مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

المصادر الأولى في النقد والبلاغة الدرس الثامن

 

قال في البيان: “فوقف بشرٌ فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو ليكون رَجُلاً من النظارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا…”

قلت: “فوقف بشر، فظن إبراهيم..” هذا نص البيان، وفي العقد الفريد: “فوقف بشر يستمع، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد..”. وعبارة العقد شارحة لعبارة البيان. وهي تحتاج إلى تعليق لأن في قوله: فوقف بشر يستمع، كما في العقد، إشارة إلى اجتماع الناس للاستماع، وهم في ذلك، كما ترى في النص، إلى فريقين، فريق يقف ليستفيد ويتعلم، وفريق يقف للفرجة والنظر، وليس يصرف المتكلم أحدا منهم. وهذه طريقة قديمة في التعليم والتلقي، وهي أن يتكلم المتكلم ويجتمع عليه الناس وقوفا ليستمعوا.

وعلى ذلك شواهد كثيرة، منها، مثلا، ما ذكره أبو عبيدة من وقوف ذي الرمة لإنشاد قصيدة له، واجتماع الناس عليه يستمعون. قال: فمر الفرزدق فوقف يستمع. وهذا يشبه وقوف بشر للاستماع. قالوا: وذو الرمة ينظر إليه حتى فرغ فقال: كيف تسمع يا أبا فراس؟ قال: ما أحسن ما قلت. قال: فما لي لا أعد مع الفحول؟ قال: قصر بك عن ذاك بكاؤك في الدمن، ونعتك أبوال العَظاء والبقر إلى آخر ما قالوه، مما هو وارد في مصادر كثيرة منها: الموشح للمرزباني… والذي في الشعر والشعراء لابن قتيبة، وعنه نقل البغدادي في الخزانة: قصّر بك عن غاياتهم بكاؤك في الدّمن وصفتك للأبعار والعَطَن. وفي عبارة الموشح زيادة فائدة، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن أبوال العَظاء مما لا يوجد، حتى ذكروا أن أعرابية قالت لمولاها: «رماك الله بداء ليس له دواء إلا أبوال العظاء». فكأنه شُغِل بوصفِ ما لاوجود له، وأضاع في ذلك جهده.

ثم إن الإشارة، هنا، إلى مسائل نقدية يأتي الحديث عنها في الدروس المقبلة، إن شاء الله تعالى، وهي:

1 ـ معرفة أيّ الأغراض ترفع من شأن الشاعر؟

2 ـ وضرورة ألاَّ يسترِقَّ الشاعرَ غرض دون آخر.

 3 ـ وكون غرض المدح أولى من بقية الأغراض.

 4 ـ ومعرفة طريقة تقسيم الأغراض في القصيدة الواحدة.

 ولنا عودة إلى هذه المسائل في محلها، إن شاء الله تعالى.

وإذن فقد كانت هذه طريقتهم قديما في تلقي الأدب والشعر والعلم.

فقد ذكر ابن رشيق في العمدة، وذكر غيره، اجتماع الناس، في الجاهلية، على الأعشى، وهو ينشد قصيدته:

أَرِقتُ وَما هَذا السُّهادُ المُؤَرِّقُ  ///  وَما بِيَ مِن سُقمٍ وَما بِيَ مَعشَقُ

قال ابن رشيق: ورأى المحلَّقُ، اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع:

تُشَبُّ بِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا  ///  وَبَاتَ عَلى النّارِ النّدَى وَالمُحَلَّقُ

(هكذا أقرؤها، بفتح اللام، اعتمادا على ما ذكره العسكري في التصحيف، قال: المحلَّق الذي مدحه الأعشى، مفتوح اللام. وغيره يقول المحلِّق. وأنا أفضل أن نقول: المحلَّق، كما قال العسكري. لأنهم ذكروا أن فرسه عضه فصار موضعُ عضه كالحَلْقَةِ. فقيل له: المحلَّق. وأما اسمه فعبد العزى).

 قال: إلى أن سمع: تُشَبُّ بِمَقْرُورَيْنِ. يعني: تُوقَدُ بمقرورين. والمقرور: الذي أصابه القُرُّ، أي: البرد.

يصطليانها: الافتعال مِنْ صَلِيَ النارَ، وَصَلِيَ بِهَا، أنْ يبتعد إذا وَجَدَ حَرَّهَا.

 وبات على النار الندى..  يعني: الجود والكرم.

وقد يكون من طرق التلقي، ومن طرق المذاكرة، ومن طرق الحديث، أن يصنعوا ذلك، وهم على دوابهم.

قال المبرد في الكامل: وذكروا، من غير وجه، أن أهل الكوفة الأشرافَ كانوا يَظْهَرُونَ بِالْكُنَاسَةِ على دوابهم فيتحدثون إلى أن تطردهم الشمس. (قلت: الكناسة محل بالكوفة، ويقال: بالكوفة كناستان).

ومما يُذْكَرُ، أيضا، أن العَجَّاجَ لما رَاجَزَ أبا النجم خرج على ناقة له كَوْمَاءَ (يعني: عظيمة السَّنَامِ)، وخرج أبو النجم على جمل مَهْنُوءٍ ( أي: مطليٍّ بالهِنَاءِ، وهو ضربٌ من القَطِرَانِ) فتراجزا على هذه الحال.

هذا فيما يتعلق بقوله: فوقف بشر يستمع…

 ثم قال بعد ذلك: فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو ليكون رجلا من النظارة.

 وقد ذكرنا بأن فيها إشارةً إلى صنفين من الناس، منهم من يقف ليستفيد ويتعلم، ومنهم من يقف للفرجة والنظر، والمتكلم لا يرد أحدا.  فهي حلقة مفتوحة للعلم. والنظارة، هنا، يقصد بهم القومَ ينظرون إلى الشيء، والعامة تسمي المنظار نظارة. وهذا ذكره في تاج العروس. والمقصود بالنظارة، هنا، ما نسميه اليوم بالمتفرجين. ولم يرد هذا اللفظ في المعجم التاريخي. والظاهر أنه اسْتُحْدِثَ بعد القرن الأول. فإن الميداني في مجمع الأمثال يحكي عن أبي عبيدة ( وأبو عبيدة من رجالات القرن الثاني)، أنه قال: أُجْرِيَتِ الخَيْلُ للرِّهَان يوماً، فَجَاءَ فَرَسٌ فَسَبَقَ. قال: فجعل رجل من النظارة، (يعني ما نسميه اليوم بالمتفرج)، يكبر ويثب من الفرح، فقيل له: أكان الفرس لك؟ قال: لا، ولكن اللجام لي. والقصة مشهورة في كتب الأمثال.

قال: فقال بشر: ..اضربوا عما قال صفحا.

 يقصد: أعرضوا عنه، واتركوه. فهذا معنى: ضربت عنه صفحا. والأصل فيه أنك توليتَ بصفحة عنقك، وهذا يُذْكَرُ في المجاز. وشاهده عند علماء البلاغة قوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا إن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِين»[الزُّخرُف:4].

والظاهر أن الصحيفة كانت حاضرة عند بشر، كأنه إنما وقف ليصرف الناس عن المتكلم، ويدلهم على جديد يراه عنده. هذا ما يدل عليه السياق.

ثم قال: واطووا عنه كشحا.

قلت: لا بد أن نميز هنا بين طوى كشحه على كذا، وطوى كشحه عن كذا.

فطوى كشحه عن كذا، وهي الواردة هنا، كناية عن الانصراف، كأنها مَثَلٌ. قالوا: من كان إلى جنبك الأيمن، مثلا، فطويتَ كشحك الأيسر، فقد ملت عنه. (والكشح هو ما بين الخاصرة والجنب، أو: ما بين الخاصرة إلى الضلع، أو: هو الخاصرة). فطوى كشحه عن كذا يعني أعرض عنه. وطي الكشح كناية عن القطع. تقول: فلان طوى كشحه عني. أي: قَطَعَكَ.

وإذا قلتَ: طوى كشحه على كذا، فالمعنى أضمره. وقد تأتي بمعنى استمر على الشيء. ولهذا عندما نقرأ في كتاب الطراز ليحيى بن حمزة العلوي(1/209): “يقال: طويتُ كشحي عن الأمر إذا أضمرتَه وسترتَه..”. نعتبر هذه العبارة خطأ، صوابه: طويتُ كشحي على الأمر. فهو الذي بمعنى أضمرته وسترته. ولعله إذا طبع تحقيق الدكتور عبد المحسن العسكر للطراز ظهر الصواب، إن شاء الله تعالى.

ومن أمثلة طوى كشحه على كذا قول زهير في معلقته:

وَكانَ طَوى كَشحاً عَلى مُستَكِنَّةٍ ///  فَلاَ أَبْدَاهَا وَلَمْ يَتَجَمْجَمِ

وكان طوى كشحا على مستكنة. يعني على مستترة. ولم يتجمجم. أي: لم يتردد في إنفاذه. فطوى كشحه على فَعْلَةٍ إذا أضمرها في نفسه.

ومن أمثلة الحماسة قولُ العوراء بنت سُبَيْع الذبيانية:

طَيَّانَ طَاوِي الكَشْحِ /// لَا يُرْخَى، لِمُظْلِمَةٍ، إِزَارُهْ

طاوي الكشح. أي: يمضي في الأمور لوجهه. لا يعرج على شيء، ولا ينثني. فهذا معنى آخر من معاني طي الكشح. وهو قولك: طوى فلان كشحه على كذا: إذا استمر عليه.

 وقولها: لا يُرْخَى لمُظْلِمَةٍ إزاره. تقصد المرأة التي أظلم عليها الليل. تصفه بالعفاف. فطوى كشحه على الأمر إذا أضمره. وطوى عنه كشحه: تركه.

 ومن الأمثلة التي نذكرها من أبيات الحطيئة:

تَوَلَّيْتُ لا آسَى على نَائِلِ امْرِئٍ ///  طَوَى كَشْحَهُ عَنِّي وقَلَّتْ أَوَاصِرُهْ.

يقصد: ترك مودته وصحبته.

يقال: طوى كشحه عن فلان، كما يقال: طويت دونه كشحا. والمقصود واحد، وهو: قطعته وصرمته.

فهذا معنى قوله: واطووا عنه كشحا. يريد اتركوه، ودعوه، وانصرفوا عنه. ولكن عبر عن ذلك بهذه العبارة القوية الفصيحة للإشارة إلى أن هذا الترك ينبغي أن يكون نهائيا. إذ لا ينبغي أن يأخذوا منه بعض ما سمعوه، ويأخذوا عن غيره شيئا آخر. فإن كل ما سمعوه من إبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني لا يغني، ولا يؤخذ به، ولا يعتد به. وإنما يؤخذ مما سيقوله هو. فهو يهيؤهم لسماع ما في صحيفته بمثل هذه العبارات.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق