مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

مراحل تدوين السيرة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، سيدنا محمد صاحب لواء الحمد، الذي أقام بسيرته معالم الخير في كل بلد، ورد بغزواته وسراياه إلى الحق كل من جحد، والصلاة والسلام على آل بيته الأطهار، وصحابته المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان ما قام الليل والنهار.

وبعد:

فلا يختلف اثنان في أهمية السيرة النبوية، ودورها الرئيس في إغناء العلوم الإسلامية؛ لأنها تمثل التنزيل الحقيقي للمنهج النبوي على الحياة العامة للمسلمين، ولهذا أولاها العلماء أهمية قصوى، وسعوا إلى تدوينها، وجمع أخبارها من أفواه الشيوخ والرواة، وقد مر هذا التدوين السيري بمراحل وفترات تتطلب منا الكشف عنها، وبيان أهم تلك المحطات التدوينية للسيرة النبوية المنيفة.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه المطالب الآتية:

المطلب الأول: الطبقة الأولى الذين دونوا أخبار السيرة.

المطلب الثاني: الطبقة الثانية الذين دونوا أخبار السيرة.

المطلب الثالث: الطبقة الثالثة الذين دونوا أخبار السيرة.

وهذا أوان الشروع في المقصود؛ فأقول وبالله التوفيق:

مراحل تدوين السيرة النبوية:

لقد مرت حركة تدوين أخبار السيرة النبوية بمراحل متتابعة؛ حيث هيأ الله سبحانه وتعالى لسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم رجالا من طبقات كبار التابعين، وتابعيهم  لكتابتها في وقت مبكر، مستمدين أخبار السيرة من جيل الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا شهود عيان لأخبارها؛ بل ومشاركين في صوغ أحداثها الكبرى، فلم تنقطع الصلة بين الأحداث وتدوينها وتوثيقها في مدونات خاصة؛ ولهذا قام العلماء بتقسيم كتاب السيرة والمؤلفين فيها إلى طبقات ؛ والطبقة كما هو متعارف عليه عند المحدثين: “الجماعة الذين اشتركوا في السن وفي لقاء المشايخ”[1] .

المطلب الأول: الطبقة الأولى الذين دونوا أخبار السيرة:

برز في القرن الأول ثلة من العلماء اعتنوا بالسيرة النبوية بعد الصحابة الكرام، ونسبت لهم مدونات في السيرة والمغازي، وأغلبها قد ضاع؛ لكن بقيت لهم نقول في كتب الحديث والسيرة النبوية والتاريخ وغيرها، وعلى رأسها كبار التابعين؛ ومن بينهم: عروة بن الزبير الأسدي (94هـ)، وأبان بن عثمان بن عفان (105هـ)، ووهب بن منبه (114هـ)..الخ.

1-عروة بن الزبير (94هـ):

كان أعلم الناس بمغازي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخذها عن خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وأخذها عن كثير من الصحابة ممن شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الواقدي (207هـ) في حق عروة: “كان فقيها، عالما، حافظا، ثبتا، حجة، عالما بالسير، وهو أول من صنف المغازي”[2].

وذكر ابن النديم (438هـ) في الفهرست كتاب المغازي لعروة من رواية الزيادي[3].

 وقال الذهبي (748هـ) في ترجمة أبي الأسود: “نزل أبو الأسود مصر، وحدث بها بكتاب “المغازي” لعروة بن الزبير عنه”[4].

ولعروة مدونات في السيرة النبوية كتبها بطلب من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؛ حيث كتب له أجوبة عن الهجرة إلى الحبشة، وهجرة الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووصف بتفصيل غزوة بدر، وتاريخ وفاة خديجة رضي الله عنها، وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأخت الأشعث بن قيس ، وفتح مكة”[5].

قال المستشرق هروفتس :”وتمثل كتابات عروة المذكورة هنا، أقدم المدونات التي حفظت لنا عن حوادث خاصة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم”[6].

قلت: وكتاب عروة في حكم المفقود الآن، لكن نقوله نجدها في كتب الحديث والتاريخ والسير، عند الّإمامين البخاري ومسلم وأصحاب السنن،  والطبري في تاريخه… الخ.

2-أبان بن عثمان بن عفان الأموي (105هـ):

يعد أبان بن عثمان من كبار المعتنين بتدوين أخبار السيرة النبوية، وهو من رجال الحديث، تتلمذ عليه أعلام من المحدثين مثل: ابن شهاب الزهري، وابن إسحاق، وهو من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، ومن أقدم من دونوا أخبار السيرة والمغازي؛ حيث أصبح رأسا فيها.

قال الواقدي (207هـ) في معرض حديثه عن ترجمة المغيرة بن عبد الرحمن: “وكان ثقة قليل الحديث إلا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذها من أبان بن عثمان فكان كثيرا ما تُقرأ عليه ، ويأمرنا بتعليمها”[7].

3-وهب بن منبه (114هـ):

يعد وهب بن منبه من المعتنين بأخبار السيرة النبوية خصوصا أخبار الأولين وأحوال الأمم السابقة والفترة ما قبل الإسلام، ونقل عن كتب أهل الكتاب ما يسمى بالأخبار الإسرائيلية، وهو من رجال الصحيحين.

 قال الذهبي: “وهب بن منبه، أبو عبد الله اليماني، صاحب القصص. من أحبار علماء التابعين…كان ثقة، صادقا، كثير النقل من كتب الإسرائيليات”[8].

وقد ذكر له حاجي خليفة في كشف الظنون كتاب المغازي[9].

وذكر هروفتس أن المستشرق بيكر وجد مجموعة من أوراق محفوظة في مكتبة هيدلبرج ورجح أنها تحتوي على قطعة من كتاب المغازي لابن وهب نسخت عام 228هـ بعد وفاة ابن وهب بأكثر من عام تحوي على تاريخ العقبة الكبرى، وحديث قريش في دار الندوة، والاستعداد للهجرة، والهجرة نفسها، ووصول المدينة، وغزوة بني خيثمة”[10].

المطلب الثاني: الطبقة الثانية الذين دونوا أخبار السيرة:

ويأتي في مقدمة هذه الطبقة شيوخ محمد بن إسحاق المطلبي من صغار التابعين؛ ومن بينهم: عاصم بن عمر بن قتادة (120هـ)، ومحمد بن شهاب الزهري (124هـ )… الخ.

1-عاصم بن عمر بن قتادة المدني (120هـ):

كان من الأعلام المعتنين بأخبار السيرة والمغازي قال ابن سعد: “وكانت له رواية للعلم، وعلم بالسيرة، ومغازي رسول الله صى الله عليه وسلم، وروى عنه محمد بن إسحاق وغيره من أهل العلم، وكان ثقة كثير الحديث عالما”[11].

وقال أنه: “وفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته في دين لزمه فقضاه عنه عمر، وأمر له بعد ذلك بمعونة، وأمره أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه”[12].

وقال هروفتس: “وعاصم أحد رواة ابن إسحاق والواقدي، وهما متفردان في المغازي بالمعنى الخاص؛ ولكنه عني أيضا بتفاصيل قصة شباب النبي صلى الله عليه وسلم، والفترة المكية عامة، كما تبين مقتبسات ابن سعد خاصة، وهو يصرح غالبا بأسانيده؛ ولكنه كذلك يحذف السند كثيرا”[13].

2-محمد بن شهاب الزهري المدني (124هـ):

يعد الزهري من أعلام التابعين المعتنين بالسيرة النبوية، وهو أحد أعظم مؤرخي الإسلام؛ إليه يرجع الفضل في تأسيس مدرسة المدينة في التاريخ إلى جانب كونه من كبار أعلام الحديث والفقه.

وذكرت بعض المصادر للزهري أنه كان ممن كتب في السيرة النبوية من ذلك : أن عبد الله بن خالد القسري طلب من الإمام الزهري كتابة السيرة النبوية والأنساب لم يكمله فقال له: “اقطعه”؛ ففي كتاب الأغاني للأصبهاني(356هـ): “أخبرني ابن شهاب قال: قال لي خالد بن عبد الله القسري:  اكتب لي النسب، فبدأت بنسب مضر ، وما أتممته فقال: اقطعه قطعه الله مع أصولهم ، واكتب لي السيرة”[14]

وفي الروض الأنف للسهيلي (581هـ) إشارة إلى كتابة الزهري للسيرة النبوية، قال السهيلي: “في قصة بحيرى وسفر أبي طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم وقع في “سير الزهري” أن بحيرى كان حبرا من يهود تيماء”[15]، وفي موضع آخر يقول السهيلي في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها: “وذكر الزهري في سيره: وهي أول سيرة ألفت في الإسلام”[16].

وعند السخاوي (902هـ) في الإعلان بالتوبيخ: أن الزهري صنف كتابا أسماه بـ: “مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم”[17] اقتبس منه السخاوي.

وحاجي خليفة (1076هـ)  في كشف الظنون ذكر أن الزهري صنف كتاب المغازي[18].

المطلب الثالث: الطبقة الثالثة الذين دونوا أخبار السيرة:

وفي مقدمتهم تلاميذ الإمام الزهري؛ ومن بينهم: موسى بن عقبة المدني (141هـ)، ومحمد بن إسحاق المدني (151هـ ) … الخ.

1-موسى بن عقبة المدني (141هـ):

يعد موسى بن عقبة من ثقات المحدثين ومن رجال الصحيحين، وله عناية خاصة بالسيرة النبوية، ومغازيه من أصح المغازي كما قال الإمام مالك[19]، وقد دون عقبة أخبار السيرة النبوية قال الذهبي: “كان بصيرا بالمغازي النبوية، ألفها في مجلد، فكان أول من صنف في ذلك”[20].

وقد انتخب ابن قاضي شهبة أحاديث من مغازي موسى بن عقبة[21]، وبقي كتابه في المغازي مدة من الزمن في حكم المفقود حتى يسر الله له الظهور ؛ حيث حققه د. محمد الطبراني باسم: “مغازي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لموسى بن عقبة المدني (141هـ)، رواية ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة المطرقي اعتمادا على نسخة فريدة”[22] .

2-محمد بن إسحاق المدني (151هـ):

يعد محمد بن إسحاق بن يسار المدني من الأعلام الذين لهم عناية خاصة بالسيرة النبوية، ألف في ذلك كتابا ماتعا وعليه عول كثير ممن جاء بعده. قال د هروفتس في المغازي الأولى ومؤلفوها: “ويسمى كتاب ابن إسحاق”كتاب المغازي”، وكان ينقسم في الأصل إلى أجزاء ثلاثة: المبتدأ، والمبعث، والمغازي، أي: أنه عالج تاريخ الرسالات قبل الإسلام، وشباب النبي صلى الله عليه وسلم ونشاطه في مكة، وأخيرا الفترة المدنية، ولم يحفظ لنا الكتاب كاملا في صورته الأصلية، ويتجلى لي عند المعاينة أنها نسخة من ابن هشام “.[23] 

وقد قام ابن هشام باختصار سيرة ابن إسحاق وحذف منها كثيرا من الأخبار الإسرائيليات والأشعار المنتحلة وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب.

فهؤلاء الأعلام هم الرواد الأوائل، الذين لهم قصب السبق في تدوين أخبار السيرة النبوية، وهناك أئمة آخرون؛ لكن اقتصرت على هؤلاء روما للاختصار، وتنويرا لمن يريد التوسع في الموضوع. والحمد لله رب العالمين.

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى :

1-أهمية السيرة النبوية جعلت العلماء يولون لها عناية خاصة.

2-مرت مراحل تدوين أخبار السيرة النبوية بمراحل متتابعة، وطبقات متعاقبة.

3-من أعلام الطبقة الأولى ممن دونوا أخبار السيرة نجد: عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان، ووهب بن منبه…

4-من أعلام الطبقة الثانية نجد: عاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن شهاب الزهري.

5-ومن أعلام الطبقة الثالثة نجد: موسى بن عقبة المدني، ومحمد بن إسحاق المدني … الخ.

**************************

هوامش المقال:

[1] – نزهة النظر (ص: 164).

[2] – نقله ابن كثير في البداية والنهاية (5 /111).

[3]  – الفهرست (ص: 176).

[4] ا – سير أعلام النبلاء (6/ 150).

[5]  – انظر: تاريخ الطبري (2 /328)، (2 /421)، (3/ 163)، (11 /614)، (3 /55)، والمغازي الأولى ومؤلفوها لهروفتس (ص: 36-37).

[6]  – المغازي الأولى ومؤلفوها لهروفتس (ص: 38).

[7]  – الطبقات الكبرى (7 /208).

[8]  – ميزان الاعتدال (6/ 26).

[9]  – كشف الظنون (6 /606) (17285).

[10]  – المغازي الأولى ومؤلفوها (ص: 51).

[11]  – الطبقات الكبرى (7 /415).

[12]  – الطبقات الكبرى (7/ 416).

[13]  – المغازي الأولى ومؤلفوها (ص: 64-65).

[14]  – كتاب الأغاني (22 /15).

[15]  – الروض الأنف (2/ 220).

[16]  – الروض الأنف (2 /239).

[17]  – الإعلان بالتوبيخ (ص: 148).

[18]  – كشف الظنون (6 /606) (17288).

[19]  – تهذيب الكمال (10/ 188).

[20]  – سير أعلام النبلاء (6/ 114).

[21]  – طبع بتحقيق: مشهور حسن سلمان، دار ابن حزم، ط1 /1412هـ- 1991مـ.

[22]  – في جزئين عن الهيئة العامة للعناية بطباعة ونشر القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومها.

[23]  – المغازي الأولى ومؤلفوها (ص: 98).

************************

لائحة المصادر والمراجع :

الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ. للسخاوي. ت: فرانز روزنثال ترجمة: د. صالح العلي. مؤسسة الرسالة بيروت لبنان ط1/ 1407هـ- 1986مـ.

الأغاني. لأبي الفرج الأصفهاني. الهيئة المصرية العامة للكتب. 1992مـ.

البداية والنهاية لابن كثير. ت: الشيخ علي محمد معوض وآخرون. دار الكتب العلمية 2015م.

تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك). ت: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف مصر. 1327هـ- 1967مـ.

تهذيب الكمال في أسماء الرجال. ليوسف أبي الحجاج المزي. ت: عمرو سيد شوكت. دار الكتب العلمية 2018م.

الروض الأنف للسهيلي. ت: عبد الرحمن الوكيل. مكتبة ابن تيمية. القاهرة. ومكتبة العلم جدة . 1410هـ- 1990مـ.

سير أعلام النبلاء. للذهبي. ت: شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد. مؤسسة الرسالة. بيروت لبنان. ط2/ 1402هـ- 1982مـ.

الطبقات الكبرى. لابن سعد. ت: د علي محمد عمر. مكتبة الخانجي. القاهرة. ط1/ 1421هـ- 2001مـ.

الفهرست لابن النديم. ت: د. يوسف طويل. دار الكتب العلمية.  2010مـ.

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. لمصطفى بن عبد الله القسطنطيني المعروف بحاجي خليفة. ت: أكمل الدين إحسان أوغلي. وبشار عواد معروف ومهران الزعبي ومحمود بشار العبيدي مؤسسة الفرقان. لندن. ط1/ 1443هـ- 2021مـ.

المغازي الأولى ومؤلفوها. يوسف هروفتس. ترجمة: د حسين نصار. مكتبة الخانجي. القاهرة. ط2 /1421هـ- 2001مـ.

ميزان الاعتدال في نقد الرجال. لأبي عبد الله الذهبي. ت: علي محمد البجاوي. وفتحية علي البجاوي. دار الفكر العربي (د.ت).

نزهة النظر في مصطلح أهل الأثر. لابن حجر العسقلاني. ت: د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي. جامعة طيبة المدينة. ط2/ 1429هـ – 2008مـ.

*راجع المقال: الباحثة خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق