مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

ملخص للفصل المعنون بـ: تطور الطب الإسلامي

ضمن كتاب: العلماء المسلمون: مؤسسو العلوم الحديثة لمؤلفه السعيدي[1]

   يعتبر الطب الإسلامي تركيبا لتقاليد علمية طبية مختلفة، تمثلت أساسا في التقاليد الإغريقية والرومانية والهندية والفارسية. لذا يمكن القول إن الطب داخل الحضارة العربية الإسلامية استطاع أن يجمع بين المقاربة البرغماتية التي ميزت المدرسة الأبقراطية والمنهج الفلسفي الذي اختصت به الكتابات الطبية لجالينوس، ولم يقتصر الطب الإسلامي على هذين الجانبين، بل أضاف إلى ذلك معارف طبية مستمدة من الهنود والفرس.

شكل الطب مع مطلع القرن الثامن الميلادي أهم وأبرز مبحث علمي داخل مدرسة الإسكندرية، حيث عمل بعض الأطباء الإسكندرايين على تأسيس مدرسة لتعليم الطب، واعتمدوا كبرنامج لذلك مصنفا طبيا تم انتقاؤه من كتب جالينوس الطبية. وترجع أهمية مدرسة الإسكندرية إلى أنه بفضلها استطاع المسلمون التعرف على أعمال الأطباء الإغريق البارزين كأبقراط وجالينوس وبول الإيجينيوديسقوريدس ويحيى النحوي …

مثل العهد الأموي البدايات الأولى للطب الإسلامي، وأخذت النتائج الإيجابية للترجمات التي أنجزت تؤتي ثمارها، ومن بين الأطباء الذين برزوا في هذه الفترة تياذوق الطبيب الخاص بالحجاج، وقد وصلتنا بعض نصائحه وحكمه الطبية، منها مثلا قوله: لا تأكل شيئا عندما يكون ثمة طعام متبق في المعدة، لا تأكل إلا ما تقدر الأسنان على سحقه، لا تشرب مباشرة بعد وجبة الطعام … ويمكن الإشارة إلى أطباء آخرين خدموا الأمويين، من بينهم مثلا أبو حكم وابنه حكم الدمشقي، وقد وصلتنا قصة تشي بدراية حكم الدمشقي الطبية، فقد كان مارا ذات مرة بشوارع دمشق عندما لاحظ حلاقا قام بشق الشريان عوض أن يشق الوريد قصد إجراء عملية فصد، ولم يعرف هذا الحلاق كيف يوقف نزيف الدم، فما كان من حكم الدمشقي إلا أن انبرى للأمر آخذا بثمرة فستق وشاقا إياها نصفين، ووضع إحدى نصفي القشرة على الجرح وأحكم ربطه بضمادة. ثم أمر المريض أن يبقي يده مغمورة في ماء النهر إلى حلول المساء، وبعد مرور ثلاث أيام وظهور انتفاخ قام بإرخاء الضمادة، ثم أزالها في اليوم الخامس تاركا قشرة الفستق إلى أن سقطت من تلقاء نفسها في اليوم السابع، وقد منع المريض من لمس “الجلطة الدموية” التي غطت الجرح، وبعد مرور أربعين يوما زالت هذه الجلطة وشفي المريض.

   يمكن القول إنه مع انقضاء القرن التاسع الميلادي سيكون المسلمون قد حصلوا وأحاطوا بأهم الإنتاجات العلمية الإغريقية، وبرز منهم خلال ذلك أطباء من الدرجة الأولى.

   لم تكن الإسكندرية وحدها ما أسهم في تعرف المسلمين على التراث العلمي للأمم السابقة، بل إن جنديشابور لا تقل أهمية عنها في ذلك، وترجع بعض المصادر العربية اهتمام هذه المدينة بالطب إلى طبيب قدم من الهند. وترجع بوادر التأثير الطبي الهندي على جنديشابور إلى القرن السادس الميلادي، ونجد شاهدا على ذلك في قصة الوزير برزويه الذي أرسله أنو شروان إلى الهند كي يجلب معارفها الطبية إلى فارس، ونجد في كتاب كليلة ودمنة التي نقلها ابن المقفع إلى العربية تفاصيل هذه القصة. أما البرنامج التعليمي لمدرستها الطبية فليس من المستبعد أن يكون مشابها لذاك الذي كان موجودا بمدرسة الإسكندرية.

   سيتم استدعاء رئيس مستشفى جنديشابورجورجيس بن جبرائيل إلى بغداد قصد تقديم الرعاية الصحية اللازمة للخليفة المنصور، وبأمر من هذا الأخير سيقوم جورجيس بترجمة بعض المؤلفات الطبية إلى اللغة العربية. وسيعمل خلفاء المنصور على إتمام ما بدأه هذا الخليفة، حيث سيدعم هارون الرشيد وبعده المأمون عملية نقل المتون العلمية الأساسية للأمم السابقة، ولم يقتصر الأمر على الطب فحسب، بل امتد ليشمل شتى فروع المعرفة. كما أسهم دعم الخلفاء العباسيين للعلم والعلماء في إقبال العديد من العلماء الفارسيين والهنود إلى بغداد.

سيشهد الطب خلال القرن الحادي عشر الميلادي ازدهارا منقطع النظير، حيث سيبدأ ظهور المستشفيات بالمعنى الحقيقي لأول مرة في التاريخ. وتميز عمل هذه المستشفيات على ثلاث أصعدة: الرعاية الصحية والتعليم والبحث العلمي. كما كانت تضم هذه المستشفيات مدارس ومكتبات ومسجد وحمامات …

   سيتكاثر خلال القرن العاشر الميلادي عدد المستشفيات بمدينة بغداد، حيث سيؤسس مثلا الوزير علي بن عيسى مستشفى بهذه المدينة سنة 914م وموله من ماله الخاص، ووكل أمر مراقبته لأبي عثمان سعيد الذي كان مكلفا أيضا بمراقبة مستشفيات أخرى كتلك الموجودة بالمدينة المنورة ومكة. كما سيؤسس عضد الدولة سنة 970م ببغداد مستشفى عرف باسم “المستشفى العضدي”، وقبل أن تتم عملية البناء تم تكليف الطبيب المشهور الرازي باختيار المكان الأصلح لبناء المستشفى، فقام هذا الأخير بإجراء تجربة علمية سمحت له بتحديد المكان الأمثل، وتجلت هذه التجربة في تعليق قطع من اللحم في أماكن مختلفة من المدينة، وقد اعتبر المكان المناسب هو ذاك الذي تعفن فيه اللحم بشكل أبطأ.

   بعد بناء المستشفى العضدي سيشتغل به طاقم طبي يتكون من أربع وعشرين طبيبا حفظت لنا كتب التاريخ أسماءهم، من بينهم طبيب عرف باسم نظيف الكاهن الإغريقي (القس الرومي حسب ابن أبي أصيبعة) الذي كان يترجم كتبا علمية من اللغة اليونانية إلى العربية، والمترجم إبراهيم بن بكس، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو حسن ثابت بن سنان وجبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع … كما كان المستشفى مقسما لعدة أقسام: قسم خاص بالمحمومين، وقسم للجرحى، وقسم لمرضى العيون وقسم لمجبري الكسور … ولم تقتصر المستشفيات على مدينة بغداد وحدها، بل انتشرت لتعم عدة مدن كمرو، والرها، وأصفهان، وشيراز، وأنطيوش، ودمشق، ومكة، والمدينة المنورة، ومصر، وبلاد الأندلس … كما كان بالمغرب إضافة إلى المستشفى الرائع الذي بناه السلطان الموحدي يعقوب المنصور بمراكش، مستشفيات أخرى توجد بفاس إلى جانب دور عجزة وغرف مخصصة للمجانين.

كان إضافة إلى الأطباء المشتغلين بهذه المستشفيات أطباء مفتشون يسهرون على مراقبة وضمان شروط أمن وسلامة مهنتهم ومرضاهم. ومن مظاهر العناية التي كان يتلقاها هؤلاء المرضى أنهم كانوا يحصلون على طعام جيد وأدوية مناسبة دون أن يكلفهم ذلك أي مقابل مالي، وكان يحظى بهذه الخدمات جل الناس، سواء كانوا فقراء أو أغنياء. وكان المرضى الذين يغادرون المستشفى ينالون عند مغادرتهم ملابس ومبلغا ماليا لتلبية حاجياتهم مدة شهر كامل.

   تم الاستفادة في تغطية نفقات المؤسسات الاستشفائية من عائدات الأملاك الكبيرة التي تم وقفها، ومن الأمثلة التي وصلتنا على حرص المسؤولين على توفير الحاجيات الأساسية للمرضى ذلك التقرير المكتوب الذي أرسله رئيس المستشفى العضدي ببغداد ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة إلى الوزير علي بن عيسى يخبره بمعاناة المرضى من نقص الفحم والغطاء والطعام والدواء. فما كان من الوزير إلا أن أرسل رسالة لمدير الأملاك أبو صقر يقول فيها بوضوح: “… يتعين أن يأخذ المستشفى حصته كاملة ومهما كانت الظروف، لأن الأمر يتعلق بمؤسسة حيث ينتظر المرضى المساعدات والتبرعات المفروض توزيعها عليهم … ابذل كل ما في وسعك لتعجيل دفع الحصة المستحقة للمستشفى كي يستلم المرضى من جديد الكمية المبتغاة من الغطاء واللباس والفحم، ويحضوا بتغذية وخدمة وعناية صحية كافية. وأطلعني على التدابير التي تنوي اتخاذها بخصوص هذا الشأن”.

   لم تكن عائدات الأوقاف تستخدم في تلبية حاجيات المرضى فحسب، بل إنها كانت تستخدم أيضا في تسديد أجور الأطباء والممرضين والخدم، وقد كان مدراء المستشفيات يعدون سجلات للمصاريف اليومية الخاصة بهذه المؤسسات، لدرجة يمكننا اليوم معرفة ميزانية المستشفيات، ومعرفة حتى أجور الأطباء وأسعار الأدوية والأدوات المستخدمة داخلها. هذا من الناحية التقنية، أما من الناحية العلمية الطبية فيمكن القول إن رئيس الأطباء هو المسؤول عن مراقبة المستشفى من الناحية العلمية، وكان يتم اختياره من بين العديد من الأطباء الآخرين بعد اجتيازه لامتحان معمق قصد تقييم كفاءته العلمية. حتى إن الرازي مثلا اضطر أن يثبت جدارته أمام مائة من الأطباء الآخرين كي يصير رئيسا للمستشفى ويصير مسؤولا عن أربع وعشرين طبيبا مختصين في عدة تخصصات، كالأمراض الباطنية والأمراض العصبية ومختصين في الجراحة وطب العيون …

[1]– العنوان الأصلي للكتاب: E. SAAIDI : SAVANT MUSULMANS : PROMOTEURS DES SIENCES MODERNES, Pages : 136-143.

Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق