وباشرته أيد جمعت التنزيل، وأخذته عن الرسول عن جبريل، فالقارئ فيه للكتاب المنزل، يحل محل آخذه عن الصدر الأول، قد شهد مع الشهيد الدار، وكان معه يوم دارَ ما دارَ، فرأى ما نال نائلة، وتوسط تلك المواقف الهائلة، فهو يصنع الخشوع لمن كان متصنعا، ويصدع القلوب وإن كان ذلك منها متمنعا، ﴿لَوَ اَنزَلْنَا هَٰذَا اَ۬لْقُرْءَانَ عَلَيٰ جَبَلٖ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعاٗ مُّتَصَدِّعاٗ﴾ [الحشر: 21]، حفظت صدفة الوجود لآلئَه، وكان الاعتناء الرباني كالئَه، إلى أن بلغ محلّه، وعقد مع آل القرآن إلَّه، فأخذوه بقوة، وجلَوا منه أشرف عروس مجلوَّه، فهو عندهم: ﴿لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا اَ۬لْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 82]، ولا يلي أمره إلا الذين هم بأمره يظهرون، وسار يتقدم أمام الخلق، وتتقدمه راية الحق، فهو على ما ورد في وصفه: ﴿لَّا يَاتِيهِ اِ۬لْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ﴾ [فصلت: 42]. –انتهى كلام أبي المطرف-

قال المصنف عفا الله عنه: استعمل «الجيل» بمعنى «القرن» غلطا، وإنما هو بمعنى الأمة، فالعرب جيل والروم جيل، وكذلك الفرس والترك وغيرهم.

وقد استدعى هذا الفصل تبيين أمرين قد يشكلان على بعض مطالعي هذا الكتاب؛ أحدهما: شأن هذا المصحف، والثاني: كيفية الترتيب الذي أشار إليه الشيخ أبو المطرف في هيئة هذا البروز:

أمّا المصحفُ فإنّ أبا محمد عبدَ المؤمن بنَ عليّ وآلَه من بَنيه وأتْباعَهمِ كانوا يُصرِّحونَ بمُعتقَدهم فيه أنّه الإمامُ مصحفُ أميرِ المؤمنينَ عثمانَ بن عفّان رضيَ اللهُ عنه، وعلى ذلك كان إطباقُ أهل الأندَلُس، فقد قال الرازي في «تاريخِه»: وفي يوم الأحد لثمانٍ خَلَوْنَ من جُمادى الآخِرة سنة أربع وخمسينَ وثلاث مئة احتُملَ المصحفُ المرَتَّبُ في جامع قُرْطُبةَ لقراءةِ الإمام فيه صَبيحةَ كلِّ يوم بعدَ صلاة الصّبح، وهو مصحفُ أميرِ المؤمنين عثمانَ بن عفّان رضي اللهُ عنه وممّا خَطَّه بيمينِه، إلى دار صاحب الصّلاة محمدِ بن يحيى ابن الخَرّاز عن عهدِ أميرِ المؤمنين أبقاه اللهُ احتراسًا به، وتحَفِّيًا عند فَتْح الحَنايا التي يُفضي منها إلى موضع الزِّيادة التي زادها أعزَّه اللهُ في الجامع، وكان فتَحَها في هذا التاريخ.

وقد ذكَرَ التأريخيُّ الحافظُ الحافلُ أبو مَرْوانَ حَيّانُ بن خَلَف بن حَيّان في كتابِه «المقتبِس» كلامًا نمَّقَه بحُسن عبارته المعهود من كلام الرازي في ذكْرِه، نقَلْتُه من خطِّ الراوِية أبي القاسمِ ابن بَشْكُوال، وهو: ولمّا احتيجَ في هذا الوقت إلى خَرْق سُورِ القِبلة المقدَّمة لهذه البِنْية الحكميّة لاتّصال قِطَع بُنَى المسجدِ بعضها ببعض واتّساقِها، احتُملَ المصحفُ المدعوُّ بالإمام المُختزَن، كان بمقصورةِ هذا الجامع المرَتَّب لقراءة إمام الفريضة فيه كلَّ يوم عندَ فَراغِه من صلاة الصُّبح، وهو مصحفُ أمير المؤمنينَ عثمانَ بن عفّان رضي اللهُ عنه، خَطَّه بيَمينِه، وله عندَ الأندَلُس شأنٌ عظيمٌ، واحتفاءٌ شديد، أمَرَ الخليفةُ من أجلِ ذلك باحتمالِه إلى دارِ صاحب الصّلاة الثِّقةِ المأمونِ محمدِ بن يحيى بن عبد العزيز المدعُوِّ بابن الخَرّاز وإخزانِه لدَيْه، احتراسًا به وتحفُّظًا بمكانِه، إلى أن ينقضيَ أمرُ القِبلةِ الجديدة، وتتحصَّنَ بمقصورتها المُحْدَثة الموثَّقة، فيعادَ المصحفُ إلى مكانِ إحرازِه بها، ففُعلَ ذلك بالمصحف، واحتَمَلَه مَشْيخةُ السَّدَنة إلى دار ابن الخَرّاز، وذلك يومَ الأحد لثمانٍ خَلَوْنَ من جُمادى الآخِرة من سنة أربع وخمسينَ وثلاث مئة. انتهى الفصلُ منقولًا من خطِّ الراوِية أبي القاسم ابن بَشْكُوال كما ذُكِر، وبخطِّه في الحاشيةِ اليُمنى محُاذيًا بأوّله آخِرَ هذا الفصل ما نَصّه: أُخرِجَ هذا المصحفُ عن قُرْطُبة، وغُرّب عنها ليلةَ السبت الحاديةَ عشْرةَ من شوّالٍ سنةَ اثنتينِ وخمسينَ وخمس مئة، وحُمِلَ صَبِيحةَ يوم السبت وجُوِّزَ إلى العُدْوة، أخَذ اللهُ مَن سَعَى في تغريبِه وخروجِه عن الحضرة أخْذَ آسِف، ولا أمهَلَه بالذي لا إله إلا هو، وعَجَّل بصَرْفِه إلى مكانِه بقُدرته لا يُعجِزُه شيءٌ جَلَّ جَلالُه وعَظُمَ سُلطانُه. انتهَى نصُّ هذه المُعلَّقة في الحاشية المنَبَّه عليها كما ذُكِر. ورحِم الله أبا القاسم ابنَ بَشْكُوال ونفَعَه بمقصده، فإنّما استأثَرَ بعِلق نَفِيس، واستكثَرَ من خيرِ جليس، وأفضل أنيس، وتأثَّر لانتقالِ موقوفٍ على محلِّه الأحقِّ به حبيس، فلذلك أتْبَعَ خبرَه عنه نفْثةَ مصدورٍ عن قلبٍ قَريح، ولَهْفَ موتور ذي فؤادٍ بمؤلِم هذا المُلِمّ جريح، ولو كوشفَ رحمه اللهُ بحالِ قُرْطُبةَ من بلاد الأندَلُس وسواها، وانتهاكِ عبَدةِ الصّليبِ مَحُوطَ حِماها، واستيلائهم على ما اشتَملَتْ عليه من كثيرٍ من المصاحفِ غيرَ ذلك المصحفِ الكريم، وابتذالِهم ما عُنيَ أكابرُ العلماءِ بصيانتِه من ذخائرِ دواوينِ العلم على العهد القديم؛ لَسُرَّ بإخراجِه عن قُرْطُبة واحتمالِه، وأعان بالتحضيض نُصحًا له على انتقالِه، إنقاذًا له من أيدي المشركين، واستدامةً لبقائه في كَلاءةِ المسلمين، وكان إخراجُه في التاريخ الذي ذكَرَه الراويةُ أبو القاسم ابنُ بَشْكُوال في أيام أبي محمدٍ عبد المؤمن بن عليٍّ وبأمرِه، وفي ذلك يقولُ الشاعرُ المُجيد أبو عبد الله محمدُ بن حُسَين بن حَبُوس الفاسيُّ من قصيدةٍ يمدَحُ بها أبا محمد عبدَ المؤمن بنَ عليّ [سريع]:

سيَشكُرُ المصحفُ إكبابَكمْ … عليه إذْ أوجَدَه الفَقْدُ

أذكَرْتُم الأيامَ ما أغفَلَتْ … من بِرِّه إذ قَدُمَ العهدُ

مصحفُ ذي النُّورَيْن عثمانَ ما … كان لكمْ عن صوْنِه بُدُّ

ما اختارشيئًا مُؤْنسًا غيرَهُ … حين أتَى واقتَربَ الوعدُ

أوسَعْتُمُ الدّنيا اطِّراحًا وما … كان لكمْ إلا به وَجْدُ

يَحْنو عليه العَطْفُ منكمْ ولا … يَغُبُّه الإشفاقُ والوُدُّ

صبابةً منكمْ به لم تكنْ … تثيرُها جُمْلٌ ولا دَعْدُ

أحْبَبْتُم المولى فأحْبَبْتُمُ … ما خَطَّه من وَحْيِه العَبْدُ

ألبَستُموهُ حِليةً لم يكنْ … يسمَحُ للكفِّ بها الزَّنْدُ

لم تدركِ الأعرابُ ما كُنْهَها … ولا ادّعت إدراكَها السُّغْدُ

لأسفَرَتْ سفرتُكمْ هذه … عن واضحاتٍ نُجْحُها نَقْدُ

تكفَّلَ السَّعدُ بمقصودِكم … وبانتِ الوِجهةُ والقصدُ

عنايةُ الله بكمْ جَمّةٌ … له عليها الشكرُ والحمدُ

وقال فيه أخرى، وهي عندي من غُرَرِ قصائده [سريع]:

فعلُ امرِئٍ دَلَّ على عَقْلِهِ … والفَرْعُ منسوبٌ إلى أصلِهِ

إنّ الذي يَكرُمُ في جِنسِهِ … هو الذي يَكرُمُ في فصْلِهِ

والمرءُ لا يُشكَرُ عن نفْسِه … وإنّما يُشكَرُ من فضلِهِ

والخيرُ والشرُّ، لهذا وذا … أهلٌ، فَرَجِّ الخيرَ من أهلِهِ

لا يَترُكُ اللازمُ ملزومَهُ … والشخصُ لا ينفَكُّ عن ظلِّهِ

وكلُّ مفطورٍ على شيمةٍ … لا بدَّ أن تظهَرَ في فعلِهِ

لا يُدركُ الطَّرفُ على شَدِّهِ … ما يُدركُ الطَّرفُ على رَسلِهِ

والناسُ أشتاتٌ وفي الطَّبع ما … قد يعطِفُ الشّكلَ إلى شكلِهِ

إضافةُ السُّفْل إلى عُلوِهِ … إضافةُ العُلوِ إلى سُفْلِهِ

ما غايةُ العالِم في علمِهِ … كغايةِ الجاهلِ في جهلِهِ

ولا الذي يُشكَرُ عن بَذْلِه … مثلُ الذي يُشكَرُ عن بُخلِهِ

عَمْري لقد حمَلَ أمرَ الوَرى … مضْطلعٌ بالعِبءِ من حِمْلِهِ

مَنْ لم تزَلْ أنواءُ أفكارِهِ … تَهْمي على المُمحِلِ في مَحْلِهِ

ذاك سِراجُ الكلِّ بل شمسُهُ … بل عقْلُهُ الفَعّالُ في عَقْلِهِ

تُضيءُ أنوارُ النُّهى حولَهُ … في عَقْدِه المبرَم أو حَلِّه

وإنما الفضلُ إلى وقتِه … فيقدُم المِثلُ على مثلِه

هذا كتابُ الله جَلَّ اسمُهُ … بخطِّ عثمان وفي دَخْلِهِ

خيرُ إمام آخِرٌ جاءه … خيرُ إمام كان من قَبْلِهِ

إليه يُنمَى كلُّ ما مصحفٍ … تأنَّقَ العالَمُ في نَقْلِه

أجرى ابنُ عفانَ إلى نَصْرِهِ … وخَصلُكمْ زادَ على خَصْلِهِ(2)

أنيسُه في وَحْشةِ الدارِ إذ … تواطَأَ القتلُ إلى قتلِه

رمَى به الخابطُ في غَيِّهِ … وضَمَّه الحاطبُ في حَبْلِهِ

وصار من أوكَدِ شُغل امرئ … في تَرْكِه الإعراضُ عن شُغْلِهِ

صيانةُ الشّيخ له أوجَبَتْ … لَجاجةَ الباغينَ في بَذْلِه

حتى أتى الأمّةَ مَن نَبَّهتْ … شهادةُ الرُّسْلِ على عَدْلِه

فأيقَظَ الأجفانَ من نَوْمةٍ … صَحا بها المخبُولُ من خَبْلِهِ

عرَّفَ ما يُجهَلُ من حقّهِ … وضَمَّ ما فُرِّقَ من شَمْلِهِ

ومال في تعظيمِهِ مَيْلةً … أعادت الفَرْعَ إلى أصلِهِ

ألبَسَه من رائقِ الحُلي ما … يعجِزُ جِيدُ الدّهرِ عن حَمْلِهِ

وزاد ما أبطن من بِرِّهِ … على الذي أظهَرَ من حَفْلِهِ

نَشْزٌ يُضيءُ النّجمُ في عُلوِهِ … ونيِّراتُ الشُّهبِ في سُفْلِهِ

فمِن حصى الياقوتِ حَصْباؤه … وتِبْرُه يُغنيه عن رَمْلِه

كأنّما الأصباغُ فيه وقد … تألّفَ الشّكلُ إلى شكلِهِ

زخارفُ النُّوارِ في روضةٍ … هراقَ فيها اللَّيلُ من طَلِّهِ

فاضَ أَتِيُّ الحُسن في كُلِّهِ … فكلُّه يَعجَبُ من كلِّهِ

لم ترَ عينٌ قطُّ شِبْهًا لهُ … ولم تَصِخْ أُذْنٌ إلى مِثْلِه

أذاعتِ الحِكمةُ سِرَّ النُّهى … فيه ومات الخَبْطُ في جهلِهِ

تقَيَّدَ اللَّحظُ به فهْو لا … يَصرِفُه الناظرُ عن نُبلِهِ

ذلك من فضل إمام الهدى … وكلُّنا نُعزَى إلى فضلِهِ

كأنّما العُمّالُ آلاتُه … تفعلُ ما يَصدُرُ عن فعلِهِ

جهابذُ الآفاقِ قد بَلَّدوا … في فصلِ ما يَفصِلُ أو وَصْلِهِ

وكلُّهمْ برَّزَ في سَبْقِهِ … وأحرَزَ الخَصْلَ على مَهْلِهِ

ما خَطْوُ من يَعْدو به سابحٌ … كخطوِ مَن يعدو على رِجْلِهِ

وليس من يَغرِفُ من نهرِهِ … مثلَ الذي يَغرِفُ من سَجْلِهِ

ولا الذي يمرَحُ مُرخًى لهُ … مثلُ الذي يمرَحُ في شكلِهِ

ولا حسامٌ نال منه الصَّدا … مثلُ الذي بُولغَ في صَقْلِهِ

التَمرُ معزوٌّ إلى نَخْلِه … والشّهدُ منسوبٌ إلى نَحْلِه

والقُدسُ محفوظٌ على أهلِهِ … وأنتمُ تاللهِ من أهلِه

عجائبُ العالَم مختصّةٌ … بأولياءِ الله أو رُسْلِهِ

قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: أثبتُّ هذه القصيدةَ الفريدةَ بأسرِها استجادةً لها واستغرابًا لِما حوَتْه من أنواع الحِكَم والأمثالِ السائرة، وفي نحوِ ذلك يقولُ الأديبُ الحسيب أبو جعفر بنُ عبد الرحمن الوَقَّشِي من قصيدةٍ يهنِّئُ بها الأميرَ أبا يعقوبَ بن عبد المؤمن بعيدِ الفِطر [الطويل]:

ومصحفَ عثمانَ بنِ عفّانَ أهمَلَتْ … ملوكُ الوَرى من حقِّه كلَّ لازمِ

فأشفَقْتَ من جهلِ الجميع بشأنِهِ … وأهّلتَهُ صَوْنًا له بِرَّ عالمِ

وألبستَهُ تِبْرًا يَرُوقُ مرصَّعًا … وقد كان في بُرْدٍ من الجِلدِ قاتمِ

قال أبو جعفر: لمّا انتهيتُ بالإنشاد إلى هذا البيت قال الأميرُ أبو يعقوب: مَنْ أعلَمَك بهذا؟ والله لقد كان كما قلت.

رجَعْنا إلى بقيّة الأبيات [الطويل]:

وأبرزتَهُ للعالَمينَ ونُورُهُ … يَفيضُ عليه من جواهرِ ناظمِ

تَكنَّفَه منهُنَّ نُخبةُ معدِنٍ … تُجاورُها فيه يتيمةُ عائمِ

فجاء يَرُوعُ الناظرينَ بحُسنِهِ … ويُخجِلُ أجيادَ الحِسَان الكرائمِ

وداخلَه نورٌ من الحقِّ ساطعٌ … يقودُ إلى حظٍّ من الخُلدِ دائمِ

فأصبح ذا النُّورينِ كاسم وَليِّهِ … وخيرٌ له في بَدْئه والخواتمِ

فليت أبا عَمْرٍو يُعاينُ شكلَهُ … فيَشكُرَ أفعالَ الحَفِيِّ المُكارِمِ

وفي مثل هذا الغَرَض يقولُ أبو عبد الله بن عبد العزيز بن عَيّاش، ويصِفُ تَحْليةَ المنصورِ أبي يوسُفَ يعقوبَ بن أبي يعقوبَ المذكورِ إيّاه أيضًا [الطويل]:

ونُفِّلْتَه من كلِّ مَلْكٍ ذخيرةً … كأنَّهُمُ كانوا برَسْمِ مكاسِبِهْ

فإنْ ورِثَ الأملاكَ شرقًا ومغرِبًا … فكم قدْ أخلُّوا جاهلينَ بواجِبِهْ

وألْبَسْتَهُ الياقوتَ والدُّرَّ حِلْيةً … وغيرُك قد رَوّاهُ من دمِ صاحِبِهْ

وقد أكثَرَ شعراءُ دولةِ أبي محمدٍ عبد المؤمن وبَنيه بعدَه من هذا المعنى، وتواطَأَتْ أقوالهُم بناءً على معتَقداتِهم أنه مصحفُ عثمانَ بن عفّان الذي كان بين يدَيْه حين استُشهِد رضيَ اللهُ عنه، ويَذكُرونَ أنّ دَمَه كان منه بموضعَيْنِ: أحَدُهما: قولُه سبحانَه: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اُ۬للَّهُ﴾ [البقرة: 136]، والثاني: قولُه تعالى: ﴿فَعَقَرُواْ اُ۬لنَّاقَةَ﴾ [الأعراف: 76]. وهذا كما تراه ظاهرُ التصنُّع، وهو -واللهُ أعلم- غَلَطٌ بيّن تَبِع فيه بعضُ الناس بعضًا، فإن المتقرِّرَ من شأنِ مصحفِ عثمانَ بن عفّان أنه ضاع بالمدينة في بعضِ الفِتن الطارئة عليها، ولكنّ أبا بكرٍ محمدَ بن أحمد بن يعقوبَ بن شَيْبةَ بن الصَّلْت بن عُصفُورِ بن شَدّاد بن هَمْيَانَ السَّدُوسيَّ مولاهم، قال: رأيتُ بخطِّ جَدِّي يعقوبَ بما أجازه لي، ثم حدَّثني به أبي أحمدُ بن يعقوبَ بَعْدُ عنه: حدّثني أبي، قال: حدّثني أبي: رأيتُ الإمامَ مصحفَ عثمانَ بن عفّان رضيَ اللهُ عنه وأرضاه في شهر ربيع الأوّل سنةَ ثلاثٍ وعشرينَ ومئتَيْن قد بَعَثَ به أبو إسحاقَ أميرُ المؤمنين وهو المُعتصم بالله ابنُ أميرِ المؤمنينَ أبي جعفرٍ هارونَ الرَّشيد لتُجَدَّدَ دَفّتاهُ ويُحَلَّى، فشَبَرتُ طولَ المصحف فإذا هو شِبران وأربعُ أصابع مفرَّقة، وعدَدْتُ سطورَ بعض وَرَق المصحف فإذا في الوَرَق ثمانيةٌ وعشرونَ سطرًا، ورأيتُ أثَرَ دمٍ فيه كثيرًا في أوراقٍ من المصحف كثيرة، بعضُ الوَرَق قَدْرُ نصفِ الوَرَقة وبعضٌ قَدْرَ الثُّلُث، وفي بعض الوَرَق أقلُّ وأكثر، وعلى أطرافِ كثير من الوَرَق، ورأيتُ عِظَمَ الدّمِ نفسِه في سورة «والنجم» في أول الوَرَقة كأنّه دمٌ عَبِيط أسودُ على ﴿مَّآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍۖ اِنْ يَّتَّبِعُونَ إِلَّا اَ۬لظَّنَّ وَمَا تَهْوَي اَ۬لَانفُسُ﴾ [النجم: 23]، ثم بعدَه أيضًا، ورأيتُ أثَرَ نُقطةٍ من دم على هذا الحرف: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اُ۬للَّهُ﴾، فسألتُ الذي رأيتُ المصحفَ عندَه: ما لهذه دارِسةً؟ فقال: ممّا يمسَحُ الناسُ أيديَهم بها، ورأيتُ أثَرَ مَسحِ الأيدي بيِّنًا وأثَرُ النُّقطة بيِّنٌ. انتهى المقصودُ من الواقع في صِفة مصحفِ عثمانَ بن عفّان رضيَ اللهُ عنه عند أبي بكرٍ محمد بن أحمد بن يعقوبَ بن شَيْبةَ المذكور، وقد ذَكَرَ -كما سمِعتَ- رؤيتَه مصحفَ عثمانَ بن عفّان وآثارَ الدّمِ فيه معيَّنةَ المواضع ومُبهَمتَها وتاريخَ رؤيته ذلك، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا الذي كان بالأندَلُس؛ لأنّه لم يطرَأْ على بني العبّاس ما يُخرِجُه عن أيديهم وُيصيِّرُه إلى الأندَلُس، ثم إنّ أثَرَ الدمِ في هذا الذي كان بالأندَلُس كان في الموضعَيْنِ المذكورين لا غيرُ، بخلافِ ما ذَكَرَ ابنُ شَيْبةَ. والذي يَظهَرُ لي -واللهُ أعلم- أنّ هذا المصحفَ الذي كان بالأندَلُس هو أحدُ المصاحفِ الأربعة التي بعَثَ بها عثمانُ بن عفّان رضي اللهُ عنه إلى الأمصار: مكةَ، والبصرة، والكوفة، والشّام، فإنْ يكنْ أحدُها فلعلّه الشّاميُّ استَصحَبَه الأميرُ أبو المُطرِّف عبدُ الرحمنِ الداخِلُ إلى الأندَلُس ابنُ مُعاويةَ بن هشام بن عبد الملِك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أميّةَ بن عَبْدِ شَمْس، وكان دخولُه إلى الأندَلُس غُرّةَ ربيع الأوّلى سنةَ ثمان وثلاثينَ ومئة، أو يكونُ ممّا بَعَثَت إليه أُختُه به من الذّخائرِ والتُّحَفِ والهدايا التي كانت تُوالي توجيهَها إليه من الشام، أو يكونُ ممّا اجتُلِبَ إلى غيرِه من ذُرِّيتِه، واللهُ أعلم. ويؤيِّدُ ما ذهبتُ إليه من ذلك أنّ مقدارَ حَجْم الذي وَصَفَه أبو بكر بنُ شَيْبةَ حسبَما تقَدَّم إيرادُه مخالفٌ مقدارَ حَجْم الذي كان بالأندَلُس، فقد وَصَفَ لي جماعةٌ ممن شاهدوه وباشَروه منهم شيخانا أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ وأبو زكريّا يحيى بنُ أحمد بن عَتِيق رحمَهما الله وغيرُهما فاتَّفَقوا على أنّ طُولَه دونَ الشِّبر، وأن أسطارَه دون العشَرة، فاقتضَى ذلك أنّ أوراقَه أكثرُ من أوراقِ الذي وَصَفَ أبو بكر بنُ شَيْبة، وقد ذَكَرَ لي واصِفوهُ المذكورونَ أنه كان ضخمًا لكثرةِ وَرَقه، وذَكَرَ لي بعضُهم أنه عايَنَ المعوِّذتَيْن في صفحتَيْنِ منه كلُّ واحدةٍ منهما في صفحة، ولمّا أجازَهُ أبو محمدٍ عبدُ المؤمن إلى بَرِّ العُدوة احتفلَ في الاعتناء بكُسْوتِه وأبدَلَها -وكانت من جِلد – بألواح مصَفَّحة بصحائفِ الذهب، وقد نَظَمَ في مواضيعَ منها لآلئَ نفيسةً وأحجارَ ياقوتٍ وزُمُرُّد من أرفع ما كان عندَه، ثم لم يزَلْ بَنُوه بعدَه يتَفنَّنُونَ في زيادةِ جليل الجواهرِ وفاخِر الأحجار على ما كان محُلًّى به حتّى استوعَبوا دَفَّتَيْه بذلك بما لا قيمةَ له ولا نظير، وكانوا أبدًا يُحضِرونَه في مجالسِهم في ليالي رمضانَ، ويُباشِرونَه بالقراءةِ فيه ويُصفِّحونَ وَرَقَه بصفيحةِ ذهبٍ مستطيلة شِبهَ المِسْطَرة، ويَستصحِبُونَه في أسفارِهم وحركاتِهم متبرِّكينَ به إلى أنِ احتَمَلَه معَه المعتضِدُ بالله أبو الحَسَن عليٌّ ابن المأمون أبي العلاء إدريسَ ابن المنصور أبي يوسُفَ المذكور قبلُ على عادة سَلَفِه حين توَجَّه إلى تِلِمْسينَ آخرَ سنةِ خمسٍ وأربعينَ وست مئة فقُتلَ بمقرُبة من تِلِمْسينَ في آخرِ صَفَر سنةَ ستٍّ بعدَها، وقَدِمَ مكانَه ابنُه أبو إسحاقَ إبراهيمُ ثم قُتلَ ثانيَ يوم تقديمِه، واختَلَّ الجيشُ ووَقَعَ النَّهبُ في خزائنِ السلطان واستولَتْ أيدي العرَب وغيرِهم على جميع مَن كان بالعسكرِ ممن لا قُدرةَ له على مُدافعةٍ عن نفسِه، فكان ممّا نُهِبَ ذلك الوقتَ هذا المصحفُ الكريم، ولم يَعلَمْ مُنتهِبُه قَدْرًا له ولا قيمة، فدخَلَ به تِلِمْسينَ وعرَضَه على البيع، فأخبَرني الشَيخُ أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ رحمه الله أنه رآه بيدِ سِمسارٍ يُنادي عليه بسُوق الكتُب بتِلِمْسينَ بسبعة عشَرَ درهمًا وقد ضاعت منه أوراقٌ، فأُنهِيَ خبَرُه إلى صاحب تِلِمْسينَ حينئذٍ أبي يحيى يَغمراسن بن زَيّانَ الزَّناتيِّ من بني عبد الواد، وهو الذي قصَدَه المُعتضدُ أبو الحَسَن المذكورُ للدُّعاءِ له بالدخولِ في طاعتِه، فحين عَلِم به انتَزَعَه من يدِ الذي ألفاه عنده، وأمَرَ بصَوْنِه والاحتياطِ عليه، ولم يزَلْ بعدُ يطمَعُ به المرتضَى من بني عبد المؤمن، والمُستنصِرُ من بني أبي حَفْص صاحبُ إفْريقيّةَ، والغالبُ بالله أبو عبد الله بن يوسُفَ أميرُ الأندَلُس المدعوُّ بابن الأحمر، فلا يَحْلُونَ منه بطائل حتى تُوُفُّوا جميعًا في حياة أبي يحيى المذكور، فأورَثَه بَنِيه، فهو عندَهم إلى هذا التاريخ، وهو سنةُ اثنتين وسبع مئة، فهذه نُبذةٌ من التعريف بشأنِ هذا المصحف.

فأمّا الترتيبُ الذي أشار إليه الشّيخُ أبو المُطرِّف بن عَمِيرةَ: فهو أنّ أُمراءَ بني عبد المؤمن كانوا إذا تحرَّكوا لغَزْوٍ أو سَفَر جَعَلوا أمامَهم بمقرُبةٍ منهم رايةً كبيرةً بيضاءَ يُعتامُ لها أتمُّ العِصِيِّ طولًا لتُرشِدَ إلى موضع السُّلطان من العسكرِ فيَهتديَ إليه من أراد قصْدَه -وهي التي عبَّر عنها أبو المُطرّف بقولِه: وأمامَهُ النُّور، وبقولِه: تتقدَّمُه رايةُ الحق، وبقوله: من بينِ يدَيْه- ويليها المصحفُ الكريم -وهو الذي عناه بقوله: بينَ يدَيْه الإمام- محمولًا على أضخم بُخْتيٍّ يوجَدُ وقد جُعِلَ في قُبّةِ حرير ارتفاعُها نحوُ عشَرةِ أشبار وعرضُ كلِّ وجه من وجوهِها الأربع نحوُ أربعةِ أشبار وبأعلاها جامورٌ محُكَمُ الصَّنعة على نحوِ جَواميرِ الأخبية من أتقنِ ما أنت راءٍ جمالًا، وفي أعلى كلِّ رُكنٍ من أركان القُبة عُصَيّةٌ رُكِّب فيها سُنيِّنٌ مذَهَّبٌ وقد رُبِطت بها رايةُ حرير لا تزال تخفُقُ عَذَباتُها بأقلِّ ريح ولو لم يكنْ إلا بهزِّ الجَمَل إيّاها في سَيْره، ويسَمَّى جملَ المُصحف، ويتبَعُه بَغْلٌ من أفْرَهِ البِغال يحمِلُ رَبْعةً كبيرة مُربَّعةَ الشكل في ارتفاع ذراع أو نحوها، وقد غُشِّيت كذلك بحرير وضُمِّنتِ «الموطَّأ» لمالكِ، وصحيحَي البخاريِّ ومسلم، وسُنَنَيْ أبي داودَ والنَّسائي، وجامعَ أبي عيسى الترمذي، وكان عوَامُّ ذلك الوقت يقولونَ فيه: بَغْلُ المصحف، وهو غَلَطٌ منهم، ويليه الأميرُ في صَدْرِ الجيش والعساكر عن يمينِه وشِماله وخَلْفِه -وهو الذي عبَّر عنه أوّلًا بقولِه: وَبَرَزَ الإمام، وآخِرًا بقولِه: أمام الخَلْق، وبقولِه: ولا مِن خَلْفِه. فهذه هيئةُ الترتيب، وقد شاهدتُه مرّاتٍ في بروز المُعتضِد والمرتضَى المذكورينِ وأبي العلاء إدريسَ بن أبي عبد الله بن محمد بن أبي حَفْص عُمرَ بن عبد المؤمن آخِرِ أُمرائهمُ المعتَبرينَ عندَهم، وبقَتْلِه على يدِ الأمير أبي يوسفَ يعقوبَ بن عبد الحقِّ الزَّنَاتيِّ المَرِينيِّ انقَرَضَت دولةُ بني عبد المؤمن، فسبحانَ مَن لا يَبِيدُ مُلكُه ولا يفنَى سُلطانُه جَلّ جَلالُه وتعاظَمَ شأنُه. وكأنّ لسانَ حال هذه الهيئة يقولُ: إنّ هذه الرايةَ مُنذِرةٌ بإطلالِ صاحبِها على مقصودِه، وأنه داعٍ إلى ما يقتضيه الكتابُ والسُّنة، فمَن أطاعَه كان مُسلمًا له ومن عَصَاه حارَبَه بهذا الجيش الذي هو من حِزبِه.

قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: قد أطَلْنا في هذا الفصل إطالةً أخرجَتْنا عن المقصود، ولكنّا أودَعْناه فوائدَ منوَّعةً يعِزُّ وجودُها»(3).

  • الأول: الخليفة، والثاني: المصحف.
  • (2) قال ابن مرزوق: إن الشاعر – عفا الله عنه – أساء الأدب في هذا البيت. المسند الصحيح الحسن ص457.
  • (3) الذيل والتكملة 1/340-352.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق