مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

بلاغة السكوت (الحلقة الأولى)

لعل أول إشارة إلى بلاغة السكوت وردت عند ابن المقفع في تعريفه للبلاغة في النص الذي أورده الجاحظ في «البيان والتبين»: «قال إسحاق بن حسان بن قوهيّ: لم يفسّر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط. سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز، هو البلاغة(1).

وقد أورد أبو هلال العسكري هذا النص في «الصناعتين»، وعلق على قوله: «منها ما يكون فى السكوت» قائلا: «فالسكوت يسمّى بلاغة مجازا، وهو فى حالة لا ينجع فيها القول ولا ينفع فيها إقامة الحجج. إما عند جاهل لا يفهم الخطاب، أو عند وضيع لا يرهب الجواب، أو ظالم سليط يحكم بالهوى، ولا يرتدع بكلمة التقوى. وإذا كان الكلام يعرى من الخير، أو يجلب الشّرّ فالسكوت أولى؛ كما قال أبو العتاهية:

مَا كُلُّ نُطْقٍ لَهُ جَوَابٌ جَوَابُ مَا يُكْرَهُ السُّكُوتُ

وقال معاوية رضى الله عنه لابن أوس: ابغ لى محدّثا. قال: أو تحتاج معى إلى محدّث؟ قال: أستريح منه إليك، ومنك إليه، وربما كان صمتك فى حال أوفق من كلامك»(2)؛ فقد فسر أبو هلال السكوت هنا بمعنى السكوت الإيجابي أي المستوى الأول، وعدَّدَ بعض المواضع التي يكون السكوت فيها أنفع من القول وأبلغ على سبيل المجاز، ومنها: جهل المخاطب، والخوف، وجلب الشر بهذا الكلام.

وهذه المواضع يجمعها نسق واحد وهو مراعاة سياق التخاطب، وهذا الأخيرتتجلى فيه مطابقة المقال لمقتضى الحال فإن لم يكن في ذلك مطابقة فالسكوت أولى وأبلغ، قال عبد القاهر: «والصمت عن الإفادةِ، أَزْيَد للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن»(3)، وذكر الجاحظ «أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنك لم تصمت عنه عياً ولا رهبة. فليزدك في الصمت رغبةً ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة»(4).

وقال بعض الكلبيين:

فَإِذَا خَطَبْتَ عَلَى الرِّجَالِ فَلَا تَكُنْ       خَطِلَ الكَلَامِ تَقُولُهُ مُخْتَالَا

وَاعْلَمْ بِأَنَّ مِنَ السُّكُوتِ إِبَانَةً              وَمِنَ التَّكَلُّمِ مَا يَكُونُ خَبَالَا(5)

فقد جعل الشاعر السكوت في مقابل التكلم، وجعل الإبانة في مقابل الخبال، وهذا الأخير هو: الفَسادُ فِي الأَفْعال والأَبْدان والعُقول(6)، وقيل إن أصْلَ الخَبالِ الفَسادُ، ثمَّ استُعمِل فِي النُّقْصان والهَلاكِ(7)، ووصف التكلم بالخبال إشارة إلى فساده.

محدد السكوت:

إذا رجعنا إلى التعريف اللغوي للسكوت وجدنا أن «السَّكْت والسُّكُوت: خِلافُ النُّطْقِ»(8)، وفي الفرق بينهما قيل: «سَكَتَ الصّائِتُ يَسْكُتُ، سُكُوتاً: إِذا صَمَتَ، […] إِنّ السُّكوتَ هُوَ تَرْكُ الكلامِ مَعَ القُدْرةِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وبالقيد الأَخير يُفارقُ الصَّمْتَ، فإِنّ القدرةَ على التَّكَلُّم لَا تُعْتَبر فِيهِ، قَالَه ابنُ كَمَال باشا، وأَصلُه للرَّاغب الأَصْبَهانيّ، فإِنّه قَالَ فِي مُفرداته: الصَّمْتُ أَبلغُ من السُّكُوت، لأَنه قد يُستعملُ فِيمَا لَا قُوَّةَ لَهُ على النُّطْق، وَلذَا قيل لِما لَا نُطْقَ لَهُ: الصّامتُ والمُصْمَت والسُّكُوتُ يقالُ لما لَهُ نُطْقٌ، فيَتْرُكُ استعمالَه. […] فإِطلاقُ الفَيُّوميّ فِي الْمِصْبَاح كغيرِه أَحَدَهُما على الآخَر، من الإِطلاقات اللُّغَوِيّة العامَّة(9).

ويوصف الاتصال الإنساني –في الجانب الأعظم منه- بأنه عمل متعدد القنوات، وهو يمارس على المستويين: اللفظي وغير اللفظي، بما لكل مستوى منهما من أنماط أخرى فرعية. ولا تكتمل نظرية الاتصال إلا بهذين المستويين الرئيسيين معا(10)، وبناء على هذا التعريف قسمت السكوت إلى مستويين أيضا؛ السكوت الإيجابي، والآخر سميته «السكوت السمعي» لأن السمع لم يعد هنا قناة للتواصل والإفهام وإنما يتوقف عن وظيفته لصالح قناة تواصلية أخرى؛ خاصة القناة البصرية:

أ- السكوت الإيجابي: ويدخل في المستوى الأول أي اللفظي، ففيه تَرْك للكلامِ والنطق بالألفاظ، يقول الدكتور محمد العبد متحدثا عن هذا السكوت: «إذا كان الموقف الاتصالي المباشر يقوم على التفاعل اللفظي بين المشاركين بمبادلة المنطوقات، فربما استخدمت فيه وسيلة مضادة تماما، هي السكوت. ونعني به هنا السكوت الدال أو الإيجابي الذي يتخذه أحد المشاركين ردا أو استجابة لمنطوق بعينه. وقد عرف العرب ذلك، ودلوا عليه في أمثالهم، يقولون: «رُبَّمَا كانَ السُّكُوتُ جَوَاباً». قال الميداني: «هذا كقولهم «تَركُ الجواب جَوَابٌ» قال أبو عبيد: يقال ذلك للرجل الذي يجلُّ خَطَره عن أن يكلم بشيء، فيجاب بترك الجواب»(11)» (12).

قال أبو العلاء المعري: «على أن المثل السائر: «ربما كان السكوت جواباً»؛ لا سيما إذا كان القول إزراء بالمستمع وطعناً من القائل»(13).

ب- السكوت السمعي: ويدخل في المستوى الثاني؛ أي غير اللفظي، والاتصال غير اللفظي هو الذي لا يستخدم العلامات اللغوية وسيطا له بل يعتمد على قنوات أخرى للتواصل، لا سيما القناة البصرية، وذلك عندما يجعلون الحركات الجسمية وتعبيرات الوجه ونحوها وسائط اتصالية مرئية في ضوء ما اعتادته الجماعة الكلامية التي ينتمون إليها(14).

فهذا السكوت السمعي يتيح إمكانية التواصل من خلال القناة البصرية- المرئية، ومشكاة النبوة خير أنموذج لهذا السكوت، وسنقف في الحلقة الموالية على نماذج من هذا السكوت.

وإذا رجعنا إلى دلالة السكوت في القرآن الكريم فإننا سنقف عند خمس آيات بعينها وهي:

1- قال الله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ) [آل عمران: 41].

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا)، وأيّ معاني «الرمز» عني بذلك؟ فقال بعضهم: عني بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإشارة أي: «إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما»(15)، كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم(16).

وقد فسره الطاهر ابن عاشور مرة بالحبسة في اللسان، ومرة بالامتناع من الكلام بعد سلب قوة النطق، يقول: «وَقَوْلُهُ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً جَعَلَ اللَّهُ حُبْسَةَ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ آيَةً عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَ مَا لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَعْصَابِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالدِّمَاغِ إِلَى أَعْصَابِ التَّنَاسُلِ بِحِكْمَةٍ عَجِيبَةٍ يَقْرُبُ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ الْإِحْسَاسِ لِمَنْ يَأْكُلُ الْبَلَاذِرَ لِقُوَّةِ الْفِكْرِ. أَوْ أَمَرَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ إِعَانَةً عَلَى انْصِرَافِ الْقُوَّةِ مِنَ الْمَنْطِقِ إِلَى التَّنَاسُلِ، أَيْ مَتَى تَمَّتْ ثَلَاثَةُ الْأَيَّامِ كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ»(17)؛ والامتناع عن الكلام مع القدرة عليه هو الذي يدخل في باب السكوت.

وقوله: واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار أمر بالشكر. والذكر المراد به: الذكر بالقلب والصلاة إن كان قد سلب قوة النطق، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط(18).

وقد ذهب القرطبي إلى أن الإشارة تنزل منزلة الكلام حيث يقول: «فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ، وَآكَدُ الْإِشَارَاتِ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ السَّوْدَاءِ حِينَ قَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ)؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ). فَأَجَازَ الْإِسْلَام بِالْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُحْرِزُ الدَّمَ وَالْمَالَ وَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةُ وَيُنَجَّى بِهِ مِنَ النَّارِ، وَحُكِمَ بِإِيمَانِهَا كَمَا يُحْكَمُ بِنُطْقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ عَامِلَةً فِي سَائِرِ الدِّيَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ»(19).

ويفهم من هذه الآية المباركة أن الرمز له القدرة على الإفهام وإبلاغ المقصود وإيصال الرسالة الإشارية إلى الآخرين فهو نوع خاص من اللغة الإشارية.

ومما يدل على أن زكرياء عليه السلام استجاب لأمر ربه باستعمال الرمز في التواصل والسكوت عن الكلام قوله تعالى في سورة مريم: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)، وَالوَحْيُ: الإِشَارَةُ بِالعَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالإِيمَاءُ لِإِفَادَةِ مَعْنًى شَأْنُهُ أَنْ يُفَادَ بِالكَلَامِ، قال ابن كثير: «وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) أَيِ: الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ بِالْوَلَدِ، (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) أَيْ: أَشَارَ إِشَارَةً خَفِيَّةً سَرِيعَةً: (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أَيْ: مُوَافَقَةً لَهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِهِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ»(20).

وقد تحققت بلاغة سكوت زكريا عليه السلام عن الكلام من وجوه؛ أولها: أن سكوته كان في موضعه؛ ففيه موافقة لأمر ربه، وثانيها: أن سكوته عن النطق لم يمنعه من استخدام وسيلة أخرى للتواصل مع قومه وهي اللغة الإشارية، وثالثها: أن هذه الإشارة أدت مؤدى الكلام وقد أشار الزمخشري إلى ذلك قائلا: «فإن قلت: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟ قلت: لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمى كلاما»(21)، ورابعها: أن السكوت عن ما لا فائدة فيه من الجدال مع القوم والهذر أحسن من النطق وأبلغ، وخامسها: وهو أن الذكر والتسبيح ملازم للعبد لا يتركه في أحوال النطق والسكوت فإن تعذر النطق بالكلام استعمل النطق بالإشارات، وقال محمد بن كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: «لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً)» (22).

2- وما قيل هنا يصح أن يقال في قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) [مريم: 10]، ودل ذكر الليالي في «سورة مريم»، والأيام في آل عمران، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن(23).

3- ومنه قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم: 11]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَالوَحْيُ: الإِشَارَةُ بِالعَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالإِيمَاءُ لِإِفَادَةِ مَعْنًى شَأْنُهُ أَنْ يُفَادَ بِالكَلَامِ»(24)، أي أشار إليهم من غير كلام لكن مع إفادة المقصود.

وقول ابن عاشور: «لِإِفَادَةِ مَعْنًى شَأْنُهُ أَنْ يُفَادَ بِالكَلَامِ» يفيد أن الوحي قد يتساوى في الإفادة مع الكلام من حيث الإفهام والإبانة؛ ففي هذه الآية وظفت هذه الإشارة لإفادة معنى مقصود حكاه الله سبحانه وتعالى في قوله: (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) لكنه لم يعين أداة هذه الإشارة أكانت باليد أم بالعين أم بهما معا، ولو تعلق بذكرها فائدة لذكرها؛ إذ المهم هو فعل الوحي هذا، يقول الزمخشري: «أوحى: أشار عن مجاهد، ويشهد له إِلَّا رَمْزاً»(25)؛ إذ لا يجوز أن يكون المراد من قوله «أوحى إليهم» الكلام؛ لأن الكلام كان ممتنعاً عليه, فكان المراد غير الكلام, وهو أن يعرّفهم ذلك إما بالإشارة, أو برمز مخصوص, أو بكتابة؛ لأن كل ذلك يفهم منه المراد … واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران:41]. والرمز لا يكون كناية للكلام(26).

وإنما أمرهم بالتسبيح لئلا يحسبوا أن زكرياء لما لم يكلمهم قد نذر صمتا فيقتدوا به فيصمتوا، وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة، كما سيأتي في قوله تعالى: (فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) [مريم: 26] . فأومأ إليهم أن يشرعوا فيما اعتادوه من التسبيح أو أراد أن يسبحوا الله تسبيح شكر على أن وهب نبيئهم ابنا يرث علمه(27).

وقوله: «وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة»؛ ومنه ما عرف بصوم السكوت، قال جواد علي في «المفصل»: «والصوم المعروف عند اليهود والنصارى معروف عند أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال واحتكاك بأهل الكتاب. فقد كان أهل يثرب مثلًا على علم بصوم اليهود؛ بسبب وجودهم بينهم. وكان عرب العراق وبلاد الشام على علم بصوم النصارى؛ بسبب وجود قبائل عربية متنصرة بينهم. وكان أهل مكة، ولا سيما الأحناف منهم والتجار على معرفة بصيام أهل الكتاب. وبصيام الرهبان، المتمثل في السكوت والتأمل والجلوس في خلوة؛ للتفكير في ملكوت السماوات والأرض. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن من الجاهليين من اقتدى بهم، وسلك مسلكهم. فكان يصوم، صوم السكوت والتأمل والامتناع عن الكلام والانزواء في غار حراء وفي شعاب جبال مكة»(28).

ومن صنوف العبادة بالصمت في الجاهلية الحج بالصمت ومنه ما روي أن أبا بكر دخل على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تكلم فقال ما لها لا تكلم؟ قالوا حجت مصمتة قال لها تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت(29).

وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحما على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة(30). إلا أنه نسخ في شريعة الإسلام؛ ففي «الموطأ»: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صيامه»(31)، قال التجيبي القرطبي: «وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا مَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ لِكَوْنِهِ طَاعَةً وَهُوَ الصَّوْمُ وَمِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَاعَةٌ كَالْقِيَامِ لِلشَّمْسِ وَالصَّمْتِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ يُعْلِمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ لِيَفِيَ بِنَذْرِهِ فِيهِ وَيُعْلِمَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ فَيَتْرُكُ إتْعَابَ نَفْسِهِ فِيهِ وَإِلْزَامَهَا إيَّاهُ»(32)؛ جاعلا الصمت من المعاني التي لا طاعة فيها وما لا يلزمه بالنذر.

وتوظيف الإشارة في هذا السياق أيضا فيه نكتة ظريفة وهو أن زكرياء عليه السلام أُمِرَ ألا يكلم الناس ورخص له في الإشارة التي يفيد بها المقصود فقط، وهو في انقطاعه لأمر ربه لم يتخل عن رسالته الدعوية؛ فكان استخدام هذه الإشارة جمعا بين طاعة الله تعالى في السكوت عن الكلام لتتحقق الآية التي بشره بها ربه وهي آية الغلام، وكذا التبليغ عن رسالة ربه من خلال أمر قومه بالتسبيح، وفي ذلك شكر لله الوهاب، وهذه صفات الصالحين الذين يقابلون العطايا بالشكر؛ فكانت البلاغة في الإشارة بالوحي أقوى من العبارة لهذا الوجه.

4- (فَكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 26].

وقولها (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا): هذا هو صوم السكوت أو الصمت الذي تحدثنا عنه، بدليل قولها: (فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا)، وفسر الزمخشري الصوم هنا بالصمت، قال: «صَوْماً صمتا. وفي مصحف عبد الله: صمتا. وعن أنس بن مالك مثله. وقيل: صياما، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت، لأنه نسخ في أمته»(33)، وذكر القرطبي في تفسيره أنه «مِنْ سُنَّتِنَا نَحْنُ فِي الصِّيَامِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ). وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةً فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابه)» (34)، فحدد بذلك المواضع التي يكون فيها السكوت في الصيام أبلغ من الكلام، وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله كما يقول الجاحظ(35).

وقد أمر الله تعالى مريم عليها السلام بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المتهمين لها في الكلام لمعنيين، أحدهما: أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها. والثاني: كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم. وفيه أن السكوت عن السفيه واجب. ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافها(36).

وقولها (فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا): أُطْلِقَ الْقَوْلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَالْمُرَادُ أَنْ تُؤَدِّيَ ذَلِكَ بِإِشَارَةٍ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا بِأَنْ تُشِيرَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَكْلِ، وَإِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي شَرْعِهِمْ مَشْرُوطًا بِتَرْكِ الْكَلَامِ كَمَا قِيلَ فَالْإِشَارَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَة، وَإِن كَانَ الصَّوْمِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَدْ يَأْتِي بِهَا الصَّائِمُ مَعَ تَرْكِ الْكَلَامِ تُشِيرُ إِشَارَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا نَذَرَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهَا حِينَ تُسْأَلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ(37).

فسكوت مريم المحكي في هذه الآية كان سكوتا عن النطق بالكلام مع الاستعانة بوسيلة أخرى معينة على البيان والإفهام وهي الإشارة فكان سكوتها سمعيا فقط لا مرئيا؛ لأنها أدت المراد وفُهِم عنها ذلك، وقد استمرت مريم في الالتزام بالسكوت على الرغم مما سمعته من قومها من توبيخها واتهامها بالسوء والفساد، وهذا من بلاغة السكوت لأنها فى حالة لا ينجع فيها القول ولا ينفع فيها إقامة الحجج كما يقول ابن المقفع في نصه المتقدم، وفي سكوتها زيادة على ذلك إذلال لهؤلاء السفهاء لأنها علمت أن الله سيبرئها مما يتهم به مثل من جاء في حالتها، وهذا يفسره قوله تعالى في الآية الموالية:

5- قال الله تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم: 29]، قال الطاهر ابن عاشور: «أَيْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِشَارَةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُحِيلُهُمْ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّتِهِ، أَوْ أَشَارَتْ إِلَى أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الْجَوَابَ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ إِيَّاهَا وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ إِشَارَتِهَا»(38).

قال الدكتور محمد الأمين أحمد موسى: «ويتضح من صيغة السؤال المطروح في هذه الآية، أن مريم العذراء عليها السلام رمزت إيماءة بمعنى: وجهوا كلامكم إليه»(39)، قلت: ولا نعلم هيئة الإشارة التي أشارت بها مريم عليها السلام وإنما نعلم أنها إشارة تعيين لعيسى عليه السلام وإحالة عليه، ويبدو أن التواصل بالإشارة لم يكن غريبا عنهم بدليل أنهم فهموا مرادها بسرعة -بدون حرف العطف- بل أجابوا بقولهم: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولو لم يفهموا معنى إشارتها لما استمر الحوار بينهم ولما تحقق التواصل أيضا.

وسكوت مريم عن النطق في هذه الآية زيادة في إذلالهم والسخرية منهم، «وعن السدي: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها»(40).

والاستفهام هنا: إنكار؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم، وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته، أي كيف نترقب منه الجواب أو كيف نلقي عليه السؤال، لأن الحالتين تقتضيان التكلم(41)، وبصيغة أخرى فقد صمتت وهي القادرة على الكلام، وتكلم وهو الصبي في المهد، فكان سكوتها في حال القدرة أبلغ من أي كلام؛ لأن أي كلام صادر عنها كما قلنا لن ينجع في إقامة الحجج، لأن المقام مقام مناكرة وعناد، وكان كلام الصبي في المهد الذي لا قدرة له على النطق -لأنه لم يبلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان- آية مبهرة تضمنت براءة أمه مما اتهمت به وكذا الإشارة إلى نبوته، وقد حكى الله سبحانه وتعالى كلام عيسى في الآيات التي جاءت بعد هذه الآية «وقد أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربه»(42).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- البيان والتبين 1/115- 116.

2- الصناعتين ص: 15.

3- دلائل الإعجاز ص: 146.

4- رسائل الجاحظ 1/113.

5- البيان والتبين 1/135.

6- تاج العروس 28/391.

7- تاج العروس 28/388.

8- تاج العروس 4/558.

9- تاج العروس 4/559.

10- العبارة والإشارة دراسة في نظرية الاتصال ص: 7.

11- مجمع الأمثال 1/302.

12- العبارة والإشارة دراسة في نظرية الاتصال ص: 140- 141.

13- رسالة الصاهل والشاحج ص: 166.

14- العبارة والإشارة دراسة في نظرية الاتصال ص: 7.

15- الكشاف 1/361.

16- الكشاف 1/355.

17- التحرير والتنوير 3/243.

18- التحرير والتنوير 3/243.

19- تفسير القرطبي 4/81.

20- تفسير ابن كثير 5/216.

21- الكشاف 1/355.

22- تفسير القرطبي 4/82.

23- الكشاف 3/7.

24- التحرير والتنوير 16/74.

25- الكشاف 3/7.

26- مفاتيح الغيب 21/ 515- 516.

27- التحرير والتنوير 16/ 74- 75.

28- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 11/339.

29- صحيح البخاري 3/1393، [رقم: 3622].

30- التحرير والتنوير 16/93.

31- الموطأ رواية يحيى الليثي 2/475، [رقم: 1012].

32- المنتقى شرح الموطإ 3/240.

33- الكشاف 3/13.

34- تفسير القرطبي 6/91.

35- انظر: البيان والتبين 1/271.

36- الكشاف 3/13.

37- التحرير والتنوير 16/93.

38- التحرير والتنوير 16/97.

39- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 326.

40- الكشاف 3/14.

41- التحرير والتنوير 16/97.

42- التحرير والتنوير 16/100.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق