مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

المصادر الأولى في النقد والبلاغة “الدرس الثاني عشر”

قضية الاستعصاء:

هل كان الشعر يستعصي على كبار الشعراء؟

– أمثلة على ذلك.

– كيف كانوا يصنعون عند ذلك؟

– علاقة الاستعصاء بالمسألة الأخلاقية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

حديثنا في هذا الدرس عن أول كلمةِ بشر بن المعتمر وهي قوله: «خُذْ مِنْ نَفْسِكَ سَاعَةَ نَشَاطِكَ، وَفَرَاغِ بَالِكَ وَإِجَابَتِهَا إِيَّاك…».

 كنا شرحنا ألفاظ هذه الكلمة. وهي كلمة يمكن أن يعبر عنها بغير هذا اللفظ كما فعل أبو هلال العسكري في «الصناعتين»، فإن البحث عن ساعة النشاط، فيه إشارة إلى دفع الملل عن القلب، إذ لا بد أن تكون الكتابة عن شهوة. ولهذا قال العسكري في «الصناعتين»: «ولا يسلِّط الملَلَ على قلبِه، ولا الإكثَارَ على فكره…»، إلى آخر نصيحته الواردة في «الصناعتين».

 وإذا تسلط الملل على القلب استعصى الشعرُ على الشاعر، وهو ما كان يشكو منه طائفة من كبار الشعراء حتى ذكروا بأن الفرزدق كان يقول: «أنا أشعر تميم عند تميم، وربما أتت علي ساعة، ونزع ضِرس، أسهل علي من قول بيت». وقد يُروى بلفظ: «أنا أشعر مُضر عند مُضر»..

 فإذا كان بيت واحد يستعصي على شاعر مثل الفرزدق فلا يستطيع أن يقول بيتا في حال  لا يكون فيها نشطا لقول الشعر، ولا يجد في نفسه إقبالا عليه، فكيف بغيره من الشعراء؟

وقد روي عن البحتري أنه  كان يرثي رجالا أحياء توقعا لوفاتهم، لأنه قد يموت الرجل من الأشراف فيحتاج إلى رثائه، ثم لا ينصاع الشعر له، وأنه كان يغير موضوع القصيدة من شخص لآخر كما ذكر عنه ذلك جملة من العلماء، منهم: المرزباني في «الموشح»، ذكره في ما قبح في البحتري، قال: «عدل عن طريق الشعراء المحمودة»، ثم ذكر السبب، فقال بأنه وجده «نقل نحوا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة تَوَفَّرَ حَظُّهُ منهم عليها»، وهذا يعني أنه أخذ مقابل هذه القصائد مالا، ثم نقل ذلك «إلى مدح غيرهم، وأمات أسماء من مدحهم أولا».

ورأيي أنه قد يكون هذا لا لسبب أخلاقي، وإنما كان الشعر يستعصي عليه أحيانا فيعود إلى دفاتره القديمة. والمرزباني لا يرى هذا، لأنه يقول إنه صنع هذا «مع سعة ذرعه بقول الشعر واقتداره على التوسع فيه». وفي هذا إشارة إلى ما نبهنا عليه، لأن معنى قوله: «مع سعة ذرعه بقول الشعر»، أنه قد يغتفر هذا لغيره ممن ليست فيه هذه الصفة، فله أن ينقل موضوع قصيدة مدح من شخص إلى شخص لأنه لا يستطيع أن يجدد مثل ذلك الشعر.

وقد رأينا بأن هذه مسألة لا تتعلق بمكانة الشاعر من الشعر، لأنها قد وقعت لمن هو في طبقته في الفحولة، ولمن هو أسبق منه في الزمن.

وإلى رأي المرزباني هذا ذهب طه حسين في كتابه «من حديث الشعر والنثر»، إذ جعل هذا مما قبح في أخلاق البحتري، لأنه «مدح أكثر من عشرين رجلا من كبار الأشراف في بغداد وغيرها في ذلك العصر، فلما تغيرت حالهم ودالت دولتهم نقل هذه المدائح عنهم إلى غيرهم ومحا أسماءهم، وأثبت مكانها الأسماء الجديدة».

وإن كان هذا ليس حكما على أخلاق البحتري، فهذا يحتاج إلى نظر أوسع لنا فيه حكم آخر، وإنما حديثنا عن هذه المسألة بعينها. وهي أن الشعر قد يستعصي على الشاعر فيصنع كما صنع البحتري وغيره.

فإذا سلمنا بأن الاستعصاء يحدث للشاعر، فكيف يعالج هذا الأمر؟

 يعالج الاستعصاء بالاستجلاب. وهو مصطلح صاحب «المنهاج» في حديثه عن طرق استجلاب المعاني.

فلا ينبغي أن ننتظر المعنى، ولا أن ننتظر ساعة النشاط. بل علينا أن نستجلب هذه الساعة، وأن نبحث عن ظروفها، ونعرف كيف تكون، وما هي الأشياء المحركات، بمصطلح صاحب «المنهاج»، عندما تحدث عن أحوال المحرَّكين وعن المحركات.

وهذه الضرورات التي تحرك الشاعر لقول الشعر هي التي جعلت المتنبي يطلب من سيف الدولة ألا يكلفه قول الشعر. فكانت تمر الأشهر لا يقول فيها قصيدة واحدة، حتى انتقده بعض جلساء سيف الدولة.

ولنا حديث عن مفاتيح استجلاب النشاط في نظر النقاد الأوائل في الدرس المقبل، إن شاء الله تعالى.

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق